الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
(في بيان أن كل بدعة ضلالة)
اعلم أن الإمام أبا إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي الغرناطي رحمة الله عليه ألف كتاباً سماه ((الاعتصام)) أقام فيه الحجج الدامغة والبراهين القاطعة على أن البدع - كلها - إذا كانت في الدين ضلالة، وهي شر من أكبر الكبائر، وبَيَّن انقسامها إلى إضافية وحقيقية وبين أن حكمها واحد، فكل من قرأه وتمسك بعد ذلك ببدعة، فلا يخلو: إما يكون جاهلاً بفهم معناه، أو منافقاً يبغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويدعي الإسلام، تستراً لأغراض دنيوية خسيسة، ولا يتسع وقتي لنقل كثير منه وإنما أقتصر على قليل، ولكنه كاف شاف لكل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال الشاطبي في الرد على القرافي وشيخه ابن عبد السلام اللذين زعما أن البدع تعتريها الأحكام الخمسة (ج1، ص 147) فمثلا للواجب: بتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع، ومثلا للندوب: بصلاة
التراويح، ومثلا للمكروه: بتخصيص الأيام الفاضلة بنوع من العبادة، ومثلا للمباح: باتخاذ المناخل للدقيق.
قال الشاطبي في الرد عليها: ((والجواب أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده إذ لو كان هناك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين تلك الأشياء المبتدعة وبين الأدلة التي تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين.
أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعة لا من جهة أخرى، إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها فلا بدعة يتصور فيها التقسيم البتة، إلا الكراهية والتحريم حسبما ذكر في بابه، فما ذكره القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع فصحيح. وما قسمه فيها غير صحيح، ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف، ومع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع، وكأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل، فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح
المرسلة بدعاً، لأنها لم تدخل بأعيانها تحت النصوص المعينة، ولكنها تلائم قواعد الشرع. فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها مع تسميته لها بلفظ البدع؛ واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد، ولما بني على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة، وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعاً في اللفظ كما سمى عمر الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة، وكما سيأتي إن شاء الله.
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه وعلى غير مراد العلماء لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفاً للإجماع)) .
ثم قال أبو إسحاق: ((وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد، فقد قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد واجتمع الناس خلفه.
فخرجه أبو داود عن أبي ذر قال: ((ضمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئاً من الشهر حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حُسب له قيام الليل)) قال: فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس، فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت: وما الفلاح! قال: السحور، ثم لم يقم بنا بقية الشهر)) ونحوه في الترمذي وقال فيه حسن صحيح. لكنه صلى الله عليه وسلم لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك. ففي الصحيح عن عائشة:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة والرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: ((قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم)) وذلك في رمضان)) . وخرجه مالك في الموطأ.
فتأملوا! ففي هذا الحديث ما يدل على أنها سنة، فإن قيامه أولاً بهم دليل على صحة القيام في المسجد في رمضان، وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقاً، لأن زمانه كان زمان تشريع ووحي، فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس الإلزام، فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع الأمر إلى أصله وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له، وإنما لم يقم بذلك أبو بكر لأحد أمرين، إما لأنه رأى قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان أفضل
عنده من جمعهم على إمام أول الليل، ذكره الطرطوشي، وإما لضيق زمانه عن النظر في هذه الفروع، مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح.
فلما تمهد الإسلام في زمان عمر ورأى الناس في المسجد أوزاعاً كما جاء في الخبر قال: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أمثل، فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل، ولقد اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره، والأمة لا تجمع على ضلالة، وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي.
فإن قيل: فقد سماها عمر بدعة وحسنها بقوله: ((نعمت البدعة هذه)) وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع.
فالجواب: إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أنها لم تقع في زمن أبي بكر، لا لأنها بدعة حقيقية فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك لا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم عنه، لأنه نوع من تحريف الكلام عن مواضعه، فقد قالت عائشة:((إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم)) )) .
ثم قال أبو إسحاق في القسم الخامس وهو المباح: ((وذكر
في قسم المباح مسألة المناخل وليست في الحقيقة من البدع، بل هي من باب التنعم، ولا يقال فيمن تنعم بمباح إنه قد ابتدع)) .
وفي حاشية الاعتصام قال بعض العلماء: ((البدعة اللغوية تعتريها الأحكام الخمسة، وتنقسم إلى حسنة وسيئة، وأما البدعة الشرعية فلا تكون إلا سيئة)) .
قال محمد تقي الدين: والعجب من القرافي كيف نقل إجماع المالكية وغيرهم من أئمة السلف على أن البدعة كلها ضلالة ثم خرق إجماعهم واستحسن بعضها، وقد رأيت الرد المفحم الذي رد به الإمام الشاطبي وأزيد ذلك وضوحاً فأقول: قال الشاطبي في الاعتصام: ((قال مالك رحمه الله: ((من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم} (1) وما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم دينا)) )) .
وهذا الكلام المحكم يقطع دابر المبتدعين فقد تضمن الاحتجاج بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فكما قال مالك رحمه الله: لم ينتقل الرسول الكريم من هذه الدار الفانية حتى أكمل الله الدين وبلغه الرسول البلاغ المبين،
(1) المائدة: 3.
فمن استحسن شيئاً من البدع فإما يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يكمل الله الدين ويتم النعمة أو يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم خان الرسالة بكتمان بعض ما أمر بتبليغه، مع أنه لو زعم ذلك واقعاً لا ينفعه زعمه.
أما الأول: فإذا لم يكمل الله الدين فمن ذا الذي يكمله؟
قال تعالى: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} (1) وكل شيء من الدين ليس من الله فهو من الشيطان، ولا يدين به إلا من يعبد الشيطان. قال تعالى في سورة يس:{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون} (2) .
أما الثاني: فمن زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً أمره الله بتبليغه فهو كافر إجماعاً. وإذا كتم الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً من الدين، حاشاه من ذلك، فمن ذا الذي يستطيع أن يتلقى وحياً ويبلغه بعده، وقد ختم الله الرسالة به صلوات الله وسلامه عليه، وهكذا تدحض حجة المبتدعين، فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وقد بدا لي أن أرد على القرافي ومن تبعه بطريقتي
(1) يونس: 32.
(2)
يس: 60، 62.
الخاصة فأقول: زعمه أن جمع القرآن بدعة واجبة باطل لأنه كان مجموعاً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم في العسب واللخاف، أي الحجارة البيض المصفحة، وفي صدور الرجال، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت عليه الآية والآيات دعا أحد كتاب الوحي فأمره أن يكتبها في موضعها، فلما توفي صلوات الله وسلامه عليه بقي القرآن مجموعاً في بيت عائشة، فأخذه أبو بكر الصديق منها، وأمر بجمعه في كتاب واحد. ولا فرق بين الجمعين ولا بين الكتابين فأين الإحداث وأين الابتداع؟ .
أما الشاطبي فجعل هذا من المصالح المرسلة التي فهمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصوص القرآن والسنة، ولو فرضنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم برئاسة أبي بكر الصديق أحدثوا في الدين أمراً – وحاشاهم من ذلك – فهل يستطيع المبتدع أن يبعثهم من مراقدهم ويأمرهم أن يجمعوا على بدعته حتى يتم له الاحتجاج؟ أم يريد أن يقيس برأيه الفاسد بدعه الخبيثة على ما فعله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقال له: بفيك الحصى والجنادل (1) . إن القياس لا يكون إلا على أمر ثبت بنص من نصوص الكتاب والسنة، ونصوصها كلها تغبر في وجهك، ولا يقيس إلا مجتهد وأنت مقلد أعمى، بل بهيمة تقاد، كما تقدم من كلام أبي عمر بن عبد البر.
(1) كناية عن منتهى الفجور والقصور.
أما تمثيلهم للقسم الثاني، وهو المحرم بأخذ المكوس فهو عجيب، لأن البدعة هي أن يتقرب المبتدع إلى الله بزعمه بأمر محدث حقيقة أو شكلاً، ولم يوجد أحد في الإسلام، وإن كان أجهل الجاهلين وأظلم الظالمين، يدعي أن الغصب وأخذ المكوس قربة إلى الله، كيف وهو محرم بالنصوص القاطعة وهو من أكبر الكبائر بالإجماع، فهذا يكون الإفلاس.
أما تمثيلهم للثالث بصلاة التراويح، فقد أثبت الشاطبي أنها سنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ثم تركها خوف أن تفرض، فلما توفي وتم التشريع جمع عمر الناس على قارئ واحد، وتسمية ذلك بدعة هي تسمية لغوية ويقال فيه ما تقدم من نفي القياس ويزاد عليه أن القياس لا يكون في العبادات أصلاً كما حققه الإمام الشاطبي، وبرهان ذلك حديث عائشة في الصحيحين مرفوعاً:((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) فدخل في ذلك البدع الحقيقية، كالتقرب إلى الله بالرقص، وقرع الطبول ونحو ذلك، والبدع الإضافية كالاجتماع على الذكر بلسان واحد، وقراءة القرآن كذلك، وما أشبه ذلك وهو كثير.
وتمثيلهم للرابع بتخصيص الأيام الفاضلة بعبادة من أوضح ما دلت عليه النصوص فهو بدعة
إضافية.
وتمثيلهم للخامس باتخاذ المناخل، فهو عجيب أيضاً إذ لا ينوي أحد التقرب إلى الله تعالى بطحن الحب ولا بنخله
وخبزه ولا أكله، وإنما ذلك أمر أباحه الله فمن شاء أن يأكله منخولاً أو غير منخول فلا حرج في ذلك.
قال تعالى في سورة الأعراف: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة} (1) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجدهم يلقحون النخل فقال: ((ما هذا؟)) فقالوا شيء نأخذه من الذكر ونجعله في الأنثى يصلح عليه التمر فقال: ((ما أراه ينفع)) ، فتركوا التلقيح ففسد التمر وصار شيصاً فأخبروه بذلك فقال:((إذا حدثتكم عن الله فخذوا به فإني لا أكذب على الله، وأنتم أعلم بأمور دنياكم)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام فأمور الدنيا ليست فيها بدعة.
((وعن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تعتدوا، وحد حدوداً فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)) . حديث حسن رواه الدارقطني)) انتهى من كتاب الأربعين للنووي.
وأخرج البزار في مسنده والحاكم من حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه
(1) الأعراف: 32.
فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً. ثم تلا هذه الآية:{وما كان ربك نسيا} (1) وقال الحاكم صحيح الإسناد. وقال البزار إسناده صالح.
قال محمد تقي الدين: لو أن المبتدعين تأملوا هذا الحديث وأخلصوا لله لم يبتدعوا في دين الله، ولكن طبع الله على قلوبهم وأصمهم وأعمى أبصارهم. والمقصود هنا أن كل شيء لم ينص الكتاب والسنة على تحريمه ولا على تحليله فقد عفا الله عنه وهو مباح لأن الله لا ينسى شيئاً ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يكتم شيئاً.
(1) مريم: 64.