المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر بعض أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لغير الله تعالى - الحسام الماحق لكل مشرك ومنافق

[محمد تقي الدين الهلالي]

فهرس الكتاب

- ‌خطبة الكتاب

- ‌الفصل الأول(في بيان إشراك صاحب الرسالة الإيمانية بعبادة غير الله)

- ‌ذكر بعض أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لغير الله تعالى

- ‌أمر عمر بن الخطاب بقطع شجرة الرضوان

- ‌أحاديث النهي عن البناء على القبور والعبادة عدها سداً للذريعة الموصلة إلى الشرك

- ‌الفصل الثالث(في بيان أن كل بدعة ضلالة)

- ‌الفصل الرابعفي مسائل فرعية جاءت في رسالة البوعصامي العامي

- ‌المسألة الأولى: وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

- ‌المسألة الثانية: قراءة البسملة في أول سورة الفاتحة وأول كل سورة في الصلاة

- ‌المسألة الثالثة: قراءة القرآن وإهداء ثوابه إلى الموتى بدعة

- ‌تنبيهات

- ‌المسألة الرابعة: التأمين والجهر به

- ‌المسألة الخامسة: نسبة السدل إلى الإمام الشافعي

- ‌المسألة السادسة: التوسل بالمخلوق

- ‌توسل عمر بالعباس

- ‌وصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب الاستغفار من أويس القرني

- ‌(بدعة قراءة القرآن جماعة بنغمة واحدة)

- ‌حقوق أهل البيت ما لهم وما عليهم

- ‌حديث: أذكركم الله في أهل بيتي

- ‌((القصيدة الأولى))

- ‌((القصيدة الثانية))

الفصل: ‌ذكر بعض أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لغير الله تعالى

‌ذكر بعض أنواع العبادة التي يصرفها المشركون لغير الله تعالى

قلت في كتابي: ((المنح السانحة في تفسير سورة الفاتحة)) ما نصه: (( {إياك نعبد وإياك نستعين} إياك ضمير مفعول به مقدم للفعل بعده، وتقديم المفعول به يفيد الحصر، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين إلا بك. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله من الاعتقاد والأقوال والأفعال، ويقال: العبادة غاية الذل في غاية الحب)) .

أقول: أرى من الواجب علي أن أذكر بعض أنواع العبادة هنا ليستعين بها السائل على تقرير توحيد الله في نفوس التلامذة وغيرهم.

فالأول: الدعاء وهو كما في الحديث الآتي ((مخ العبادة)) أي لبابها وخالصها، فكل من دعوته لجلب خير أو دفع ضر فيما لا مجال للأسباب فيه كإعطاء العقيم الأولاد لا بطريقة العلاج بل بطريقة التصرف في الكون بالهمة والحال، وجعل المرأة التي تلد الإناث فقط تتحول إلى ولادة الذكور أو بالعكس، أو كصد الأعداء والسباع الضارية بلا قتال، وشفاء المريض كذلك، وإحياء الميت وإماتة الحي وإنزال المطر وما أشبه ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله الذي يقول للشيء ((كن))

ص: 8

فيكون وكل من دعوته لشيء من ذلك فقد عبدته.

ومن الأدلة على ذلك في كتاب الله عز وجل – وهي كثيرة أعد منها ولا أعددها – قوله تعالى في سورة فاطر بعد ذكر الأفعال المختصة بالله في الآية إلى قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} (1) وقال تعالى في سورة الأحقاف: {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات. ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين. ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين} ((2) يفهم من آيات فاطر أن الله وحده هو المتصرف في العالم والمسير له والمدبر له ولا يشاركه في ذلك أحد، وهو وحده رب العالمين، له الملك، وكل من سواه عبد فقير إليه في إيجاده وإمداده، فلا يجوز له أن يدعو بغيره، لأنهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً لا قليلاً ولا كثيراً، ولا يسمعون دعاء من

(1) فاطر: 13.

(2)

الأحقاف: 4-6.

ص: 9

دعاهم ولو سمعوا دعاءه ما استجابوا له، وأن دعاءه لهم شرك بالله سيكفرون به يوم القيامة، أي يتبرؤون منه.

وآيات الأحقاف تحتج على المشركين بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض فلا يدعى غيره ولا حجة لمن دعا غيره بل هو أضل الضالين، وأن من دعاهم لا يستجيبون له أبداً وهم غافلون عن دعائه، وإن كانوا أبراراً كالأنبياء والصالحين فهم مشغولون في نعيم، وإن كانوا ملائكة في عبادة الله يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وإن كانوا فجاراً فهم في العذاب المهين.

وإن الأبرار لا يرضون بدعاء من دعاهم لأنه عبادة لغير الله وسيكفرون بهم يوم القيامة حين يحشر الناس، يزيد ذلك وضوحاً ما أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} (1)) ) .

الثاني: الاستغاثة قال الله تعالى في سورة الأنفال: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} (2)، أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث عمر بن الخطاب قال: ((لما كان يوم بدر

(1) غافر: 60.

(2)

الأنفال: 9.

ص: 10

نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً، فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل {إذ تستغيثون ربكم} )) الآية، فنحن نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغيث ربه، وأصحابه كانوا يستغيثون ربهم كذلك ولم يستغيثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستغاثة عبادة، وهي خاصة بالله تعالى. فمن استغاث بغيره فقد أشرك.

وروى الطبراني بإسناده عن عبادة بن الصامت أنه كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم فقوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله)) .

قال شيخ الإسلام: ((الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستغاثة طلب العون)) .

قال محمد تقي الدين: هذا كله في الاستغاثة والاستنصار، والاستغاثة أي طلب الغوث والنصر والعون

ص: 11

بطريق لا يقدر عليه إلا الله، وطلبه خاص به كاستغاثة النبي وأصحابه بالله تعالى في غزوة بدر واستنصارهم له واستعانتهم به. أما الاستغاثة بالمخلوق في أمر يقدر عليه كاستغاثة من شبت النار في بيته برجال الإطفاء أو استغاثة من هجم عليه اللصوص أو السبع بمن ينجده أو استغاثة الإنسان بغيره أن يحمله على دابته أو سيارته أو يحمل متاعه عليها فذلك جائز، قال تعالى في سورة القصص:{فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)) ، أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في حديث طويل.

الثالث: الاستعاذة. قال الراغب: ((العوذ الالتجاء إلى الغير والتعلق به. يقال: عاذ فلان بفلان ومنه قوله تعالى: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} (1){وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون} (2) إلى أن قال: {معاذ الله} (3) أي نلتجئ إليه ونستنصر به حتى لا نفعل ذلك، فإن ذلك سوء نتحاشى من تعاطيه)) . انتهى.

(1) البقرة: 67.

(2)

الدخان: 20.

(3)

يوسف: 23.

ص: 12

قال محمد تقي الدين: وبهذا تعلم أن التعوذ قريب في المعنى من الاستغاثة، فقول الضلال عند قبور الصالحين: أنا في حماك، أنا في رحمتك استعاذة وعبادة، قال الشاعر:

يا من ألوذ به فيما أؤمله

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره

ومن أعوذ به فيما أحاذره

ولا يهيضون عظماً أنت جابره

الهيض: كسر العظم بعد جبوره. قال تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} (1) . قال القاسمي: ((روى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية يقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما. ففي الآية إشارة إلى ما كانوا يعتقدون في الجاهلية من أن الوديان مقر الجن. وأن رؤساءها تحمي المستعيذين من ضرر الجن، وهكذا قال إبراهيم: كانوا إذا نزلوا الوادي قالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من شر ما فيه، فيقول الجن ما نملك لكم ولا لأنفسنا ضرا ولا نفعا، وقال الربيع بن أنس كانوا يقولون: فلان من الجن رب هذا الوادي فكان أحدهم

(1) الجن: 6.

ص: 13

إذا دخل الوادي يعوذ برب الوادي من دون الله قال: فيزيدهم ذلك رهقا، وهو الفقر. قال ابن زيد: كان الرجل في الجاهلية إذا نزل بواد قبل الإسلام قال: إني أعوذ بكبير هذا الوادي، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم)) انتهى. أي لأن ذلك من الشرك، وكذا نزلت سورتا المعوذتين لتعليم الاستعاذة بالله وحده والتبرؤ من الاستعاذة بغيره، وكذلك أذكار الاستعاذات المأثورة لأنها للإرشاد، لذلك روى مسلم عن خولة بنت حكيم قالت:((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك)) .

الرابع: النذر لغير الله من الشرك لأنه عبادة يجب الوفاء به إذا كان لله. قال تعالى: {ما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه} (1) وقال تعالى: {يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} (2) . وأخرج البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه)) .

(1) البقرة: 270.

(2)

الدهر: 7.

ص: 14

الخامس: الذبح والنذر لغير الله قال تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (1) . قوله سبحانه: {ونسكي} قال مجاهد: ((النسك الذبح في الحج والعمرة)) .

قال محمد تقي الدين: وكل ذبح قصد به التعظيم فهو عبادة لقوله تعالى: {فصل لربك وانحر} (2) ، جمع الله سبحانه وتعالى هاتين العبادتين وهما الصلاة والذبح في سورة الأنعام وفي سورة الكوثر وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، وفي ضمنه أمر لأمته، أن يخصوا الله تعالى بهما كما يخصونه بسائر أنواع العبادة.

وأخرج مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب قال: ((حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات ولعن الله من ذبح لغير الله)) الحديث.

السادس: الخوف بالغيب، قال تعالى:{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} (3) قال ابن كثير: ((كل عسى في القرآن فهي واجبة.)) ،

(1) الأنعام: 163.

(2)

الكوثر: 2.

(3)

التوبة: 18.

ص: 15

قال في فتح المجيد في ص 344: ((خوف السر وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره قال تعالى في قوم هود إنهم قالوا له {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} (1) وقال تعالى: {ويخوفونك بالذين من دونه} (2)، وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها ويخوفون أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله وهذا ينافي التوحيد وأما الخوف الطبيعي وهو الخوف من عدو أو سبع أو زلزال فليس بعبادة ولا شركاً قال تعالى:{فأوجس في نفسه خيفة موسى} (3)) ) .

السابع: الحلف بغير الله، أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الحلف بغير الله أحاديث.

(1) هود: 54، 55.

(2)

الزمر: 36.

(3)

طه: 67.

ص: 16

الثامن: التبرك بالقبور والأمكنة التي تنسب إلى الأنبياء والصالحين من أعظم أسباب الكفر والشرك، وهذا ما أدى إلى عبادة الأصنام والأوثان. أخرج البخاري في تفسيره قوله تعالى:{وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} (1) عن ابن عباس: ((صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)) .

قال ابن كثير في تفسيره: ((وقوله تعالى: {وقد أضلوا} يعني الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها كثيرا فإنه قد استمرت عبادتها في القرون إلى زماننا هذا في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم، وقد اتفق المحققون من أهل العلم على أن أصل عبادة الأصنام هو الغلو في الصالحين وتعظيم قبورهم واتخاذ المساجد عليها.

وقال القرطبي: ((وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدوا كاجتهادهم ويعبدوا الله

(1) نوح: 23.

ص: 17

عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس إليهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها)) . وقال ابن القيم رحمه الله: ((وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور ويلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها والإقسام على الله بها والله أعظم من أن يقسم عليه ويسأل بأحد من خلقه.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائها وعبادتها وسؤالها الشفاعة من دون الله واتخاذها أوثاناً تضاء لها القناديل وتجعل عليها الستور ويطاف بها ويستلم ويقبل ويحج إليها ويذبح

عندها.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادتها واتخاذها عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، وكل هذا قد علموه بالاضطرار من دين الإسلام وأنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وأن لا يعبد إلا الله.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى في سورة الزمر: {وإذا ذكر الله

ص: 18

وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة. وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون} (1) وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغاة وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالفظائع ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك، قال تعالى في سورة الأنفال:{وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون} (2)، عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة (أي شجرة من السدر) يعكفون عندها وينوطون (أي يعلقون) بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! إنها السنن قلتم – والذي نفسي بيده – كما قالت بنوا إسرائيل لموسى {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} (3)، قال: إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم)) رواه الترمذي وصححه)) .

قال محمد تقي الدين: تأمل أيها الموفق لاتباع كتاب الله

(1) الزمر: 45.

(2)

الأنفال: 34.

(3)

الأعراف: 138.

ص: 19

وسنة رسوله، المحقق لتوحيد الله هذا الحديث تجد فيه مسائل:

الأولى: أن من قل علمه ولو من أهل القرون الأولى المصاحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد يلتبس عليه الأمر وتخفى عليه بعض أنواع الشرك فلا يعصمه من الوقوع فيه إلا الاستنارة بأنوار السنة المحمدية والرجوع إلى كتاب الله وبيان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكذلك فعل أبو واقد وأصحابه فإنهم حين ظنوا أن التبرك بشجرة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بأس به ولا ينافي التوحيد ولا يتعارض مع قول ((لا إله إلا الله)) فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم مؤكداً إخبارهم بالقسم ومكبراً، استعظاماً لذلك الأمر: أن ما سألوه هو عين ما سأله قوم موسى، وهو الشرك الأكبر الموجب للخلود في جهنم.

الثانية: أنه لا عبرة بالأسماء وإنما العبرة بالمسميات فإنهم لم يقولوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا إلهاً نعبده من هذه الشجرة بتعليق أسلحتنا في أغصانها والتبرك بالجلوس عندها، بل قالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما للمشركين ذات أنواط، فأخبرهم، وأكد لهم أن ذلك اتخاذ لتلك الشجرة إلهاً.

الثالثة: أن العبادة غير منحصرة في السجود والركوع والدعاء والاستغاثة والاستعاذة، بل كل قول أو عمل عظم به غير الله تعالى رجاء النفع، وإن كان من الأماكن التي مر بها

ص: 20

نبي صالح، هو عبادة لذلك المكان، ولا ينفع عابده زعمه أنه يتبرك بمكان كان فيه نبي فضلاً عن غيره، فتقبيل التوابيت والقبور والطواف بها والتمسح بها وأخذ ترابها للشفاء كل ذلك عبادة وشرك بالله تعالى.

الرابعة: فإن قيل: هل أشرك أبو واقد وأصحابه لما خطر ببالهم ذلك؟ قلنا: لا؛ لأن الله تعالى لا يؤاخذ على الخواطر وما وسوست به النفس ما لم يعتقده الإنسان أو يتكلم به أو يعمله، فإن قيل: لو أقدموا على ذلك ولم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل كانوا يشركون؟ فالجواب: أن ذلك مقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((قلتم والذي نفسي بيده كما قال قوم موسى)) ولكنهم أجل – ولو كانوا حديثي عهد بكفر – من أن يقدموا على مثل ذلك أو أقل منه بلا دليل قاطع من كتاب الله وسنة رسوله، فليعتبر بذلك الذين يسمون أنفسهم علماء ويبيحون اتخاذ المواسم والأعياد عند القبور والقباب، ويحضرونها بأنفسهم، ويأكلون من القرابين التي تذبح عندها، وهي مما أهل لغير الله به ويشاركون العوام في الابتهال والتضرع للأوثان فبعدا للقوم الظالمين فما تركوا للجهال إذن!! .

الخامسة: من أعلام نبوته قوله ((إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم)) ، أي لتتبعن طريقهم في بدعهم ومعاصيهم وشركهم وكفرهم، فتعوذ بالله من العصيان بعد الطاعة،

ص: 21

ومن الخذلان وعمى البصيرة.

قال الحافظ أبو عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ((ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشياطين للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن اشتهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله وسننه، ويظنون أنهم مقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق مواضع متعددة كمدينة الحمى خارج باب ((توما)) ، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة، خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق، سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث)) انتهى.

وذكر ابن القيم رحمه الله مثل ما ذكره أبو شامة ثم قال: ((فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر

ص: 22

عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذر له، وحديث أبي واقد أيضاً رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شامة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.

وفي مغازي ابن إسحاق من زيادة يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال: لما فتحنا ((تستر)) وجدنا في بيت مال ((الهرمزان)) سريراً عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى ((عمر)) فدعا له كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس، قلت: وما يرجون منه قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره يستمطرون فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له ((دانيال)) : فقلت منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه)) قال ابن القيم رحمه الله: ((ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره حتى لا يعثر عليه، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه

ص: 23

بالسيوف ولعبدوه من دون الله)) .

قال محمد تقي الدين: نشرت جريدة ((العلم)) الاستقلالية المشهورة قبل بضع سنين مقالاً لمعلمة فاضلة اسمها ((خديجة النعيمي)) أنها كانت تسير مع نسوة فمررن بمكان فيه حجارة، قد وضع بعضها على بعض كوما فقالت رفيقاتها:((نتاع الله لله يا للاحمارة))

فأنكرت عليهن وقالت لهن: ((أفي الحمير أولياء؟)) فقلن: ((نعم! إن لها بركة مشهودة)) ، ورجت ((خديجة النعيمي)) في ذلك المقال العلماء ليؤدوا ما فرض عليهم ويعلموا الناس السنة الصحيحة، وينقذوهم من الشرك والضلال، فأجبت دعوتها ونشرت في صحيفة ((العلم)) عدة من المقالات بينت فيها الحق من الباطل وأقمت فيها الحجة على أن ذلك وأمثاله من الشرك الأكبر، وما رأيت أحداً استجاب لدعوتها غيري، وما أحسن قول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حياً

ولو ناراً نفخت بها أضاءت

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولكن أنت تنفخ في رماد

وهذا بالنسبة إلى من يسمون أنفسهم علماء فقليل منهم من يؤدي واجبه ويصدع بالحق. أما العوام فإنهم أقرب إلى

ص: 24