المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلمة الثامنة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة - الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة - جـ ٦

[أمين الشقاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الكلمة الأولى: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضائلها، وفوائدها

- ‌الكلمة الثانية: تأملات في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}

- ‌الكلمة الثالثة: من مشاهد القيامة (الحشر وأهواله)

- ‌الكلمة الرابعة: من أسماء الله الحسنى (الحليم)

- ‌الكلمة الخامسة: تأملات في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}

- ‌الكلمة السادسة: صيام يوم عاشوراء

- ‌الكلمة السابعة: مكائد الشيطان

- ‌الكلمة الثامنة: تأملات في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا}

- ‌الكلمة التاسعة: الابتلاء بالمرض

- ‌الكلمة العاشرة: الشفاعة

- ‌الكلمة الحادية عشرة: تأملات في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ}

- ‌الكلمة الثانية عشرة: الكبر

- ‌الكلمة الثالثة عشرة: الجنة والنار كأنها رأي العين

- ‌الكلمة الرابعة عشرة: فوائد من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}

- ‌الكلمة الخامسة عشرة: قوة الإرادة

- ‌الكلمة السادسة عشرة: فضائل أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها

- ‌الكلمة السابعة عشرة: تأملات في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا}

- ‌الكلمة الثامنة عشرة: من أسماء الله الحسنى (الحفيظ والحافظ)

- ‌الكلمة التاسعة عشرة: مقتطفات من سيرة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه

- ‌الكلمة العشرون: فوائد من قوله تعالى {وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُون}

- ‌الكلمة الحادية والعشرون: من أحكام السفر وآدابه

- ‌الكلمة الثانية والعشرون: من أهوال يوم القيامة

- ‌الكلمة الثالثة والعشرون: تأملات في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

- ‌الكلمة الرابعة والعشرون: فضائل الأعمال الصالحة

- ‌الكلمة الخامسة والعشرون: خطورة دور السينما

- ‌الكلمة السادسة والعشرون: فوائد من قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

- ‌الكلمة السابعة والعشرون: البكاء من خشية الله

- ‌الكلمة الثامنة والعشرون: الأخوَّة الإسلامية

- ‌الكلمة التاسعة والعشرون: فوائد من قوله تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر}

- ‌الكلمة الثلاثون: قبول العمل

- ‌الكلمة الحادية والثلاثون: بِرُّ الوالدين

- ‌الكلمة الثانية والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ

- ‌الكلمة الثالثة والثلاثون: تواضعه عليه الصلاة والسلام

- ‌الكلمة الرابعة والثلاثون: النسيان آفته، وفوائده

- ‌الكلمة الخامسة والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ

- ‌الكلمة السادسة والثلاثون: عيادة المريض

- ‌الكلمة السابعة والثلاثون: الرياء

- ‌الكلمة الثامنة والثلاثون: تأملات في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}

- ‌الكلمة التاسعة والثلاثون: التناقضات في حياة بعض الناس

- ‌الكلمة الأربعون: مجالس الصحابة

- ‌الكلمة الحادية والأربعون: تفسير أواخر سورة البقرة

- ‌الكلمة الثانية والأربعون: فضائل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

- ‌الكلمة الثالثة والأربعون: دروس وعبر من سيرة معاذ بن جبل رضي الله عنه

- ‌الكلمة الرابعة والأربعون: فضائل غزوة بدر

- ‌الكلمة الخامسة والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُون

- ‌الكلمة السادسة والأربعون: فوائد من قوله تعالى: {إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ

- ‌الكلمة السابعة والأربعون: المعجزات والكرامات في غزوة بدر

- ‌الكلمة الثامنة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة

- ‌الكلمة التاسعة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة

- ‌الكلمة الخمسون: اتباع الهوى

- ‌الكلمة الواحدة والخمسون: الفقه في الدين وفضله

- ‌الكلمة الثانية والخمسون: خطر الطائفة النصيرية

- ‌الكلمة الثالثة والخمسون: التحذير من الغفلة

- ‌الكلمة الرابعة والخمسون: محظورات الإحرام

- ‌الكلمة الخامسة والخمسون: فضل العمرة وصفتها

الفصل: ‌الكلمة الثامنة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة

‌الكلمة الثامنة والأربعون: غزوة بدر مشاهد وأحداث من أرض المعركة

(1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:

كان يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة يوم بدر الأغر، اليوم الذي دارت فيه رحى الحرب بين حزب الله وحزب الشيطان، فحين أصبح النبي صلى الله عليه وسلم وطلع الفجر نادى في أصحابه:«الصَّلَاةُ عِبَادَ اللَّهِ» ، فصلى بهم صلاة الصبح، ثم حرَّضهم على القتال، وصف أصحابه صفوفاً، وألقى إليهم التوجيهات التي يلقيها القائد عادة إلى الجيش قبل اللقاء، بعد ذلك انصرف صلى الله عليه وسلم إلى مقر القيادة، وهو العريش الذي بُني له، والذي يعتبر بمثابة غرفة العمليات اليوم، ينتظر إقبال جيش العدو، تاركاً له فرصة التفكير في مصير هذا اللقاء أو البدء بالقتال والبغي والاعتداء، حيث علم صلى الله عليه وسلم أن البادي بالظلم مغلوب، وأن الباغي مهزوم، وأن المظلوم مُعان ومنصور

(1)

.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أمر بالآبار التي حول بدر فدفنت، ثم

(1)

قال أحد الصالحين لابنه يوصيه: لا تدعو أحداً للبراز، فإن الداعي باغ، والباغي مهزوم، وإذا دُعيت فأجب.

ص: 305

بنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه ومُليء ماءً، وكانت بدر مقراً لاجتماع الناس، وبها سوق من أسواق الجاهلية، وتقع على مفترق طرق، حيث يتوارد لها العرب من كل ناحية، وتبعد عن المدينة في وقتنا المعاصر مائة وثلاثة وخمسين كيلو متر تقريباً.

بداية المعركة:

خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلاً شرساً، سيئ الخلق، فقال: أُعَاهِدُ اللهَ لَأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَو لَأُهَدِّمَنَّهُ، أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ؛ خَرَجَ إِلَيهِ حَمزَةُ بْنُ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَلَمَّا التَقَيَا ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَأَطَنَّ

(1)

قَدَمَهُ بِنِصفِ سَاقِهِ وَهُوَ دُونَ الحَوضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخُبُ

(2)

رِجْلُهُ دَماً نَحوَ أَصحَابِهِ، ثُمَّ حَبَا إِلَى الحَوْضِ حَتَّى اقتَحَمَ فِيهِ، يُرِيدُ - زعم - أَنْ يَبِرَّ يَمِينَهُ، وَأَتْبَعَهُ حَمْزَةَ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الحَوْضِ

(3)

.

ثم أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«دَعُوهُم» ، فَمَا شَرِبَ مِنهُ رَجُلٌ يَومَئِذٍ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامْ فَإِنَّهُ لَم يُقتَل، ثُمَّ أَسلَمَ بَعدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إِسلَامَهُ، فَكَانَ إِذَا اجتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ

(4)

.

(1)

فأطن قدمه: أي أطارها. شرح السيرة النبوية ص: 157.

(2)

تشخب: معناه تسيل بصوت. المصدر السابق ص: 157.

(3)

السيرة النبوية لابن هشام (2/ 214).

(4)

السيرة النبوية لابن هشام (2/ 212).

ص: 306

وكانت المبارزة أول شيء بدئ فيه من القتال يوم بدر، وجرت العادة أنه لا يخرج للمبارزة إلا الشجعان من الرجال، وهذا ما حصل في بدر. قال تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم (19)} [الحج: 19].

روى البخاري في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

(1)

. وروى البخاري بسنده عن علي رضي الله عنه أنه قال: «فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ}»

(2)

. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ فِيهَا: إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَصَاحِبَيْهِ، وَعُتْبَةَ وَصَاحِبَيْهِ، يَوْمَ بَرَزُوا فِي يَوْمِ بَدْرٍ»

(3)

. وروى البخاري بسنده إلى أبي إسحاق، سَأَلَ رَجُلٌ البَرَاءَ وَأَنَا أَسمَعُ، قَالَ: أَشَهِدَ عَلِيٌّ بَدْراً؟ قَالَ: بَارَزَ وَظَاهَرَ

(4)

(5)

.

وروى أبو داود من حديث علي رضي الله عنه قال: «تَقَدَّمَ عُتْبَةَ ابْنَ رَبِيعَةَ وَتَبِعَهُ ابْنُهُ وَأَخُوهُ، فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَانْتَدَبَ لَهُ شَبَابٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيكُمْ، إِنَّمَا

(1)

برقم 4744.

(2)

برقم 3967.

(3)

برقم 4743 وصحيح مسلم برقم 3033.

(4)

برقم 3970.

(5)

ظاهر يعني لبس درعاً على درع، فتح الباري (7/ 198) وانظر: المعجم الوسيط (2/ 578).

ص: 307

أَرَدْنَا بَنِي عَمِّنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ» ، فَأَقْبَلَ حَمْزَةُ إِلَى عُتْبَةَ، وَأَقْبَلْتُ إِلَى شَيْبَةَ، وَاخْتُلِفَ بَيْنَ عُبَيْدَةَ وَالْوَلِيدِ ضَرْبَتَانِ، فَأَثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ مِلْنَا عَلَى الْوَلِيدِ فَقَتَلْنَاهُ، وَاحْتَمَلْنَا عُبَيْدَةَ»

(1)

.

من مشاهد وأحداث المعركة:

مقتل أبي جهل لعنه الله: وأبو جهل عمرو بن هشام ما هو إلا حلقة من حلقات الظلم والطغيان ضد الحق، فمثله كثير. إن فرعون موسى انتهى بالغرق، وقوم هود، وصالح، ولوط هلكوا، وكل ظالم متكبر لا بد أن ينتهي تلك النهاية المؤلمة.

قال تعالى: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون (40)} [العنكبوت: 40].

وانتهى أبو جهل، ورمي بالقليب بعد تلك الكبرياء التي أرادها للباطل على الحق، ولكن التاريخ البشري يشهد أن الحق هو الذي يبقى، وقديماً قيل:«دَوْلَةُ البَاطِلِ سَاعَةٌ، وَدَوْلَةُ الْحَقِّ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ»

(2)

.

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: «بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ

(1)

برقم 2665 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 507) برقم 2321.

(2)

انظر: مرويات غزوة بدر للعليمي ص: 222.

ص: 308

بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي، قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلَا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ:«أَيُّكُمَا قَتَلَهُ» ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، فَقَالَ:«كِلَاكُمَا قَتَلَهُ» ، سَلَبُهُ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو ابْنِ الجَمُوحِ»

(1)

.

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر: «مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ » فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرَدَ، قَالَ: أَأَنْتَ أَبَو جَهْلٍ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أو رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ»

(2)

.

قَالَ: وَقَالَ أَبُو مِجْلِزٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَوْ غَيْرَ أَكَارٍ قَتَلَنِي

(3)

،

(1)

برقم 3141 ومسلم برقم 1752.

(2)

برقم 4020 وصحيح مسلم برقم 1800.

(3)

برقم 4020، وأكار: زراع، قال الحافظ في الفتح (7/ 295): وعنى بذلك أن الأنصار أصحاب زرع، فأشار إلى تنقيص من قتله منهم بذلك.

ص: 309

وفي رواية أخرى للبخاري: وَهَلْ أَعْمَدُ

(1)

مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ

(2)

.

وقال أيضاً لابنِ مَسعُودٍ: لَقَدِ ارتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْباً يَا رُوَيْعِيَّ الغَنَمِ، وَسَأَلَ قَائِلاً: لِمَنِ الدَّائِرَةُ اليَومَ؟ قَالَ ابنُ مَسعُودٍ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ

(3)

.

ومن المشاهد والأحداث: قتل رأس الكفر أمية بن خلف: قُتل أمية بن خلف السيد المطاع على يد بلال الحبشي الذي طالما عذبه بمكة، تلك الأنات التي يطلقها بلال: أَحَدٌ، أَحَد، لم تذهب سدًى، إنها سياط في وجه الظلم الكالح في كل زمان ومكان، ويثأر بلال، ولكن الثأر لم يكن لنفسه، وإنما هو للحق الذي يحمله بين جنبيه، وينتهي العدوان، ويرى أهله مصيرهم، والعاقبة للمتقين. رحم الله بلالاً، فقد أعطى القدوة مرتين:

الأولى: لتحمله العذاب والقهر في دين الله، فكان أقوى من الحديد، وأشد من الفولاذ.

الثانية: إذاقته لأعداء الله كأس المَنِيَّةِ من يده، ليثبت للدنيا كلها، وللتاريخ البشري انتصار الحق والإيمان على الكفر والعدوان

(4)

.

قال الشاعر:

هَنِيئاً زَادَكَ الرَّحمَنُ خَيْراً

لَقَدْ أَدْرَكْتَ ثَارَكَ يَا بِلَالُ

(1)

أعمد: يريد أكبر من رجل قتلتموه، على سبيل التحقير منه لفعلهم به، قال الحافظ أبو ذر الخشني: وعميد القوم سيدهم. شرح السيرة النبوية ص: 160.

(2)

برقم 3961.

(3)

سيرة ابن هشام (2/ 227).

(4)

مرويات غزوة بدر ص: 226.

ص: 310

ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بقتل أمية بن خلف، فكان كما قال، روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: «كَاتَبْتُ أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ كِتَابًا، بِأَنْ يَحْفَظَنِي فِي صَاغِيَتِي بِمَكَّةَ، وَأَحْفَظَهُ فِي صَاغِيَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ذَكَرْتُ الرَّحْمَنَ، قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرَّحْمَنَ، كَاتِبْنِي بِاسْمِكَ الَّذِي كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَاتَبْتُهُ: عَبْدَ عَمْرٍو، فَلَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، خَرَجْتُ إِلَى جَبَلٍ لِأُحْرِزَهُ

(1)

حِينَ نَامَ النَّاسُ، فَأَبْصَرَهُ بِلَالٌ، فَخَرَجَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا أُمَيَّةُ، فَخَرَجَ مَعَهُ فَرِيقٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي آثَارِنَا، فَلَمَّا خَشِيتُ أَنْ يَلْحَقُونَا، خَلَّفْتُ لَهُمْ ابْنَهُ لِأَشْغَلَهُمْ فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَبَوْا حَتَّى يَتْبَعُونَا، وَكَانَ رَجُلًا ثَقِيلًا، فَلَمَّا أَدْرَكُونَا قُلْتُ لَهُ: ابْرُكْ، فَبَرَكَ، فَأَلْقَيْتُ عَلَيْهِ نَفْسِي لِأَمْنَعَهُ، فَتَخَلَّلُوهُ بِالسُّيُوفِ مِنْ تَحْتِي حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَصَابَ أَحَدُهُمْ رِجْلِي بِسَيْفِهِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُرِينَا ذَلِكَ الْأَثَرَ فِي ظَهْرِ قَدَمِهِ»

(2)

(3)

.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

(1)

حرز: يقال أحرزت الشيء أحرزه إحرازاً إذا حفظته وضممته إليك، وصنته عن الأخذ. النهاية في غريب الحديث (1/ 366).

(2)

برقم 2301.

(3)

انظر: كتاب حدث غير مجرى التاريخ للمؤلف ص: 238 - 246.

ص: 311