المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه - الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في تو ضيح العقيدة

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

الفصل: ‌المبحث الثانيالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه

‌المبحث الثاني

الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه

ص: 261

المبحث الثاني: الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه

لقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على إثبات فتنة القبر وعذابه ونعيمه، وأجمع على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة.

وقد ورد في القرآن الكريم عدة آيات تثبت عذاب القبر ونعيمه وفتنته، قال الله تعالى:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} 1.

وقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} 2.

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3.

وقال تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} 4، وقال {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} 5.

وقال: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ. النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 6.

كما ورد في السنة أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات فتنة القبر وعذابه ونعيمه منها:

1 سورة الأنعام/ 93.

2 سورة إبراهيم/ 27.

3 سورة المؤمنون/ 99، 100.

4 سورة التوبة/ 101.

5 سورة السجدة/ 21.

6 سورة غافر/ 45، 46.

ص: 262

حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال"1.

ومنها: حديثها أيضاً رضي الله عنها "أن يهودية دخلت عليها فذكرت عذاب القبر فقالت لها أعاذك الله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال نعم عذاب القبر قالت عائشة رضي الله عنها فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر"2.

ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال "أما إنهما ليعذبان وما يعذبان من كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله" قال فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: "لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"3.

ومنها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم "قال: يأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " قال: "فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله" قال: "فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة" قال نبي الله صلى الله عليه وسلم "فيراهما جميعاً"4.

وغيرها من الأحاديث، والمقصود أن نصوص الكتاب والسنة متضافرة على إثبات فتنة القبر وعذابه ونعيمه؛ لذا فقد تناول ابن سعدي إثبات عذاب القبر ونعيمه في مؤلفاته وبين أن ذلك من عقائد المسلمين الواجب اعتقادها.

قال: "أما أحوال القبر وفتنته وعذابه ونعيمه وتفاصيل ذلك فقد تواترت به الأحاديث الصحيحة والحسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، والقرآن أشار إليه في عدة آيات"5.

وقال: "كل ما جاء في الكتاب والسنة مما يكون بعد الموت فإنه داخل في الإيمان

1 أخرجه البخاري 1/29، ومسلم 2/621.

2 أخرجه البخاري 1/102.

3 أخرجه البخاري 1/60، ومسلم 1/240، واللفظ لمسلم.

4 أخرجه البخاري 2/102، ومسلم 4/2200.

5 الخلاصة /26.

ص: 263

باليوم الآخر كأحوال القبر والبرزخ ونعيمه وعذابه......"1.

وقال: "ومن أنواع الإيمان بالغيب الإيمان باليوم الآخر وبما وعد الله العباد من الجزاء فدخل في هذا الإيمان بجميع ما يكون بعد الموت من فتنة القبر وأحواله...."2.

ولذلك فإن ابن سعدي في تفسيره إذا مر بآية فيها دلالة أو إشارة إلى عذاب القبر بين ذلك وأوضحه.

قال عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} 3.

"....وفي هذه الآية دلالة على فتنة القبر وعذابه ونعيمه كما تواترت بذلك النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة وصفتها ونعيم القبر وعذابه"4.

وقال عند قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 5.

"......وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر ودلالتها ظاهرة فإنه قال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} أي بعض وجزء منه فدل على أن ثم عذاباً أدنى قبل العذاب الأكبر وهو عذاب النار"6.

وقال عند قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} 7.

".....وفي هذا دليل على عذاب البرزخ ونعيمه، فإن هذا الخطاب والعذاب الموجه إنما هو عند الاحتضار وقبيل الموت وبعده"8.

وهذا يظهر لنا مدى اهتمام ابن سعدي في تفسيره للقرآن بالجوانب العقدية فهو عند

1 سؤال وجواب /15.

2 المواهب الربانية /66.

3 سورة إبراهيم/ 27.

4 التفسير 4/140.

5 سورة السجدة/21.

6 التفسير 6/187.

7 سورة الأنعام/ 93.

8 التفسير 2/436.

ص: 264

كل آية تتعلق ببيان أمر عقدي أورد شبه أو تأصيل قاعدة أو غير ذلك فإنه يقف عندها مبينا ما فيها من هذه الجوانب الهامة. فمسألة فتنة القبر وعذابه ونعيمه كلما مر بآية تتعلق بهذا الجانب بينه وأظهره وربما ذكر في بعض المواضع الآيات الدالة على ذلك كما فعل عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 1.

قال: "وهذه إحدى الآيات الدالة على عذاب القبر والثانية قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} 2. والثالثة قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} 3 والرابعة: قوله عن آل فرعون {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} 4.

وهذا كله المقصود منه بيان هذه العقيدة وتقريرها وترسيخها في الأذهان.

وكما اهتم ابن سعدي بتقرير هذه العقيدة فقد عُني أيضاً ببيان صفتها وكيفية الافتتان وصفة النعيم وصفة العذاب وغير ذلك من الأمور التي تحصل عند دخول الميت في قبره مما دل عليه الكتاب والسنة.

قال رحمه الله: "فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل من ربك وما دينك وما نبيك فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن الله ربي والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، وأما المرتاب فيقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق.

وهذا الابتلاء والامتحان لكل عبد فأما من كان مؤمناً إيمانا صحيحاً ثبته الله ولقنه الجواب الصحيح للملكين كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} فذكر أن تثبيته لهم جزاء لهم على إيمانهم في الدنيا فالمؤمن يجيب الجواب الصحيح وإن كان عامياً أو أعجمياً وأما الكافر والمنافق ممن كان في الدنيا غير مؤمن بما جاء به الرسول فإنه يستعجم عليه الجواب ولو كان من أعلم الناس وأفصحهم

1 سورة طه/124.

2 سورة الأنعام/ 93.

3 سورة السجدة/ 21.

4 سورة غافر/45.

ص: 265

كما قال تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} ومن حكمة الله أن نعيم البرزخ وعذابه لا يحس به الإنس والجن بمشاعرهم؛ لأن الله تعالى جعله من الغيب ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة.

ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين...."1.

كما بين رحمه الله أن دار البرزخ وما فيها من نعيم أو عذاب ليس المقصود منه الخلود والبقاء وإنما هي دار فاصلة بين الدنيا والآخرة ينتقل الناس بعد الدخول إليها إلى دار الخلود والبقاء وهي الدار الآخرة فقال عند تفسيره لسورة التكاثر:

"ودل قوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أن البرزخ دار المقصود منها النفوذ إلى دار الآخرة؛ لأن الله سماهم زائرين ولم يسمهم مقيمين"2.

وإلى هنا أكتفي بما يتعلق بمبحث فتنة القبر وعذابه ونعيمه لأنتقل للمبحث الذي يليه وسيكون الحديث فيه عن النفخ في الصور.

1 التنبيهات اللطيفة /39، 40.

2 التفسير 7/667.

ص: 266