الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثلاثون: قبول العمل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
روى الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ} [المؤمنون: 60]، قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتٍ»
(1)
.
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اجتهادهم في الأعمال الصالحة يخشون أن تحبط أعمالهم، وأَلَّا تُقبَل منهم لرسوخ علمهم وعميق إيمانهم، قال عبد الله بن أبي مليكة: «أدركت ثلاثين من
(1)
برقم 3175 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي (3/ 79) برقم 2537.
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخشى النفاق على نفسه ما منهم من أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل
(1)
، قال أبو الدرداء: لئن أستيقن أن الله تَقَبَّلَ مني صلاةً واحدةً أَحَبُّ إِلَيَّ من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة: 27]»
(2)
.
قال علي رضي الله عنه: «كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا لقول الله تعالى: » . قال ابن عطية: «المراد بالتقوى: اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة» . وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول، والختم بالرحمة عُلم ذلك بأخبار الله تعالى
(3)
.
قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]. قال الفضيل بن عياض: «{أَحْسَنُ عَمَلاً}: أخلصه وأصوبه، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة»
(4)
.
قال أهل العلم: إن العمل لا يُقبل إلا بشرطين:
الأول: أن يكون العمل موافقاً لما شرعه الله في كتابه، أو بَيَّنَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
صحيح البخاري باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.
(2)
تفسير ابن كثير (5/ 166) وقال محققوه ورواه ابن أبي حاتم وإسناده حسن.
(3)
تفسير القرطبي (7/ 411).
(4)
مدارج السالكين (2/ 69).
قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
(1)
. أي مردود غير مقبول، وروى أبو داود والترمذي في سننهما من حديث العرباض ابن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«عَلَيْكُم بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيهَا بِالنَّوَاجِذِ»
(2)
.
ثانياً: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، لقوله صلى الله عليه وسلم:«إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
(3)
.
ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)} [الكهف: 110].
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: «وعند أهل السُّنة والجماعة يُتقَبَّل العمل مِمَّن اتقى الله فيه، فَعَمِلَه خالصًا لله موافقًا لأمرِ الله، فمن اتقاه في عمل تَقَبَّلَهُ منه، وإن كان عاصيًا في غيره، ومَن لم يتقه فيه لم يُتَقَبَّله منه وإن كان مُطِيعًا في غيره»
(4)
، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فلو كانت الحسنة لا تُقبل من صاحب السيِّئة لم تَمحُها.
(1)
برقم 2697 وصحيح مسلم برقم 1718 واللفظ له.
(2)
برقم 4607 والترمذي برقم 2676 وقال حديث حسن صحيح.
(3)
رقم 1 وصحيح مسلم برقم 1907.
(4)
مجموع الفتاوى 10/ 322.
ولا ينبغي للمؤمن أن يحتقر العمل وإن كان قليلاً، فقد حَذَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال:«لَا تُحَقِّرَنَّ مِنَ المَعرُوفِ شَيئًا»
(1)
، فقد يُقبل هذا العمل ويكون سبباً لدخوله الجنة، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»
(2)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ»
(3)
.
(4)
.
وقد لا يُقْبَلُ العمل وإن كان كثيراً في نظر صاحبه، إما لِعُجبٍ، أو رياءٍ، أو غرورٍ، أو منةٍ صاحبت ذلك العمل، فكانت سبباً لِرَدِّهِ، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} [البقرة: 264].
وأعظم موانع قبول العمل: الشرك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
(1)
صحيح مسلم برقم 2626.
(2)
برقم 3467 وصحيح مسلم برقم 2245.
(3)
برقم 1914 وأخرجه البخاري برقم 2472 بنحوه.
(4)
فتح الباري (11/ 321).
وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين (91)} [آل عمران: 91]. فمن تَعَبَّدَ لله بدين غير دين الإسلام فلن تقبل منه أعماله ولو كثرت، قال تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين (85)} [آل عمران: 85].
ومن أسباب قبول العمل: الدعاء، قال تعالى عن نبي الله إبراهيم:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (127)} [البقرة: 127].
ومنها الاستغفار، قال تعالى:{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيم (199)} [البقرة: 199].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من صلاته قال: «اسْتَغْفَرَ اللَّهَ» ثَلَاثًا، وَقَالَ:«اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»
(1)
.
ومن علامات قبول العمل أن يتبع الحسنة بحسنة مثلها، كما قال بعض السلف:«الحسنة تقول أختي أختي، والمعصية تقول أختي أختي» . ومصداق هذا في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «عَليْكُم بِالصِّدقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»
(2)
.
ومنها استشعار المؤمن لتقصيره في عمله ومنة الله عليه، وتوفيقه لهذا العمل، وأنه لولاه لما حصل، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا
(1)
صحيح مسلم برقم 591.
(2)
برقم 6094 وصحيح مسلم برقم 2607 واللفظ له.
قُل لَاّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (17)} [الحجرات: 17].
ومنها أن يَحِسَّ العبد بلذة العبادة فتكون أنسه وراحته، كما قال صلى الله عليه وسلم:«قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»
(1)
. وقد ذكر الله عز وجل ذلك فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِين} [البقرة: 45].
قال بعض أهل العلم: خفة الطاعة من آثار محبة المطاع وإجلاله، فإن قرة عين المحب في طاعة المحبوب، ففي الحديث:«وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»
(2)
. لما فيها من المؤانسة، ولذة القرب وأنس المناجاة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
سنن أبي داود برقم 4986 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 941) برقم 4171.
(2)
سنن النسائي برقم 3939 وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن النسائي برقم (3/ 827) برقم 3680.