الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَنَشَطْتُ الحَبْلَ أَنْشِطُه أُنْشُوْطَة: عَقَدْتُه، وأَنْشَطْتُه مَدَدْتُه، ونَشَطَ كأَنْشَط. قال الزمخشري:«تُنْشِطُ الأرواحَ، أي: تُخْرِجُها، مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنْ البئرِ إذا أَخْرجَها» .
و «أَمْراً» مفعولٌ بالمُدَبِّراتِ. وقيل: حال: تُدَبِّرُهُ مَأْموراتٍ، وهو بعيدٌ. والمرادُ بهؤلاء: إمَّا طوائِفُ الملائكةِ، وإمَّا طوائِفُ خَيْلِ الغُزاةِ، وإمَّا النجومُ، وإمَّا المنايا، وإمَّا بَقَرُ الوَحْشِ، وما جَرَى مَجْراها لسُرْعَتِها، وإمَّا أرواحُ المؤمنين.
قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ} : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، هو جوابُ القسم تقديره: لَتْبُعَثُنَّ، لدلالةِ ما بعدَه عليه، قال الزمخشري:«فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ» يومَ تَرْجُفُ «ظرفاً للمُضْمرِ الذي هو لَتُبْعَثُنَّ، ولا يُبْعَثُون عند النَّفْخَةِ الأولى؟ قلت: المعنى: لتُبْعَثُنَّ في الوقتِ الواسعِ الذي تقع فيه النَّفْختان، وهم يُبْعَثُون في بعض ذلك الوقتِ الواسعِ، وهو وقتُ النَّفْخَةِ الأخرى، ودلَّ على ذلك أنَّ قولَه:» تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ «جُعِل حالاً عن» الراجفة «. وقيل: العاملُ مقدَّرٌ غيرُ جوابٍ، أي: اذكُرْ يومَ تَرْجُفُ. وفي الجوابِ على هذا أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} [النازعات: 2
6]
. واستقبحه أبو بكر بن الأنباريِّ لطولِ الفَصْل. الثاني: أنه قولُه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [النازعات: 15] لأنَّ» هل «بمعنى» قد «. وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه كما
قدَّمْتُ لك في {هَلْ أتى} [الإنسان: 1] أنها لا تكونُ بمعنى» قد «، إلَاّ في الاستفهام، على ما قال الزمخشري. الثالث: أنَّ الجواب {تَتْبَعُهَا} [النازعات: 7] وإنما حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَيَوْمَ تَرْجُفُ الراجفةُ تَتْبَعُها، فحُذِفَتِ اللامُ، ولم تَدْخُلْ نونُ التوكيدِ على» تَتْبَعُها «للفَصْلِ بين اللامِ المقدَّرَةِ وبين الفعلِ المُقْسَمِ عليه بالظرفِ. ومثلُه {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] . وقيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: يومَ تَرْجُفُ الراجِفَةُ تَتْبَعُها الرادِفَةُ والنازعاتِ.
وقال أبو حاتم:» هو على التقديم والتأخيرِ كأنه قال: فإذا هُمْ بالسَّاهِرَةِ والنَّازعاتِ «. قال ابن الأنباري:» هذا خطأٌ؛ لأنَّ الفاءَ لا يُفْتَتَحُ بها الكلامُ «. وقيل:» يومَ «منصوبٌ بما دَلَّ عليه» واجِفَةٌ «، أي: يومَ تَرْجُفُ وَجِفَت. وقيل: بما دَلَّ عليه خاشع، أي: يومَ تَرْجُفُ خَشَعَتْ.
قوله: {تَتْبَعُهَا الرادفة} : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الراجفة، وأَنْ تكونَ مستأنفةً.
قوله: {قُلُوبٌ} : مبتدأٌ، و «يومئذٍ» منصوبٌ ب «واجفةٌ» ، وواجفة صفةُ القلوبِ، وهو المُسَوِّغُ للابتداءِ بالنكرةِ و «أَبْصارُها» مبتدأٌ ثانٍ، و «خاشِعة» خبرُه، وهو وخبرُ الأولِ. وفي الكلامِ حَذْفُ مُضافٍ تقديرُه: أبصارُ أصحابِ القلوب. وقال ابنُ عطية: «وجاز ذلك، أي: الابتداءُ بقلوب لأنَّها تخصَّصَتْ بقولِه:» يومئذٍ «. ورَدَّ
عليه الشيخُ: بأنَّ ظرفَ الزمانِ لا يُخَصِّصُ الجثثَ، يعني لا تُوصف به الجثثُ. والواجفةُ: الخائفةُ. يقال: وَجَفَ يَجِفُ وَجيفاً، وأصلُه اضطرابُ القَلْبِ وقَلَقُه. قال قيسُ بن الخطيم:
4481 -
إنَّ بني جَحْجَبَى وأُسْرَتَهُمْ
…
أكبادُنا مِنْ ورائِهم تَجِفُ
/وعن ابن عباس: واجِفَةٌ: خائفةٌ، بلغة هَمْدان. ويُقال: وَجَبَ وَجيباً، بالباءِ الموحدةِ بدلَ الفاءِ.
قوله: {فِي الحافرة} : الحافِرَة: الطريقةُ التي يَرْجِعُ الإِنسانُ فيها من حيث جاء. يقال: رَجَعَ في حافرتِه، وعلى حافرته. ثم يُعَبَّرُ بها عن الرجوعِ بالأحوال مِنْ آخرِ الأمرِ إلى أوَّلِه. قال:
4482 -
أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ
…
معاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وعارِ
وأصلُه: أنَّ الإِنسان إذا رَجَعَ في طريقِه أثَّرَتْ قدماه فيها حَفْراً. وقال الراغب: «وقولُه في الحافرة مَثَلٌ لمَنْ يُرَدُّ مِنْ حيث جاء، أي:
أنَحْيا بعد أن نموتَ؟ وقيل: الحافرةُ: الأرضُ التي [جُعِلَتْ] قبورُهم فيها ومعناه: أإنَّا لَمَرْدُودون ونحن في الحافِرة؟ أي: في القبور. وقولُه:» في الحافرة «على هذا في موضعِ الحال. وقيل: رَجَع فلانٌ على حافِرَتِه، ورَجَع الشيخُ إلى حافرته، أي: هَرِمَ، كقولِه: {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} [النحل: 70] . وقولُهم:» النَّقْدُ عند الحافِرة «لِما يُباع نَقْداً. وأصلُه في الفرس إذا بِيْع، فيُقال: لا يَزُول حافِرُه أو يُنْقَدَ ثمنُه. والحَفْرُ: تَأَكُّلُ الأسنانِ. وقد حَفَر فُوه، وقد أَحْفَر المُهْرُ للإِثْناءِ والإِرْباع، أي: دنا لأن يكونَ ثَنِيَّاً أو رُباعياً» انتهى. والحافِرَةُ قيل: فاعِلَة بمعنى مَفْعُولة. وقيل: على النَّسَب، أي: ذات حَفْرٍ، والمراد: الأرضُ. والمعنى: إنَّا لمَرْدُودون في قبورنا أحياءً. وقيل: الحافرة: جَمْعُ حافِر بمعنى القَدَم، أي: نمشي أحياءً على أقدامِنا، وَنَطَأُ بها الأرضَ. وقيل: هي أولُ الأمرِ. وتقولُ التجَّار: «النَّقْدُ في الحافِرة» ، أي: أوَّلُ السَّوْمِ. وقال الشاعر:
4483 -
آلَيْتُ لا أَنْساكُمُ فاعْلَموا
…
حتى تُرَدَّ الناسُ في الحافِرَهْ
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «في الحَفِرَة» بدون ألف. فقيل: هما بمعنى. وقيل: هي الأرض التي تَغَيَّرَتْ وأنْتَنَتْ بموتاها وأجسادِهم،
مِنْ قولِهم: حَفِرت أسنانُه، أي: تَأَكَّلَتْ وتَغَيَّرَتْ. وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في هذَيْن الاستفهامَيْنِ في سورةِ الرعد. وقوله: «في الحافِرَة» يجوزُ تعلُّقُه بمَرْدُوْدون، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم.
قوله: {نَّخِرَةً} : قرأ الأخَوان وأبو بكر «ناخِرَة» بألفٍ، والباقون «نَخِرَة» بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً، أو كالغَريزة. وقيل: ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية. وقيل: ناخِرَة، أي: صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها، أي: تُصَوِّتُ، ونَخِرَة، أي: تَنْخِرُ فيها دائماً. وقيل: ناخِرَة: بالِية، ونَخِرَة: متآكلة. وعن أبي عمروٍ: الناخِرة: التي لم تَنْخَرْ بعدُ، والنَّخِرَةُ: البالية. وقيل: الناخِرَةُ: المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ، والنَّخِرةُ: الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ. قال الزمخشري: «يُقال: نَخِر العظمُ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ، كقولِك: طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل، وقد قُرِىء بها، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير» . قلت: ومنه قولُه:
4484 -
وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها
…
قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ
وقال الراجزُ لفَرَسه:
4485 -
أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ
…
ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ
…
ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ
مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ
…
ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون: شِدَّةُ هبوبِها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير. يقال: هَشَم نُخْرَتَه، أي: مُقَدَّمَ أَنْفِه. و «إذا» منصوبٌ بمضمرٍ، أي: إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ.
قوله: {تِلْكَ} : مبتدأٌ مُشارٌ بها إلى الرَّجْفة والرَّدَّة في الحافِرة. و «كَرَّةٌ» . خبرُها. و «خاسِرَةٌ» صفةٌ، أي: ذاتُ خُسْرانٍ، أو أُسْنِدَ إليها الخَسارُ، والمرادُ: أصحابُها، مجازاً. والمعنى: إنْ كان رجوعُنا إلى القيامةِ حَقَّاً فتلك الرَّجْعَةُ رَجْعَةٌ خاسِرَةٌ، وهذا أفادَتْه «إذَنْ» فإنها حرفُ جوابٍ وجزاءٍ عند الجمهور. وقيل: قد لا تكونُ جواباً. وعن الحسنِ: إنَّ «خاسرة» بمعنى كاذِبة.
قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ} : «هي» ضميرُ الكَرَّة، أي: لا تَحْسَبوا تلك الكرَّةَ صعبةً على اللَّهِ تعالى. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بِمَ تَعَلَّقَ قولُه:» فإنما هي «؟ قلت: بمحذوفٍ معناه: لا تَسْتَصْعِبوها، فإنما هي زَجْرَةٌ» . قلت: يعني بالتعلُّقِ من حيث المعنى، وهو العطفُ.
قوله: {فَإِذَا هُم} : المفاجأةُ والتَّسَبُّبُ هنا واضحان والسَّاهرة قيل: وجهُ الأرضِ، والفَلاةُ، وُصِفَتْ بما يقع فيها، وهو السَّهَرُ
لأجلِ الخوفِ. وقيل: لأنَّ السَّرابَ يَجْري فيها، مِنْ قولِهم: عَيْنٌ ساهرَةٌ. قال الزمخشري: «والسَّاهرةُ: الأرضُ البيضاءُ المستويةُ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ السَّرابَ يجري فيها، مِنْ قولهم/ عينٌ ساهِرَةٌ جارِيةُ الماء، وفي ضَدِّها نائمةٌ. قال الأشعت بن قيس:
4486 -
وساهِرَةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً
…
لأَقْطارِها قد جُبْتُها مُتَلَثِّما
أو لأنَّ ساكنَها لا ينامُ، خَوْفَ الهَلَكَة» انتهى. وقال أمية:
4487 -
وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ
…
وما فاهوا لهمْ فيها مُقيمُ
يريد: لحمُ حيوانِ أرضٍ ساهرةٍ. وقال أبو كبير الهذلي:
4488 -
يَرْتَدْنَ ساهِرَةً كأنَّ جَميمَها
…
وعَمِيْمَها أسْدافُ ليلٍ مُظْلِمٍ
قال الراغب: «هي وَجْهُ الأرضِ. وقيل: أرضُ القيامةِ. وحقيقَتُها
التي يَكْثُرُ الوَطْءُ بها، كأنَّها سَهِرَتْ مِنْ ذلك، إشارةً إلى نحوِ قولِ الشاعر:
4489 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
تَحَرَّكَ يَقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ
والأَسْهَران: عِرْقان في الأنفِ» انتهى. والسَّاهُوْر: غلافُ القَمَرِ الذي يَدْخُل فيه عند كُسوفِه. قال:
4490 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
أو شُقَّةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ بَطْنِ ساهُوْرِ
أي: هذه المرأةُ بمنزلةِ قطعةِ القمر. وقال أميَّةُ:
4491 -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
…
قَمَرٌ وساهُوْرٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
قوله: {إِذْ نَادَاهُ} : «إذ» منصوبٌ ب «حديثُ» لا ب «أتاك» لاختلافِ وقتَيْهما. وتقدَّم الكلامُ في {طُوًى} [الآية: 12] في طه.
قوله: {اذهب} : يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ. ويجوزُ أن يكونَ على إضمارِ القولِ. وقيل: هو على حَذْفِ «أَنْ» ، أي: أَنْ اذهَبْ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله: «أَنْ اذْهَبْ» . و «أَنْ» هذه الظاهرةُ أو المقدرةُ يُحتمل أَنْ تكونَ تفسيريةً، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: ناداه بكذا.
قوله: {هَل لَّكَ} : خبرُ مبتدأ مضمرٍ. و «إلى أَنْ» متعلقٌ بذلك المبتدأ، وهو حَذْفٌ شائعٌ. والتقدير: هل لك سبيلٌ إلى التزكية ومثله: «هل لك في الخير» يريدون: هل لك رغبةٌ في الخير. وقال الشاعر:
4492 -
فهل لكمُ فيها إليَّ فإنَّني
…
بَصيرٌ بما أَعْيا النِّطاسِيَّ حِذْيَما
وقال أبو البقاء: «لَمَّا كان المعنى: أَدْعوك جاء ب» إلى «. وهذا لا يُفيدُ شيئاً في الإِعراب. وقرأ نافعٌ وابنُ كثير بتشديدِ الزاي مِنْ»
تَزَّكَّى «والصادِ مِنْ» تَصَّدَّى «في السورةِ تحتها. والأصلُ: تتزَكَّى وتتصَدَّى، فالحَرَمِيَّان أدغما، والباقون حَذَفُوا نحو:{تَنَزَّلُ} [القدر: 4] . وتقدَّم الخلافُ في أيَّتِهما المحذوفةِ.
قوله: {فَحَشَرَ فنادى} : لم يُذْكَر مفعولاهما؛ إذ المرادُ فَعَلَ ذلك، أو يكونُ التقدير: فَحَشَرَ قومَه فناداهم. وقوله «فقال» تفسيرٌ للنداء.
قوله: {نَكَالَ الآخرة} : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل «أَخَذَ» ، والتجوُّزُ: إمَّا في الفعل، أي: نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ، وإمَّا في المصدر، أي: أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له، أي: لأجل نَكالِه. ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ، أي: نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ، قاله الزمخشري، وجعله ك {وَعْدَ الله} [النساء: 122] و {صِبْغَةَ الله} [البقرة: 138] . والنَّكالُ: بمنزلةِ التَّنْكيل، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم. والآخرةُ والأولى: «إمَّا الداران، وإمَّا الكلمتان، فالآخرةُ قولُه:{أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24]، والأولى:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به.
قوله: {أَمِ السمآء} : عطفٌ على «أنتم» وقوله: «بناها» بيانٌ لكيفيةِ خَلْقِه إياها. فالوقفُ على «السماء» ، والابتداءُ بما بعدَها. ونظيرُه ما مرَّ في الزخرف [الآية: 58] {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}
قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} : جملةٌ مفسِّرةٌ لكيفيةِ البناءِ. والسَّمْكُ: الارتفاعُ. ومعناه في الآيةِ كما قال الزمخشريُّ: «جَعَلَ مقدارَ ذهابِها في سَمْتِ العُلُوِّ مديداً رفعياً» . وسَمَكْتُ الشيءَ: رَفَعْتُه في الهواءِ. وسَمَك هو، أي: ارتفعَ سُمُوكاً فهو قاصِرٌ ومتعدٍّ. وسَنامٌ سامِكٌ تامِكٌ، أي: عالٍ مرتفعٌ. وسِماكُ البيت ما سَمَكْتُه به. والسِّماك: نجمٌ معروفٌ، وهما اثنان: رامحٌ وأَعْزَلُ. قال الشاعر:
4493 -
إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا
…
بيتاً دعائِمُه أعَزُّ وأَطْوَلُ
قوله: {وَأَغْطَشَ} : أي: أظلم بلغةِ أنْمار وأَشْعر. يقال: غَطِش الليلُ وغَطَّشْتُه أنا، وأَغْطَشْتُه قال:
4494 -
عَقَرْتُ لهُمْ ناقتي مَوْهِناً
…
فلَيْلُهُمُ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ
وليلٌ أغطشٌ وليلةٌ غَطْشاءُ. قال الراغب: «وأصلُه من الأَغْطشِ، وهو الذي في عَيْنه عَمَشٌ. ومنه فَلاةٌ غَطْشى لا يُهْتدى فيها. والتغاطُشُ: التَّعامي» انتهى. ويقال: أَغْطشَ الليلُ، قاصراً كأظلم، فأَفْعَلَ فيه متعدٍّ/ ولازمٌ.
وقوله: {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} فيه حَذْفٌ، أي: ضُحى شمسِها، أو أضافَ الليلَ والضُّحى لها للملابسةِ التي بينها وبينهما.
قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} : «بعد» على بابِها من التأخيرِ. ولا مُعارَضَةَ بينها وبين آيةِ فُصِّلت؛ لأنَّه خلق الأرضَ غيرَ مَدْحُوَّةٍ، ثم خَلَق السماءَ، ثم دحا الأرضَ. وقولُ أبي عبيدة:«إنها بمعنى قَبْل» مُنْكَرٌ عند العلماءِ. ويقال: دحا يَدْحُوا دَحْواً ودَحَى يَدْحي دَحْياً، أي: بَسَط، فهو من ذواتِ الواوِ والياءِ، فيُكتبُ بالألف والياء، ومنه قيل لِعُشِّ النَّعامة: أُدْحُوٌّ، وأُدْحِيٌّ، لانبساطِه في الأرض. وقال أمية:
4495 -
وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها
…
فهم قُطَّانُها حتى التَّنادِي
وقيل: دحى بمعنى سَوَّى. قال زيد بن نُفَيْل:
4496 -
وأَسْلَمْتُ وَجْهِيْ لِمَنْ أَسْلَمَتْ
…
له الأرضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثقالاً
دَحاها فلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّها
…
بأَيْدٍ وأَرْسى عليها الجِبالا
والعامَّةُ على نصبِ «الأرض» و «الجبال» على إضمارِ فعلٍ مفسَّرٍ بما بعده، وهو المختارُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ. ورَفَعَهما الحسنُ وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السَّمَّال وعمرُو بن عبيد، على الابتداء، وعيسى برفع «الأرض» فقط.
قوله: {أَخْرَجَ} : فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ تفسيراً. والثاني: أَنْ يكونَ حالاً. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: فهلَاّ أَدْخَلَ حرفَ العطفِ على» أَخْرَجَ «. قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ» دحاها «بمعنى بَسَطها ومهَّدها للسُّكنى، ثم فَسَّر التمهيدَ بما لا بُدَّ منه في تأتِّي سُكْناها مِنْ تسويةِ أمرِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ وإمكانِ القَرارِ عليها. والثاني: أَنْ يكونَ» أَخْرَجَ «حالاً بإضمار» قد «كقولِه: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] . قلت: إضمار» قد «هو قولُ الجمهورِ، وخالفَ الكوفيون والأخفش.
قوله: {مَتَاعاً} : العامَّةُ على النصبِ مفعولاً له، أو مصدراً لعاملٍ مقدَّرٍ، أي: مَتَّعكم. والمَرْعَى في الأصل: مكانٌ
أو زمانٌ أو مصدرٌ، وهو هنا مصدرٌ بمعنى المفعولِ، وهو في حق الآدميين استعارةٌ.
قوله: {فَإِذَا جَآءَتِ} : في جوابِها أوجهٌ، أحدُها: قولُه: «فأمَّا مَنْ طغى» نحو: «إذا جاءك بنو تميم فأمَّا العاصي فَأَهِنْه، وأمَّا الطائعُ فأكْرِمْهُ» . وقيل: محذوفٌ، فقدَّره الزمخشري: فإنَّ الأمرَ كذلك، أي: فإنَّ الجحيمَ مَأْواه. وقدَّره غيرُ انقسم الراؤون قسمين. وقيل: عاينوا أو علموا. وقال أبو البقاء: «العاملُ فيها جوابُها، وهو معنى قولِه:» يومَ يتَذَكَّرَ الإِنسانُ «. والطامَّة: الدَّاهِية تَطِمُّ على غيرِها من الدَّواهي لِعَظَمِها. والطَّمُّ: الدَّفْنُ. ومنه: طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ. وفي المثل:» جرى الوادي فَطمَّ على القُرى «والمرادُ بها في القرآن النخفةُ الثانيةُ لأنَّ بها يَحْصُل ذلك.
قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ} : بدلٌ مِنْ «إذا» أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ، أي: أعني يومَ، أو يومَ يتذكَّرُ يجري كيتَ وكيتَ.
قوله: {وَبُرِّزَتِ} : العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ مشدداً، و «لِمَنْ يرى» بياء الغيبة. وزيد بن عليّ وعائشةُ وعكرمةُ مبنياً للفاعلِ مخففاً، و «ترى» بتاءٍ مِنْ فوقُ فجوَّزوا في تاء «ترى» أَنْ تكونَ
للتأنيثِ، وفي «ترى» ضمير الجحيم كقولِه:{إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [الفرقان: 12] ، وأَنْ تكونَ للخطابِ، أي: ترى أنت يا محمدُ. وقرأ عبد الله «لِمَنْ رأى» فعلاً ماضياً.
قوله: {هِيَ المأوى} : إمَّا: هي المَأْوى له، أو هي مَأْواه، وقامَتْ أل مَقامَ الضميرِ، وهو رأيُ الكوفيين. وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذا الخلافِ والردُّ على قائلِه بقوله:
4497 -
رَحِيْبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفيقةٌ
…
بجَسَّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
إذا لو كانَتْ أل عِوَضاً من الضميرِ لَما جُمِع بينهما في هذا البيتِ. ولا بُدَّ مِنْ أحدِ هذَيْن التأويلَيْن في الآيةِ الكريمةِ لأجلِ العائدِ من الجملةِ الواقعةِ خبراً إلى المبتدأ. والذي حَسَّن عدمَ ذِكْرِ العائدِ كَوْنُ الكلمةِ وقعَتْ رأسَ فاصلةٍ. وقال الزمخشري: «والمعنى: فإنَّ الجحيمَ مَأْواه، كما تقولُ للرجل: /» غُضَّ الطرفَ «وليس الألفُ واللامُ بدلاً من الإِضافةِ، ولكنْ لَمَّا عُلِمَ أنَّ الطاغيَ هو صاحبُ المَأْوى، وأنَّه لا يَغُضُّ الرجلُ طَرْفَ غيره، تُرِكَتِ الإِضافةُ، ودخولُ الألفِ واللامِ في» المَأْوَى «والطَّرْفِ للتعريفِ لأنَّهما معروفان» .
قال الشيخ: «وهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ منه الرابِطُ العائدُ على المبتدأ، إذ قد نَفَى مذهبَ الكوفيين، ولم يُقَدِّر ضميراً كما قَدَّره البصريُّون، فرامَ حصولَ الرابطِ بلا رابطٍ» . قلت: قوله: «ولكنْ لَمَّا عُلِمَ» إلى آخره هو عينُ قولِ البصريين، ولا أَدْري كيف خَفِيَ عليه هذا؟
قوله: {فِيمَ أَنتَ} : «فيم» خبرٌ مقدمٌ، و «أنت» مبتدأٌ مؤخرٌ و «مِنْ ذِكْراها» متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ، والمعنى: أنت في أيِّ شيءٍ مِنْ ذِكْراها، أي: ما أنت مِنْ ذكراها لهم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ. وقال الزمخشريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها: «لم يَزَلْ عليه السلام يَذْكُرِ الساعةَ، ويُسْألُ عنها حتى نَزَلَتْ» . قال: فعلى هذا هو تَعَجُّبٌ مِنْ كثرةِ ذِكْرِه لها، كأنَّه قيل: في أيِّ شُغْلٍ واهتمامٍ أنا مِنْ ذِكراها والسؤال عنها «. وقيل: الوقفُ على قولِه:» فيمَ «وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: فيم هذا السؤالُ، ثم يُبْتدأ بقولِه:{أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} ، أي: إرسالُك وأنت خاتمُ الأنبياءِ، وآخرُ الرسلِ، والمبعوثُ في نَسْمِ الساعةِ، ذِكْرٌ مِنْ ذِكْراها وعلامةُ مِنْ علاماتِها، فكَفاهم بذلك دليلاً على دُنُوِّها ومشارَفَتِها والاستعدادِ لها، ولا معنى لسؤالِهم عنها، قاله الزمخشري، وهو كلامٌ حسنٌ لولا أنه يُخالِفُ الظاهرَ ومُفَكِّكٌ لنَظْمِ الكلامِ.
قوله: {مُنذِرُ مَن} : العامَّةُ على إضافةِ الصفةِ لِمعمولِها تخفيفاً. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن بالتنوين. قال الزمخشريُّ: «وهو الأصلُ، والإِضافةُ تخفيفٌ، وكلاهما يَصْلُحُ للحالِ والاستقبالِ. فإذا أُريد الماضي فليس إلَاّ الإِضافةُ كقولِك: هو مُنْذِرُ زيدٍ أمسِ» . قال الشيخ: «قوله:» هو الأصلُ «يعنى التنوينَ هو قولٌ قاله غيرُه، ثم اختار الشيخُ أنَّ الأصلَ الإِضافةُ. قال:» لأنَّ العملَ إنما هو بالشَّبه، والإِضافةُ أصلٌ في الأسماءِ. ثم قال:«وقوله فليس إلَاّ الإِضافةُ فيه تفصيلٌ وخِلافٌ مذكورٌ في النحو» . قلت: لا يُلْزِمُه أَنْ يَذْكُرَ محلَّ الوفاقِ، بل هذان اللذن ذكرهما مذهبُ جماهيرِ الناسِ.
قوله: {أَوْ ضُحَاهَا} : أي: ضُحى العَشِيَّةِ، أضاف الظرفَ إلى ضميرِ الظرفِ الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً، وذَكَرهما لأنهما طرفا النهارِ، وحَسَّن هذه الإِضافةَ وقوعُ الكلمةِ فاصلةً.