المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم، وهذا أحسنُ لعَطْفِ - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ١٠

[السمين الحلبي]

الفصل: فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم، وهذا أحسنُ لعَطْفِ

فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ

ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم، وهذا أحسنُ لعَطْفِ «والقلمِ» على مَحَلِّه.

قوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} «ما» موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية، أي: والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب، وهم: الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم. والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه. ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها. وقال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه، فيكون الضميرُ في» يَسْطُرون «لهم» يعني فيصيرُ كقولِه: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] تقديرُه: أو كذي ظُلُماتٍ، فالضميرُ في «يَغْشاه» يعود على «ذي» المحذوف.

ص: 399

قال الشيخ: «وما ذهب إليه الزمخشريُّ مِنْ أنَّ الباءَ تتعلَّقُ بمجنون، وأنه في موضعِ الحالِ يحتاج إلى تأمُّلِ، وذلك أنَّه إذا تَسَلَّطُ النفي على محكوم به، وذلك له معمولٌ، ففي ذلك طريقان، أحدهما: أنَّ النفيَ تَسَلَّطَ على ذلك المعمولِ فقط، والآخر: أَنْ يُسَلَّط النفيُ على المحكوم به، فينتفيَ مَعمولُه لانتفائه. بيان ذلك: تقولُ:» ما زيدٌ قائمٌ مُسْرعاً «فالمتبادَرُ إلى الذهن أنَّه مُنْتَفٍ إسراعُه دونَ قيامِه فيكونُ قد قامَ غيرَ مُسْرِع. والوجهُ الآخَرُ: أنَّه انتفَى قيامُه فانتفى إسراعُه، أي: لا قيامَ فلا إسراعَ. وهذا الذي قَرَّرْناه لا يتأتَّى معه قولُ الزمخشريِّ بوجهٍ، بل يؤديِّ إلى ما لا يجوزُ النطقُ به في حَقِّ المعصوم» انتهى.

واختار الشيخ أنْ يكونَ «بنعمة» قَسَماً مُعْتَرِضاً به بين المحكوم عليه والحُكم على سبيلِ التأكيدِ والتشديدِ والمبالغةِ في انتفاءِ الوصفِ الذمَّيم. وقال ابن عطية: «بنعمةِ ربِّك» اعتراضٌ كما تقول للإِنسان: «أنت بحمد اللَّهِ فاضلٌ» قال: «ولم يُبَيِّنْ ما تتعلَّقُ به الباءُ في» بنعمة «. قلت: والذي تتعلَّق به الباءُ في هذا النحو معنى مضمونِ الجملةِ نفياً وإثباتاً، كأنه قيل: انتفى عنك ذلك بحمد اللَّهِ، والباءُ سببيةٌ، وثَبَتَ لك الفَضْلُ بحمدِ اللَّهِ تعالى، وأمَّا المثالُ الذي ذكرَه فالباءُ تتعلَّق فيه بلفظ» فاضل «. وقد نحا صاحب» المنتخب «إلى هذا فقال:» المعنى: انتفى عنك الجنونُ بنعمةِ ربك. وقيل: معناه: ما أنت بمجنونٍ، والنعمة لربِّك،

ص: 400

كقولِهم: «سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك» ، أي: والحمدُ لله. ومنه قولُ لبيدٍ:

4291 -

وأُفْرِدْتُ في الدنيا بفَقْدِ عشيرتي

وفارقني جارٌ بأَرْبَدَ نافِعُ

أي: وهو أَرْبَدُ «. وهذا ليس بتفسير إعرابٍ بل تفسيرُ معنى.

ص: 401

قوله: {بِأَيِّكُمُ المفتون} : فيه أربع أوجه، أحدُها: أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المبتدأ، والتقديرُ: أيُّكم المَفْتون فزِيدَتْ كزيادِتها، في نحو: بحَسْبك زيدٌ، وإلى هذا ذهب قتادةُ وأبو عبيدة معمرُ بن المثنى، إلَاّ أنَّه ضعيفٌ مِنْ حيث إنَّ الباءَ لا تُزاد في المبتدأ إلَاّ في «حَسْبُك» فقط. الثاني: أنَّ الباءَ بمعنى «في» ، فهي ظرفيةٌ، كقولك:«زيدٌ بالبصرة» ، أي: فيها، والمعنى: في أيِّ فرقةٍ وطائفةٍ منكم المفتونُ. وإليه ذهب مجاهدٌ والفراء، وتؤيِّدُه قراءةُ ابن أبي عبلةَ «في أيِّكم» . الثالث: أنَّه على حَذْفِ مضافٍ، أي: بأيكم فَتْنُ المَفْتونِ فَحُذِفَ المضافُ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه، وإليه ذهب الأخفش، وتكونُ الباءُ سببيَّةً، والرابع أنَّ «المفتون» مصدرٌ جاء على مَفْعول كالمَعْقول والمسيور والتقدير: بأيكم الفُتون. فعلى القول الأولِ يكونُ الكلامُ تامَّاً

ص: 401

عند قولِه «ويُبْصِرون» ويُبْتَدأُ قولُه «بأيِّكم المفْتون» وعلى الأوجهِ بعدَه/ تكونُ الباءُ متعلِّقَةً بما قبلَها، ولا يُوْقَفُ على «يُبْصِرون» وعلى الأوجُهِ الأُوَلِ الثلاثةِ يكونُ «المفتون» اسمَ مفعولٍ على أصلِه، وعلى الوجهِ الرابعِ يكونُ مصدراً. وينبغي أَنْ يُقالَ: إنَّ الكلامَ إنما يَتِمُّ على قولِه «المفتون» سواءً قيل بأنَّ الباءَ مزيدةٌ أم لا؛ لأنَّ قولَه «فَسَتُبْصِرُ ويُبْصرون» مُعَلَّقٌ بالاستفهامِ بعدَه؛ لأنه فِعْلٌ بمعنى الرؤية، والرؤيةُ البصريةُ تُعَلَّقُ على الصحيح بدليلِ قولِهم:«أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا» ، فكذلك الإِبصارُ لأنه هو الرؤيةُ بالعينِ. فعلى القولِ بزيادةِ الباءِ تكونُ الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نَصْبٍ لأنها واقعةٌ موقعَ مفعولِ الإِبصار.

ص: 402

قوله: {فَيُدْهِنُونَ} : المشهورُ في قراءةِ الناس ومصاحفِهم «فيُدْهِنون» بثبوتِ نونِ الرفع. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه عطفٌ على «تُدْهِنُ» فيكونُ داخلاً في حَيِّزِ «لو» . والثاني: انه خبرٌ مبتدأ مضمرٍ، أي: فهم يُدْهِنون. وقال الزمخشري: «فإنْ قَلَتَ: لِم رُفِعَ» فَيُدْهِنون «ولم يُنْصَبْ بإضمارِ» أَنْ «وهو جوابُ التمني؟ قلت: قد عُدِل به إلى طريقٍ آخر: وهو أنْ جُعِل خبرَ مبتدأ محذوف، أي: فهم يُدْهِنون كقوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً} على معنى: وَدُّوا لو تُدْهِنُ فهم يُدْهنون حينئذٍ، أو وَدُّوا إدهانَك فهم الآن يُدْهِنون لطَمَعِهم في إدْهانِك: قال سيبويه:» وزعم هارونُ أنها في بعضِ المصاحفِ: «وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدِهنوا» انتهى.

ص: 402

وفي نصبه على ما وُجد في بعضِ المصاحفِ وجهان، أحدهما: أنه عطفٌ على التوهُّمِ، كأنه تَوَهَّم أَنْ نَطَقَ ب «أَنْ» فَنَصَبَ الفعلَ على هذا التوهُّم، وهذا إنما يجيءُ على القولِ بمصدرية «لو» وفيه خلافٌ مرَّ محققاً في البقرة. والثاني: أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهومِ مِنْ «وَدَّ» والظاهرُ أنَّ «لو» هنا حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه، وأن جوابَها محذوفٌ، ومفعولُ الوَدادةِ أيضاً محذوفٌ تقديرُه: وَدُّوا إدهانَك، فحُذِفَ «إدْهانَك» لدلالةِ «لو» وما بعدها عليه. وتقديرُ الجوابِ لسُرُّوا بذلك.

ص: 403

قوله: {مَّهِينٍ هَمَّازٍ} : تقدَّم تفسيرُ مهين في الزخرف. والهمَّازُ: مثالُ مبالغةٍ مِنْ الهَمْزِ وهو في اللغةِ الضَرْبُ طعناً باليدِ والعَصا ونحوِها، واسْتُعير للعَيَّاب الذي يَعيب على الناسِ كأنه يَضْرِبُهم. والنَّميم قيل: مصدرٌ كالنميمة. وقيل: هو جَمْعُها، أي: اسمُ جنسٍ كتمرة وتَمر. وهو نَقْلُ الكلامِ الذي يسوء سامعَه ويُحَرِّشُ بين الناس. وقال الزمخشري: «والنميمُ والنَّميمة السِّعايةُ وأنشدني بعضُ العرب:

4292 -

تَشَبَّبي تَشَبُّبَ النَّميمهْ

تَمشْي بها زَهْراً إلى تميمهْ

ص: 403

والمَشَّاء: مثالُ مبالغةٍ مِنْ المَشْيِ، أي: يُكْثِرُ السِّعايةَ بين الناس. والعُتُلُّ: الذي يَعْتِلُ الناسَ، أي: يَحْملهم ويَجُرُّهم إلى ما يَكْرهون مِنْ حبسٍ وضَرْبٍ. ومنه {خُذُوهُ فاعتلوه} [الدخان: 47] . وقيل: العُتُلُّ: الشديد الخُصومة. وقال أبو عبيدة:» هو الفاحِشُ اللئيم، وأنشد:

4293 -

بعُتُلٍّ مِنْ الرِّجالِ زَنِيمٍ

غيرِ ذي نَجْدةٍ وغيرِ كريمِ

وقيل «: الغليظُ الجافي. ويقال: عَتَلْتُه وعَتَنْتُه باللام والنونِ، نَقَله يعقوب. والزنيم: الدَّعِيُّ يُنْسَبُ إلى قومٍ ليس منهم. قال حسان:

4294 -

زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً

كما زِيْدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارِعُ

وقال أيضاً:

4295 -

وأنتَ زَنيمٌ نِيْطَ في آل هاشمٍ

كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْدُ

ص: 404

وأصلُه مِنْ الزَّنَمَةِ: وهي ما بقي مِنْ جلْدِ الماعز مُعَلَّقاً في حِلَقِها يُتْرَكُ عند القَطْع فاستعير للدَّعِيِّ لأنه كالمُعَلَّقِ بما ليس منه. وقرأ الحسنُ» عُتُلٌّ «بالرفع على: هو عُتُلٌّ. وحقُّه أَنْ يُقْرَأَ ما بعدَه بالرفع أيضاً، لأنهم قالوا في القَطْع: إنه يبدأ بالإِتباع ثم بالقطع مِنْ غير عكسٍ. وقوله» بعد ذلك «، أي: بعدما وَصَفْناه به. قال ابن عطية:» فهذا الترتيبُ إنما هو في قولِ الواصفِ لا في حصولِ تلك الصفاتِ في المصوفِ، وإلَاّ فكونُ عُتُلاً هو قبل/ كونِه صاحبَ خير يمنعُه «. وقال الزمخشري:» بعد ذلك، بعد ما عُدَّ له مِنْ المثالبِ والنقائصِ «، ثم قال:» جَعَلَ جفاءَه ودَعْوَتَه أشدَّ مُعايَبةً؛ لأنه إذا غَلُظَ وجفا طَبْعُه قسَا قلبُه واجْتَرَأَ على كلِّ معصيةٍ «.

ص: 405

قوله: {أَن كَانَ} : العامَّةُ على فتح همزةِ «أنْ» ثم اختلفوا بعدُ: فقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ وأبو بكر بالاستفهام، وباقي السبعةِ بالخبر. والقارئون بالاستفهامِ على أصولِهم: مِنْ تحقيقٍ وتسهيلٍ وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتَينْ وعدمِه. ولا بُدَّ مِنْ بيانِه لك تَسهيلاً للأمر عليك فأقول وبالله التوفيق: قرأ حمزةُ وأبو بكرٍ بتحقيق الهمزتَيْن وعدم إدْخالِ ألفٍ بينهما، وهذا وهو أصلُهما.

وقرأ ابنُ ذكوانَ بتسهيلِ الثانيةِ وعدمِ إدخال ألفٍ، وهشامٌ بالتسهيلِ

ص: 405

المذكور، إلَاّ أنَّه أدخل ألفاً بينهما فقد خالَفَ كلٌّ منهما أصلَه: أمَّا ابنُ ذكوان فإنه يُحَقِّقُ الهمزتَيْنِ فقد سَهَّل الثانية هنا. وأمَّا هشامٌ: فإنَّ أصلَه أن يُجْري في الثانية مِنْ هذا النحوِ وجهَيْنِ: التحقيقَ كرفيقِه، والتسهيلَ. وقد التَزَمَ التسهيلَ هنا. وأمَّا إدخالُ الألفِ فإنه فيه على أصلِه كما تقدَّم أول البقرة.

وقرأ نافع في رواية الزبيدي عنه: «إنْ كان» بكسر الهمزة على الشرط.

فأمَّا قراءةُ «أَنْ كان» بالفتحِ على الخبرِ ففيه أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنها «أنْ» المصدريةُ في موضع المفعولِ له مجرورةٌ بلامٍ مقدرة. واللامُ متعلِّقةٌ بفعلِ النهي، أي: ولا تُطِعْ مَنْ هذه صفاتُه؛ لأنْ كان مُتَموِّلاً وصاحبَ بنين. الثاني: أنها متعلقةٌ ب «عُتُلّ» ، وإن كان قد وُصِفَ، قاله الفارسي، وهذا لا يجوزُ عند البصريين، وكأن الفارسيَّ اغتفَره في الجارِّ. الثالث: أنْ يتعلَّق ب «زنيم» ولا سيما عند مَنْ يُفَسِّره بقبيح الأفعالِ. الرابع: أَنْ يتعلِّقَ بمحذوف يَدُلُّ عليه ما بعدَه مِنْ الجملةِ الشرطيةِ، تقديره: لكونِه متموِّلاً مُسْتَظْهِراً بالبنين كَذَّب بآياتِنا، قاله الزمخشري، قال:«ولا يَعْمَلُ فيه» قال «الذي هو جوابُ» إذا «لأنَّ ما بعد الشرطِ لا يعملُ فيما قبلَه، ولكن ما دَلَّتْ عليه الجملةُ مِنْ معنى التكذيب» . وقال مكي وتبعه أبو البقاء: «لا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ» تُتْلى «لأنَّ

ص: 406

ما بعد» إذا «لا يعملُ فيما قبلها؛ لأنه» إذا تُضاف إلى الجمل، ولا يعملُ المضافُ إليه فيما قبل المضاف «انتهى. وهذا يُوهمُ أنَّ المانعَ من ذلك ما ذكره فقط، والمانعُ أمرٌ معنويٌّ، حتى لو فُقِدَ هذا المانعُ الذي ذكره لامتنعَ مِنْ جهةِ المعنى: وهو أنه لا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ تلاوةَ آياتِ اللَّهِ عليه بكونِه ذا مالٍ وبنين.

وأمَّا قراءةُ» أَأَنْ كان «على الاستفهام، ففيها وجهان، أحدُهما: أَنْ يتعلَّقَ بمقدَّر يَدُلُّ عليه ما قبلَه، أي: أَتُطيعه لأَنْ كان أو أتكونُ طواعيةً لأَنْ كان. والثاني: أنْ يتعلَّقَ بمقدَّرٍ عليه ما بعده أي: لأَنْ كان كذا كَذَّبَ وجَحَدَ.

وأمَّا قراءةُ إنْ بالكسر فعلى الشرطِ، وجوابُه مقدرٌ. تقديرُه: إن كان كذا يَكْفُرْ ويَجْحَدْ. دَلَّ عليه ما بعده. وقال الزمخشري: «والشرطُ للمخاطبِ، أي: لا تُطِعْ كلَّ حَلَاّفٍ شارطاً يسارَه، لأنه إذا أطاع الكافرَ لِغِناهُ فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحوُ صرفِ الشرطِ للمخاطب صَرْفُ الترجِّي إليه في قولِه: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} [طه: 44] . وجَعَله الشيخُ مِنْ دخولِ شرطٍ على شرطٍ، يعني إنْ وإذا؛ إلَاّ أنه قال:» ليسا من الشروط المترتبةِ الوقوع، وجعله نظيرَ قولِ ابنِ دريدٍ:

4296 -

فإنْ عَثَرْتُ بعدَها إنْ وَأَلَتْ

نفسيَ مِنْ هاتا فقولا لا لَعا

ص: 407

قال: «لأنَّ الحامِلَ على تدبُّرِ آياتِ اللهِ كونُه ذا مالٍ وبنين، وهو مشغولُ القلبِ بذلك غافلٌ عن النظرِ قد استولَتْ عليه الدنيا وأَبْطَرَتْه.

وقرأ الحسن بالاستفهام وهو استفهامُ تَقْريعٍ وتوبيخٍ على قولِه:» القرآنُ أساطيرُ الأوَّلين لَمَّا تُلِيَتْ عليه آياتُ الله.

ص: 408

قوله: {سَنَسِمُهُ} : أي: نجعل له سِمَةً، أي: علامة يُعْرَفُ بها. قال جرير:

4297 -

لَمَّا وَضَعْتُ على الفرزدقِ مِيْسَمي

وعلى البَعيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ

/ والخُرْطُومُ: الأَنْفُ، وهو هنا عبارةٌ عن الوجهِ كلِّه من [باب] التعبيرِ عن الكلِّ بالجزءِ؛ لأنه أظهرُ ما فيه وأَعلاه. والخُرْطومِ أيضاً: الخمرُ وكأنه استعارةٌ لها؛ لأنَّ الشنتمَريَّ قال: «هي الخمرُ أول ما تَخْرُجُ من الدِّنِّ» ، فجُعِلَتْ كالأَنفِ؛ لأنه أولُ ما يَبْدُو مِنْ الوجهِ، فليسَتْ الخرطومُ الخمرَ مطلقاً. ومِنْ مجيءِ الخُرْطومِ بمعنى الخمرِ قولُ علقمةَ ابنِ عبدة:

4298 -

قد أَشْهَدُ الشَّرْبَ، فيهم مُزْهِرٌ زَئِمٌ

والقومُ تصرَعُهمْ صَهْباءُ خُرْطومُ

ص: 408

وأنشد النضر بن شميل:

4299 -

تَظَلُّ يومَك في لهو وفي لَعِبٍ

وأنتَ بالليل شَرَّابُ الخَراطيمِ

قال النَّضِرُ: «والخُرطومُ في الآية: هي الخَمْرُ، والمرادُ: سَنَحُدُّه على شُربِها. وقد استبعدَ الناسُ هذا التفسيرَ.

ص: 409

قوله: {مُصْبِحِينَ} : هذا حالٌ مِنْ فاعلِ «لَيَصْرِمُنَّها» وهو مِنْ «أصبح» التامَّةِ، أي: داخلين في الصَّباح. كقولِ تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] وقولِهم: «إذا سَمِعْتَ بسُرَى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِحٌ» . والكاف في «كما» في موضع نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بَلَوْناهم ابتلاءً كما بَلَوْنا. و «ما» مصدريةٌ أو بمعنى الذين. و «إذ» منصوبةٌ ب «بَلَوْنا» و «لَيَصْرِمنُّها» جوابٌ للقسم، وجاء على خلافِ مَنْطوقِهم، ولو جاء عليه لقيل: لَنَصْرِمُنَّها بنونِ التكلم.

ص: 409

قوله: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} : هذه مستأنفةٌ. ويَضْعُفُ كونُها حالاً من حيث إنَّ المضارعَ المنفيَّ ب «لا» كالمثبتِ في عَدَم دخولِ الواوِ عليه، وإضمارُ مبتدأ قبلَه، كقولِهم:«قمتُ وأَصُكُّ عينَه» مُسْتغنى عنه. ومعنى «لا يَسْتَثْنُون» لا يَثنون عزمَهم على الحِرْمانِ، وقيل: لا يقولون: إن شاءَ الله. وسُمِّي استثناءً، وهو شرطٌ؛ لأنَّ معنى «لأَخْرُجَنَّ إنْ شاءَ الله» «ولا أخرجُ إلَا أَنْ يشاءَ اللهُ» واحدٌ، قاله الزمخشري.

ص: 409

قوله: {طَآئِفٌ} : أي هَلاكٌ، أو بلاءٌ، طائفٌ. والطائفُ غَلَبَ في الشرِّ. قال الفراء:«هو الأمرُ الذي يأتي ليلاً. ورُدَّ عليه بقولِه: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان} [الأعراف: 201] ، وذلك لا يختصُّ بلَيْلٍ ولا نهارٍ. وقرأ النخعي» طَيْفٌ «. وقد تقدَّم في الأعراف الكلامُ على هذينِ الوصفَيْن. و» منْ رَبِّك «يجوزُ أن يتعلَّقَ ب» طاف «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل طائف. والصِّرامُ: جُذاذُ النخلِ. وأصلُ المادةِ الدلالةُ على القَطْعِ، ومنه الصُرْمُ والصَّرْمُ بالضم والفتح، وهو القَطيعةُ. قال امرؤُ القيس:

4300 -

أفاطمُ مَهْلاً بعضَ هذا التدلُّلِ

وإن كُنْتِ قد أَزْمَعْتِ صَرْمي فأَجْملي

ومنه الصَّريمةُ، وهي قطعةٌ مَنْصَرمةٌ عن الرمل. قال:

4301 -

وبالصَّرِيْمَةِ منهم مَنْزِلٌ خَلِقٌ

عافٍ تَغَيَّرِ إلَاّ النؤيُ والوَتِدُ

والصَّارم: القاطِعُ الماضي، وناقة مُصَرَّمَةٌ، أي: انقطع لبنُها. وانْصَرَمَ الشهرُ والسَّنَةُ، أي: قَرُبَ انفصالُهما. وأَصْرَمَ: ساءَتْ حالُه، كأنه انقطعَ سَعْدُه. وقوله» كالصريم «قيل: هي الأشجارُ المُنْصَرِمُ حَمْلُها.

ص: 410

وقيل: كالليلِ لأنه يُقال له الصَّريمُ لسَوادِه. والصَّريمُ أيضاً: النهارُ. وقيل: الصبحُ، فهو من الأضدادِ. وقال شَمِر: الصَّريم الليلُ، والصَّريم النهار؛ لانصرامِ هذا عن ذاك وذاك عن هذا. وقيل: هو الرَّمادُ بلغة خُزَيْمَةَ، قاله ابنُ عباس. وقيل: الصَّريمُ رَمْلَةٌ معروفةً باليمن لا تُنْبِتُ شيئاً. وفي التفسير: أنَّ جَنَّتَهم صارت كذلك. ويُرْوَى أنها اقْتُلِعَتْ ووُضِعتْ حيث الطائفُ اليوم؛ ولذلك سُمِّي به» الطائفُ «الذي هو بالحجازِ اليومَ.

ص: 411

قوله: {أَنِ اغدوا} : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّةَ، أي: تنادَوْا بهذا الكلامِ، وأَنْ تكونَ المفسِّرة؛ لأنَّه تقدَّمها ما هو بمعنى القولِ. قال الزمخشريُّ:«فإنْ قلتَ: هلا قيل: اغْدُوا إلى حَرْثِكم وما معنى» على «؟ قلت: لَمَّا كان الغُدُوُّ إليهِ ليَصْرِمُوه ويَقْطعوه كان غُدُوَّا عليه، كما تقول: غدا عليهم العدوُّ. ويجوزُ أن يُضَمَّنَ الغُدُوُّ معنى الإِقبالِ كقولِهم:» يُغْدَى عليهم بالجَفْنَة ويُراحُ «انتهى. فجعل» غدا «متعدياً في الأصل ب» إلى «فاحتاج إلى تأويل تعدِّيه ب» على «. وفيه نظرٌ لورود تَعَدِّيه ب» على «في غير موضع كقولِه:

4302 -

وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ

نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ

/

ص: 411

وإذا كانوا قد عَدَّوْا مرادِفَه ب» على «فَلْيُعَدُّوه بها، ومرادِفُهُ» بَكَرَ «تقول: بَكَرْتُ عليه، وغَدَوْتُ عليه بمعنىً واحدٍ. قال:

4303 -

بَكَرْتُ عليه غُدْوَةً فَرَأَيْتُه

قُعُوداً لديهِ بالصَّريمِ عَواذِلُهْ

و {إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ} جوابُه محذوفٌ، أي: فاغدُوْا. وصارمين: قاطعين جاذِّين. وقيل: ماضِين في العَزْمِ، مِنْ قولِك: سيفٌ صارِمٌ.

ص: 412

قوله: {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ «انطلَقُوا» .

ص: 412

قوله: {أَن لَاّ يَدْخُلَنَّهَا} : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّة، أي: يتخافَتُون بهذا الكلامِ، أي: يقولُه بعضُهم لبعضٍ، وأَنْ تكونَ المفسِّرَةَ. وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلةَ «لا يَدْخُلُها» بإسقاطِ «أَنْ» إمَّا على إضمارِ القولِ، كما هو مذهبُ البَصْريين، وإمَّا على إجراءِ «يتخافتون» مُجراه كما هو قولُ الكوفيين.

ص: 412

قوله: {على حَرْدٍ قَادِرِينَ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «قادرين» حالاً من فاعل «غَدَوْا» . و «على حَرْدٍ» متعلِّقٌ به، وأَن يكونَ «على حَرْدٍ» هو الحالَ، و «قادرين» : إمَّا حالٌ ثانيةٌ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى.

ص: 412

والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة، قيل: الغضبُ والحَنَقُ. وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة:

4304 -

أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ

تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ

قيل: ومثلُه قولُ الآخرِ:

4305 -

إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي

مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد

عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه:

4306 -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا

وقيل: المَنْعُ. مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ: قَلَّ لَبَنُها، والسَّنَةُ: قَلَّ مَطَرُها، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ. ويقال: حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً، وقد تُفْتح فيقال: حَرَداً، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ. يقال: أسدٌ حارِدٌ، ولُيوث حَوارِدُ. وقيل: الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ. يُقال: حَرَدَ بالفتح، يَحْرُد بالضم، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً: انعزل، ومنه كوكبٌ حارِدٌ، أي: منفردٌ. قال الأصمعي: «هي لغةُ هُذَيْل» . وقيل: الحَرْدُ القَصْدُ. يقال: حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك، أي: قَصَدَ قَصْدَك، ومنه:

4307 -

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ص: 413

يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ

وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ. وقيل: الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها، قاله السُّدي. وقيل: اسم قَرْيتِهم، قاله الأزهري. وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ. و «قادرين» : إمَّا مِنْ القُدْرَةِ، وهو الظاهرُ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ، أي: مُضَيِّقين على المساكينِ. وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ «.

ص: 414

قوله: {كَذَلِكَ العذاب} : مبتدأٌ، وخبرُه مقدم، أي: مثلُ ذلك العذابِ عذابُ الدنيا، وأمَّا عذابُ الآخرةِ فأكبرُ منها.

ص: 414

قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالاستقرار، وأن يكون حالاً مِنْ «جَنَّات» .

ص: 414

قوله: {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ. وفيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها معمولةٌ ل «تَدْرُسون» ، أي: تدرسون في الكتابِ أنَّ لكم ما تختارونه، فلمَّا دخلت اللامُ كُسِرت الهمزةُ. والثاني: أَنْ تكونَ على الحكايةِ للمدروسِ كما هو، كقوله:{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلَامٌ على نُوحٍ فِي العالمين} [الصافات: 78 - 79] قالهما الزمخشري، وفي الفرقِ بين الوجهين عُسْرٌ قال: «وتَخَيَّر الشيءَ واختاره: أَخَذَ خيرَه كتنخَّله

ص: 414

وانتخَلَه أَخَذَ منخولَه» . والثالث: أنها على الاستئنافِ على معنى: إنْ كان لكم كتابٌ فلكم فيه مُتَخَيَّرٌ. وقرأ طلحةُ والضحاك «أنَّ لكم» بفتح الهمزةِ، وهو منصوبٌ ب «تَدْرُسُون» ، إلَاّ أنَّ فيه زيادةَ لامِ التأكيدِ، وهي نظيرُ قراءة {إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} [الفرقان: 20] بالفتح. وقرأ الأعرج «أإنَّ لكم» في الموضعين بالاستفهام.

ص: 415

قوله: {بَالِغَةٌ} : العامَّةُ على رفعِها نعتاً ل «أَيْمانٌ» و «إلى يوم» متعلِّق بما تَعَلَّقَ به «لكم» . من الاستقرار، أي: ثابتةٌ لكم إلى يومِ، أو ببالغة، أي: تَبْلُغُ إلى ذلك اليومِ وتنتهي إليه.

وقرأ زيد بن علي والحسن بنصبِها فقيل: على الحال من «أيمان» لأنها تخصَّصَتْ بالعملِ أو بالوصفِ. وقيل: من الضمير في «علينا» إنْ جَعَلْناه صفةً ل «أَيْمان» .

وقوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابُ القسمِ في قوله: «أَيْمان» لأنها بمعنى أقسام. و «أيُّهم» معلِّقٌ لِسَلْهُمْ و «بذلك» متعلق ب «زعيمٌ» ، أي: ضمينٌ وكفيل. وقد تقدَّم أنَّ «سألَ» يُعَلَّقُ لكونِه سبباً في العِلم. وأصلُه أن يتعدَّى ب عن أو بالباء، كقولِه:{فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59][وقولِه:]

ص: 415

4308 -

فإنْ تَسْألوني بالنساء. . . . . . . .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالجملةُ في موضعِ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافضِ، كما عَرَفْت تقريرَه غيرَ مرةٍ. وقرأ عبد الله:«أم لهم شِركٌ، فليَأْتوا بشِرْكِهم» . بلفظِ المصدرِ.

ص: 416

قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ} : منصوبٌ بقولِه «فَلْيَأْتُوا» أو بإضمار اذْكُرْ، فيكونُ مفعولاً به أو بمحذوفٍ، وهو ظرفٌ، أي: يومَ يُكْشَف يكونُ كَيْتَ وكَيْتَ، أو بخاشعة، قاله أبو البقاء. وفيه بَعْدٌ و «عن ساقٍ» قائمٌ مَقامَ الفاعلِ، وابنُ مسعود وابن أبي عبلة «يَكْشِفُ» بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ. وقرأ ابنُ عباس وعبد الله أيضاً «نكشِفُ» بكسر النون. وعن ابن عباس «تَكْشِفُ» بالتاء من فوق مبنياً للفاعل، أي: الشدَّةُ والساعةُ. وعنه كذلك أيضاً مبنياً للمفعول وهي/ مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ التأنيثَ لا معنى له هنا، إلَاّ أَنْ يُقالَ: إن المفعولَ مستترٌ، أي: تُكْشَفُ هي، أي: الشِّدَّةُ.

قوله: {عَن سَاقٍ} ، أي: تَكْشِفُ عن ساقِها؛ ولذلك قال الزمخشري: «وتكشِفُ بالتاء مبنياً للفاعلِ والمفعولِ جميعاً. والفعلُ

ص: 416

للساعةِ، أو للحال، أي: تَشْتَدُّ الحالُ أو الساعةُ» . وقُرِىء «يُكْشِفُ» بضمِّ الياء أو التاء وكسرِ الشين، مِنْ «أَكْشَفَ» إذا دَخَلَ في الكَشْفِ. وأَكْشَفَ الرجلُ: إذا انقلَبَتْ شَفَتُهُ العليا لانكشافِ ما تحتَها. وكَشْفُ الساقِ كنايةٌ عن الشِّدَّةِ، لا يَمْتري في ذلك مَنْ ذاق طعم الكلامِ، وسَمعَ قولَ العربِ في نَظْمها ونثرها. قال الراجزُ:

4309 -

عَجِبْتُ مِنْ نفسي ومن إشفاقِها

ومِنْ طِرادي الطيرَ عن أَرْزاقِها

في سَنَةٍ قد كَشَفَتْ عن ساقِها

حمراءَ تَبْرِي اللحمَ عَنْ عُراقها

وقال حاتم الطائي:

4310 -

أخو الحربِ إنْ عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها

وإن شَمَّرَتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا

وقال آخر:

4311 -

كَشَفَتْ لهم عن ساقِها

وبدا من الشَّرِّ الصُّراحُ

ص: 417

وقال آخر:

4312 -

قد شَمَّرَتْ عن ساقِها فَشُدُّوا

وجَدَّت الحربُ بكم فَجُدُّوا

وقال آخر:

4313 -

صبراً أُمامُ إنَّه شرٌّ باقِ

وقامَتِ الحربُ بنا على ساقِ

قال الزمخشري: «الكَشْفُ عن الساق والإِبداء عن الخِدام مَثَلٌ في شدةِ الأمرِ وصُعوبةِ الخَطْبِ. وأصلُه في الرَّوْعِ والهزيمةِ وتشميرِ المُخَدَّرات عن سُوْقِهِنَّ في الحرب، وإبداءِ خِدامِهِنَّ عند ذلك.

وقال ابن قيس الرقياتِ:

4314 -

تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدي

عن خِدام العَقِليةُ العَذْراءُ

انتهى وما أحسنُ ما أَبْدَى أبو القاسمِ وجهَ علاقةِ هذا المجازِ فللَّه دَرُّه. وما أَوْرَدَه أهلُ التفسير فإنَّه مؤولٌ وكذلك حديثُ ابنِ مسعود

ص: 418

ونحوه. قال الزمخشري:» ومَنْ أَحَسَّ بمضارِّ فَقْدِ هذا العِلْمِ عَلِمَ مقدارَ عِظَمِ منافعِه «انتهى. ويعني عِلْمَ البيان.

ص: 419

قوله: {خَاشِعَةً} : حالٌ مِنْ مرفوع «يُدْعَوْن» و «أبصارُهم» فاعلٌ به ونَسَب الخشوعَ للأبصارِ، وإنْ كانت الأعضاءُ كلُّها كذلك لظهورِ أَثَرِه فيها.

وقوله: {وَهُمْ سَالِمُونَ} حالٌ مِنْ مرفوع «يُدْعَوْن» الثانيةِ.

ص: 419

قوله: {وَمَن يُكَذِّبُ} : منصوب: إمَّا نَسَقاً على الياء، وإمَّا على المفعولِ معه وهو مرجوحٌ لإِمكانِ النَّسَقِ مِنْ غيرِ ضعفٍ. وما بعدها تقدَّم إعرابُ مِثْلِه.

ص: 419

قوله: {إِذْ نادى} «إذا» منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ، أي: ولا تكُنْ حالُك كحالِه، أو قصتُك كقصتِه، في وقتِ ندائِه. ويَدُلُّ على المحذوفِ أنَّ الذواتِ لا يَنْصَبُّ عليها النهيُ، إنما ينصَبُّ على أحوالِها وصفاتِها.

قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} جملةٌ حاليةٌ من الضمير في «نادى» والمَكْظومُ: المُمْتَلِىءُ حُزْناً وغَيْظاً. قال ذو الرمة:

4315 -

وأنتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْناً

عاني الفؤادِ قريحُ القلبِ مكظومُ

وتقدَّمت مادتُه في آل عمران.

ص: 419

قوله: {تَدَارَكَهُ} : قرأ أُبي وعبدُ الله وابنُ عباس «تدارَكَتْه» بتاء التأنيث لأجلِ اللفظِ به، والحسنُ وابنُ هرمز والأعمش «تَدَّارَكُه» بتشديدِ الدالِ وخُرِّجَتْ على أنَّ الأصلَ «تَتَدارَكُه» بتَاءَيْن مضارعاً فأدغم، وهو شاذٌّ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ غيرُ حرفِ لينٍ وهي كقراءةِ البزي {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] {نَاراً تلظى} [الليل: 14] وهذا على حكايةِ الحالِ؛ لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فإيقاعُ المضارعِ هنا للحكاية.

ص: 420

قوله: {لَيُزْلِقُونَكَ} : قرأها نافعٌ بفتح الياءِ، والباقون بضمِّها. فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه، أي: أَزَلَّ رِجْلَه، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ. وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال: زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح. ونظيرُه: شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ. وقيل: زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ. ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ. وفي التفسير قصةٌ. والباءُ: إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ، أي: جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك، كعَمِلْتُ بالقَدوم، وإمَّا للسببيةِ، أي: بسبب عيونِهم. /

ص: 420

قوله: {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب «يُزْلِقُونك» ، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ، أي: لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال: هو هنا متقدِّمٌ.

ص: 421