المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فيربط نفسه بالناس، كما يربط نفسه بالماضي والحاضر والمستقبل، أما الهندي - أصلح الأديان للإنسانية عقيدة وشريعة

[أحمد بن عبد الغفور عطار]

الفصل: فيربط نفسه بالناس، كما يربط نفسه بالماضي والحاضر والمستقبل، أما الهندي

فيربط نفسه بالناس، كما يربط نفسه بالماضي والحاضر

والمستقبل، أما الهندي فزاهد في الحياة والناس والشر.

الصيني عميق التدين، ولا يحمله عمق تدينه على

الإيمان بآلهته في كل أحواله، وما دامت أموره تسير وفق

هواه ورغباته تتحقق فإيمانه بالآلهة قوي، فإذا خاب أمله

أو أخفق مسعاه فإنه يعرف حقيقة هؤلاء الآلهة وحقيقة

المادة التي صُنعوا منها، ومهما اشتدت مصائبه فلا يُجدِّف،

وإنما يداهن الأديان كلها، أفلا يجوز أن يكون بين الآلهة

الكثيرة إله حق؟ فالاحتياط ضرورة، وليُرْض رجال كل

دين بقليل مما عنده.

لا يهم الصيني غير أمر معاشه، فهو يشغل نفسه به، أما

الآلهة فيدعها للكهنة، فهم أولى بها منه وأعرف، وما ثم ما

يمنعه من "التعبد والإيمان ما دام للعبادة متسع من وقته.

***

‌الكنفوشية

ولم يدَّع صيني النبوة والرسالة، وإنما قام في

الصين معلِّمون ومصلحون وهداة ودعاة، وكنفوشيوس

حكيم الصين الأكبر لم يكن إلا معلماً ومرشداً وحبهبهاً، ونجح

في دعوته نجاحاً عظيماً.

ولعل كنفوشيوس الصيني الفاذ الذي يذكر على ألسنة

ص: 49

أكثر الصينيين حتى اليوم وفيهم أبناء الديانات الأخرى

منهم، والجميع يقدُرونه، لأنه حكيم ومصلح، ولم يكن من

الكهنة واللاهوتيين، بل لم يكن من رجال الدين، وإنما

كان أديباً وداعية مصلحا.

وعرف الصين حكماء ومصلحين ومعلمين قبل

كنفوشيوس، ولكنه وحده الذي ذاع اسمه ورجح بمن

سبقوه، لأنه أراد الخير للناس كما، متخذا أسلوب الحكمة

والموعظة الحسنة، بعيداً عن تعقيد الفلاسفة والكهان،

مبتعدا عما وراء الطبيعة والميتافيزيقيات.

وولد في اليوم الثامن والعشرين من شهر سبتمبر سنة

551 قبل الميلاد بمدينة " شوفو، بمقاطعة "لو " المعروفة

في أيامنا هذه باسم "شانتونج" وهو من قبيلة "كونج"،

ويتكون اسمه من مقاطع ثلاثة: كونج - فو - تسى، وتسى

معناه: المعلم أو الحكيم، وهو سليل فرع ملكي، وعند

مولده كان أبوه في السبعين، ومات عندما بلغ ابنه الثالثة،

ونسجت أساطير حول مولده.

وعاش فقيراً، وتزوج في التاسعة عشرة من عمره،

واضطر أن يتقلب في عديد من الأعمال ليكسب رزقه

ورزق أسرته، فعمل راعيا وبستانياً وخازن بضائع.

ص: 50

ولما بلغ الثانية والعشرين اتخذ التعليم مهنة له، ويعلم

الطلاب تلقاء أجرة يدفعونها، أما الفقراء فما كان يأخذ

منهم أجرا، وكان يدرِّس الأدب والتاريخ والموسيقى،

وبيَّنَ سببا اختياره قائلاً: الأدب يهذب خلق الإنسان،

والتاريخ يزوده بالعظة والاعتبار، والموسيقى تعطر

حياته.

وانضم إلى طلبته أميران، ثم اصطحباه إلى العاصمة،

فوجد الفرصة مهيأة له لينمي معارفه من مكتبة القصر،

فتزود منها، وتضلع مما تحوي من المعارف الإنسانية،

واستمتع بموسيقى القصر.

ولقي في العاصمة " لاوتسى " المعلم أو الحكيم " لاو "

الذي كان أكبر حكماء عصره، ولم يرحب بكنفوشيوس،

ولكن كونفوشيوس غادره وهو سعيد، لأن ما سمع منه

اعتبره نصحاً ثميناً أفاد منه في حياته.

وكان يلقي درسه ارتجالاً، ولا يدوّن شيئاً، وكذلك

كان حتى آخر حياته، وكان يستلهم الأحداث والحوادث في

دروسه وعظاته، فرأى ذات مرة امرأة تبكي على قبر ضم

زوجها ووالده وابنها، فدهش فقالت له: إن المكان كثير

النمور وقد افترستهم، فقال لها: وما يجبرك على السكن مع

ص: 51

النمور ولا تمضين إلى مكان آمن لا نمور فيه؟

فقالت له: ولكنّ حاكمه عادل.

فنظر إلى تلامذته وكانوا كثيرين وقال لهم: اعلموا أن

الحاكم الظالم أشد من النمور فتكاً، ويستطيع الإنسان أن

يجد الأمن في غابة الوحوش ويفتقده في ظل الحكومة

الظالمة، فيصبر على الوحوش ولا يقدر أن يصبر على الظلم.

وتولى في بعض فترات حياته مناصب رفيعة، منها

القضاء، فإذا المدينة تنعم في أمن ومحبة وسلام، لأن العدل

سيطر عليها، ثم تولى وزراة الأشغال فأحال المدينة إلى

جنة، وزاد عمرانها وحضارتها، ثم تولى وزِارة العدل التي

كانت تسمى وزارة الجرائم، فإذا الجريمة تمَّحِي.

ثم ترك الأعمال الحكومية زاهداً فيها، وتفرغ للتعليم

والموعظة، حتى إذا تجاوز السبعين فجع في ابنه ثم في أحد

مريديه ثم في تلميذ من أحب تلامذته فبلغ به الألم والأسى

أقصى المدى وقال: ما للسماء تحاربني، والسماء: الإله

الأعظم.

وليست الكنفوشية ديانة، بل هي في أساسها وصايا

وعظات وآداب وأخلاق، وتتسم بالوضوح والسهولة،

ص: 52