الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة التاسعة عشرة: مقتطفات من سيرة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فهذه مقتطفات من سيرة عَلَمٍ من أعلام هذه الأمة، وبطل من أبطالها، صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، هذا الصحابي كان من السابقين إلى الإسلام، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد كلها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان صاحب نعليه وطهوره، وسواكه، ووساده
(1)
، وسره، وحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكثير، وبعد الهجرة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ، وقال عن نفسه: لقد رأيتني سادس ستة، وما على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وقال أيضاً: والله الذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لأتيته
(2)
، وقال أيضاً: والله لقد أخذت مِنْ فِيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب
(1)
أي فراشه.
(2)
صحيح البخاري برقم 5002 وصحيح مسلم برقم 2463.
النبي صلى الله عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم
(1)
.
إنه الإمام الحبر فقيه الأمة عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي المكي المهاجري أبو عبد الرحمن، حليف بني زهرة، كان رضي الله عنه رجلاً نحيفاً قصيراً، شديد الأدمة
(2)
، قال عنه الذهبي: كان معدوداً في أذكياء العلماء، وقد روى عبد الله الكثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين فضله ومكانته العظيمة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال:«قَدِمْتُ أَنَا وَأَخِي مِنَ الْيَمَنِ فَمَكَثْنَا حِينًا ومَا نَرَى ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُمَّهُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَلُزُومِهِمْ لَهُ»
(3)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن ابن يزيد رضي الله عنه قال: سَأَلْنَا حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ قَرِيبِ السَّمْتِ وَالْهَدْيِ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَاخُذَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: مَا أَعْرِفُ أَحَدًا أَقْرَبَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ
(4)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الأحوص رضي الله عنه قال: «شَهِدْتُ أَبَا مُوسَى وَأَبَا مَسْعُودٍ حِينَ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَتُرَاهُ تَرَكَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ؟ فَقَالَ: إِنْ قُلْتَ ذَاكَ، إِنْ كَانَ لَيُؤْذَنُ
(1)
صحيح البخاري برقم 5000 وصحيح مسلم برقم 2462.
(2)
أي السواد.
(3)
برقم 3763 وصحيح مسلم برقم 2460.
(4)
برقم 3762.
لَهُ إِذَا حُجِبْنَا وَيَشْهَدُ إِذَا غِبْنَا»
(1)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث علقمة قال: دَخَلْتُ الشَّامَ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي جَلِيسًا، فَرَأَيْتُ شَيْخًا مُقْبِلًا فَلَمَّا دَنَا قُلْتُ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اسْتَجَابَ، قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَفَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ، وَالْوِسَادِ، وَالْمِطْهَرَةِ، أَوَ لَمْ يَكُنْ فِيكُمُ الَّذِي أُجِيرَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَوَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، كَيْفَ قَرَأَ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)}؟ فَقَرَاتُ:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} ، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاهُ إِلَى فِيَّ، فَمَا زَالَ هَؤُلَاءِ حَتَّى كَادُوا يَرُدُّونِي
(2)
.
وكان رضي الله عنه من فقهاء الصحابة وقرائهم، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ، - فَبَدَأَ بِهِ - وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ»
(3)
.
وقد حَصَّلَ رضي الله عنه علماً كثيراً بملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، فروى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذْنُكَ عَلَيَّ أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ، وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي حَتَّى أَنْهَاكَ»
(4)
.
(1)
برقم 2461.
(2)
برقم 3761 وصحيح مسلم برقم 824 مختصراً.
(3)
برقم 3760 وصحيح مسلم برقم 2464 واللفظ له.
(4)
برقم 2169.
ومما يدل على علمه وأمانته ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ:«يَا غُلَامُ هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟ » قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ، قَالَ:«فَهَلْ مِنْ شَاةٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ؟ » فَأَتَيْتُهُ بِشَاةٍ، فَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ:«اقْلِصْ» ، فَقَلَصَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُهُ بَعْدَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ، قَالَ: فَمَسَحَ رَاسِي وَقَالَ: «يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّكَ غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ»
(1)
.
وقال عمر رضي الله عنه: كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْماً
(2)
.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يتعجبون من دقة ساقيه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلته عند ربه، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مِمَّ تَضْحَكُونَ؟ » قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ»
(3)
.
وكان مستجاب الدعوة، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَدْعُو، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَدْعُو، فَقَالَ:«سَلْ تُعْطَهْ» ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا
(1)
(6/ 82) برقم 3598 وقال محققوه إسناده حسن.
(2)
الكنيف: الوعاء، وقال هذا نظراً لصغر سنه مع أنه من أعلم الصحابة.
(3)
(7/ 99) برقم 3991 وقال محققوه صحيح لغيره.
لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ، جَنَّةِ الْخُلْدِ
(1)
.
ومن أقواله العظيمة: أنه كان يقول: «حَبَّذَا المَكرُوهَانِ: المَوتُ وَالفَقرُ، إِن كَانَ الفَقرُ إِن فِيهِ الصَّبرُ، وَإِن كَانَ الغِنَى إِن فِيهِ لَلعَطفُ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنهُمَا وَاجِبٌ»
(2)
.
(3)
.
وكان يقول: «من أراد الآخرة أضرَّ بالدنيا، ومن أراد الدنيا أضرَّ بالآخرة، يا قوم فأَضروا بالفاني للباقي» .
وكان يقول: «إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً، ليس في عمل آخرة ولا دنيا» .
ولما مرض عبد الله عاده عثمان فقال: «مما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاء، قال: لا حاجة لي فيه»
(4)
.
(1)
(6/ 346) برقم 3797 وقال محققوه صحيح لغيره.
(2)
أبو نعيم في الحلية (1/ 132).
(3)
سير أعلام النبلاء (1/ 496 - 497).
(4)
سير أعلام النبلاء (1/ 498).
قال ابن حجر، وعند البخاري في تاريخه بسند صحيح من حديث ابن ظهير، قال:«جاء نعي عبد الله بن مسعود إلى أبي الدرداء، فقال: ما ترك بعده مثله»
(1)
. قال عبيد الله بن عبد الله: مات بالمدينة ودفن بالبقيع سنة اثنين وثلاثين من الهجرة
(2)
.
رضي الله عن عبد الله بن مسعود، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
تاريخ البخاري الصغير (1/ 85).
(2)
سير أعلام النبلاء (1/ 499).