المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: توحيد الربوبية - الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في تو ضيح العقيدة

[عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر]

الفصل: ‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

‌الباب الثاني: جهود الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في توضيح العقيدة

‌الفصل الأول: جهوده في توضيح الإيمان بالله تعالى

‌المبحث الأول: توحيد الربوبية

تمهيد:

إن عقيدة التوحيد، وإفراد الله وحده بالعبادة، هي أعظم المقاصد، وأهم الغايات، فمن أجلها خلق الله الخلق وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وجعل الجنة والنار، فالجنة دار من أطاعه وحقق توحيده ولم يشرك به شيئاً، والنار دار من عصاه وجعل له نداً وشريكاً.

ومن تأمل نصوص القرآن الكريم، وجدها تبدي وتعيد في شأن العقيدة، داعية إليها محذرة من ضدها في آيات كثيرة بطريق متنوعة وأساليب مختلفة فتارة ببيان أنها أعظم الغايات وسبب إيجاد الخلقية، وأخرى ببيان أن الكتب إنما أنزلت والرسل إنما أرسلوا وبعثوا إلا لتحقيقها، وثالثة ببيان الوعيد الشديد لمن خالف هذه العقيدة وأتى بضدها.. وهكذا.

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3.

وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 4.

وغيرها من الآيات. والقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير هذه العقيدة؛ لأنه إما خبر عن الله عز وجل وما يجب أن يوصف به وما يجب أن ينزه عنه وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الطلبي الإرادي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد وما يكرمهم به في الآخرة وهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل

1سورة الذاريات/ الآية 56.

2 سورة النحل/ الآية 36.

3 سورة النساء/ الآية 48.

4 سورة المائدة/ الآية 72.

ص: 64

بهم في الدنيا من النكال وما يفعل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم توحيده، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم1.

ثم إنه بعد التتبع والاستقراء لنصوص الكتاب والسنة من قبل علماء الإسلام تبين أن التوحيد لا يخرج عن ثلاثة أنواع:

النوع الأول: توحيد الربوبية: وهو الإقرار بربوبية الله تعالى على خلقه أجمعين بخلقه لهم ورزقه إياهم وإحيائهم وإماتتهم وتصرفه في شئونهم كلها.

النوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات وهو إثبات جميع ما ورد في القرآن والسنة من نعوت الكمال لله عز وجل، من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل.

النوع الثالث: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادة، وعدم صرف أي نوع منها لغير الله عز وجل.

ومن تتبع نصوص القرآن والسنة جميعها، يجد أنها لا تخرج في توحيد الله تعالى، عن هذه الأنواع الثلاثة.

وقد تناول ابن سعدي في مؤلفاته جميع هذه الأنواع، واعتنى بإبرازها وبيانها وإيضاحها، ونبه على أهميتها وضرورة الحاجة إليها.

وفيما يلي سأفرد كل نوع من هذه الأنواع بمبحث خاص أبين فيه جهود الشيخ ابن سعدي في توضيحه وبيانه2.

المبحث الأول: في توحيد الربوبية.

المبحث الثاني: في توحيد الأسماء والصفات

المبحث الثالث: في توحيد الألوهية.

1 انظر مدارج السالكين لابن القيم 3/450.

2 وانظر كلامه عن هذه الأنواع على سبيل الإجمال: القول السديد 16، 17، والتفسير 1/36، والتوضيح والبيان /24، سؤال وجواب /4، وغيرها من كتبه.

ص: 65

المبحث الأول

توحيد الربوبية

ص: 66

المبحث الأول

توحيد الربوبية

عرف ابن سعدي هذا النوع من التوحيد فقال:

"هو اعتقاد أن الله سبحانه هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير، وإنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الأضرار، الذي له الأمر كله وبيده الخير كله، القادر على ما يشاء ليس له في ذلك شريك، وأنه الذي ربى جميع خلقه بالنعم، وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الحميدة والعلوم النافعة والأعمال الصالحة. وهداهم إلى تحقيق عبادته وطاعته وهذه التربية هي النافعة المثمرة للسعادة في الدنيا والآخرة"1.

وعرف الرب بأنه المربي لجميع العالمين وهم من سوى الله، بخلقه إياهم وإنعامه عليهم بأنواع النعم التي لو فقدوها لما أمكنهم الحياة والبقاء على وجه الأرض2.

وما ذكره من معاني وتوضيح لتوحيد الربوبية ولمعنى الرب، قد دلت عليه نصوص كثيرة في القرآن الكريم، فقد أوضح الله في كتابه في غير آية أنه الرزاق المدبر المنعم القادر على كل شيء المتصرف في شئون خلقه كلها إلى غير ذلك من معاني الربوبية.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 3.

وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 4 وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 5.

1 القول السديد/16.

2 التفسير 1/34، و5/620، والخلاصة/9.

3 سورة الذاريات/ الآية 58.

4 سورة يّس/ الآية 82، 83.

5 سورة الحديد/ الآية 17.

ص: 67

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1.

وقال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 2.

وغيرها من الآيات الدالة على تفرد الله وتوحده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتصرف في جميع المخلوقات، والدالة على قدرته على كل شيء وأن بيده ملكوت كل شيء وأن المرجع والمآل إليه وحده.

تربية الله لخلقه على نوعين:

ورد في القرآن الكريم ذكر ربوبية الله لخلقه وعباده في مواضع كثيرة، وهي على نوعين: ربوبية عامة شاملة لجميع المخلوقات برها وفاجرها مكلفيها وغير مكلفيها حتى الجمادات، لا يخرج عنها أحد، وهي أنه تعالى المنفرد بخلقها ورزقها وتدبيرها.

وربوبية خاصة: وهي خاصة بأولياء الله وأصفيائه وهي تربيته لهم بهدايتهم للدين والإيمان وتعليمهم العلوم النافعة وتكميلهم بالأخلاق الجميلة، ودفعه عنهم الأخلاق الرذيلة، وحقيقتها التوفيق لكل خير.

قال ابن سعدي في بيان هذين النوعين: "وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة، وخاصة.

فالعامة: هي خلقه للمخلوقين ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.

1 سورة البقرة/ الآية 164.

2 سورة النمل/ الآية60:64.

ص: 68

والخاصة: تربيته لأوليائه فيربيهم بالإيمان ويوفقهم له ويكملهم ويدفع عنهم الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه.

وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر.

ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة"1.

دلالات توحيد الربوبية:

وتوحيد الربوبية له دلالات كثيرة، تدل على تفرد الله بالربوبية على خلقه أجمعين، إذ أن الله جعل لخلقه أشياء لو تأملوها وتفكروا فيها لأرشدتهم إلى أن هناك خالقاً مدبراً لهذا الخلق أجمعين وقد تعرض الشيخ ابن سعدي لهذه الدلالات في كتاباته ولا سيما في كتابه التفسير، ولكثرة هذه الدلالات فإني سأكتفي بذكر بعضها على سبيل التمثيل:

دلالة الفطرة:

وهذه في مقدمة الدلالات إذ أن الله فطر الخلق على توحيده فما من مولود إلا ويولد على فطرة التوحيد كما قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2.

وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"3.

لذا نجد أن ابن سعدي رحمه الله يقول عند تفسيره هذه الآية "إن جميع أحكام الشرائع الظاهرة والباطنة قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميل إليها.

فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها"4.

وهذا ما دل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: "خلقت

1 التفسير 1/34، وانظر الخلاصة /111.

2 سورة الروم/ الآية 30.

3 البخاري 2/97، ومسلم 4/2047.

4 التفسير 6/126.

ص: 69

عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم"1 رواه مسلم، وعرف الفطرة بأنها "هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقريب إليه"2.

ثم إنه يقسم شرائع الفطرة إلى قسمين: قسم يطهر القلب والروح وهو الإيمان بالله وتوابعه من خوفه ورجائه ومحبته والإنابة إليه.

وقسم: يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته، ودفع الأوساخ والأقذار منه وهو سنن الفطرة العشر الواردة في حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظافر وغسل البراجم، ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء" قال الراوي ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. رواه مسلم في صحيحه"3.

قال رحمه الله: " والمقصود أن الفطرة شاملة لجميع الشريعة باطنها وظاهرها؛ لأنها تنقي الباطن من الأخلاق الرذيلة وتحليه بالأخلاق الجليلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان وتطهره الطهارة الحسية والطهارة المعنوية"4.

دلالة الأنفس:

إن الله سبحانه وتعالى صور الإنسان على أحسن صوره، وخلقه على أحسن تقويم كما قال سبحانه:

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 5.

وقال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} 6.

وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 7.

1 مسلم 4/2197.

2 بهجة القلوب الأبرار/68.

3 مسلم 1/223.

4 بهجة قلوب الأبرار ص 70، 71.

5 سورة التغابن/ الآية 3.

6 سورة البقرة/ الآية 138.

7 سورة التين/ الآية 4.

ص: 70

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} 1.

فلقد أنعم الله على الإنسان بنعمة عظيمة، حيث جعله على هذه الصورة الجميلة المتميزة عن سائر الحيوانات.

لهذا لو أن الإنسان أمعن النظر، في نفسه وما فيها من عجائب صنع الله، ونظر إلى ظاهره وما فيه من كمال خلقه، وأنه متميز عن سائر الحيوانات لعرف أن وراء ذلك رب خالق حكيم في خلقه، وعرف أن هذا الخالق هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التصاريف لا يشاركه فيه مشارك.

ولهذا فلا يليق بمن أنعم الله عليه بهذه النعم الظاهرة والباطنة أن يكفرها أو أن يجحد إحسان الله عليه بها.

لذا يقول سعدي لمن جحد هذه النعم ولم يؤد شكرها:

"أليس الله هو الذي خلقك فسواك في أحسن تقويم: وركبك تركيباً قوياً معتدلاً في أحسن الأشكال وأجمل الهيئات، فهل يليق بك أن تكفر نعمة المنعم أو تجحد إحسان المحسن. إن هذا إلا من جهلك وظلمك وعنادك وغشمك فاحمد الله إذ لم يجعل صورتك صورة كلب أو حمار أو نحوهما من الحيوانات"2.

ولو تأمل الإنسان في نفسه التي بين جنبيه وما فيها من عجائب صنع الله والتي بدونها يصبح الإنسان جثة هامدة بلا حراك؛ لهدته إلى رب حكيم خبير.

يقول ابن سعدي في تقرير هذا المعنى عند قول الله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} 3.

" وعلى كل حال فالنفس آية كبيرة من آياته التي يحق الإقسام بها فإنها في غاية اللطف والخفة، سريعة التنقل والحركة والتغيير والتأثر، والانفعالات النفسية من الهمة والإرادة والقصد والحب والغضب وهي التي لولاها لكان البدن مجرد تمثال لا فائدة فيه، وتسويتها على ما هي عليه آية من آيات الله العظيمة.

والمقصود أن نفس الإنسان أعظم الأدلة على وجود الله وحده ومن ثم تفرده

1 سورة الانفطار/ الآيتان 6، 7.

2 التفسير 7/583.

3 سورة الشمس/ الآية 7.

ص: 71

بالعبادة، وقد أفلح من طهر نفسه من الذنوب ونقاها من العيوب ورقاها بطاعة الله وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح"1.

دلالة الآفاق:

قال الله تعالى في هذه الدلالة العظيمة: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2.

إذ أن من آيات الله الدالة عليه، دلالة الآفاق وما في هذا الكون من سماء وأرض، وما اشتملت عليه السماء من نجوم وكواكب وما اشتملت عليه الأرض من جبال وأشجار وأنهار وغيرها، مما خلق الله في السموات والأرض.

فلو تأملها الإنسان وتأمل صنيعها وتتقانها لدلته وأرشدته إلى أن هناك خالقاً لهذه الأكوان وأنه عليم حكيم.

قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3.

قال ابن سعدي عند قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ

} : "وقد فعل تعالى فإنه أرى عباده من الآيات ما به تبين أنه الحق، ولكن الله هو الموفق للإيمان من شاء، والخاذل لمن يشاء"4.

وقال في الرياض الناضرة: " فهذا خبره تعالى عن أمور مستقبلة: أنه يرى عباده من الآيات والبراهين في الآفاق وفي الأنفس ما يدلهم على أن القرآن حق والرسول حق وما جاء به حق

"5.

والمقصود أن الدلالات على تفرد الله وحده بالخلق والرزق والإحياء والإماتة كثيرة جداً.

1 التفسير 7/633 بتصرف.

2 سورة فصلت/ الآية 53.

3 سورة الرعد/ الآيات 2، 3، 4.

4 التفسير 6/591.

5 الرياض الناضرة /144.

ص: 72

وإن كثرتها وتعددها يعد من رحمة الله ولطفه بعباده حيث أكثر لهم الطرق الموصلة إليه، فتعالت حكمته وجل شأنه.

وكما قال ابن سعدي رحمه الله: "كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل براهين ودلالات على جميع ما أخبر به عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مدبرات مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها مصرفها فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا هو ولا رب سواه"1.

وقد عقد رحمه الله في كتابه الرياض الناضرة فصلا في الإشارة إلى البراهين العقلية والفطرية على ربوبية الله وإلاهيته.

قال في مقدمته: "وليس القصد في هذا الفصل ذكر الأدلة النقلية عليها فإنها واضحة جلية متقررة عند الخواص والعوام، وهي وحدها كافية وافية بالمقصود معرفة بالله جملة وتفصيلا. ولكن نريد أن نشير إشارة إلى أدلتها وبراهينها العقلية التي يخضع لها كل عاقل منصف، وينكرها كل مستكبر مكابر مباهت...."2.

ثم أخذ يعدد جملة من الأدلة على وجود الله واستحقاقه للعبادة. والأدلة على ذلك كثيرة ففي كل شيء آية تدل على أنه واحد.

ولكثرة دلالات هذا النوع من التوحيد لا تجد أحداً من الخلق ينكره إلا مكابرة وعناداً.

فالمشركون الذين حاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأباح دماءهم وأموالهم كانوا مقرين بهذا التوحيد معترفين لله به شاهدين له بالوحدانية والانفراد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنزال المطر وعلم الغيب وغير ذلك، وقد بين الله سبحانه في القرآن الكريم اعترافهم وإقرارهم بذلك في أكثر من آية.

قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 3.

1 الخلاصة /21.

2 الرياض الناضرة /258 وما بعدها.

3 سورة العنكبوت/ الآيات 61، 62، 63.

ص: 73

وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1.

وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2.

قال ابن كثير رحمه الله: " وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة.

فلا تكتمن الله ما في قلوبكم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم حساب أو يعجل فينقم

فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة...."3.

فالمشركون إذاً مقرون بهذا التوحيد ومعترفون به: ولكن مع ذلك فإن إقرارهم هذا لا ينفعهم لعدم اعترافهم بتوحيد الألوهية وهو توحيد الله بأفعال عبيده.

واستحقوا المحاربة والعداء، بل إن إقرارهم بتوحيد الربوبية يعد حجة عليهم وملزماً لهم بإفراد الله وحده بالعبادة بأنواعها من دعاء ورجاء وخوف وذبح ونذر واستغاثة وغيرها من أنواع العبادة؛ لأن من أقر أن الله هو وحده الخالق الرازق المدبر فإنه يلزمه أن يفرده بالعبادة والتأله والذل.

قال ابن سعدي في تقرير هذه الحقيقة: "والمشركون الذين يتخذون الأنداد مع الله لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق، وإنما يسوونهم به في العبادة فيعبدونهم ليقربوهم إليه"4.

ويقول عند تفسير الآيات المتقدمة التي فيه إقرار المشركين بوحدانية الله في الخلق والرزق والإحياء والإماتة..الخ يقول: "هذا استدلال على المشركين المكذبين بتوحيد الإلهية والعبادة وإلزام لهم بما أثبتوه من توحيد الربوبية، يلزمهم به الإقرار بتوحيد الألوهية"5.

ولذا فإن نصوص القرآن التي جاءت لتقرير توحيد الربوبية يستدل بها على وجوب توحيد الألوهية وإفراده بالعبادة، وقد أوضح ابن سعدي ذلك وبينه في مواضع متعددة

1 سورة الزخرف/ الآية 87.

2 سورة لقمان/ الآية 25.

3 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/436.

4 التفسير 1/195.

5 التفسير 6/104، 6/165، 6/367.

ص: 74

ومن ذلك ما قاله عند قوله الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.

قال: هذه الآية: "جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة ما سواه وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة ما سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير" فهو يرى أن انفراد الله وحده بالخلق والرزق والتدبير دليل واضح على وجوب إفراده بجميع أنواع العبادة؛ لذا قال بعد ما تقدم: " فإذا كان أحد مقراً بأنه ليس له شريك بذلك فعليه الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته" بل إنه يرى أن هذا أوضح دليل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة؛ لذا يقول: "وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري تعالى وبطلان الشرك"2.

وفي الآية المتقدمة نفسها ما يوضح أيضاً أن المشركين مقرون بتوحيد الربوبية حيث يقول سبحانه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله سبحانه: (وأنتم تعلمون) ، يوضح أن المشركين يعلمون أن الله ليس له شريك ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير ولا في الألوهية والكمال، ولكنهم مع ذلك يشركون معه في العبادة.

لذا قال ابن سعدي مخاطباً هؤلاء: "كيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه"3.

والمقصود: أن هذا النوع من التوحيد "توحيد الربوبية" لا يوجد أحد من الخلق ينكره، حتى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية وقال عن نفسه "إنه رب العالمين" يقرر ويعترف بهذا التوحيد، وإنكاره له من قبيل المكابرة والجحود، قال تعالى في بيان ذلك:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 4 أي إنك تعلم يا فرعون أن المنزل لهذه الآيات هو رب السموات والأرض بصائر منه لعباده فإنكارك ليس على الحقيقة بل ترويجا على قومك واستخفافاً لهم.

1 سورة البقرة/ الآيتان 21، 22.

2 التفسير 1/ 57.

3 التفسير 1/58.

4 سورة الإسراء/ الآية 102.

ص: 75

وقال تعالى في بيان ذلك أيضا: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} 1.

قال ابن سعدي: "ليس جحدهم مستنداً إلى الشك والريب، وإنما جحدهم مع علمهم وتيقنهم بصحتها ظلماً منهم لحق ربهم ولأنفسهم، وعلوا على الحق وعلى العباد وعلى الانقياد للرسل"2.

وأيضا إبليس لعنه الله، وهو أضل الخلق على الإطلاق، يقر بهذا التوحيد ويعترف به:{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3.

{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4.

{قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} 5، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

فهو يقر ويعترف بأن الله هو الرب، وأنه الخالق المدبر.

وبالجملة هذا النوع من التوحيد لا ينكره أحد إلا مكابر أو معاند.

كلامه عن ظاهرة الإلحاد والملحدين:

إلا أنه ظهر في الأزمان المتأخرة طائفة خبيثة بلغ بها الزيغ والضلال إلى أن أنكرت وجود الرب، وقالوا إن هذا الكون حدث من قبيل الصدفة، وليس له خالق ولا موجد، فضلوا بذلك ضلالاً مبيناً، وهؤلاء هم الماديون الملحدون.

وقد تصدى لهم علماء الإسلام فأنكروا باطلهم وبينوا ضلالهم، في مؤلفات كثيرة، ومن أبرز من كتب فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث نقض ما قعدوا من قواعد وهدم ما أصلوا من أصول وبين عوارهم وزيغهم، وبعدهم عن الصراط المستقيم.

ومن جملة من كتب في هؤلاء وأجاد الشيخ ابن سعدي حيث إنه تناول هذه الطائفة الخبيثة في مؤلفاته، وأظهر زيغها وفساد معتقدها.

قال رحمه الله في التعريف بهذه الطائفة:

"وقد نبغت في هذه الأزمان المتأخرة فرقة خبيثة، هم من أضل الخلق وأجهلهم

1 سورة النمل/ الآية 14.

2 التفسير 5/565، 566.

3 سورة الحجر/ الآية 36.

4 سورة الحجر/ الآية 39.

5 سورة الإسراء/ الآية 61.

ص: 76

وأعظمهم غروراً، وهم الماديون الملحدون"1.

وبين أن سبب ضلالهم هو ما أوغلوا فيه من علوم الطبيعة فقال إنهم "

اغتروا لما عرفوا بعض العلوم الطبيعية ووقفت عقولهم عندها، وقالوا لا نثبت إلا ما وصلت إليه معارفنا وعقولنا وما سوى ذلك ننفيه ولا نعترف به"2.

فأنكروا بذلك خالق الكون ومسخره، ونسبوا الخلق والإيجاد والتصرف إلى الطبيعة، وقالوا لا نؤمن إلا بالأشياء المادية المحسوسة.

وقد وضعوا لباطلهم هذا أصولاً يمشون عليها ويقلد بعضهم بعضاً فيها، وهذه الأصول كلها في غاية الضعف والفساد، قال عنها ابن سعدي رحمه الله:"وهي في غاية الفساد، يكفي اللبيب مجرد تصورها عن إقامة البراهين على نقضها، لكونها مناقضة للعقل والنقل ولكنهم زخرفوها وروجوها فانخدع بها أكثر الخلق"3.

وقد بين ابن سعدي رحمه الله أن عندهم أصولاً كثيرة يبنون عليها عقائدهم وأن هذه الأصول ترجع إلى أصل خبيث فاسد، وبين مصدره.

فقال: "وأعظمها عندهم أصل خبيث منقول عن معلمهم الأول أرسطو اليوناني المعروف بالإلحاد والجحد لرب العالمين

وهو أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية فليمح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات، وليسع في إزالتها من قلبه بحسب مقدوره، وليشك في الأشياء، ثم ليكتف بعقله وخياله ورأيه.

وكملوا هذا الأصل الخبيث بحصرهم للمعلومات بالمحسوسات، وما سوى ما أدركوه بحواسهم نفوه"4.

ثم بين أن هذا الأصل أفسد عليهم علومهم وعقولهم وأديانهم، وذكر أن العلماء بينوا بطلان أصولهم، وأن من أبلغ من كتب في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.

ثم إنه رحمه الله قد اهتم ببيان فساد هذا الأصل اهتماماً كبيراً وأطال في نقضه وإظهار بطلانه.

قال: "إن هؤلاء الملحدين حصروا العلوم المدركة في دائرة ضيقة، فما أدركوه بحواسهم وتجاربهم أثبتوه، وما لم يدركوه بذلك نفوه وأنكروه فأنكروا من أجل ذلك علوم

1 الخلاصة/105، 106، والخلاصة/190، 191.

2 الفتاوى السعدية/46.

3 الأدلة القواطع/3.

4 الأدلة القواطع /4.

ص: 77

الغيب كلها وجحدوا ربوبية الله وأفعاله وعطلوه من صفاته وأفعاله إذ لم يدخل ذلك تحت مداركهم القاصرة وهذا باطل شرعاً وعقلاً:ـ

أما الشرع: فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل تبطل قولهم وحصرهم العلوم بمدركات الحس الظاهرة، ونفيهم لما عداها، وتثبت بالبراهين اليقينية من علوم الغيب ومن العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي من الحقائق النافعة الصحيحة والمعارف الصادقة مالا نسبه لعلومهم كلها إليها من أولها إلى آخرها.......

وأما العقل: فجميع العقلاء المعتبرين يثبتون للعلوم مدارك غير مدارك الحس، فإن مدارك العلوم: الحس والعقل والأخبار الصادقة فالأخبار الصادقة أعلاها وأصدقها وأحقها بالحق خبر الله وخبر رسله وفي ذلك تبيان لكل شيء، وهدى للخلائق وتوضيح للحقائق"1.

ويرى رحمه الله أن أعظم حل لهذه المشاكل وغيرها، معرفة دين الإسلام والعمل به؛ لأنه بطبيعته وبراهينه وآياته يضمحل أمامه كل باطل، وخصوصاً أقبح الباطل وأشنعه وأشره منافاة للدين والعقل وهو الإلحاد.

بل إنه رحمه الله يرى أن التماس الحلول لمثل هذه المشاكل من غير الحلول الإسلامية التي تبنى على الكتاب والسنة أمر لا يجدي ولا ينفع بل يزيد في المشكلة حيث يقول:

"ما من مشكلة كبيرة ولا صغيرة، إلا إذا بنيت على الشريعة الإسلامية المحضة تمت أمورها واستقامت أحوالها وصلحت من جميع الوجوه"2.

وأحكام الشريعة في غاية القوة والرصانة وشاملة لجميع المشاكل وليست بحاجة إلى حلول مستوردة لما يجد من حوادث بل لا يمكن إصلاح الأمور إلا بها بخلاف غيرها من القوانين.

لذلك فإنه قام بمعالجة مشكلة الإلحاد على ضوء الكتاب والسنة، واهتم بمعالجة هذه المشكلة اهتماماً كبيراً، ومما يؤكد اهتمامه بها، أنه إضافة إلى تناوله لعلاجها ضمن كتبه، فقد أفرد فيها رسالة خاصة سماها:"الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين".

وقد أجاد رحمه الله في هذه الرسالة الرد على هؤلاء الملحدين، حيث تناول الرد

1 الأدلة القواطع / 14، 15.

2 الأدلة القواطع /14، 15.

ص: 78

عليهم وبيان زيغهم من ثلاثة وثمانين وجهاً، اختار جملة منها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، الذي ظهر تأثره بهما على مؤلفاته كما مر معنا في المقدمة.

وكانت ردوده عليهم في غاية القوة والرصانة، ولجودتها ورصانتها استحقت أن توصف هذه الردود وهذا الكتاب بأنه "نازل جميع طوائف الملحدين وتحداهم وأبطل أصولهم وفند مآخذهم وهدم قواعدهم وزلزل بنيانهم وبين مخالفتهم للعقل والفطرة كما خالفوا جميع الأديان الصحيحة"1.

وهذه نماذج من هذه الأوجه التي رد بها الشيخ على هؤلاء الملحدين. وأكثرها خاصة بأصلهم الفاسد المتقدم ذكره وهو:

ـ "أنه من أراد الشروع في المعارف الإلهية فليمح من قلبه جميع العلوم والاعتقادات....."2.

ذكر بعض هذه الأوجه:-

ـ "أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله به رسله وأنزل كتبه فإنه بعث رسله مذكرين للعباد ما فطروا عليه من الإقرار بوحدانية الله ووجوب شكر نعمه، وافتراض الحب الكامل والتعظيم التام لله المتفضل بالنعم الظاهرة والباطنة، ومذكرين لهم بالأمر بما فطرت العقول على استحسانه كالصدق والبر والإحسان والأخلاق الجميلة، وبالنهي عما فطرت العقول على استقباحه من الكذب والظلم والعدوان وجميع الأخلاق الرذيلة، فكيف يؤمر الناس أن يمحوا من قلوبهم وفطرهم هذه الأمور؟

وهل هذا إلا نهي عن جميع مواد السعادة والفلاح والصلاح، وأمر بكل منكر وفحشاء وسوء وشر وفساد؟

وفي هذا من تقويض دعائم الخير والصلاح، والاستبدال بها أصول الشر والفساد والفوضى في العلوم والعقائد والأخلاق، ما لا منتهى لشره وضرره"3.

ـ"إن المقصود الأعظم من تأصيل هذا الأصل الخبيث الكفر بما جاءت به الرسل والانحلال عنه وإلا فأهله من أكذب الناس فإنهم متمسكون غاية التمسك بما عليه أئمتهم الملحدون، وأقوالهم وعقائدهم مقدمة عندهم على ما جاءت به الرسل ويتعصبون لها غاية التعصب، فلو كانوا صادقين محقين لوجب عليهم أن يمحوا من قلوبهم أقوال أئمتهم وعقائدهم التي ما زالوا متمسكين بها ومقلدين لها تقليداً أعمى،

1 الأدلة القواطع والبراهين/87.

2 الأدلة القواطع والبراهين/4.

3 الأدلة القواطع والبراهين/7.

ص: 79

فالغرض من كلامهم معروف وهو قصدهم الانحلال من الدين الصحيح والتمسك بأقوال هؤلاء الضالين"1.

ـ "أن يقال لهؤلاء الملحدين المنكرين لأمور الغيب التي أخبر الله بها ورسوله لم أنكرتموها؟

فيجيبون بأنها لم تدخل تحت علومنا التي بنيناها على إدراكات الحواس والتجارب، فيقال لهم: قدروا أنها لم تدخل في ذلك فإن طرق العلوم اليقينية كثيرة، وأكثرها لا تدخل تحت إدراكاتكم، فإن إداركاتكم قاصرة حتى باعترافكم فإنكم تعترفون أن مدركاتكم خاصة ببعض المواد الأرضية وأسبابها وعللها ومع ذلك لم تدركوها كلها، باعترافكم وأعمالكم فإنكم لا تزلون تبحثون وتعلمون التجارب التي تنجح مرة وتخفق مرات"2.

هذه بعض الأوجه التي رد بها الشيخ على هؤلاء الملحدين، ولقد أطال في ذكر الردود عليهم وبيان زيغهم، وإن رغب القارئ في الاستزادة منها فليراجع كتابه العظيم "الأدلة القواطع والبراهين في إبطال أصول الملحدين".

وفي الحقيقة إن كتابه هذا ظاهر الأهمية؛ لجودة مادته ولشدة الحاجة إليه في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة؛ وكثر فيه الإلحاد.

رده على القصيمي في إلحاده، وإنكاره لوجود الرب:

إن هذه الدعوة الإلحادية التي تدعو إلى الإباحية والتحلل الخلقي، وإنكار وجود الرب ونسبة الخلق والتصرف إلى الطبيعة، مع ظهور بطلانها وجلاء نكارتها، فإنها قد راجت على بعض أبناء المسلمين وافتتنوا بها واغتروا ببهرجتها فمالوا إليها وأصبحوا من دعاتها. وهذا غاية الانتكاس والخسران والعياذ بالله.

إذ أن التحول من الهدى إلى الضلال ومن النور إلى العمى ومن الإيمان إلى الكفر، يعد من أكبر الانتكاس والخسران، ولا سيما إذا كان من أحد العلماء العاملين الداعين إلى الله.

وهذا ما حصل من عبد الله القصيمي الذي كان من الدعاة البارزين ومعروفاً بالعلم والانحياز لمذهب السلف الصالح وكانت تصانيفه مشحونة بنصر الحق والرد على المبتدعين والملحدين، وكانت له عند الناس سمعة حسنة وذكر طيب3.

1 الأدلة القواطع والبراهين/11

2 الأدلة القواطع والبراهين /24.

3 بيان الهدى من الضلال للسويح/5، وتنزيه الدين/3.

ص: 80

بعد ذلك كله انقلب رأسا على عقب فصار عدواً للإسلام، فأصبح يرى أن الدين سبب لتأخر المسلمين وضعفهم، وصار الدين عنده كالأغلال التي تعوق الإنسان عن مراده، وزاد على ذلك فأنكر الخالق وزعم أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق وأن من فرق بينهما من الأنبياء والرسل وأهل الأديان غالط ضال.

وزعم أن الطبيعة تتفاعل وتتطور وتدبر أمر العالم وتدبره وتنظم الأمور الجليلة والدقيقة، وأنكر قضاء الله وقدره، وأرجع ذلك إلى العلم بانتظام الطبيعة وهذا إنكار منه لله ولأفعاله ولصفاته1.

وأنكر الرسالة والمعاد والملائكة والجن وسخر من علماء المسلمين، وأخذ يدعو إلى الإباحية والتحلل والانسلاخ من الدين، ويمدح الأوربيين والمستعمرين لبلاد الإسلام ويدعو إلى تعظيمهم وإدخالهم في البلاد الإسلامية2.

إلى غير ذلك من الترهات والضلالات التي أخذ يدعو إليه ويروجها، والتي ألف من أجل نشرها كتابه "هذي هي الأغلال". ويقصد بالأغلال أوامر الله ونواهيه والتمسك بالدين الإسلامي إذ أن هذا عنده أعظم الأسباب لتخلف المسلمين وتأخرهم الحضاري، وعلى العكس من ذلك يرى أن سبب تقدم الغرب هو تحللهم من الدين والقيم والأخلاق، وهذا غاية البهت والضلال والانحراف.

لذا فإنه قام جماعة من علماء المسلمين أمام ضلاله، وبينوا للناس زيغه وانحلاله، وبينوا كذبه وافتراءه وفساد ما يدعو إليه من عقائد منحرفة، وقيم منحطه فظهرت مؤلفات عديدة في الرد عليه لعدد من العلماء.

منها: بيان الهدى من الضلال في الرد على صاحب الأغلال، للشيخ إبراهيم بن عبد العزيز السويح، ومنها: الرد القويم على ملحد القصيم للشيخ عبد الله بن علي بن يابس.

ومن هؤلاء العلماء الذين قاموا بالرد عليه الشيخ ابن سعدي؛ إذ ألف في ذلك رسالته القيمة "تنزيه الدين وحملته ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله".

قال رحمه الله في مقدمتها "أما بعد: فإني قد وقفت على كتاب صنفه عبد الله بن علي القصيمي سماه " هذي هي الأغلال" فإذا هو محتو على نبذ الدين والدعاية إلى نبذه والانحلال عنه من كل وجه"3.

1 تنزيه الدين:6، 7.

2 الرد القويم لابن يابس/9.

3 تنزيه الدين/2.

ص: 81

ثم ذكر سبب تأليفها فقال "فوجب على كل من عنده علم أن يبين ما يحتوي عليه كتابه من العظائم خشية اغترار من ليس له بصيرة بكلامه". ثم ذكر مجمل ما في كتاب الأغلال من الضلال والانحراف وما فيه من الآراء الباطلة. ثم بعد ذلك تناول الرد عليه في هذه الآراء الباطلة والعقائد الفاسدة على وجه التفصيل.

ومن ردوده عليه في قضية الإلحاد قوله بعد أن ذكر رأي صاحب الأغلال في أن المصائب تحدث من الطبيعة وأن الإيمان بالله وباليوم الآخر يمنع الرقي.

"وقول وصل إلى هذا الحد ليس بعده تقدم إلى الكفر، وإنما هو النهاية في الكفر والتعطيل والجحود لرب العالمين والخروج من الديانات السماوية كلها وهو غاية الخروج من العقل والحس، فإن قضية الإيمان بالله ورسوله هي أكبر القضايا وأعظمها وأوضحها"1.

والمقصود أن ابن سعدي اهتم بقضية هذا القصيمي وانحلاله ورد عليه رداً علمياً هادفاً، يقصد من ورائه بيان زيغ هذا الرجل وإلحاده؛ لكي لا يغتر أحد من المسلمين به، وهذا من نصحه واهتمامه رحمه الله بمسألة العقيدة والذود عن حماها.

ومن مؤلفاته في الرد على هؤلاء الملحدين وبيان انحطاط ما هم عليه من معتقد فاسد، رسالة صغيرة سماها "انتصار الحق" وهي على صغر حجمها نافعة عظيمة لأنه تناول فيها معالجة مشكلة الإلحاد على طريقة الحوار بين شخص مسلم وبين شخص مفتتن بالإلحاد فسمى الأول الناصح والثاني المنصوح.

ومما في هذه الرسالة القيمة قوله رحمه الله "قال المنصوح

أريد أن توضح لي توضيحاً تاماً بطلان ما عليه هؤلاء الملحدون فإنهم يقيمون الشبه المتنوعة في ترويج قولهم ليغتر به من لا بصيرة له.

فقال الناصح: اعلم أن الحق والباطل متقابلان وأن الخير والشر متنافيان، وبمعرفة واحدٍ من الضدين يظهر حسن الآخر أو قبحه

إلى أن قال: "فهذا الدين الحق الذي دعت إليه الرسل عموماً وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم خصوصاً قد بنى وأسس على التوحيد، والتأله لله وحده لا شريك له حباً وخوفاً ورجاء وإخلاصاً وانقياداً وإذعاناً لربوبيته واستسلاماً لعبوديته قد دل على هذا الأصل الذي هو أكبر جميع أصول الأدلة العقلية والفطرية، وقد دلت عليه جميع الكتب السماوية وقرره جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم من أهل العلوم الراسخة الألباب الرزينة

1 تنزيه الدين/13.

ص: 82

والأخلاق العالية والآداب السامية كل أولئك اتفقوا على أن الله منفرد بالوحدانية منعوت بكل صفة كمال موصوف بغاية الجلال والعظمة والكبرياء والجمال، وأنه الخالق والرازق المدبر لجميع الأمور، وأنه منزه عن كل صفة نقص وعن مماثلة المخلوقين، وأنه لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر إلا هو، فالدين الإسلامي على هذا الأصل أسس وعليه قام واستقام.

وأما ما عليه أهل الإلحاد فإنه ينافي هذا الأصل غاية المنافاة فإنه مبني على إنكار الباري رأساً، فضلاً عن الاعتراف له بالكمال وعن القيام بأوجب الواجبات وأفرض الفروض وهو عبوديته وحده لا شريك له، فأهل هذا المذهب أعظم الخلق مكابرة وإنكاراً لأظهر الأشياء وأوضحها فمن أنكر الله فبأي شيء يعترف؟ "فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون" وهؤلاء أبعد الناس عن عبودية الله والإنابة إليه وعن التخلق بالأخلاق الفاضلة التي تدعو إليها الشرائع وتخضع لها العقول الصحيحة، ومع خلو قلوبهم من توحيد الله والإيمان به وتوابع ذلك فهم أجهل الناس وأقلهم بصيرة ومعرفة بشريعة الإسلام وأصول الدين وفروعه"1.

وبهذه المقارنة بين ما عليه المؤمنون الموحدون وبين ما عليه أهل الإلحاد الكافرون، يظهر لكل صاحب بصيرة أن الفرق كبير والبون شاسع بين الفريقين {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} 2.

{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} 3.

ويظهر أيضاً لكل عاقل بطلان ما عليه هؤلاء الملاحدة، وأنهم في عماية وضلال وبعد عن الحق.

والمقصود أن مشكلة الإلحاد من أخطر المشاكل المعاصرة، وتحتاج إلى جهد من العلماء وتصد لها لإظهار بطلانها لكي لا تنطلي على أصحاب النفوس الضعيفة.

ولقد أعجبني الشيخ ابن سعدي رحمه الله باهتمامه بهذه المشكلة ومعالجته لها في كثير من مؤلفاته.

وهنا تظهر لنا فائدة هامة، تتعلق بمنهج الشيخ ابن سعدي في العقيدة.

وهي أن اهتمام السعدي بمعالجة مشكلة الإلحاد والملحدين يوضح لنا أن منهجه

1 انتصار الحق/10، 11، 12.

2 سورة الرعد/ الآية 19.

3 سورة الرعد/ الآية/ 16.

ص: 83

في العقيدة يمتاز بالشمول كما هو حال السلف الصالح في ذلك أي أنهم يتناولون في خدمتهم للعقيدة تأصيل القواعد، وشرح الأصول، والرد على المخالفين وإن كانوا من الماديين الملحدين المنكرين لوجود الرب سبحانه وغيرهم.

وهذا يبين لنا عدم صحة قول من يقول إن السلف ومن سار على نهجهم لا يهتمون بالرد على الملحدين والشيوعيين وغيرهم، وإنما كلامهم قاصر على توضيح توحيد الأسماء والصفات.

فقد ظهر لك أيها القارئ: أن الشيخ ابن سعدي ومن قبله ابن تيمية قد تناولوا مثل هذه المشاكل وبينوا فسادها وضلالها كما تناولوا غيرها.

فليس ردهم قاصراً على طائفة معينة أو فرقة معينة، وإنما ردهم شامل لكل من خالف عقيدة التوحيد، وهذا هو المنهج الحق الذي يجب أن يسار عليه.

والخلاصة من كل ما تقدم هو ما قاله رحمه الله "إن جميع أهل الأديان من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم حتى المشركين متفقون على إثبات ربوبية الله وأنه الأول الذي ليس قبله شيء الخالق لكل شيء الرازق المدبر لكل شيء، وأئمتهم في هذه الأنبياء والمرسلون، وأهل الهدى من العلماء الربانيين أهل العلوم الغزيرة والمعارف الصافية، الأولين منهم والآخرين على هذا الأصل العظيم متفقون، على علم وبصيرة ويقين قد اطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت نفوسهم به وصار في قلوبهم أكبر الحقائق وأصحها وأوضحها وخالفهم من هذا شرذمة من زنادقة الدهريين الذين يقولون {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} 1.

وسلك سبيلهم زنادقة الماديين، وهم لم ينكروا ذلك عن علم دلهم عليه ولا سمع ولا عقل ولا فطرة، إنما هو مجرد استبعادات وجحود ومكابرات"2.

وليست المشكلة في هؤلاء الملحدين إنكارهم لوجود الرب فقط بل إنهم لو اعترفوا بوجوده فإن ذلك لا يكفي في دخولهم الإسلام بل تصبح حالهم كحال المشركين الذين حاربهم الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك يقول ابن سعدي: "إن كل برهان أبطل الله به الشرك وقرر به التوحيد فهو برهان على بطلان الإلحاد والجحود؛ لأن المشركين يعترفون بالله ويعلمون أنه الخالق الرازق المدبر، ولكنهم يشركون في عبادتهم فيعبدون الله ويعبدون غيره"3.

1 سورة الجاثية/ الآية 24.

2 الأدلة القواطع والبراهين/80.

3 الأدلة القواطع والبراهين/65.

ص: 84

والمقصود أن من اعترف بوجود الله من غير إفراد له بالعبادة ومن غير إقرار بأسمائه الحسنى فإن إيمانه بوجود الله لا ينفعه، بل لا بد مع الإقرار أن يجرد التوحيد لله وحده، وسيأتي بيان ذلك في توحيد الألوهية.

القضاء والقدر:

إن الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، كما جاء في حديث جبريل"وأن تؤمن بالقدر خيره وشره"1.

وقد دل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر نصوص كثيرة.

قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 2.

وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3.

وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 4.

وقال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} 5.

والإيمان بالقضاء والقدر داخل في الإيمان بربوبية الله على خلقه إذ أن من آمن بأن الله هو الخالق المدبر المتصرف في شؤون خلقه كلها فهو مؤمن بالقضاء والقدر.

وقد أشار ابن سعدي إلى دخول الإيمان بالقضاء والقدر في الإيمان بربوبية الله.

فبعد أن عرف توحيد الربوبية بأنه اعتقاد انفراد الرب بالخلق والرزق والتدبير قال: " فدخل في توحيد الربوبية إثبات القضاء والقدر، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه على كل شيء قدير وأنه الغني الحميد وما سواه فقير إليه من كل وجه"6.

وقال: "ولا يتم توحيد الربوبية حتى يعتقد العبد أن جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وأن مشيئتهم تابعة لمشيئة الله، وأن لهم قدرة وإرادة تقع بها أفعالهم، وهي متعلقة بالمدح والذم والأمر والنهي والثواب والعقاب، وأنه لا يتنافى الأمران: إثبات

1 أخرجه مسلم 1/37، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

2 سورة القمر/ الآية 49.

3 سورة الحديد/ الآية 22.

4 سورة التوبة/ الآية 51.

5 سورة الأحزاب/ الآية 38.

6 الفتاوى السعدية/11.

ص: 85

مشيئة الله العامة الشاملة للذوات والأفعال والصفات. وإثبات قدرة العبد على أفعاله وأقواله"1.

ونظراً لدخول إثبات القضاء والقدر في توحيد الربوبية، فقد جعلت الحديث عنه عقب الحديث عن توحيد الربوبية.

وقد تحدث ابن سعدي عن مسألة القضاء والقدر كثيراً، وأفرد فيها رسالة خاصة شرح فيها قصيدة ابن تيمية التائية في الرد على القدرية، وبين مراتب القدر، وذكر أقوال الناس فيه، وأيد مذهب أهل السنة والجماعة بالأدلة والبراهين، وبين بطلان أقوال الطوائف المنحرفة، وبين أن أفعال العباد مخلوقة وأنهم فاعلون لها بمشيئتهم وقدرتهم إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالإيمان بالقضاء والقدر.

وحديثنا هنا سيتناول عدة جوانب وهي:-

(1)

بيان ابن سعدي أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع من فعل الأسباب.

(2)

بيانه لمراتب القدر.

(3)

تقسيمه للطوائف المنحرفة في القدر ورده عليهم.

(4)

بيانه لمذهب أهل السنة والجماعة في القدر وتأييده له بالأدلة.

أولا: بيان ابن سعدي أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع من فعل الأسباب:

وهذه مسألة هامة غلط فيها كثير من الناس، حيث توهموا أن فعل الأسباب وتعاطيها ينافي التوكل والاعتماد على الله، وينافي الإيمان بالقضاء والقدر. وفهموا أن الإيمان بالقضاء والقدر يعني الخمول وترك فعل الأسباب.

وهذا غلط بين وهو ناتج من عدم فهم الإيمان بالقضاء والقدر على الوجه المطلوب وقد وضح ابن سعدي هذه المسألة وبينها بياناً فقال: "الإيمان بالقدر يتفق مع الأسباب، فمباشرة الأسباب والاجتهاد في الأعمال النافعة يحقق للعبد تمام الإيمان بالقضاء والقدر، فإن الله قدر المقادير بأسبابها وطرقها، وتلك الأسباب والطرق هي محل حكمة الله فإن الحكمة: وضع الأشياء مواضعها وتنزيل الأمور منازلها اللائقة بها. فقضاء الله وقدره وحكمته متفقات. كل واحد منها يمد الآخر ولا يناقضه.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل وقيل له يا رسول الله، أرأيت رقي نسترقيها،

1 الفتاوى السعدية/12.

ص: 86

وأدوية نتاداوى بها وتقاه نتقيها، هل ترد قضاء الله وقدره؟ فقال:"هي من قضائه وقدره"1.

فهذه الأسبابُ حسية ومعنوية روحانية حُمْية عما يضر، وهي في مقدمة الأسباب.

وأخبر صلى الله عليه وسلم أنها من قضاء الله وقدره، فمن زعم أنه مؤمن بالقدر وترك الأسباب النافعة الدينية والدنوية التي عليها نظام القدر فهو غالط.

فإن المؤمن بالقدر يجري على أحكامه ويعمل على سنته ونظامه، ويتبع النافع في أحكامه وإبرامه والله المعين الموفق.

وتوضيح ذلك أن أقدار الله كلها تابعة لحكمته، فكما أن أفعاله تعالى محكمة في غاية الإحكام والانتظام ما ترى في خلق الرحمن من خلل ولا نقص ولا فطور ولا اختلال ولا في شرعه من عبث وسفه ومنافاة للحكمة والمصلحة والإحسان، فكذلك أفعال المكلفين دينيها ودنيويها، ظاهرها وباطنها كلها تجري على وفق الحكمة والغايات الحميدة، وأنه كلما عظم المقصود وكثرت منافعه ومصالحه لم يمكن إدراكه إلا بسلوك الطرق المفضية إليه.

فأعظم المقاصد على الإطلاق نيل رضا الله، والفوز بثوابه والسلامة من عقابه وقد جعل الله له الإيمان وشعبه الظاهرة والباطنة والقيام بعبودية الله وإخلاص الدين له، ولزوم الاستقامة والتقوى جعلها الله طرقاً وأسباباً توصل إليه.

فما يسلك العبد هذا السبيل فمحال أن يصل إلى رضوان ربه وثوابه، فاتكال الأحمق على القدر بدون جد واجتهاد، قدح في القدر والشرع جميعاً.

وكذلك المطالب الأخرى كنيل العلم وإدراكه هل يمكن بغير جد واجتهاد ومواصلة الأوقات في طلبه وسلوك الطرق المسهلة له؟

فمن قال: إن قدر لي أدركت العلم، اجتهدت أم لا، فهو أحمق كما قال بعضهم2.

تمنيت أن تمسي فقيها مناظراً

بغير عناء والجنون فنون

وليس اكتساب المال دون مشقة

تلقيتها فالعلم كيف يكون

1 أخرجه أحمد 3/421، وابن ماجه 2/1137، والترمذي 4/400، وقال حديث حسن صحيح، والحاكم 4/199، كلهم من حديث أبي خزامة عن أبيه، وأخرج نحوه الحاكم 4/199، 402، عن حكيم بن حزام، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

2 القائل للبيتين هو: أبو بكر أحمد بن محمد الدينوري الحنبلي، انظر الآداب الشرعية لابن مفلح /1/244

ص: 87

وهكذا من ترك الزواج وقال: إن قدر لي أولاد حصلوا، تزوجت أو تركت. ومن رجا حصول ثمر أو زرع، بغير حرث وسقي وعمل متكلا على القدر فهو أحمق مجنون.

وهكذا سائر الأشياء دقيقها وجليلها، فعلم أن القيام بالأسباب النافعة واعتقاد نفعها داخل بقضاء الله وقدره، دون الإخلاد إلى الكسل، والسكون مع القدرة على الحركة هو الجنون1.

وقد عقد ابن سعدي في كتابه الرياض الناضرة فصلاً خاصاً بذلك، وهو الفصل الثالث والعشرون في الجمع بين إثبات عموم القدر وإثبات الأسباب.

قال فيه: "....ويظن كثير من الناس أن إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر. وهذا غلط فاحش جداً وهو عائد على القدر بالإبطال وهو إبطال أيضاً للحكمة.

وكأن هذا الظان يقول ويعتقد: أن الإيمان بالقدر هو اعتقاد وقوع الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية.

وهذا نفي للوجود لها فإن الله ربط الكون بعضه ببعض، ونظم بعضه ببعض، وأوجد بعضه ببعض.

فهل تقول ـ يأيها الظان جهلاً ـ أن الأولى إيجاد البناء من دون بنيان وإيجاد الحبوب والثمار والزروع من دون حرث وسقي وإيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح وإدخال الجنة من دون إيمان وعمل صالح، وإدخال النار من دون كفر ومعصية؟

بهذا الظن والتقدير أبطلت القدر وأبطلت معه الحكمة، أما علمت أن الله بحكمته وكمال قدرته جعل للمسببات أسباباً وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها، وقرر هذا في الفطر والعقول، كما قرره في الشرع، وكما نفذه في الواقع، فإنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلق له من أصناف السعي والحركة والتصرفات المتنوعة، وبنى أمور الدنيا والآخرة على ذلك النظام البديع العجيب الذي شهد أولا لله بكمال القدرة وكمال الحكمة، وأشهد العباد ثانيا: أن بهذا التنظيم والتيسير والتصريف وجه العاملين إلى أعمالهم ونشطهم على أشغالهم.

فطالب الآخرة: إذا علم أنها لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وترك ضدها جد واجتهد في تحقيق الإيمان، وكثرت تفاصيله النافعة واجتهد في كل عمل صالح

1 الفتاوى السعدية/32-35، بتصرف يسير.

ص: 88

يوصله إلى الآخرة واجتنب في مقابل ذلك الكفر والفسوق والعصيان، وبادر للتوبة من كل ما وقع منه من ذلك.

وصاحب الحرث إذا علم أنه لا ينال إلا بحرث ويسقي وملاحظة تامة جداً واجتهد في كل وسلية تنمي حرثته وتكملها، وتدفع عنها الآفات

واصل ابن سعدي ضرب الأمثلة على ذلك ثم قال:

وفي خلقه تعالى الأشياء بأسبابها من الحكمة والمنافع والأسرار ما لا يدركه الوصف.

وهذا من الأمور الجلية والحقائق الواضحة التي فطرت الخليقة كلها ـ حتى الحيوان البهيم ـ عليها"1.

وقال في شرحه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"2.

"وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بين الإيمان بالقضاء والقدر والعمل بالأسباب النافعة، وهذان الأصلان دل عليهما الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، ولا يتم الدين إلا بهما بل لا تتم الأمور المقصودة كلها إلا بهما؛ لأن قوله: "احرص على ما ينفعك" أمر بكل سبب ديني ودنيوي بل أمر بالجد والاجتهاد فيه، والحرص عليه نية وهمة وفعلاً وتدبيراً. وقوله: "واستعن بالله" إيمان بالقضاء والقدر، وأمر بالتوكل على الله الذي الاعتماد التام على حوله وقوته تعالى في جلب المصالح، ودفع المضار مع الثقة التامة بالله في نجاح ذلك.

فالمتبع للرسول صلى الله عليه وسلم يتعين أن يتوكل على الله في أمر دينه ودنياه وأن يقوم بكل سبب نافع بحسب قدرته وعلمه ومعرفته"3

ثانيا: بيانه لمراتب القدر:

إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يتم إلا بمعرفة مراتبه الواردة في الكتاب والسنة، ودل الكتاب والسنة على أن للقدر أربع مراتب.

1 الرياض الناضرة/164-167.

2 أخرجه مسلم 4/2052.

3 بهجة قلوب الأبرار/41، وانظر الدرة البهية/38.

ص: 89

وهي:

(1)

علم الله المحيط بكل شيء.

(2)

كتابه الذي اشتمل على كل ما سيكون.

(3)

ومشيئته وقدرته العامة على كل شيء.

(4)

إيجاده لجميع المخلوقات.

وقد اعتنى ابن سعدي في مؤلفاته ببيان هذه المراتب وتوضيحها وذكر أدلتها.

قال رحمه الله: "مراتب القضاء والقدر أربعة لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتكميلها، الإيمان بأنه بكل شيء عليم وأن علمه محيط بالحوادث دقيقها وجليلها، وأنه كتب ذلك باللوح المحفوظ، وأن جميعها واقعة بمشيئته وقدرته ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مع ذلك مكن العباد من أفعالهم فيفعلون اختياراً منهم بمشيئتهم وقدرتهم كما قال تعالى:

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} 1.

وقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2"3.

وقال في تفسيره لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4.

"....وفي هذه الآية دليل على أن الكتاب الأول قد حوى جميع الكائنات وهذا أحد مراتب القضاء والقدر فإنها أربع:

علم الله الشامل لجميع الأشياء، وكتابه المحيط بجميع الموجودات ومشيئته وقدرته العامة النافذة في كل شيء، وخلقه لجميع المخلوقات حتى أفعال العباد"5.

ثالثا: تقسيمه للطوائف المنحرفة في القدر ورده عليهم:

قسم ابن سعدي الطوائف المنحرفة في القضاء والقدر إلى ثلاثة أقسام:

1ـ قدرية نفاة.

2ـ وقدرية مجبرة.

3ـ وقدرية مشركون.

1 سورة الحج/ الآية 70.

2 سورة التكوير/ الآيتان 28، 29.

3 سؤال وجواب/15.

4 سورة الأنعام/ 38.

5 التفسير 2/396.

ص: 90

قال رحمه الله: "القدرية ثلاث طوائف: قدرية نفاه، وقدرية مجبرة، وقدرية مشركون.

فأما القدرية النفاة: فهم الذين يطلق عليهم أكثر العلماء اسم "القدرية" وحقيقة مذهبهم أنهم يقولون:

"إن أفعال العباد وطاعتهم ومعاصيهم لم تدخل تحت قضاء الله وقدره" فأثبتوا قدرة الله على أعيان المخلوقات وأوصافها، ونفوا قدرته على أفعال المكلفين.

وأما الطائفة الثانية: فهم الجبرية الذين يقال لهم "القدرية المجبرة" فزعم هؤلاء: "إن عموم مشئية الله وعموم إرادته يقتضي أن العبد مجبور على أفعاله لا قدرة له على شيء من الطاعات ولا على ترك المعاصي، ومع أنه لا قدرة له على ذلك عندهم، فهو مثاب معاقب على ما لا قدرة له عليه.

وأما الطائفة الثالثة: فهم القدرية المشركون الذين اعتذروا عن شركهم وتحريمهم ما أباح الله بالمشيئة1.

وقد بين ابن سعد ضلال هؤلاء وشناعة أقوالهم المتقدمة، قال:"فهذه الطوائف الثلاث هم خصماء الله في قضائه وقدره، منهم من نفاه ومنهم من غلا فيه غلواً أوقعه في الباطل"2.

وتناول ابن سعدي جميع أقوال هذه الطوائف بالرد، وفند شبههم ورد عليها وبين ضلالهم وبعدهم عن الصراط المستقيم.

فقال في ردوده على الطائفة الأولى وهم القدرية النفاة القائلون: "بأن أفعال العباد غير داخلة تحت مشيئة الله وقدرته".

"وهم بهذا القول الباطل ردوا نصوصاً كثيرة من الكتاب والسنة تثبت وتصرح أن جميع أعمال العباد من خير وشر وطاعة ومعصية بقضاء الله وقدره كما أجمع المسلمون أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"3.

وهذه النصوص المبطلة لقول هؤلاء التي أشار ابن سعدي لكثرتها. قد تعرض لأكثرها في تفسيره للقرآن وبين وجه دلالتها على بطلان قول هؤلاء وفيما يلي أسوق بعض هذه النصوص مع تفسيره لها.

1 الدرة البهية /16- 24 بتصرف.

2 الدرة البهية /24.

3 الدرة البهية /17 بتصرف يسير.

ص: 91

قال تعالى في غير موضع من كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1.

قال ابن سعدي: "وفي هذه الآية وما أشبهها رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة الله تعالى؛ لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.

وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} 3.

قال ابن سعدي: "فإن مشيئة الله نافذة عامه لا يخرج عنها حادث قليل ولا كثير. ففيها رد على القدرية الذين لا يدخلون أفعال العباد تحت مشيئة الله...."4.

وقال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 5.

قال ابن سعدي: " في هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير. ولم يخالف في هذا الأصل من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة فأخرجوها عن قدرة الله فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين"6.

وقال أيضا في رده عليهم مبينا أهمية مناظرة القدرية بالعلم أي إثبات علم الله وأن ذلك فيه بيان لتناقضهم وتهافت أقوالهم.

قال: "وكان الأئمة كالإمام أحمد وغيره يقولون: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أنكروا العلم كفروا، وإن اعترفوا به خصموا".

يعني: أن القدرية النافين لعلم الله بأفعال عبادة، جاحدون لنصوص الكتاب والسنة المصرحة بإحاطة علم الله بما كان وما يكون من أعيان وأوصاف وأفعال، مما دق وجل، فمن أنكر ذلك فقد كذب الكتاب والسنة صريحاً وذلك هو الكفر، وإن اعترفوا بإحاطة علم الله بكل شيء، وبأفعال العباد قبل وقوعها كما هو القول الذي استقر عليه مذهبهم خصموا.

1 في عدة آيات منها سورة البقرة/ الآية 20، وسورة آل عمران/ الآية 165 وغيرها.

2 التفسير 1/57.

3 سورة المدثر/ الآيتان 55، 56.

4 التفسير 7/581.

5 سورة البقرة / الآية 102.

6 التفسير 1/119.

ص: 92

ووجه ذلك أنهم يقولون: "إن أفعالهم لا تتعلق بها مشيئة الله وإرادته وإنما هم مستلقون بها من كل وجه".

وإذا كان هذا قولهم في مشيئة الله مع قولهم "إن الله يعلم أعمال العباد قبل أن يعلموها" فهذا تناقض محض: كيف يعلمها وهو لم يقدرها ولم يردها؟ هذا محال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.

فليزمهم أحد أمرين:

إما أن يتناقضوا فينفوا الأمرين: علم الله بأفعالهم، ومشيئته لها فيتضح كفرهم وإما أن يرجعوا إلى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه المسلمون وهو: أنه تعالى كما أنه بكل شيء عليم وبكل شيء محيط فإنه على كل شيء قدير ومن جملة الأشياء أفعال العباد: طاعتهم ومعاصيهم، فهو تعالى يعلمها إجمالا وتفصيلاً قبل أن يعملوها، وأعمالهم وأفعالهم داخلة تحت مشيئة الله وإرادته فقد شاءها منهم وأرادها، ولم يجبرهم لا على الطاعات، ولا على المعاصي، بل هم الذين فعلوها باختيارهم كما قال تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2.

فهذه الآية فيها رد على القدرية النفاة وعلى القدرية المجبرة وإثبات للحق الذي عليه أهل السنة والجماعة.

ففي قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أخبر أن مشيئتهم تابعة لمشيئته، وأنها لا توجد بدونها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وفي هذا رد على القدرية القائلين "إن مشيئة العباد مستقلة، ليست تابعة لمشيئة الله" بل عندهم: يشاء العباد ويفعلون ما لا يشاؤه الله ولا يقدره"3.

وبهذا يظهر لنا أن قول القدرية في أفعال العباد إنها ليست داخلة تحت مشيئة الله وقدرته، قول باطل، مخالف لما تقرر في الكتاب والسنة من عموم قدرة الله ومشيئته، ولا يمكن أن يكون شيء في ملك الله إلا إذا شاءه الله وقدَّره. {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4.

وقال رحمه الله في ردوده على الطائفة الثانية وهم القدرية المجبرة القائلون "بأن العباد مجبورون على أفعالهم كالشجرة في مهب الريح".

1 سورة الملك/ الآية 14.

2 سورة التكوير/ الآيتان 18، 19.

3 الدرة البهية /20، 21، بتصرف يسير.

4 سورة آل عمران/ الآية 189.

ص: 93

"وهذا القول من أشنع البدع وأنكرها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأئمة المهتدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ومخالف للعقول والفطر ومخالف للمحسوس.

وكل قول يمكن صاحبه أن يطرده إلا هذا القول الشنيع فإنه لا يمكن أن يعمل به ويطرده ولو ظلم أحدهم واعتذر إليه من ظلمه بالقدر فإنه لا يقبل بل يرى اعتذاره بالقدر زيادة ظلم وتهكما به، فكيف يسلك هذا المسلك مع ربه وهو لا يرتضيه لنفسه من غيره.

والمقصود: أن هذه الطائفة خالفت المنقول والمعقول. ونصوص الكتاب والسنة تبطل قولهم، فإن الله نسب أعمال العباد إليهم من الطاعات المتنوعة والمعاصي الكثيرة كلها يضيفها إلى الفاعلين ويخبر أنهم هم الفاعلون لها ويستحقون جزاءها من خير وشر.

فلو كانوا مجبورين عليها لم ينسبها لهم ولم يضفها إليهم بل ينسب الأفعال إلى نفسه حاشاه وتعالى عن ذلك، فلا يقال:"الله الذي فعل الإيمان والكفر والطاعة والمعصية". بل يقول كل أحد العبد هو الذي فعلها، والله هو الذي قدرها من غير أن يجبره عليها"1.

وبين رحمه الله أن قولهم هذا يلزمهم عليه عدة لوازم فاسدة فقال في توضيح الكافية الشافية:

"فلزمهم على تقريرهم هذا أمران باطلان: أحدهما أن تنفي عن العباد قدرتهم على أفعالهم. ثانيا: أن ينفي صدورها منهم.

فيقال على قولهم: لم يقدروا على الإسلام والإيمان ولا الصلاة والصيام ونحوها. وإذا فعلوها يصح أن يقال: لم تصدر منهم إنما يقال ذلك على وجه المجاز لا الحقيقة، ولا فرق عندهم أن يوصفوا بهذه الأفعال أو يوصفوا بالبياض والسواد وبقية الألوان؛ لأن الجميع قامت بهم.

فتصور قولهم بلوازمه المذكورة تعرف به فساده وبطلانه"2

وعدد أيضا في الدر البهية جملة من اللوازم التي تلزم هذا القول الفاسد فقال:

1 الدرة البهية / 22، 23، بتصرف يسير.

2 توضيح الكافية الشافية /12.

ص: 94

"ويلزم على قول الجبرية إسقاط الأمر والنهي؛ لأنه كيف يؤمر وينهى من لا قدرة له على امتثال الأمر والنهي؟

ويلزم أيضا على قولهم إسقاط الحدود عن جميع أهل الجرائم إذ كيف يعاقبون وتقام عليهم الحدود وهم غير قادرين بل مجبورين؟

فهذا القول الباطل مخالف لجميع أصول الدين وفروعه.

ويلزم أيضاً على قول الجبرية تعطيل الأسباب الدينية والدنيوية وذلك أن الله تعالى جعل الأسباب موصلة إلى مسبباتها، وأمر العباد بسلوك كل سبب نافع لهم في دينهم ودنياهم فكيف يؤمرون وهم مجبورون غير قادرين؟ فالقول بالجبر فيه فساد الدين والدنيا"1.

أما الطائفة الثالثة وهم القدرية المشركون فكلامهم ظاهر البطلان وقد بين الله بطلانه في آيات متعددة.

وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} 2.

وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 3.

وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} 4.

وقال ابن سعدي في بيان بطلان احتجاج المشركين على شركهم بمشيئة الله وأن الله لو شاء ما أشركوا.

"وهذه حجة باطلة فإنها لو كانت حقاً ما عاقب الله الذين من قبلهم حيث

1 الدرة البهية /23.

2 سورة الأنعام/ الآية 148.

3 سورة النحل/ الآيتان 35، 36.

4 سورة الزخرف/ الآية 20.

ص: 95

أشركوا به فعاقبهم أشد العقاب فلو كان يحب ذلك منهم لما عذبهم وليس قصدهم بذلك إلا رد الحق الذي جاءت به الرسل وإلا فعندهم علم أنه لا حجة لهم على الله، فإن الله أمرهم ونهاهم ومكنهم من القيام بما كلفهم وجعل لهم قوة ومشيئة تصدر عنها أفعالهم فاحتجاجهم بالقضاء والقدر من أبطل الباطل.

هذا وكل أحد يعلم بالحس قدرة الإنسان على كل فعل يريده من غير أن ينازعه منازع، فجمعوا بين تكذيب الله وتكذيب رسله وتكذيب الأمور العقلية والحسية"1.

وقال في موضع آخر: "وهي حجة باطلة في نفسها عقلاً وشرعاً. فكل عاقل لا يقبل الاحتجاج بالقدر ولو سلكه في حالة من أحواله لم يثبت عليها قدمه.

وأما شرعاً فإن الله تعالى أبطل الاحتجاج به ولم يذكره عن غير المشركين به المكذبين لرسله فإن الله تعالى قد أقام الحجة على العباد فلم يبق لأحد عليه حجة أصلاً"2.

رابعا: بيانه لمذهب أهل السنة والجماعة في القدر وتأييده له بالأدلة:

وكما بين ابن سعدي بطلان الأقوال المتقدمة في القضاء والقدر في أفعال العباد وبعدها عن الصواب وانحرافها عن الصراط المستقيم.

فقد بين أن القول الصواب في ذلك والحق الذي لا مرية فيه هو قول أهل السنة والجماعة؛ وذلك لتضافر أدلة الكتاب والسنة على صحته فبعد أن ذكر الأقوال السابقة وبين بطلانها قال:

"فهذه الطوائف الثلاث هم خصماء الله في قضائه وقدره منهم من نفاه ومنهم من غلا فيه غلواً أوقعه في الباطل.

وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه بإذنه {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3.

فأثبتوا عموم قضاء الله ونفوذ مشيئته في كل شيء، وأثبتوا مع ذلك أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وقالوا إنها واقعة باختيارهم، ولا حجة للعاصين على الله إذا احتجوا على معاصيهم بقدره بل حجتهم داحضة باطلة، وقالوا إن مشيئة الله غير محبته

1 التفسير 4/201.

2 التفسير 6/639، وانظر أيضا التفسير 2/495 ففيه بيان لبطلان هذه الشبهة من سبعة أوجه.

3 سورة البقرة/ الآية 213.

ص: 96

فمشيئته تعلقت بكل شيء موجود من خير وشر وطاعة ومعصية، ومحبته خاصة للطاعات وأهلها كما أخبر بذلك في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم1.

وقال في موضع آخر شارحا مبيناً عقيدة السلف في ذلك وهي أنهم: "يقولون بما جاء به الكتاب والسنة من إثبات الأصلين:

أحدهما: الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها أعيانها وأوصافها بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

والأصل الثاني: أن أفعال العباد من الطاعات والمعاصي وغيرها واقعة بإرادتهم وقدرتهم وأنهم لم يجبروا عليها، بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم من القدرة والإرادة ويقولون لا منافاة بين الأمرين فالحوادث كلها التي من جملتها أفعال العباد بمشيئة الله وإرادته والعباد هم الفاعلون لأفعالهم المختارون لها، فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها، فاستحق الأولون المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب، ولم يجبر الله أحداً منهم على خلاف مراده واختياره، فلا عذر للعاصين إذا عصوا وقالوا إن الله قدرهم علينا فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون وأنتم بزيغكم وانحرافكم أردتم الشر ففعلتموه والله قد حذركم، وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه، وأراكم سبيل الرشد فتركتموه وسبيل الغي فسلكتموه.

وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام: فإنه من المعلوم لكل أحد: أن كل فعل يفعله العبد وكل كلام يتكلم به فلا بد فيه من أمرين: قدرة منه على ذلك الفعل والقول، وإرادة منه، فمتى اجتمعا: وجدت منه الأقوال والأفعال، والله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد هم الفاعلون لها حقيقة

وقد دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير، وأن كل شيء بقضاء وقدر الأعيان والأوصاف والأفعال.

ودلت أيضاً أدلة الكتاب والسنة أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة بقدرتهم واختيارهم، فإنه تعالى نسب إليهم وأضاف إليهم كل ما فعلوه من إيمان وكفر وطاعة ومعصية، وأنه تعالى مكنهم من هذا، ولكنه حبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه

1 الدرة البهية /24، 25.

ص: 97

في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم حيث اختاروا الشر على الخير وأسباب العقاب على أسباب الثواب، وهذا كما أنه معلوم بالضرورة فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن أحداً المكابرة فيه، فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها ويحب حصولها"1.

وقال رحمه الله في بيان أفعال العباد: "أفعال العباد كلها من الطاعات والمعاصي داخلة في خلق الله وقضائه وقدره ولكنهم هم الفاعلون لها لم يجبرهم الله عليها مع أنها واقعة بمشيئتهم وقدرتهم فهي فعلهم حقيقة فهم الموصوفون بها المثابون والمعاقبون عليها وهي خلق الله حقيقة فإن الله خلقهم وخلق مشيئتهم وقدرتهم وجميع ما يقع بذلك، فنؤمن بجميع نصوص الكتاب والسنة الدالة على شمول خلق الله وقدرته لكل شيء من الأعيان والأوصاف والأفعال كما نؤمن بنصوص الكتاب والسنة الدالة على أن العباد هم الفاعلون حقيقة للخير والشر وأنهم مختارون لأفعالهم فإن الله خالق قدرتهم وإرادتهم وهما السبب في وجود أفعالهم وأقوالهم وخالق السبب التام خالق للمسبب، والله أعظم وأعدل من أن يجبرهم عليها"2.

وهذا آخر الحديث عن القضاء والقدر، وبه نصل إلى نهاية المبحث الأول المتعلق بتوحيد الربوبية، ويجدر أن أشير إلى أن توحيد الربوبية يدخل ضمن توحيد الأسماء والصفات؛ وذلك لأن الرب اسم من أسماء الله، والربوبية صفة من صفاته، والله أعلم.

1 الدرة البهية /13، 14، 15، وانظر أيضاً الخلاصة /179، والحق الواضح المبين /8 و20.

2 سؤال وجواب /10، وانظر أيضاً: توضيح الكافية الشافية /13، 14.

ص: 98