الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس
الإيمان باليوم الآخر بعد البعث
المبحث الخامس: الإيمان باليوم الآخر بعد البعث
تقدم معنا في مطلع هذا الفصل حديثٌ مجملٌ عن وجوب الإيمان باليوم الآخر وأنه أحد أركان الإيمان الستة، وأنه من الإيمان بالغيب، وتحدثنا عن الفوائد العظيمة الحاصلة لمن آمن به.
وأما حديثنا هنا فسيكون عن بعض تفاصيل أحوال اليوم الآخر بعد النفخ في الصور والبعث والنشور، مما يكون في ذلك اليوم من أهوال وشدائد، وما فيه من حشر للخلائق وعرض للأعمال، وعن الميزان والصراط والحوض والشفاعة، وعن الجنة وما فيها من النعيم المقيم، وعن النار وما فيها من العذاب الأليم.
وغير ذلك من أحوال ذلك اليوم، مما تواترت به النصوص، ووجب الإيمان به.
وهذه الأمور المتقدمة تناولها ابن سعدي في مؤلفاته، وبين أنها حق، وأن الإيمان بها واجب، وأنها داخلة في الإيمان باليوم الآخر، إذ كل من ورد ذكره في القرآن الكريم أو في السنة المطهرة من أحوال ذلك اليوم كله داخل في الإيمان باليوم الآخر.
قال ابن سعدي في إحدى خطبه مبينا ما ينبغي للمسلمين اعتقاده في اليوم الآخر:
"ونؤمن بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من أحوال اليوم الآخر والشفاعة والحوض والميزان والصراط وصحائف الأعمال، وما ذكر من صفات الجنة والنار وصفات أهلهما، وكل ذلك حق لا ريب فيه وكله داخل في الإيمان باليوم الآخر"1.
وقال في موضع آخر من مؤلفاته: "فكل ما جاء به الكتاب والسنة، مما يكون بعد الموت فإنه من الإيمان باليوم الآخر كأحوال البرزخ وأحوال يوم القيامة وما فيه من الحساب والثواب والعقاب والشفاعة والميزان والصحف المأخوذة باليمين والشمال، وأحوال الجنة والنار، وصفات أهلهما، وأنواع ما أعده الله فيهما لأهلهما إجمالاً وتفصيلاٍ، وكل ذلك داخل في الإيمان باليوم الآخر"2
1 الخطب المنبرية /76.
2 الفتاوى السعدية /16.
وقد كان ابن سعدي يعنى في مؤلفاته ببيان ما ورد ذكره في القرآن والسنة مما يتعلق باليوم الآخر، فتحدث عن الحشر ووزن الأعمال والشفاعة والحوض والصراط والجنة والنار وغيرها.
وفيما يلي أذكر منها وكلام ابن سعدي فيها:
كلامه في الحشر والموازين:
بعد بعث الناس وخروجهم من قبورهم، يقفون في المحشر أمام ربهم، لينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا، وهو يوم عصيب لا يعلم هَوْلَه وعِظمه إلا الله، يجمع الله فيه الأولين والآخرين من الخلق إنسهم وجنهم وصغيرهم وكبيرهم حتى الوحوش فإنها تحشر، وذلك كله من كمال عدله سبحانه ولطفه وإحسانه.
قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} 1.
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} 2.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} 3.
وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} 4.
وقال ابن سعدي في وصف ذلك اليوم: "إذا نفخ في الصور نفخة البعث يقوم الناس من أجداثهم كاملي الخلقة ينظرون ما يستقبلهم من هذه الحياة الأخروية التي يجازي فيها العباد بأعمالهم حسنها وسيئها.
أما المؤمنون الطائعون فيقفون مطمئنين طامعين في فضل ربهم ورحمته مستبشرين بثوابه وعفوه ومغفرته، وأما المجرمون فيقفون فزعين خائفين متحسرين يدعون بالويل والثبور، يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيساقون إلى جهنم ورداً فحينئذ تكثر القلاقل والأهوال ويشيب الولدان من هول ذلك اليوم وفظاعته {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} 5.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ
1 سورة الكهف/ الآية 47.
2 سورة المائدة/ الآية 96.
3 سورة ق/ الآية 44.
4 سورة التكوير/ الآية 5.
5 سورة الحج/ الآية 2.
يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} 1، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً. الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} 2.، وتكور الشمس والقمر وتنتشر النجوم فتذهب هذه الأنوار المشاهدة وتشرق الأرض بنور ربها، وينزل الله لفصل القضاء بين عباده ومحاسبتهم على أعمالهم، أما المؤمنون فيحاسبون حساباً يسيراً يقررهم بذنوبهم ثم يغفرها ويسترها عن الخلائق. ويضاعف لهم الحسنات ويعطيهم من فضله وإحسانه ما لا تبلغه أعمالهم، ويعطون كتبهم بأيمانهم إكراماً واحتراما كما تبيض وجوههم وتثقل موازينهم. ويغتبطون بذلك ويستبشرون به فيقولون لإخوانهم ومعارفهم ومجيبهم هاؤم اقرؤوا كتابية إني ظننت ـ أي: أيقنت ـ أني ملاق حسابية فهو في عيشة راضية
…
الآيات3، ويساقون إلى الجنة زمراً كل طائفة منهم مع نظرائهم في الخير بحسب طبقاتهم وسبقهم....
ثم قال: وأما الكافرون المجرمون فيحاسبهم الله على ما أسلفوه من الجرائم ويقرعهم ويخزيهم بين الخلائق، ويعطون كتبهم من وراء ظهورهم بشمائلهم، وتسود منهم الوجوه، وتخفف موازينهم، ويساقون إلى جهنم جياعاً عطاشاً منزعجين مرعوبين زمراً، كل طائفة تحشر مع نظيرها من أهل الشر...."4.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} 5.
"ويحشر الله جميع الخلق على تلك الأرض فلا يغادر منهم أحداً بل يجمع الأولين والآخرين، من بطون الفلوات، وفغور البحار ويجمعهم بعد ما تفرقوا ويعيدهم بعد ما تمزقوا خلقاً جديداً.
فيعرضون عليه صفاً ليستعرضهم وينظر في أعمالهم ويحكم فيهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا ظلم، ويقول لهم:{لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 6 أي بلا مال ولا أهل ولا عشيرة، ما معهم إلا الأعمال والمكاسب في الخير والشر التي كسبوها
1 سورة عبس/ الآيات 34-42.
2 سورة الفرقان/ الآيتان 25، 26.
3 سورة الحاقة / الآيات 19: 37.
4 الخلاصة /26، 27، 28. بتصرف.
5 سورة الكهف/ الآية 47.
6 سورة الكهف/ الآية 48.
…
"2.
ثم بعد ذلك تنشر الدواوين وتوزن الأعمال فآخذ كتابه باليمين، وآخذ كتابه بالشمال.
قال ابن سعدي: "وحينئذ تحضر الأعمال التي كتبها الملائكة الأبرار فتطير لها القلوب وتعظم من وقعها الكروب وتكاد لها الصم الصلاب تذوب"4.
وقال: "وفي يوم القيامة مواضع يشتد كربها ويعظم وقعها كالميزان الذي يميز به أعمال العباد وينظر فيه بالعدل ماله وما عليه، وتبين فيه مثاقيل الذر من الخير والشر.
فمن ثقلت موازينه بأن رجحت حسناته على سيئاته فأولئك هم المفلحون لنجاتهم من النار واستحقاقهم الجنة وفوزهم بالثناء الجميل.
ومن خفت موازينه بأن رجحت سيئاته على حسناته وأحاطت به خطيئته فأولئك الذين خسروا أنفسهم خسارة أبدية وشقاوة سرمدية في جهنم خالدون لا يخرجون منها أبدا الآبدين"5.
كلامه في الحوض المورود:
لقد تواترت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ثبوت الحوض المورود في عرصات القيامة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في السنة أوصاف كثيرة لهذا الحوض.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حوضي
1 سورة الأنعام/ الآية 94.
2 التفسير 5/45، 46.
3 سورة الحاقة/ الآيات 19: 32.
4 التفسير 5/46.
5 التفسير 5/380، بتصرف.
مسيرة شهر وزواياه سواء، وماؤه أبيض من الورق وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه فلا يظمأ بعده أبداً"1.
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: "والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية. آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيله ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل"2.
يقول ابن سعدي: "وفي عرصات القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء طوله شهر وعرضه شهر من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً"3.
ويقول أيضاً معدداً ما يناله المؤمنون يوم القيامة من الخير العظيم "....كما يردون في عرصات القيامة حوض نبيهم فيشربون منه شربة هنيئة لا يظمؤون بعدها"4.
كلامه في الصراط:
الصراط جسر ينصب على متن جهنم ليعبر الناس من فوقه إلى الجنة، فمنهم من يتمكن من العبور بسرعة، ومنهم من لا يعبر إلا ببطأ، ومنهم من لا يتمكن من العبور فيسقط في جهنم.
وقد ورد في ذكر الصراط وصفته وصفة المرور عليه أحاديث كثيرة:
منها: حديث الشفاعة الطويل المتفق على صحته وفيه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "....ويضرب الصراط بين ظهري جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم السعدان؟ قالوا نعم يا رسول الله. قال فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله عز وجل وتخطف الناس بأعمالهم فمنهم الموقن بعمله والموثق بعمله ومنهم المخردل أو المجازى أو نحوه"5 الحديث.
1 أخرجه مسلم 4/1793.
2 أخرجه مسلم 4/1798.
3 التنبيهات اللطيفة /41.
4 الخلاصة /27.
5 البخاري 8/179، ومسلم 1/163، وأخرجه أحمد 3/11، ومن حديث أبي هريرة.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "
…
ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليها خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان، يمر المؤمن عليها كالطرف وكالبرق والريح وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم، وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا" 1 الحديث.
يقول ابن سعدي: "وفي ذلك الموطن ما ثم إلا النار قد برزت وليس لأحد نجاة إلا بالعبور على الصراط وهذا لا يستطيعه إلا أهل الإيمان الذين يمشون في نورهم، وأما غير المؤمنين فليس لهم عند الله عهد في النجاة من النار"2.
ويقول في وصف الناس حال عبورهم الصراط: "ويمرون على الصراط على قدر أعمالهم كلمح البصر وكالبرق الخاطف وكأجاويد الخيل والإبل وكسعي الرجال وكمشيهم ودون ذلك
…
"3.
كلامه في الشفاعة:
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته.
وله صلى الله عليه وسلم في يوم القيامة ثلاث شفاعات:
أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضي بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم حتى تنتهي الشفاعة إليه.
وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهتان الشفاعتان خاصتان له.
وأما الشفاعة الثالثة: فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها.
ويخرج الله من النار أقواماً بغير شفاعة بل بفضله ورحمته ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة"4.
1 البخاري 8/181، ومسلم 1/167، واللفظ للبخاري.
2 التفسير 6/358، بتصرف يسير.
3 الخلاصة /27.. وانظر التفسير 5/130.
4 العقيدة الواسطية /140، 141، 142.
وهذا الكلام الجامع في الشفاعة الذي ذكره شيخ الإسلام دلت عليه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة.
منها: قوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1.
وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 2.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 4.
ومن أدلة السنة حديث أنس بن مالك الطويل " في ذكر الشفاعة وفيه أن الناس يأتون آدم ليشفع لهم فيعتذر ويأتون إبراهيم فيعتذر ويأتون موسى فيعتذر ويأتون عيسى فيعتذر ثم يأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقول "أنا لها".قال صلى الله عليه وسلم: "فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه، فأحمده بمحامد لا أقدر عليه إلا أن يلهمنيه الله، ثم أخر له ساجداً فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمد بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال لي: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول أمتي أمتي فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل"5.
وعلى هذا فإن الشفاعة حق، وهي ثابتة للرسول صلى لله عليه وسلم، ولمن يأذن الله عز وجل من النبيين والصديقين والملائكة.
قال ابن سعدي: "وأما الشفاعة عنده بإذنه من الأنبياء والأصفياء لأهل الجرائم فإنها ثابتة كما أثبتها في عدة مواضع من كتابه؛ وذلك لأنها دالة على كمال رحمته وعموم إحسانه فإنها من رحمته بالشافع والمشفوع له، فالشافع ينال بها الأجر والثناء من الله ومن خلقه، والمشفوع له يرحمه الله على يد من أذن له بالشفاعة فيه، ومع هذا فلا يأذن لأحد
1 سورة يونس/ الآية 3.
2 سورة الأنبياء/ الآية 28.
3 سورة طه/ الآية 109.
4 سورة البقرة/ الآية 255.
5 أخرجه مسلم 1/182.
أن يشفع إلا فيمن رضي قوله وعمله وهو من كان مخلصاً متابعاً لرسول الله"1.
وقد أكد رحمه الله ونبه كثيراً على أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد وأما من سواهم فلا تنفعهم شفاعة الشافعين.
قال في خلاصة التفسير: "....ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، ولا يرضى إلا عمن قام بتوحيده واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب، وأسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه"2.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} 3 "والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى ولا يرتضي إلا توحيده، واتباع رسله فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب"4.
وقال عند قوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 5.
"فلا يقدم أحد على الشفاعة، ولو كان أفضل الخلق حتى يأذن الله، ولا يأذن إلا لمن ارتضى. ولا يرتضي إلا أهل الإخلاص والتوحيد له"6.
كلامه في الجنة:
إن الجنة هي دار كرامة الله لأوليائه المؤمنين، وهي مثوى عباده الطائعين، وقد أعد الله فيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"7 قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} 8.
وقد تحدث ابن سعدي عن الجنة كثيراً ولا سيما في تفسيره للقرآن وتناول وصف الجنة وما فيها من أنواع النعم وصنوف المنن، بأسلوب جامع بليغ.
1 الحق الواضح المبين /6.
2 الخلاصة /13.
3 سورة البقرة/ الآية 255.
4 التفسير 1/314.
5 سورة يونس/ الآية 3.
6 التفسير 3/323.
7 أخرجه البخاري 6/21، ومسلم 4/2174، وأحمد 5/334.
8 سورة السجدة/ الآية 17.
قال رحمه الله في وصف الجنة من حين دخولها إلى ما يلقاه المؤمنون فيها من النعم: "حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فتلقاهم خزنة الجنة يسلمون عليهم، ويهنئونهم بالنجاة من العذاب وحصول الخير والثواب والخلود الأبدي بسبب طيبهم، فيقولون لهم سلام عليكم طبتم: أي طابت قلوبكم بالعقائد الصحيحة الصادقة، والأخلاق الجميلة وألسنتكم بذكر الله والثناء عليه، وجوارحكم بخدمته والقيام بطاعته، فادخلوها خالدين.
فإذا دخلوها ورأوا ما فيها من النعيم المقيم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، حمدوا الله على منته عليهم بالسوابق والإيمان والأعمال الصالحة وبإنجاز ما وعدهم به على ألسنة رسله، وعلى أن الله أورثهم الجنة يتبوؤون من خيراتها حيث يشاؤون وأنى يشاؤون مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من نعيم القلوب والأرواح، ومن نعيم الأبدان والأجسام {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قد جمع الله لهن حسن البواطن والظواهر فهن سرور وقرة النواظر.
وتمام ذلك أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً، وأنه يقال لهم أن لكم أن تشبوا فلا تهرموا، وإن لكم أن تصحوا فلا تموتوا أبداً، فلهم كل ما يشاءون فيها وتتعلق به أمانيهم، ولهم فوق ذلك مما تبلغه أمانيهم، ولهم نعيم أعلى من ذلك كله وهو التمتع بالنظر إلى وجهه الكريم، وسماع خطابه والابتهاج برضاه وقربه، والسرور بمحبته وذكره وحمده والثناء عليه وشكره، مما يشاهدون من كثرة الخيرات، وسوابغ النعم والهبات، وزيادة النعيم وتواصله، ومما يزدادون من معرفته والأنس به، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام"1.
وله رحمه الله خطبة بليغة ذكر فيها جملة كبيرة من أوصاف الجنة ونعيمها ضمن مجموعة خطبه "الفواكه الشهية في الخطب المنبرية" قال في آخرها بعد تعداد جملة من أوصاف الجنة "
…
لمثل هذه الدار فليعمل العاملون وفي أعمالها الموصلة إليها فليتنافس المتنافسون فواعجباً كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها، وكيف طاب القرار في هذه الدار بعد سماع أخبارها، وكيف للمشتاقين القرار دون معانقة
1 الخلاصة /27، 28.
أبكارها، طريقها يسير على من يسره الله عليه، وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي والتوبة والإنابة إليه"1.
كلامه في الرؤية:
وأما أعظم نعيم يناله المؤمنون في الجنة فهو رؤية الله عز وجل والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم.
قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 2.
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3.
وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 4.
والمراد بالمزيد والزيادة هنا، رؤية الله عز وجل في الجنة، قال ابن كثير في تفسيره:
"وقد رُوي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة وعامر بن سعد وعطاء بن والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف، وقد وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم"5.
ومن هذه الأحاديث ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار؟ قال فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم"6.
قال ابن سعدي: "......إن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة ويتلذذون بالنظر إليه أعظم من سائر اللذات ويبتهجون بخطابه ويفرحون بقربه كما ذكر الله ذلك في عدة آيات من القرآن وتواتر فيه النقل عن رسول الله"7.
1 الفواكه الشهية /50.
2 سورة القمر/ الآيتان 54، 55.
3 سورة يونس/ الآية 26.
4 سورة ق/ الآية 35.
5 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/414.
6 أحمد 4/332، وابن ماجه 1/67، وصححه الألباني. انظر صحيح الجامع 1/202.
7 التفسير 7/590.
وقد استدل على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأدلة كثيرة من القرآن الكريم.
فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1 "أي: ينظرون إلى ربهم على حسب مراتبهم فمنهم من ينظر كل يوم بكرة وعشياً، ومنهم من ينظر كل جمعة مرة واحدة، فيتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وجماله الباهر، الذي ليس كمثله شيء، فإذا رأوه نسوا ما هم فيه من النعيم، وحصل لهم من اللذة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوههم فازدادوا جمالاً إلى جمالهم"2.
وقال عند قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 3. ".....وأعظم ذلك وأجله وأفضله النظر إلى وجهه الكريم والتمتع بسماع كلامه والتنعم بقربه"4.
وقال عند قوله تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} 5.
"إلى ما أعد الله لهم من النعيم وينظرون إلى وجه ربهم الكريم"6.
وقال عند قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 7.
"......ودل مفهوم هذه الآية على أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في الجنة"8.
والمقصود أن الرؤية ثابتة للمؤمنين فسيرونه عياناً كما أخبر بذلك وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر ذلك إلا المعطلة من الجهمية وغيرهم.
وقد استدل هؤلاء المعطلة على عدم إمكان الرؤية بآيتين من القرآن وهما قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 9. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} 10.
1 سورة القيامة/ الآيتان 22-23.
2 التفسير 7/526، 527.
3 سورة ق / الآية 35.
4 التفسير 7/157.
5 سورة المطففين/ الآية 23.
6 التفسير 7/593.
7 سورة المطففين/ 15.
8 التفسير 7/590.
9 سورة الأنعام/ الآية 103.
10 سورة الأعراف/ الآية 143.
وليس في الآيتين دليل لما ذهبوا إليه، إذا فهمتاًُ فهماً صافياً خالياً من التحريف والتأويل.
وقد رد ابن سعدي عليهم في استدلالهم هذا عند تفسيره لهاتين الآيتين، وبين أنه ليس فيهما دلالة لما ذهبوا إليه.
فقال عند الآية الأولى وهي قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.
"أي لا تحيط به الأبصار، وإن كانت تراه في الآخرة، وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم.
فنفي الإدراك لا ينفي الرؤية، بل يثبتها بالمفهوم، فإنه إذا نفى الإدراك الذي هو أخص أوصاف الرؤية، دل على أن الرؤية ثابتة. فإنه لو أراد نفي الرؤية لقال "لا تراه الأبصار" ونحو ذلك فعلم أنه ليس في الآية حجة لمذهب المعطلة الذين ينفون رؤية ربهم في الآخرة. بل فيها ما يدل على نقيض قولهم"2.
وقال عند الآية الثانية وهي قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 3.
"أي لن تقدر الآن على رؤيتي فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة.
فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى، ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم وأنه ينشئهم نشأة كاملة يقدرون معها على رؤية الله تعالى؛ ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل فقال مقنعا لموسى في عدم إجابته للرؤية:{وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَه} إذا تجلى الله له {فَسَوْفَ تَرَانِي} . {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} الأصم الغليظ {جَعَلَهُ دَكّاً} أي انهال مثل الرمال، انزعاجاً من رؤية الله وعدم ثبوته لها...."4.
1 سورة الأنعام/ الآية 103.
2 التفسير 2/447.
3 سورة الأعراف/ الآية 143.
4 التفسير 3/78، 88.
كلامه في النار:
وأما النار فهي دار أعدها الله لمن عصاه من الكفرة والمعرضين والمجانبين للصراط المستقيم، وجعل لهم فيها النكال والأغلال والويل والثبور، حتى ينالوا بذلك جزاء كفرهم وإعراضهم.
قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1.
يقول ابن سعدي في وصف النار وأهلها المستحقين لدخولها:
".....فهي دار من طغى وبغى وتجبر على الخلق وآثر الحياة الدنيا، دار الشقاء الأبدي والعذاب الشديد السرمدي، دار جمع الله فيها للطاغين أصناف العذاب، وأحل على أهلها السخط والسعير والحجاب، دار اشتد غيظها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمى سعيرها قعرها بعيد وعذابها شديد ولباس أهلها القطران والحديد وطعامهم الغسلين وشرابهم الصديد، ويتجرعه المجرم ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت فيستريح من التنكيد، يتردد أهلها بين الزمهرير والمفرط برده وبين السعير ويلاقون فيها العنا والشقا فيا بئس المثوى ويا بئس المصير ويلقى عليهم الجوع الشديد المفظع والعطش العظيم الموجع، فيستغيثون للطعام والشراب، فيغاثون من هذا العذاب بأفظع عذاب، يغاثون بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب، خبيث الطعم منتن الريح، حره قد تناها، إذا قرب من وجوههم أسقط جلدها ولحمها وشواها، وإذا وقع في بطونهم صهرها وقطع معاها، يغلي طعام الزقوم في بطونهم كغلي الحميم، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الإبل العطاش الهيم، هذا نزلهم فبئس النزل غير الكريم"4.
وقال أيضاً في تعداد صنوف العذاب وألوانه وأنواعه في جهنم:
1 سورة آل عمران/ الآية 131.
2 سورة التحريم/ الآية 6.
3 سورة النساء/ الآيتان 55، 56.
4 الفواكة الشهية /45، 46.
" فتارة يعذبون بالسعير المحرق لظواهرهم وبواطنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، وتارة بالزمهرير الذي قد بلغ برده أن يهرى اللحوم ويكسر العظام، وتارة بالجوع المفرط والعطش المفظع، وإذا استغاثوا لذلك أغيثوا بعذاب آخر، ولون من الشقاء ينسى ما سبقه فيغاثون بطعام ذي غصة، بشجرة الزقوم التي تخرج في الذي يوقد عليه النار، وإن يستغيثوا للشراب يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، إذا قرب إليها فلا يدعهم العطش مع ذلك أن يتناولها، فإذا وصلت إلى بطونهم قطعت أمعاءهم ولا يزالون في عذاب شديد لا يفتر عنهم العذاب ساعة، ولا يرجون رحمة ولا فرجا
…
"1.
فنعوذ بالله من جهنم وما قرب إليها من قول أو عمل.
الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن:
وقد دل على وجودهما نصوص كثيرة في الكتاب والسنة:
قال تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 2.
وقال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} 3.
وقال: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 4"5.
وقال: {وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} 6.
وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على ذلك:
منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي، فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار"7.
ومنها: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء"8.
1 الخلاصة /28.
2 سورة آل عمران/ الآية 133.
3 سورة الحديد/ الآية 21.
4 سورة البقرة/ الآية 24.
5 سورة البقرة / الآية 24، وسورة آل عمران /الآية 131.
6 سورة الفرقان/ الآية 11.
7 أخرجه البخاري 2/103، ومسلم 4/2199، وأحمد 2/51.
8 أخرجه البخاري 7/179، وأحمد 1/51.
وقد أشار ابن سعدي في تفسيره إلى مسألة وجود الجنة والنار وأنهما معدتان الآن، وبين أن هذا هو الاعتقاد الصحيح الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، بخلاف ما ذهب إليه المعتزلة بأنهما تخلقان يوم القيامة.
فقال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1.
"هذه الآية ونحوها من الآيات فيها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان، خلافاً للمعتزلة"2.
وبهذا نصل إلى نهاية الفصل الثالث المتعلق بالإيمان باليوم الآخر، ويليه الفصل الرابع والأخير، وهو عن تعريف الإيمان وما يتعلق به من مسائل.
1 سورة البقرة/ الآية 24، وسورة آل عمران/ الآية 131.
2 التفسير 1/61.