الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة التاسعة والثلاثون: التناقضات في حياة بعض الناس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن النصوص الشرعية تحث المسلم على الاستقامة، والثبات على المنهج الصحيح، وتحذره من التناقض سواء كان ذلك في أقواله، أو أفعاله، قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92]. قال بعض المفسرين: هذه امرأة خرقاء كانت بمكة، كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه، وقال مجاهد وقتادة: هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده
(1)
، قال تعالى:{وَلَا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91].
وهذا التناقض ليس من صفات المؤمن التقي، قال تعالى عن نبي الله شعيب:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُون (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون (3)} [الصف: 2 - 3]. وقال تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُون (44)} [البقرة: 44].
(1)
تفسير ابن كثير (8/ 349).
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة ابن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيَامَةَ فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ
(1)
فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَانُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَامُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنتُ آمُرُكُم بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنهَاكُم عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ»
(2)
.
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُم بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَامُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ؟ ! »
(3)
.
قال الشاعر:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَاتِي مِثْلَهُ
…
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَابْدَا بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
…
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى
…
بِالْعِلمِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
ومن صور هذا التناقض ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَاتُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عز وجل
(1)
أي أمعاؤه.
(2)
برقم 3267 وصحيح مسلم برقم 2989.
(3)
(19/ 244) برقم 12211 وقال محققوه حديث صحيح.
هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ صِفْهُم لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُم وَنَحْنُ لَا نَعلَمُ، قَالَ:«أَمَا إِنَّهُم إِخْوَانُكُم وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَاخُذُونَ مِنَ اللَّيلِ كَمَا تَاخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقوَامٌ: إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»
(1)
.
وهذه صورة من صور التناقض، يصلُّون آخر الليل ولكنهم ينقضون هذه الأعمال بانتهاك حرمات المسلمين.
ومن صوره كذلك النفاق، والمنافق ظاهرُ حالِهِ الصَّلَاحُ فهو يصلي، ويحج، ويجاهد، ويتصدق، ومع ذلك يبطن الكفر والحرب على الإسلام والمسلمين، قال تعالى:{إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون (1)} [المنافقون: 1]. وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور (119)} [آل عمران: 119].
ومن صوره ما ذكره ابن القيم رحمه الله حيث قال: «ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ، والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر الحرام وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ والاحتراز من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، ينزل في النار بالكلمة الواحدة أبعد ما بين المشرق والمغرب، وكم
(1)
برقم 4245 قال البوصيري هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وصححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 33) برقم 505.
ترى من رجل متورع عن الفواحش، والظلم، ولسانه يقطع، ويذبح في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي بما يقول»
(1)
. اهـ.
وأسباب التناقض كثيرة، أذكر من ذلك:
1 -
النفاق: فحتى لا ينكشف أمر المنافق ويفتضح يلجأ إلى النفاق، قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلا (142)} [النساء: 142]. وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119].
2 -
الرياء: روى البخاري في صحيحه من حديث زيد ابن عبد الله بن عمر عن أبيه: قَالَ أُنَاسٌ لِابنِ عُمَرَ: «إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُم خِلَافَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا»
(2)
.
وروى ابن خزيمة في صحيحه من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكُم وَشِرْكَ السَّرَائِرِ» ، قَالُوا: وَمَا شِرْكُ السَّرَائِرِ؟ قَالَ: «يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إِلَيهِ، فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ»
(3)
.
وَإِنَّمَا سُمِّيَ الرِّيَاءُ شِركًا خَفِيًّا؛ لأن صاحبه يظهر عمله لله، وقد
(1)
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص: 140.
(2)
برقم 7178.
(3)
صحيح ابن خزيمة (2/ 67) برقم 937 وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1/ 199) برقم 31.
قصد به غيره أو شركه فيه، وزيَّن صلاته لأجله، والنيَّات والمقاصد وأعمال القلوب لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى
(1)
.
3 -
ضعف الإرادة: فإذا كان الإنسان إرادته ضعيفة فإنه يتناقض، فنجده يعمل العمل، ثم بعد مدة يتراجع عنه، فعلى سبيل المثال: إذا كان يشرب الدخان، ثم نُصِحَ، وعلم بحرمته فيتركه زمناً طويلاً، ثم تجده يضعف شيئاً فشيئاً، حتى يرجع إليه.
4 -
الكبر: فترى أن بعض الناس يعمل أعمالاً كثيرة ولكن يأتي إلى عملٍ مُعَيَّن أمر به الشارع، فلا يفعله ويرى أن هذا يُنْقص من قدره، فعلى سبيل المثال: إذا نصح في إعفاء اللحية، أو تقصير الثياب قال: هذا صعب وكيف يكون حالي أمام الناس؟ مع أن سيد الأولين والآخرين كانت لحيته إلى صدره، وإزاره إلى نصف ساقه.
5 -
المجاملة للآخرين: تجد أن بعض الناس يجامل ولو على حساب الشرع، فقد يُطلَب منه أمر فيه مخالفة للشرع فيتنازل حياء، أو إرضاء للآخرين، قال تعالى:{وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِين (62)} [التوبة: 62].
6 -
حب الشهرة والظهور: نجد أن بعض الناس يسأل عن الحكم الشرعي في مسألة معينة، فيهون من الأمر خشية سقوطه من أعين الناس، فالجماهير لا تريد الفتاوى المتشددة، وإنما تريد الفتاوى المتساهلة. قال عبد الله بن المبارك: قال لي سفيان: «إياك والشهرة، فما أتيت أحداً
(1)
الدين الخالص (2/ 385).
إلا وقد نهاني عن الشهرة»
(1)
.
أما العلاج لهذا التناقض فيتلخص بالآتي:
1 -
أن يعلم المرء أن التناقض ليس من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى لنبيه:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. ولم يقل: كما أردت، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة: 208]. قال ابن كثير: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك
(2)
.
روى مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإِسلَامِ قَولًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ:«قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ»
(3)
. والاستقامة: لزوم طاعة الله.
2 -
الصدق والإخلاص لله في الأعمال كلها، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين (119)} [التوبة: 119]. وفي الحديث: «إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ»
(4)
.
3 -
مجاهدة النفس والصبر على المشاق، قال تعالى: {وَالَّذِينَ
(1)
حلية الأولياء لأبي نعيم (7/ 23).
(2)
تفسير ابن كثير (2/ 273).
(3)
برقم 38.
(4)
قطعة من حديث في سنن النسائي برقم 1953 وصححه في صحيح سنن النسائي برقم 1845.
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200].
4 -
أن يعلم المؤمن أن السعي إلى رضا الله سيؤدي إلى رضا الناس، روى الإمام الترمذي في سننه من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَنِ التَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
برقم 2414 وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم 2311.