المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والعاهات والمصائب يرضى بأن يدخل في الجينية، ولم يؤثَر أن أحداً - أصلح الأديان للإنسانية عقيدة وشريعة

[أحمد بن عبد الغفور عطار]

الفصل: والعاهات والمصائب يرضى بأن يدخل في الجينية، ولم يؤثَر أن أحداً

والعاهات والمصائب يرضى بأن يدخل في الجينية، ولم يؤثَر

أن أحداً من أي بلد في العالم رضي بها دينا غير أناس من

الهند.

فالجينية لا تصلح لأن تكون دين الإنسانية عقيدة

وشريعة، بل لا تصلح لأن تكون ديناً على الإطلاق لغير

أولئك القوم.

***

‌البوذية

والبوذية من أديان الهند، وهي كالجينية ديانة ملحدة،

لا وجود فيها لإله ولاهوتها بغير إله.

والبوذية منسوبة إلى بوذا المولود سنة 568 قبل

الميلاد بشمال الهند من إقليم نيبال من أب حاكم، وذكروا له

من الخوارق في حمله ومولده الشيء الكثير، كما ذكروا أن

والدته توفيت بعد ولادته بسبعة أيام لئلا تعيش فتحمل

غيره.

واسم بوذا هو سدذارتا، ومعناه: الذي حقق أمله،

وأما بوذا فمعناه: المستنير، وكانت له وهو أميرٌ ابن ملك

ألقاب، وعاش كأمثاله غارقاً في المتع والنعيم والجواهر

ص: 35

والذهب والترف حتى بلغ التاسعة والعشرين حيث تغير

مجرى حياته، فقد رأى ذات مرة مريضاً وذات مرة ميتا،

وأخرى شيخاً فانياً فتأثر بما رأى، وساوره شعور لا يخلو

من التجديف.

وذات ليلة قرر أن يبحث عن الحقيقة فغادر القصر

مودِّعاً زوجه وولده، وعاش بين النساك حتى صار من

أئمتهم، ودرس أسفار الفيدا واليوبانيشاد، وغرق في

النسك والقشَف والتأمل، وانتهى إلى أعلى المراتب بين

النساك حتى صار مرشدهم، ودرس البراهمية وأطلع على

أسرارها، ولكنه لم يجد بها ما يرجو، ولم تبح له بسرِّ

الوجود والحياة، فانصرف إلى غارٍ بالبنغال، وقسا على

نفسه أشد القسوة، وتقلب في أشد ضروب الزهد والحرمان

وإذلال الجسد وإرهاق النفس، وتبعه خمسة من النساك

جعلوه إمامهم، وقضوا ست سنوات أشرفوا في نهايتها على

التلف وكادوا يهلكون.

وذاع صيت بوذا في الآفاق وهو على حاله حتى انتهى

به تعذيب الجسد وإرهاق النفس إلى حد السكون التام، لا

يتحرك، فكانت الطيور تقف عليه آمنة وكأنها تقف على

عود ثابت، بل كانت الوحوش تتحرك خلفه مطمئنة لا

تقربه بسوء، وعاش على ذلك ست سنوات دراكاً ومعه

ص: 36

خمسة النساك، إلا أنه صحا من سكونه ومن الحياة التي

حييها على جديد من الأمر، فقد أحس أن التجربة التي

خاضها لم تحقق مأمله، وصمم على الانتقال إلى حياة غير

الحياة السابقة، وحدَّث زملاءه الخمسة، فلم يستطيعوا ثَنْيَه

عن عزيمته فأخفقوا، فاتهموه بالردة والمروق، فاعتزلوه

وتركوه وغادروا المكان إلى مرج الغزال في مدينة بنارس.

أما بوذا فكان قد استرد بعض قواه ونشاطه، وانتقل

إلى شجرة جلس تحتها متربعاً، ضامّاً يديه وفخذيه وساقيه،

وعزم ألا يبارح مكانه ولا يفك حبوته ولو نخرت عظامه

وجف جلده أو يتنزل عليه نور الحكمة والمعرفة.

وما كاد سنا الفجر يشرق حتى أشرق معه نور الحقيقة

والمعرفة وأضاء قلبه وأدرك ما كان يرجو، أدرك أن

الماضي والحاضر والمستقبل كلٌّ لا يتجزأ، ويصف سر

الحياة والموت، ورحلة الروح في مختلف الأجساد حتى

تصعد إلى " النرفانا " حيث العدم العام وفناء النفس، وهما

السكينة والفناء، إنه وجود يفنى في وجود، مثل فناء

ألوان الطيف الشمسي في البياض الناصع الذي لا لون له،

ولا يمكن الوصول إلى النرفانا إلا بعد صفاء النفس

والفضاء في عالم الحس، أما تعذيب النفس والجسد

والعبادة الظاهرة فليس ذلك بسبيل إلى النرفانا.

ص: 37

لقد هبطت عليه (الاستنارة" فكان بوذا، وكثر

أتباعه، ومضى إلى مرج الغزال ببنارس يريد زملاءه

الخمسة الذين ما كادوا يرونه حتى عزموا فيما بينهم أن

يقاطعوه، وألا يكلموه، وما كاد يصل إليهم حتى هبوا

لاستقباله، فقد محت هيبته عزيمتهم المصممة، واحتفَوا

به، وأخذوا منه أول درس، فإذا النور يشرق في قلوبهم

ويفيض على وجوههم مسرة.

وبعد هذا التحول في حياة بوذا، كانت الديانة البوذية

وقوامها: أن براهما نفسه الإله الأعظم عند البراهمية

يصيبه التغير والفناء، مثله مثل أي كائن، وجحِدت

الفكرة القائلة: إن براهما يستمد وجوده من ذاته، كما

تنفي البوذية عن براهما أنه كائن روحي منزه بن شوائب

المادة، وتجحد أنه مصدر المعرفة والإلهام، ولا تؤمن بوجود

الآلهة، وتنفي عنها ما يعتقده فيها عبَّادها.

وتعتقد البوذية بالتناسخ، وهو عندها وعند أصحاب

البراهمية التي تعتقده قصاص، لأن النفس الشر يرة لا

تمضى إلى النرفانا لتفنى فيه، فلا ولادة) وإنما تمضى إلى

التناسخ الذي هو عقوبة الروح الشريرة الق تولد من

جديد لتحل في كائن آخر قد يكون إنساناَ أو حيواناً أو

نباتا أو جمادا، وهكذا كلما مات الجسد الذي حلت فيه

ص: 38

الروح حتى إذا طهرت صعدت إلى النرفانا.

وعقيدة التناسخ مردها كلما نرى إلى كفر تلك

الديانات بالبعث، أو خلوها منه وعدم تصورها للبعث

والنشور، وترى أن الجزاء عقاباً أو ثواباً حتم لضمان

العدل، فلا يصح أن يتساوى المذنب والصالح، فلا بد من

أن ينال الشرير أو الخيِّر الجزاء، ولهذا اخترعوا التناسخ

لمن استحق العقاب، والنرفانا لمن استحق الثواب.

فالعقيدة في البوذية - كما مر - ليست عقيدة بالمعنى

المعروف من كلمة العقيدة، لأن فكرة اللَه معدومة فيها،

فهي لاهوت من غير إله، وخَلْق بدون خالق.

ووجود (الكارما) أو (النرفانا) لا يودع في البوذية

العقيدة التي انتفت بانتفاء الألوهية والإله منها.

والبوذية تعترف بالواقع والمادة، ولكنها لا تحارب

المؤمنين بالآلهة، وهي مثل الجينية ثي الإلحاد.

أما من ناحية الشريعة فكل ما جاء في البوذية آداب

وأخلاق حسنة، أوامر ونواهِ تدعو إلى العمل الصالح

والقول الصادق، عمل الخير للناس، وكف الأذى عنهم،

والبعد عن تعذيب الجسد وإيلامه، والتنزه عن الكذب

والفسق والباطل كله، والتمسك بالحلال الصرف.

ص: 39

وفي البوذية آداب مرعية وأخلاق فاضلة هي مواريث

الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وتوجزها وصاياها

العشر التي جاءت في كتاب من كتبها المقدسة وهو كتاب

"سوتابيتاكا" الذي يضم مجموعة من خطب بوذا مكونة

من خمسة فصول.

وخمس الوصايا الأولى موجهة للعامة والخمس الأخرى

للخاصة، - أي الكهان - والخمس الأولى هن:

أولا - لا تزهق روح أحد.

ثانيا - لا تكذب، ولا تقل غير الحق.

ثالثا - لا تأخذ مالاً حراماً (رشوة أو سرقة)

رابعا - لا تتناول مسكراً.

خامسا - لا تُقِمْ أي صلة جنسية محرمة (لا تَزْن) .

أما الخمس التي اختص بهن الكهنة فهن:

أولا - لا تأكل في الليل طعاماً غير ناضج.

ثانيا - لا تحضر حفلة رقص أوغناء أو تمثيل.

ثالثا - لا تتزين بأي من أنواع الزينة، ولا تستعمل أي

عطر أو طيب.

رابعا - لا تتخذ أي فراش وثير.

خامسا - لا تقبل من أحد ذهباً أو فضة.

أما الخطايا التي يجب أن يتجنبها الإنسان فعشر، وهي

ص: 40

الأغلال التي تمعه من الصعود إلى النرفانا، والخطايا العشر.

هي:

1 -

الشهوة

2 -

الجهل.

3 -

سوء النية.

4 -

الغرور.

5 -

الشك.

6 -

الوهم.

7 -

دنس القلب.

8 -

الكبرياء.

9 -

الأنانية.

10 -

الشر.

وعندما يستطيع الإنسان التزام الوصايا العشر وحَطْم

الأغلال العثحر وأضاف إليها خصالاً عشراً كان من

السعداء الأخيار، وهم الذين يصعدون إلى النرفانا أو

يمضون إليه، وتلك الخصال العثحر هي:

1 -

السخاء والجود.

3 -

العفو والحلم.

3 -

العفة المطلقة.

4 -

التخلص من العودة إلى الحياة.

ص: 41

5 -

الخلق الفاضل مع التفكير في العواقب.

6 -

القوة في دفع النفس إلى التسامي.

7 -

حسن القول ولينه.

8 -

حسن معاشرة الإخوان وإيثارهم على نفسه.

9 -

الإعراض عن الناس والتوجه إلى الحق.

. ا - بذل النفس في سبيل الحق مع الشوق إلى البذل.

ومع أن بوذا وصَّى ونصح وشجع على الزهد فإنه لم

يتجهم للنعيم، فقد جاءه غني واسع الغنى يستمْتيه: أنزوله

عن ثروته وجاهه وسلطانه أفضل أم عيشة الزهاد

الناسكين الذين تجردوا من الدنيا واتخذوا فراشهم الأرض

وغطاءهم السماء؟ فأجابه: " في وسع كل إنسان أن يتقلب في

نعيم الحياة الفاضلة إذا عف قلبه ولسانه ويده، وإن من لم

يستعبده الشغف إلى الثروة والحرص والكنز إذا ملكها

وأنفقها في وجوه البر والخير والصلاح فإنه يكون نعمة

وخيراً وبركة على مواطنيه ".

ومما لا شك فيه أن بوذا من الناحية الإنسانية إنسان

كبير قلَّ في الناس من يدانيه إنسانية، ومن الناحية

الاجتماعية مصلح اجتماعي أراد الخير وعمل على صلاح

المجتمع ونقائه، وكان هو نفسه آية في حسن السلوك، أما

من ناحية العقيدة فقد انتهى إلى الإلحاد، فما آمن ببراهما

ص: 42

وغيره من آلهة الناس، بل كفر بها.

وأثَّر بوذا بشخصيته وخلائقه ووصاياه ودعوته في

كثير من الشعوب والمجتمعات والأفراد منذ وجوده حتى

اليوم، فهو في الهندوكية - وهي الديانة البراهمية - من

الأخيار، بل رفعته إلى مقام الأعلياء النوادر الألىْ حلت

فيهم روح الإله " فشنو " الإله المنقذ في الديانة البراهمية،

وفيها الأقنوم الثاني من الثالوث البراهمي المقدس، وعدَّه

بعض القديسين المسيحيين النصارى قديساً عظيما.

وقال فيه شوبنهاور الفيلسوف الألاني في كتابه " العالم

إرادة وفكرة: " إن للبوذية المكانة السامية بين

الأديان ".

هذه خلاصة وافية عن بوذا والبوذية عرضناها في

أمانة، ولم نُبد فيها رأي الإسلام وإن كان الإسلام يقدر

حق القدر من أحب مكارم الأخلاق، واتصف بها دون

النظر إلى دينه، فقد كانت ابنة حاتم الطائي الجواد

الأريحي العربي الذي ذهب مثلاً في الكرم في أسر المسلمين

فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إطلاقها من الأسر

وقال ما معناه: " كان أبوها يحب مكارم الأخلاق ".

فهل تصلح البوذية لأن تكون دين الإنسانية؟

ص: 43

إن دين الإنسانية يجب أن يجتمع له المعتقد والشريعة، وطبيعي أن

يكون المعتقد سليماً والشريعة إنسانية صالحة.

وما ثم شك عندنا أن في البوذية من مكارم الأخلاق

طائفة صالحة تعد من ذخائر الإنسانية بأوامرها ونواهيها.

ومع وجود مكارم الأخلاق في البوذية فإنها لم تستوف

ما يجب أن يكون فيها من شرائع وقوانين لضمان العدل

والأمن بين الناس، وذلك نقص كبير.

وليست مجتمعات العصر الحديث كالمجتمعات السابقة

الساذجة أو التي كان كل مجتمع منها مقصوراً على نفسه،

ولم تكن مصالح الأمم متشابكة، ولهذا لا تصلح البوذية

لأن تكون دين الإنسانية شريعة وعقيدة، لأنها خالية من

وجود إله حق أو غير حق، وشريعتها مقصورة على آداب

وأخلاق لا تتسع للمعاملات وغيرها.

ومع أن البوذية هندية الأصل فإن عددهم في الهند لا

يعدو بضعة عشر مليوناً أكثرهم من بورما وسيلان، وهي

شائعة في غير الهند، مثل الصين، حيث صار بوذا نفسه

إلهاً معبوداً لدى الصينيين وأهل بورما والأقطار غير

الهندية.

صار بوذا لدى هؤلاء إلها ذا أقانيم ثلاثة، يرمزون

ص: 44