المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية: - السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية

[عبد الوهاب خلاف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌محتويات الكتاب:

- ‌تمهيد

- ‌التشريع الإسلامى والاجتهاد

- ‌الإسلام كفيل بالسياسة العادلة:

- ‌السياسة الشرعية الدستورية

- ‌أولا: شكل الحكومة الإسلامية ودعائمها

- ‌ثانيا: حقوق الأفراد

- ‌مدخل

- ‌الحرية الشخصية:

- ‌المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والسياسية

- ‌ثالثا: السلطات في الإسلام مصدرها ومن يتولاها

- ‌السلطة التشريعية

- ‌ السلطة القضائية:

- ‌ السلطة التنفيذية:

- ‌رابعا: الخلافة، وجوبها وشروطها

- ‌مدخل

- ‌ وجوب نصب الخليفة:

- ‌ الشروط المعتبرة فيمن يولى الخلافة:

- ‌ مكانة الخلافة من الحكومة الإسلامية:

- ‌السياسة الشرعية الخارجية

- ‌مدخل

- ‌علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية:

- ‌أحكام الإسلام الحربية مقارنة بالقانون الدولي:

- ‌أحكام الإسلام السلمية:

- ‌السياسة الشرعية المالية:

- ‌شروط عدلها:

- ‌أسس الموارد الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌شرائط الضريبة العادلة:

- ‌الموارد المالية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الموارد الدورية:

- ‌الموارد المالية غير الدورية:

- ‌المصارف المالية الإسلامية:

- ‌جباية الإيراد وصرفه في مصارفه:

- ‌نبذة من تاريخ بيت مال المسلمين:

- ‌لمحة عن حياة المؤلف

الفصل: ‌علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية:

‌علاقة الدولة الإسلامية بالدول غير الإسلامية:

اتفقت كلمة علماء المسلمين على أن الدولة الإسلامية إنما تعتمد في تكونها على الوحدة الدينية وأن جميع من جمعتهم هذه الوحدة هم أمة واحدة وإن اختلفوا في اللغة أو الجنس أو الحكومات أو الملوك أو سائر المميزات القومية، لأن وحدة الدين غلبت كل هذه الفروق.

واختلفوا في أساس العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، فقال فريق منهم: إن الإسلام يأمر بدعوة مخالفيه إلى أن يدينوا به وهذه الدعوة دعوتان دعوة باللسان ودعوة بالبنان. فمن دعوا باللسان وبلغوا هذا الدين على وجه صحيح يتبين به الحق ولم يجيبوا الدعوة وجب على المسلمين دعوتهم بالسيف وقتالهم. وإن كانوا من مشركي العرب لا يحل الكف عن قتالهم حتى يسلموا. وإن كانوا من أهل الكتاب أو من مشركي غير العرب لا يحل الكف عن قتالهم حتى يسلموا. وإن كانوا من أهل الكتاب أو من مشركي غير العرب لا يحل الكف عن قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وقبل الوصول إلى هذه الغاية لا تجوز مسالمتهم ولا يحل الكف عن قتالهم إلا للضرورة بأن كان بالمسلمين ضعف وبمخالفيهم قوة فحينئذ تجوز المسالمة المؤقتة للضرورة ويجب أن تقدر هذه الضرورة بقدرها.

واحتج هؤلاء على رأيهم بعدة براهين:

الأول: أن الله سبحانه أمر المسلمين في كتابه الكريم بأن يقاتلوا غير المسلمين حتى يسلموا أو يعطوا الجزية أمرًا مطلقًا غير مقيد بأن

ص: 73

يكون القتال رفعًا لعدوان أو في مقابلة قتال فدل هذا الإطلاق على أنه أمر بالقتال على أنه دعوة إلى الإسلام وحمل للمخالفين على نبذ دينهم واعتناق الإسلام. وإذا كان القتال دعوة إلى الدين فلا يحل تركه مع القدرة عليه بحال.

فمن هذه الآيات قوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} 1، وقوله في سورة النساء:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} 2، وقوله في سورة الأنفال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَال} 3، وقوله في سورة التوبة:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 4، وقوله فيها {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 5 وقوله فيها:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 6.

والثاني: ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وهذا

1 البقرة: 216.

2 النساء: 74.

3 الأنفال: 65.

4 التوبة: 5.

5 التوبة: 29.

6 التوبة: 36.

ص: 74

نص على أن الأمر بقتال الناس هو للدخول في الإسلام أي أنه طريق الدعوة إليه.

والثالث: أن الله سبحانه في كثير من آي الكتاب الكريم نهى عن اتخاذ الكافرين أولياء وعن الإلقاء إليهم بالمودة. وفي هذا دلالة على أن لا تكون للمسلمين بغيرهم محالفة أو موالاة. فمن هذه الآيات قول الله تعالى في سورة آل عمران: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 1، وقوله تعالى في سورة المائدة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} 2، وقوله تعالى في سورة الممتحنة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3.

والرابع: أن من دعوا إلى الإسلام على وجه صحيح لا عذر لهم في البقاء على غيره، لأن الله سبحانه أبلى معاذيرهم بدلائله التي أقامها على وحدانيته وصدق بها رسوله، وإذا لم يجيبوا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ولا معذرة لهم في الإباء فلا مندوحة أن نسوقهم إلى خيرهم وهداهم بوسائل قسرية، حتى إذا لم تفلح وسائل القهر بعد أن لم تفلح سبل الحكمة لم يكن بد من قتلهم وقطع دابر شرهم وقاية للمجتمع من ضلالهم كالعضو المصاب إذا تعذر علاجه تكون مصلحة الجسم في بتره.

1 آل عمران: 28.

2 المائدة: 51.

3 الممتحنة: 1.

ص: 75

وأصحاب هذا الرأي أسسوا السياسة الخارجية للدولة الإسلامية على القواعد الآتية:

1-

الجهاد فرض ولا يحل تركه بأمان أو موادعة إلا أن يكون الترك سبيلًا إليه بأن كان الغرض منه الاستعداد حين يكون بالمسلمين ضعف وبمخالفيهم في الدين قوة.

وإذا بدئ المسلمون، بالقتال فهو فرض عين على كل مسلم أهل للجهاد وإذا لم يبدءوا به فهو فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الأمة سقط عن الباقين وإذا لم يقم به فريق من الأمة كانت كلها آثمة.

2-

أساس العلاقة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين الحرب ما لم يطرأ ما يوجب السلم من إيمان أو أمان.

والأمان نوعان: أمان مؤقت، وأمان مؤبد. والمؤقت نوعان: خاص، وعام.

أما الأمان المؤقت الخاص: فهو ما يبذله المسلم من المقاتلة لواحد أو جمع محصورين. وقد منح كل مسلم من المقاتلة حق هذا التأمين الخاص لأن الضرورة قد تقضي به وتكون فيه المصلحة للمسلمين ويمكن لكل مقاتل أن يقدر هذه المصلحة الجزئية ويعمل لتحقيقها بدون حاجة إلى الرجوع إلى الإمام أو نائبه، فإذا قال مقاتل من المسلمين لواحد أو جمع معين من المحاربين أمنتكم أو أنتم آمنون كانت هذه الكلمة ذمة في عنق المسلمين جميعهم وصار بها هذا الواحد أو الجمع المعين آمنا لا يحل قتاله ولا التعرض له.. وأصل هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المسلمون

ص: 76

تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" وفي رواية "ويجبر عليهم أدناهم".

وأما الأمان المؤقت العام: فهو ما يبذل لكافة المسلمين ولا يخص واحدًا أو جمعًا معينًا، وهذا حق لا يملكه إلا الإمام أو نائبه لأن المصلحة العامة من شئونه هو النظر فيها وهو الذي يرجع إليه في تقدير الضرورة القاضية بالتكاف عن القتال في مدة معينة.

وفي حكم هذا الأمان المؤقت العام المهادنة وهي المعاقدة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين على نبذ الحرب والتكاف عن القتال مدة معينة تقدر في العقد. وأصل هذه المهادنة التي تعاقد عليها المسلمون مع مشركي قريش في صلح الحديبية فإنه كان من مواد معاهدة ذلك الصلح التكاف عن القتال عشر سنين وقد أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لما كان يقدره من المصلحة العامة في هذا التكاف عن القتال وذلك لأن المسلمين أمنوا من الاعتداء عليهم واختطلوا بمخالفيهم في الدين وأسمعوهم آيات الله وبثوا بينهم الدعوة إليه فدخل المشركون في دين الله أفواجًا ونال المسلمون بهذه الهدنة من النصر أكثر مما نالوه بالقتال حتى قال بعض العلماء: إن الفتح المبين المراد من قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِينا} 1 هو صلح الحديبية لا فتح مكة.

1 الفتح: 1.

ص: 77

والأمان المؤقت بنوعيه والمهادنة إنما تجوز إذا كان فيها خير المسلمين ودعت إليها حالهم حتى لو رأى الإمام أن الخير والمصالحة في نقضه واستئناف القتال كان له ذلك. وإذا نقضه فلا بد من النبذ إلى المؤمنين أو المهادنين قبل القتال تحرزًا عن الغدر والأخذ على غرة. وأصل هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم "في العهود وفاء لا غدر" ولا بد من اعتبار مدة يبلغ فيها خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفي في ذلك بمضي مدة يتمكن فيها ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته لأن ذلك أنفى للغدر. وأما إذا كان النقض من قبلهم هم فإنهم يقاتلون من غير أن ينبذ إليهم لأنهم هم الذين نقضوا العهد وآذنوا بالحرب وفي هذه الحال إذا كانت في يد المسلمين رهائن لا يحل قتلهم لأن الوفاء بالغدر خير من الغدر بالغدر ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا تخن من خانك".

وأما الأمان المؤبد فهو ما يكتسب بعد الذمة، وإنما يتولى هذا العقد من قبل المسلمين الإمام أو نائبه وهو إنما يصح مع أهل الكتاب ومشركي غير العرب، ولا يصح مع مشركي العرب والمرتدين ولا يصح إلا أن يكون مؤبدًا. وإذا عقد فهو لازم في حق المسلمين فلا يملكن نقضه بحال. وأما في حق الذميين فيقبل النقض بأحد ثلاثة أمور بإسلام من يسلم منهم. أو بلحوقة بدار الحرب. أو بثورته على المسلمين وتغلبه على بعض أماكنهم. وأما امتناعه عن إعطاء الجزية أو جنايته على

ص: 78

مسلم أو ارتكابه أية جناية فردية فلا تستوجب نقض العقد. والأصل في هذا أن كل ما صدر من ذمي واحتمل أن يؤول لغير النقض لا ينقض به عقد الذمة.

3-

دار الإسلام: هي الدار التي تجرى عليها أحكام الإسلام ويأمن من فيها بأمان المسلمين سواء أكانوا مسلمين أم ذميين.

ودار الحرب: هي الدار التي لا تجرى عليها أحكام الإسلام ولا يأمن من فيها بأمان المسلمين.

وإنما أسس أصحاب هذا الرأي رأيهم وقواعدهم على أساس أن غير المسلمين إذا دعوا إلى الإسلام وأقيمت لهم دلائله الحقة وأبليت معاذيرهم برفع الشبهات وإيضاح الآيات كان إصرارهم على خلافهم وإعراضهم عن الإسلام وآياته ورفضهم إجابة دعاته بمثابة إيذان المسلمين بالحرب، فيجب على المسلمين أن يسوقهم إلى الحق قسرًا ما داموا لم يذعنوا له بالحكمة والموعظة الحسنة.

وقال فريق آخر من العلماء: إن أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول لا تغاير ما قرره علماء القانون الدولي أساسًا لعلاقات الدول الحاضرة. وإن الإسلام يجنح للسلم لا للحرب. وأنه لا يجيز قتل النفس لمجرد أنها تدين بغير الإسلام، ولا يبيح للمسلمين قتال مخالفيهم لمخالفتهم في الدين وإنما يأذن في قتالهم ويوجبه إذا اعتدوا على المسلمين، أو وقفوا عقبة في سبيل الدعوة الإسلامية ليحولوا دون بثها فحينئذ يجب القتال دفعًا للعدوان وحماية للدعوة حتى إذا لم يكن من المخالف في الدين

ص: 79

عدوان لا على المسلمين ولا على دعوتهم فلا يحل قتاله، ولا تحرم معاملته ومبادلته المنافع. فلم يؤذن في القتال لأنه طريق الدعوة إلى الدين وإنما أذن فيه لحماية الدعوة من اعتداء المعتدين. واحتجوا على هذا ببراهين:

أولًا: أن آيات القتال في القرآن الكريم جاءت في كثير من السور المكية والمدنية مبينة السبب الذي من أجله أذن في القتال وهو يرجع إلى الكفار على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سواء أكانوا من المشركين أم من أهل الكتاب أمعنوا في إيذاء المسلمين بألوان العذاب فتنة لهم وابتلاء حتى يرجعوا من أسلم عن دينه ويثبطوا من عزيمة من يريد الدخول في الإسلام، وغايتهم من هذه الفتن والمحن أن يخمدوا الدعوة ويسدوا الطريق في وجه الدعاة، فالله سبحانه أوجب على المسلمين أن يقاتلوا هؤلاء المعتدين دفعًا لاعتدائهم وإزالة لعقابتهم حتى لا تكون فتنة ولا محنة، ولا يحول حائل بين المدعوين وإجابة الدعوة وإذ ذاك يكون الدين كله لله. قال تعالى في سورة البقرة المدنية:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين َ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 1، وقال تعالى في سورة النساء المدنية: {مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ

1 البقرة: 190-193.

ص: 80

الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} 1، وقال تعالى في سورة الأنفال المدنية:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. وقال سبحانه في سورة الحج المكية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 3.

ثانيًا: احتجوا باتفاق جمهور المسلمين على أنه لا يحل قتل النساء والصبيان والرهبان والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم لأنهم ليسوا من المقاتلة، ولو أن القتال كان للحمل على إجابة الدعوة وطريقًا من طرقها حتى لا يوجد مخالف في الدين ما ساغ استثناء هؤلاء فاستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعًا لعدوانه. ولو قيل إنهم استثنوا لأنهم لغيرهم تبع فهذا إن سلم في الصبيان والنساء لا يسلم في البواقي وخاصة في الرهبان.

وثالثًا: وسائل القهر والإكراه ليست من طرق الدعوة إلى الدين لأن الدين أساسه الإيمان القلبي والاعتقاد وهذا أساس تكونه الحجة لا السيف، ولهذا يقول الله تعالى:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 4، ويقول سبحانه:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 5.

1 النساء: 75.

2 الأنفال: 39.

3 الحج: 39-40.

4 البقرة: 256.

5 يونس: 99.

ص: 81

وأصحاب هذا الرأي أسسوا السياسة الخارجية للدولة الإسلامية على القواعد الآتية:

1-

دعوة غير المسلمين إلى الإسلام فرض كفاية على الأمة الإسلامية إذا قام به فريق منها سقط عن الباقين، وإذا لم يقم به فريق منها كانت كلها آثمة وذلك لأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عامة، فهو مرسل من الله إلى الناس كافة لا فرق بين أمة وأمة، ولا بين من كانوا في عصره ومن وجدوا بعده. والله أمره أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه إلى كل من أرسل إليهم، وقد قام في حياته بتبليغ كل من استطاع أن يبلغهم بلسانه وكتبه ورسله. وفي خطبته يوم حجة الوداع أشهد ربه على البلاغ وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، فمن هذا وجب على المسلمين في عصورهم المتتابعة أن لا ينقطعوا عن هذه الدعوة وأن يبلغوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل من لم يبلغه.

وأن يكون أول شئونهم الخارجية تنظيم الدعوة إلى الإسلام وإعداد الدعاة وبثهم بين الأمم التي لا تدين بالإسلام في مختلف البلدان مع مدهم بجميع الوسائل التي تقدرهم على القيام بواجبهم.

2-

أساس العلاقة بين المسلمين ومخالفيهم في الدين السلم، ما لم يطرأ ما يوجب الحرب من اعتداء على المسلمين أو مقاومة لدعوتهم بمنع الدعاة من بثها ووضع العقبات في سبيلها وفتنة من اهتدى إلى إجابتها.

ص: 82

3-

دار الإسلام هي الدار التي تسود فيها أحكامه ويأمن فيها المسلمون على الإطلاق ودار الحرب هي الدار التي تبدلت علاقتها السلمية بدار الإسلام بسبب اعتداء أهلها على المسلمين أو على بلادهم أو على دعوتهم أو دعاتهم. وعلى هذا إنما يتحقق اختلاف الدارين بين بلاد الدولة الإسلامية وبلاد غير المسلمين الذين بدءوا المسلمين بالعدوان أو حالوا بينهم وبين بث دعوتهم وقام المسلمون بما يجب عليهم من دفع العدوان عنهم وحماية دعوتهم وقطعوا بتلك البلاد علاقتهم وانقطعت العصمة بينهم بحيث يصبح أهل البلدين لا يأمن واحد منهم في بلاد الآخر.

أما الأمة غير الإسلامية التي لم تبدأ المسلمين بعدوان، ولم تعترض لدعاة الإسلام وتركتهم أحرارًا يعرضون دينهم على من يشاءون، ويقيمون براهينهم بما يريدون، لا تقاوم داعيًا ولا تفنن مدعوا، ولم ترسل إليها بعثة من الدعاة؛ فهذه لا يحل قتالها ولا قطع علاقتها السلمية، والأمان بينها وبين المسلمين ثابت، لا ببذل أو عقد، وإنما هو ثابت على أساس أن الأصل السلم ولم يطرأ ما يهدم هذا الأساس من عدوان على المسلمين أو على دعوتهم.

وخلاصة الفروق بين الرأيين أنه على الرأي الأول: الجهاد مشروع على أنه طريق من طرق الدعوة إلى الإسلام، على معنى أن غير المسلمين لا بد أن يدينوا بالإسلام: طوعًا بالحكمة والموعظة الحسنة، أو كرهًا بالغزو والجهاد.

ص: 83

وعلى الرأي الثاني: الجهاد مشروع لحماية الدعوة الإسلامية ودفع العدوان على المسلمين فمن لم يجب الدعوة ولم يقاومها ولم يبدأ المسلمين باعتداء لا يحل قتاله ولا تبديل أمنه خوفًا.

وكذلك على الرأي الأول لا يكون بين المسلمين وغيرهم أمان إلا بسبب طارئ من تأمين خاص أو عام أو موادعة أو عقد ذمة وعلى الرأي الثاني لا يكون بين المسلمين وغيرهم حرب إلا بسبب طارئ من اعتداء أو مقاومة للدعوة أو إيذاء الدعاة أو المدعوين وعلى الرأي الأول يتحقق اختلاف الدارين بانقطاع العصمة. وليس مناط الاختلاف الإسلام وعدمه وإنما مناطه الأمن والفزع.

والنظر الصحيح يؤيد أنصار السلم القائلين بأن الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على المسالمة والأمان لا على الحرب والقتال إلا إذا أريدوا بسوء لفتنتهم عن دينهم أو صدهم عن دعوتهم فحينئذ يفرض عليهم الجهاد دفعًا للشر وحماية للدعوة وهذا بين في قوله تعالى في سورة الممتحنة المدنية: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، وقوله تعالى في سورة النساء المدنية:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} 2، وقوله في سورة الأنفال المدنية:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 3. وفي

1 الممتحنة: 8-9.

2 النساء: 90.

3 الأنفال: 61.

ص: 84

كثير من آي الكتاب وأصول الدين ما يعزز هذه الروح السلمية ويبعد أن يكون الإسلام أسس علاقات المسلمين بغيرهم على الحرب الدائمة وأن يكون فرض الجهاد وشرع القتال على أنه طريق الدعوة إلى الدين لأن الله نفى أن يكون إكراه على الدين وأنكر أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. وكيف يتكون الإيمان بالإكراه ويصل السيف إلى القلوب. إن طريق الدعوة إلى التوحيد والإخلاص لله وحده هي الحجة لا السيف ولو أن غير المسلمين كفوا عن فتنتهم وتركوهم أحرارًا في دعوتهم ما شهر المسلمون سيفًا ولا أقاموا حربًا.

وما احتج به الفريق الأول من آيات القتال التي جاءت مطلقة ليس برهانًا قاطعًا على ما يقولون لأنه لم يوفق بين هذه الآيات المطلقة والآيات المقيدة بحمل المطلق على المقيد على معنى أن الله سبحانه أذن في القتال لقطع الفتنة وحماية الدعوة وتارة ذكره مقرونًا بسببه وتارة ذكره مطلقًأ اكتفاء بعلم السبب في آيات أخرى. ولو كان بين الآيات تعارض كانت المتأخرة ناسخة للمتقدمة فلم يذكر السبب الذي من أجله أذن في القتال آخرًا كما ذكر السبب في الأذن به أولًا، وكيف تكون الآيات المقيدة منسوخة مع أن وجوب القتال لدفع العدوان مجمع عليه ولم يقل بنسخ هذا الوجوب أحد. فلا موجب لتقرير تعارض الآيات والقول بنسخ المطلق للمقيد لأن هذا تمزيق للآيات ويترتب عليه نسخ كثير منها، حتى قال بعض المفسرين: إن المنسوخ بآية السيف نحو مائة وعشرين آية ومن هذه الآيات كل ما يدل على أخذ بالعفو أو دعوة بالحكمة أو جدال بالحسنى أو نفي للإكراه على الدين.

ص: 85

وما احتجوا به ثانيًا من حديث "أمرت أن أقاتل الناس" فهو لا يثبت مدعاهم؛ لأن جميع المسلمين متفقون على أن المراد من الناس في هذا الحديث مشركو العرب خاصة لأن غيرهم من أهل الكتاب ومشركي غير العرب حكمهم يخالف ما جاء في الحديث لأنهم يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية وإذا كان المراد من الناس مشركي العرب خاصة وهؤلاء حالهم من العدوان على المسلمين والدعوة غير مجهولة فالله أمر رسوله أن يقاتلهم حتى يدفع شرهم، ولجمودهم على ما وجدوا عليه آباءهم ولشدة طغيانهم لم يكن سبيل إلى دفع شرهم إلا بأن يسلموا أو يستأصلوا، ولو كان يرجى منهم خير لأبيح معهم عقد الذمة وقبول الجزية كما شرع لغيرهم، فالحديث في طائفة خاصة والقتال فيه لدفع الشر لا للدعوة ولو كان للدعوة لكانوا هم وغيرهم سواسية.

وما احتجوا به ثالثًا من النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء فهذا ليس بدليل لأن مورد النهي موالاتهم ومخالفتهم ونصرتهم على المسلمين وهذا لا خلاف في حظره، وأما موالاتهم بمعنى المسالمة والمعاملة بالحسنة وتبادل المنافع فهذا غير محظور وكيف يكون محظورًا وقد أباح الله للمسلم أن يتزوج بالكافرة الكتابية. وليس بعد علاقة الزوجية موالاة. ونفى الله سبحانه النهي عن برهم والقسط إليهم ما داموا لم يقاتلوا المسلمين ولم يعتدوا عليهم وقد قال الفخر في تفسيره "الموالاة تحتمل درجات ثلاثًا":

1-

أن تكون موالاته توجب الرضا بكفره وذلك حرام لأن الرضا بالكفر كفر.

ص: 86

2-

المعاشرة الجميلة في الدنيا وذلك غير ممنوع منه.

3-

وهي كالوسط بين الدرجتين الأوليين وهي بمعنى الركون إليهم والمظاهرة والنصرة مع اعتقاد أن دينه باطل فهذا منهي عنه لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجر إلى استحسان طريقه والرضا بدينه وذلك يخرج عن الإسلام.

ومن أقوال العلماء التي تؤيد الروح السلمية قول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} إنه تعالى لما بين دلائل التوحيد بيانًا شافيًا قاطعًا للمعذرة قال بعد ذلك إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل عذر للكافر في الإقامة على كفره إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء؛ إذ إن في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان، ونظير هذا قوله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 1.

ويؤكد هذا التأويل قوله سبحانه بعد نفي الإكراه في الدين: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيْ} 2 يعني وهو أعلم قد ظهرت الدلائل ووضحت البينات ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء والإكراه، وذلك غير جائز لأنه ينافي التكليف والابتلاء.

وقال ابن تيمية في كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية": وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ومقصوده هو أن

1 يونس: 99.

2 البقرة: 256.

ص: 87

يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا فمن منع هذا قوتل بتفاق المسلمين وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن ونحوهم فلا يقتل عند جمهور العلماء إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين. والأول هو الصواب لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس فقال: "ما كانت هذه لتقاتل". وقال لأحدهم الحق خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا. وفيها أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلا صغيرًا ولا امرأة" وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل} أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أشد فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه".

وقال الأستاذ الإمام في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} 2. الآيات: مجمل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب نزولها وهو إباحة القتال للمسلمين في الإحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام إذا بدأهم المشركون بذلك وأن لا يبغوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المدة وحكمها بأن لا

1 البقرة: 190.

2 البقرة: 190.

ص: 88

ناسخ فيه ولا منسوخ فالكلام فيها متصل بعضه ببعض في واقعة واحدة فلا حاجة لتمزيقه ولا لإدخال آية براءة فيه. وقد نقل عن ابن عباس أنه لا نسخ فيها ومن حمل الأمر بالقتال فيها على عمومه ولو مع انتفاء الشرط فقد أخرجها عن أسلوبها وحملها ما لا تحتمل، وآية سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد وكان المشركون هم المعتدين، وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدين أيضًا، وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين ولذا قال:{فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُم} 1، وقال بعد ذكر نكثهم {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 2. الآيات.

كان المشركون يبدءون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ولو لم يبدءوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذائهم ومنع الدعوة كل ذلك كان كافيًا في اعتبارهم معتدين فقتال النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق، ولذلك كان تقديم الدعوة شرطًا لجواز القتال وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعوة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين فالله تعالى يقول:{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} 3، ويقول:{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 4. وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن

1 التوبة: 7.

2 التوبة: 13.

3 البقرة: 256.

4 يونس: 99.

ص: 89

ويعتدي على المؤمنين فالله تعالى لا يفرض علينا القتال لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ولا لأجل الطمع في الكسب، ولقد كانت حروب الصحابة في الصدر الأول لأجل حماية الدعوة ومنع المسلمين تغلب الظالمين لا لأجل العدوان، فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت في حوزة الإسلام ويؤذونهم وأولياءهم من العرب المتنصرة ومن يظفرون به من المسلمين. وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين منهم فقد فرقوا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورفضوا دعوته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون. وما كان بعد ذلك من الفتوحات اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقًا لأحكام الدين فإن طبيعة الكون أن يبسط القوي يده على جاره الضعيف. ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية شهد لها علماء الإفرنج بذلك.

وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحمي الدعوة الإسلامية ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف ما يحب على المسلمين في ذلك وما ينبغي في هذا العصر.

وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام حتى من المنتمين إليه من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف، وقول الجاهلين والمتعصبين أنه ليس دينًا إلهًيا لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء وأن العقائد الإسلامية خطر على المدنية فكل ذلك باطل، والإسلام هو الرحمة العامة

للعالمين.

ص: 90