الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والثلاثون: الرياء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن أعظم الذنوب عند الله الشرك به سبحانه، قال تعالى:{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيق (31)} [الحج: 31].
وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّين (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُون (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُون (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون (7)} [الماعون: 4 - 7].
(1)
. اهـ.
(1)
الداء والدواء لابن القيم ص: 194.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جندب ابن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»
(1)
.
والرياء من الرؤية، وهو أن يحب الإنسان أن يراه الناس وهو يعمل العمل الصالح من أجل أن يمدحوه، والفرق بينه وبين السمعة، أن الرياء فيما يُرى من الأعمال التي ظاهرها لله وباطنها لغيره كالصلاة والصدقة، أما السمعة فهي لما يسمع من الأقوال التي ظاهرها لله والقصد منها لغير الله، كالقراءة، والذكر، والوعظ، وغير ذلك من الأقوال، وقصد المتكلم أن يسمع الناس كلامه فيثنوا عليه ويقولوا: هو جيد في الكلام والمحاورة، حسن الصوت في القرآن، إذ كان يُحسن صوته بالقرآن لأجل ذلك، أو بليغ في خطبته إذا كان يُحسن خطبته لأجل ذلك .. وهكذا
(2)
.
ومعنى راءى الله به، وسمَّع، قال بعض أهل العلم: إن الله يفضحه يوم القيامة، كما في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هند الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ، رَاءَى اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَسَمَّعَ»
(3)
.
والرياء يحصل إما من أجل مدح الناس وثنائهم، أو فراراً من ذمهم، كأن يُحسن صلاته حتى لا يُقال: مُسرعٌ في صلاته، أو طمعاً مما
(1)
برقم 6499 وصحيح مسلم برقم 2987.
(2)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ صالح الفوزان (2/ 90).
(3)
(37/ 7) برقم 22322 وقال محققوه صحيح لغيره.
في أيديهم، ويشهد لذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
(1)
.
(2)
.
والرياء هو الشرك الخفي، روى ابن خزيمة في صحيحه من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه قال: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُم وَشِركَ السَّرَائِرِ» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: «يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ»
(3)
.
(4)
.
(1)
برقم 2810 وصحيح مسلم برقم 1904.
(2)
فتح الباري (6/ 28).
(3)
صحيح ابن خزيمة (2/ 67) برقم 937 وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 119) برقم 31.
(4)
الدين الخالص (2/ 385).
والرياء شرك أصغر، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيكُمُ الشِّرْكُ الأَصغَرُ» ، قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الأَصغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَومَ القِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعمَالِهِم: اذهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنتُم تُرَاؤُونَ فِي الدُّنيَا فَانظُرُوا هَل تَجِدُونَ عِندَهُم جَزَاءً؟ ! »
(1)
. يعني أنه يبطل أعمال المرائين، وأنه يحيلهم على الذين رَاءَوهُم في الدنيا فيقال: انظروا هل يثيبونكم، أي أولئك الذين تزينتم عندهم ورَاءَيتُمُوهُم في الدنيا، هل تجدون عندهم ثواباً؟ ! قال الشاعر:
وكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيعْرِفُ سَعْيَهُ
إِذَا حُصِّلَتْ عِنْدَ الإِلَهِ الحَصَائِلُ
والرياء سبب لدخول النار، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ؛ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَاتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَاتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ
(1)
(39/ 39) برقم 23630 وقال محققوه حديث حسن.
أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»
(1)
.
(2)
.
وينبغي التنبه لأمرين:
الأول: أن سرور العبد عند ثناء الناس عليه وهو لا يقصد ذلك، لا يقدح في إخلاصه، ما دام بدأه بإخلاص، وخرج منه مخلصاً، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»
(3)
.
قال ابن رجب: «إذا عمل العمل لله خالصاً ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر
(1)
صحيح مسلم برقم 1905.
(2)
كلمة الإخلاص ص: 39.
(3)
برقم 2642.
بذلك لم يضيره ذلك»
(1)
.
الثاني: أن لا يترك المؤمن العمل من أجل الناس: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومن كان له ورد مشروع من صلاة الضحى، أو قيام ليل، أو غير ذلك، فإنه يصليه حيث كان، ولا ينبغي له أن يدع ورده المشروع لأجل كونه بين الناس إذا علم الله من قلبه أنه يفعل سراً لله مع اجتهاده في سلامته من الرياء، ومفسدات الإخلاص»
(2)
.
الخلاصة:
أن الرياء مُحبط للأعمال، وسبب لمقت الله، ولعنته، وطرده، وأنه من كبائر المهلكات، ومن الشرك الأصغر الذي لا يُغفر لصاحبه إذا مات عليه، بل يعذب بقدره، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48]. فجدير بالمسلم أن يُشَمِّرَ عَن سَاعِدِ الجِدِّ، وأن يجاهد نفسه بإزالته، وإخلاص العمل لله في أقواله، وأفعاله، وإرادته، وأموره كلها، قال تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (163)} [الأنعام: 162 - 163]
(3)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
جامع العلوم والحكم (1/ 83).
(2)
الفتاوى (2/ 263).
(3)
انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي: الإخلاص طريق الخلاص ص: 73 - 90.