الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج- أن تفشلا، ولكن الله تولاهما، فثبتتا بعد ما سرى فيهما الإضطراب وهمتا بالرجوع والإنسحاب، وعنهما يقول الله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 122] .
وحاول عبد الله بن حرام- والد جابر بن عبد الله- تذكير هؤلاء المنافقين بواجبهم في هذا الظرف الدقيق، فتبعهم وهو يوبخهم ويحضهم على الرجوع، ويقول: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع. فرجع عنهم عبد الله بن حرام قائلا: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه.
وفي هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا، وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا، قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا، قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ، هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ [آل عمران: 167] .
بقية الجيش الإسلامي إلى أحد:
وبعد هذا التمرد والإنسحاب قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ببقية الجيش- وهم سبعمائة مقاتل- ليواصل سيره نحو العدو، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال: من رجل يخرج بنا على القوم من كثب (أي من قريب) من طريق لا يمر بنا عليهم؟.
فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقا قصيرا إلى أحد يمر بحرة بني حارثة وبمزارعهم، تاركا جيش المشركين إلى الغرب.
ومر الجيش في هذا الطريق بحائط مربع بن قيظي- وكان منافقا ضرير البصر- فلما أحس بالجيش قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحل لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدره القوم ليقتلوه، فقال:«لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر» .
ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي، فعسكر بجيشه مستقبلا المدينة، وجاعلا ظهره إلى هضاب جبل أحد، وعلى هذا صار جيش العدو فاصلا بين المسلمين وبين المدينة.
خطة الدفاع:
وهناك عبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه، وهيأهم صفوفا للقتال، فانتخب منهم فصيلة من الرماة الماهرين، قوامها خمسون مقاتلا، وأعطى قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان
الأنصاري الأوسي البدري، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة- وعرف فيما بعد بجبل الرماة- جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد حوالي مائة وخمسين مترا من مقر الجيش الإسلامي.
والهدف من ذلك هو ما أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاء الرماة فقد قال لقائدهم: نضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتون من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك لا نؤتين من قبلك «1» . ثم قال للرماة: احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا «2» ، وفي رواية البخاري أنه قال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم «3» .
وبتعيين هذه الفصيلة في الجبل مع هذه الأوامر العسكرية الشديدة سد رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلمة الوحيدة التي كان يمكن لفرسان المشركين أن يتسللوا من ورائها إلى صفوف المسلمين، ويقوموا بحركات الإلتفاف وعملية التطويق.
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف.
ولقد كانت خطة حكيمة ودقيقة جدا، تتجلى فيها عبقرية قيادة النبيّ صلى الله عليه وسلم العسكرية- وأنه لا يمكن لأي قائد مهما تقدمت كفاءته أن يضع خطة أدق وأحكم من هذا- فقد احتل أفضل موضع من ميدان المعركة، مع أنه نزل فيه بعد العدو، فقد حمى ظهره ويمينه بارتفاعات الجبل، وحمى ميسرته وظهره- حين يحتدم القتال- بسد الثلمة الوحيدة التي كانت توجد في جانب الجيش الإسلامي، واختار لمعسكره موضعا مرتفعا يحتمي به- إذا نزلت الهزيمة بالمسلمين- ولا يلتجئ إلى الفرار، حتى يتعرض للوقوع في قبضة الأعداء المطاردين وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن أرادوا احتلال معسكره
(1) ابن هشام 2/ 65، 66.
(2)
روى ذلك أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر فتح الباري 7/ 350.
(3)
صحيح البخاري، كتاب الجهاد 1/ 426.