الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحكام الإسلام السلمية:
مما قدمنا من أحكام الإسلام الحربية تبين أن الإسلام شرع من الأحكام في حال القتال ما يكفل تجنب الغدر والاغتيال والتعذيب والمثلة والإتلاف، وما يدل على أنه إنما أراد هداية الناس وحسم شرهم لا إبادتهم وسحقهم. ونحن نبين ما شرعه الإسلام من الأحكام تدبيرًا لعلاقة المسلمين بغيرهم في حال السلم، ومنها يتبين أن الإسلام أسس هذه العلاقة على قواعد العدل واحترام حقوق الأفراد وكفالة الحرية لهم وتبادل المعاملات معهم.
والأصل في هذا قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 1، وقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة".
والأحكام التي قررها الإسلام في هذا الباب يعامل بها غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين ولم يعتدوا عليهم أي عدوان سواء كانوا مقيمين مع المسلمين في دار الإسلام أم في دارهم وهذا على الرأي
1 الممتحنة: 8-9.
الراجح من أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم وأن الأمان ثابت بينهم لأنه أساس العلاقة ولم يطرأ ما ينقضه لا لأنه مكتسب ببذل أو عقد ذمة.
وأما على الرأي الآخر فانما يعامل بهذه الأحكام من اكتسبوا حق الأمان بتأمين إمام المسلمين ودخولهم في ذمتهم.
قرر الإسلام المساواة بين الذميين والمسلمين فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وكفل لهم حريتهم فأمر المسلمين أن يتركوهم وما دينون ولا يتعرضوا لهم فيما يتعقتدون.
وعلى أساس هذه المساواة لهم أن يتعاملوا مع المسلمين جميع المعاملات المباحة.
قال صاحب البدائع: "ويسكنون في أمصار المسلمين يبيعون ويشترون لأن عقد الذمة شرع ليكون وسيلة إلى إسلامهم. وتمكينهم من المقام في أمصار المسلمين أبلغ في هذا المقصود، وفيه أيضًا منفعة للمسلمين بالبيع والشراء".
وما يحرم على المسلم التعامل به ولا يحرم على الذمي مثل الخمر أو الخنزير فإنه يباح للذميين الإتجار بها حيث شاءوا. ولكن ليس لهم أن يجاهروا بالإتجار بها في أمصار المسلمين لأن المصر الإسلامي إنما يجهر فيه بما لا يأباه شعار الإسلام.
وعلى أساس هذه المساواة لم يفرق الإسلام على أرجح الأقوال بين المسلم والذمي في العقوبات ففي القصاص {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} .
وفي أحكام الديات والضمان والتعازير يجري على الذميين ما يجري على المسلمين.
وفي الأحوال الشخصية أبيح لهم كل زواج يتفق ودينهم ولو خالف شرائط الزواج عند المسلمين. واعتبر كل طلاق صدر من أحدهم ولو لم يتفق وأحكام الطلاق عند المسلمين. ولا يتعرض لهم في شيء من ذلك إلا إذا ترافعوا إلى المسلمين وطلبوا إجراء حكم الإسلام بينهم. وكما حرم الزواج بالمحصنات من المؤمنات حرم الزواج بالمحصنات من الكتابيات كما قال تعالى في عد المحرمات: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} 1، هكذا بإطلاق من النساء حتى لا يتوهم أن المحرمات المحصنات من المسلمات خاصة فدفعًا لهذا التوهم قال سبحانه:{مِنَ النِّسَاء} ، احترامًا لحق الزوج من غير المسلمين.
وفي الميراث سوى في الحرمان بين الذمي والمسلم، فلا يرث الذمي قريبه المسلم ولا يرث المسلم قريبه الذمي.
وفي المعاملة وحسن العشرة شرع الإسلام من الأحكام ما شرح له صدور مخالفيه وحببه إليهم، وكفى أن الله سبحانه نفى النهي عن برهم والإقساط إليهم وأباح للمسلمين طعامهم، وأحل لهم ذبائحهم وأباح
1 المائدة: 45.
مصاهرتهم والتزوج منهم كما قال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 1.
وللزوجة غير المسلمة من الحقوق على زوجها ما للزوجة المسلمة. ونهى الله عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن. ونص علماء المسلمين على أن للمسلم أن يضيفهم ويذهب إلى ضيافتهم ويتبادل معهم التهادي والتصافح.
وفي العبادات والاعتقادات أطلقت لهم الحرية ومنع التعرض لهم فيما يعبدون وما يعتقدون، فلهم إقامة شعائر دينهم في كنائسهم وبيعهم، ولهم في القرى إعادة ما تهدم من الكنائس والبيع وإنشاء ما يريدون إحداثه منها. وأما في الأمصار الإسلامية فلهم إعادة المهدوم فحسب، ولهم دق النواقيس في جوف كنائسهم، ولهم أن يفعلوا كل ما لا يثير العداء ولا يعارض شعار الإسلام.
وفي ظل هذه الأحكام السمحة والعدالة والمساواة عاش غير المسلمين معهم في بلاد الإسلام طوال السنين لا يشكون ضيمًا ولا يبخسون حقًا.
ومن نظر إلى العهود التي كان يقطعها المسلمون على أنفسهم لغير المسلمين أيام قوة الإسلام وسطوة أهليه تتجلى له الروح السمحة التي عامل بها الإسلام غير المسلمين لأنه لا يعقل أن تكون تلك العهود مما
1 المائدة: 5.
يأباها الدين ثم يلتزمها الخلفاء الراشدون وقواد المسلمين بمحضر من كبار الصحابة وأولي العلم بالدين، فلولا أنهم مؤمنون بسماحة الإسلام وتقبله لهذ المعاملات ما أقروا تلك الشروط. ولولا أن هذه السماحة من طبيعة الإسلام ما كانت لتتفق وروح العهود التي تلتزم لغير المسلمين من مختلف القواد في مختلف البلدان.
وهذا عهد خالد بن الوليد لأهل الحيرة في عهد أبي بكر الصديق وعهد أبي عبيدة بن الجراح لأهل الشام في عهد عمر بن الخطاب قد كان لهما أثرهما في أنحاء الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية لما تضمنه كل منهما من الوفاء وحسن المعاملة حتى وجد غير المسلمين من المسلمين ما لم يروه ممن كانوا يدينون بدينهم.
روى الإمام أبو يوسف في كتاب الخراج أن خالد بن الوليد صالح أهل الحيرة على أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة ولا قصرًا من قصورهم التي كانوا يتحصنون فيها إذا نزل بهم عدو لهم ولا يمنعون من ضرب النواقيس ولا من إخراج الصلبان في يوم عيدهم وعلى أن لا يشتملوا على نغبة وعلى أن يضيفوا من مر بهم من المسلمين مما يحل لهم من طعامهم وشرابهم وكتب بينهم هذا الكتاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل الحيرة:
إن خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه أمرني أن أسير بعد منصرفي من أهل اليمامة إلى أهل العراق من العرب والعجم
بأن أدعوهم إلى الله جل ثناؤه وإلى رسوله عليه السلام، وأبشرهم بالجنة وأنذرهم من النار. فإن أجبوا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وأني انتهيت إلى الحيرة فخرج إلى إياس بن قبيصة الطائي في أناس من أهل الحيرة من رؤسائهم وأني دعوتهم إلى الله وإلى رسوله فأبوا أن يجيبوا فعرضت عليهم الجزية أو الحرب فقالوا: لا حاجة لنا بحربك ولكن صالحنا على ما صالحت عليه غيرنا من أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وأني نظرت في عدتهم فوجدت عدتهم سبعة آلاف رجل: ثم ميزتهم فوجدت من كانت به زمانة ألف رجل فأخرجتهم من العدة فصار من وقعت عليه الجزية ستة آلاف فصالحوني على ستين ألفًا.
وشرطت عليهم أن عليهم عهد الله وميثاقه الذي أخذ عن أهل التوراة والإنجيل أن لا يخالفوا ولا يعينوا كافرًا على مسلم من العرب ولا من العجم ولا يدلوهم على عورات المسلمين. عليهم بذلك عهد الله وميثاقه الذي أخذه أشد ما أخذه على نبي من عهد أو ميثاق أو ذمة. فإن هم خالفوا فلا ذمة لهم ولا أمان. وإن هم حفظوا ذلك ورعوه وأدوه إلى المسلمين فلهم ما للمعاهد وعلينا المنع لهم. فإن فتح الله علينا فهم على ذمتهم لهم بذلك عهد الله وميثاقه أشد ما أخذ على نبي من عهد أو ميثاق، وعليهم مثل ذلك أن لا يخالفوا. فإن غلبوا فهم في سعة يسعهم ما وسع أهل الذمة ولا يحل فيما أمروا به أن يخالفوا.
وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل
من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام، فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم. وأيما عبد من عبيدهم أسلم أقيم في أسواق المسلمين فبيع بأعلى ما يقدر عليهم في غير الوكس ولا تعجيل ودفع ثمنه إلى صاحبه ولهم كل ما لبسوا من الزي إلا زي الحرب من غير أن يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم وأيما رجل منهم وجد عليه شيء من زي الحرب سئل عن لبسه ذلك فإن جاء منه بمخرج وإلا عوقب بقدر ما عليه من زي الحرب.
وشرطت عليهم جباية ما صالحتهم عليه حتى يؤدوه إلى بيت مال المسلمين. عما لهم منهم. فإن طلبوا عونًا من المسلمين أعينوا به. ومؤنة العون من بيت مال المسلمين.
وروى الإمام أبو يوسف قال: حدثني بعض أهل العلم عن مكحول الشامي أن أبا عبيدة بن الجراح صالحهم بالشام واشتراط عليهم حين دخلها على أن تترك كنائسهم وبيعهم على أن لا يحدثوا بناء بيعة ولا كنيسة. وعلى أن عليهم إرشاد الضال، وبناء القناطر على الأنهار من أموالهم، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام. وعلى أن لا يشتموا مسلمًا ولا يضربوه، ولا يرفعوا في نادي أهل الإسلام صليبًا، ولا يخرجوا خنزيرًا من منازلهم إلى أفنية المسلمين وأن يوقدوا النار للغزاة في سبيل الله ولا يدلوا للمسلمين على عورة، ولا يضربوا نواقيسهم قبل أذان المسلمين ولا في أوقات أذانهم ولا يخرجوا الرايات في أيام عيدهم ولا يلبسوا السلاح يوم عيدهم ولا يتخذوه في بيوتهم فإن فعلوا من ذلك شيئًا
عوقبوا وأخذ منهم. فكان الصلح على هذا الشرط. فقالوا لأبي عبيدة اجعل لنا يومًا في السنة نخرج فيه صلباننا بلا رايات وهو يوم عيدنا الأكبر ففعل ذلك لهم وأجابهم إليه. فلما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أشداء على عدو المسلمين وعونا للمسلمين على أعدائهم فبعث أهل كل مدينة ممن جرى الصلح بينهم وبين المسلمين رجالًا من قبلهم يتجسسون الأخبار عن الروم وعن ملكهم وما يريدون أن يصنعوا فأتى أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم ير مثله.
ولما تتابعت الأخبار على أبي عبيدة اشتد ذلك عليه وعلى المسلمين فكتب أبو عبيدة إلى كل والٍ ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها بأمرهم أن يردوا عليهم ما جبي منهم من الجزية والخراج وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وأنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك. وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كتبنا بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا: ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئًا. وكان أن غلبت الروم ونصر الله المسلمين وكتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب بما أفاء الله على المسلمين وما أعطى أهل الذمة من الصلح فكتب إليه عمر رضي الله عنه كتابًا مما جاء فيه قوله: "وامنع المسلمين من ظلمهم
والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها. ووف لهم بشرطهم الذي شرط لهم في جميع ما أعطيتهم".
ومما تقدم من الأحكام السلمية التي شرعها الإسلام لمعاملة غير المسلمين، ومن نصوص العهود التي التزمها القواد في صلحهم يتبين أن الإسلام لا يأبى مسالمة من لا يدينون به ما داموا غير عادين. وأنه لا مانع يمنع أية دولة إسلامية من أن تتبادل مع دولة غير إسلامية علاقات تجارية وسفراء لنظر المصالح ومعاهدات لضمان حقوق أفراد كل من الدولتين وإجراء العدل بينهم كما أنه لا يأبى حسن معاشرة المسلمين لغير المسلمين والمساواة بينهم في الحقوق والحريات وتبادل الحاجات والبر والإقساط ويؤخذ من قول خالد بن الوليد في عهده:"ولهم كل ما لبسوا من الزي إلا زي الحرب من غير أن يتشبهوا بالمسلمين في لباسهم" ومن قول أبي عبيدة في عهده "ولا يلبسوا السلاح يوم عيدهم" إن المسلمين لم يحرموا على غير المسلمين أي لباس إلا زي الحرب لأنه يثير الشحناء ولا يتفق والمسالمة. ولم يحرموا عليهم التشبه بالمسلمين في زيهم ازدراء لهم لأنهم قد يلبسون ما هو أغلى وأقوم وإنما أراد المسلمون أن تكون لكل طائفة قومية مميزة بمميزاتها من دين ولغة ولباس وسائر المميزات، ولهذا يوجد في السنة كثير من الأحاديث ترمي إلى الاحتفاظ بالقومية وعدم فناء الأمة في غيرها، مثل "خالفوا سنة المجوس"، ومثل النهي عن التشبه بغير المسلمين.