الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
الإيمان بالبعث والنشور
المبحث الرابع: الإيمان بالبعث والنشور
وبعد المكث في دار البرزخ يبعث الله من في القبور ويعيدهم معاداً جسمانياً، فيجمع الله عز وجل أجزاءهم الأصلية ويعيد تركيبها كما كانت وإن تفرقت وبليت وتحرقت، ويعيد الأرواح إليها.
فقد دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة. فالله سبحانه أخبر في كتابه عن هذا المعاد ورد على من أنكره بأنواع الردود. وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أخبر في عدة أحاديث صحيحة عن المعاد والبعث والنشور، واتفق علماء المسلمين على ذلك بل إن البعث والمعاد متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى، ولم ينكره إلا الدهرية والمشركون.
قال العلامة المحقق ابن القيم في كتابه الروح: "معاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى"1.
أما أدلة الكتاب على ذلك فكثيرة منها:
قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 4.
وقوله: {اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 5.
1 نقله السفاريني في لوامع الأنوار 3/157، وعزاه لابن القيم في كتابه الروح. قلت: ولم أهتد إليه فيه، فلعل ابن القيم ذكره في كتابه الكبير في الروح، والذي أشار إليه في كتابه الروح هذا (ص 38) بقوله بعد كلام ذكره:"....وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في معرفة الروح والنفس".
2 سورة طه/ الآية 55.
3 سورة الحج/ الآيتان 6، 7.
4 سورة المؤمنون/ الآيتان 15، 16.
5 سورة الروم/ الآية 11.
وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 1.
وقوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} 2.
وغيرها من النصوص وهي كثيرة جداً بل القرآن كله من فاتحته إلى خاتمته مملوء بذكر أحوال البعث والنشور وما بعده، وأما الأحاديث في هذا الباب فكثيرة جداً.
منها حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: "كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا"3.
ومنها حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب يوم القيامة، قالوا أي عظم هو يا رسول الله قال: عجب الذنب"4.
ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرف رجل على نفسه فلما حضره الموت أوصى بنيه فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم اذروني في الريح في البحر. فوالله لإن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً. قال ففعلوا ذلك به فقال للأرض أدي ما أخذت فإذا هو قائم فقال له ما حملك على ما صنعت؟ فقال خشيتك يا رب أو قال مخافتك، فغفر له بذلك"5.
والنصوص في ذلك كثيرة بل إن هذا الأمر محل اتفاق الرسل، والكتب مطبقة على حصول ذلك، فالواجب الإيمان بذلك إذ هو من الإيمان باليوم الآخر الذي هو أحد أركان الإيمان.
وقد كفر الله من أنكره بقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 6.
وقد اعتنى ابن سعدي بتقرير هذا الأمر، وبيان شواهده وأدلته الحسية والمعنوية
1 سورة لقمان/ الآية/ 28.
2 سورة عبس/ الآيات/ 20، 21، 22.
3 أخرجه البخاري 5/2271.
4 أخرجه مسلم 4/2271.
5 أخرجه مسلم 4/2110، وأخرجاه بنحوه من حديث أبي سعيد الخدري. البخاري 8/200، ومسلم 4/2111.
6 سورة التغابن/ الآية/ 7.
قال: "اتفقت الكتب السماوية والرسل العظام وأتباعهم على اختلاف طبقاتهم وتباين أقطارهم وأزمانهم وأحوالهم على الإيمان به والاعتراف به وكم أقام الله عليه من الأدلة الحسية والمشاهدة ما يدل أكبر الدلالة عليه وكم أشهد عباده في هذا الدار نماذج من الثواب والعقاب وأراهم حلول المثلات بالمكذبين وأنواع العقوبات الدنيوية بالمجرمين، كما أراهم نجاة الرسل وأتباعهم المؤمنين وأكرمهم في الدنيا قبل الآخرة وكم أبطل الله شبهة يقدح بها في المعاد...."1.
وقد قرر الله عز وجل البعث والنشور في كتابه العزيز بصيغ متعددة وأساليب متنوعة.
فتارة يخبر سبحانه عن قدرته المطلقة في الخلق والإيجاد وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتارة يبين أن إيجاده للناس من العدم وخلقهم لهم ابتداء يدل أكبر دلالة على قدرته على إعادتهم بعد موتهم وفنائهم وهذا الأخير أهون. وتارة يخبر أن الذي قدر على إيجاد السموات والأرض وما فيهما من صنع الله، لأكبر دليل على قدرة الله على البعث بعد الموت.
وتارة يبين أن إحياءه الأرض الهامدة الميتة الخالية من الماء والزروع يدل أكبر دلالة على قدرته على خلق الناس وأن الذي أحياها سيحي الموتى.
وتارة يضرب الأمثلة الحسية المشاهدة في بعض الناس فيميتهم ويحييهم ليبين لهم قدرته على ذلك وليعتبر غيرهم وهذا كثير في القرآن كما أخبر الله عن صاحب البقرة، والذي مر على القرية الخاوية وقصة الألوف من بني إسرائيل، وقصة أصحاب الكهف وغيرها من أنواع الأدلة التي لا تدع مجالا للشك ولا سبيلا للتردد.
ومن نصوص القرآن المبينة لذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
1 الفتاوى السعدية /49.
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1.
1 سورة البقرة/ الآيات 258، 259، 260.
2 سورة الأحقاف/ الآية 33.
3 سورة يس/ الآيات 77- 83.
4 سورة البقرة/ الآية 243.
5 سورة الروم/ الآية 27.
6 سورة الحج/ الآيتان 5، 6.
7 سورة القيامة/ الآيات 36- 40.
وغيرها من الآيات القرآنية المقررة للمعاد والنشور، وبالأساليب المتعددة والطرق المتنوعة.
وقد قعَّد ابن سعدي في كتابه القواعد الحسان قاعدة ذكر تحتها جملة من هذه الأساليب المتنوعة في تقرير المعاد. وهي "القاعدة الثامنة" طريقة القرآن في تقرير المعاد" بين تحت هذه القاعدة أن المعاد أحد الأصول المتفق عليها بين الرسل والشرائع كالتوحيد والنبوات.
ثم قال: "وهذا قد أكثر الله من ذكره في كتابه الكريم. وقرره بطريق متنوعة:
منها: إخباره وهو أصدق القائلين عنه وعما يكون فيه من الجزاء الأوفى، مع إكثار الله من ذكره، فقد أقسم عليه في ثلاثة مواضع من كتابه، كقوله {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1.
ومنها: الإخبار بكمال قدرة الله تعالى، ونفوذ مشيئته، وأنه لا يعجزه شيء، فإعادة العباد بعد موتهم فرد من أفراد آثار قدرته.
ومنها: إحياؤه الأرض الهامدة الميتة، بعد موتها، وأن الذي أحياها سيحيى الموتى، وقرر ذلك بقدرته على ما هو أكبر من ذلك وهو خلق السموات والأرض والمخلوقات العظيمة، فمتى أثبت المفكرون ذلك ولن يقدروا على إنكاره، فلأي شيء يستبعدون إحياء الموتى.
وقرر ذلك بسعة علمه وكمال حكمته، وأنه لا يليق به، ولا يحسن أن يترك خلقه سدى مهملين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون وهذا الطريق قرر به النبوة وأمر المعاد.
ومما قرر به البعث ومجازاة المحسنين بإحسانهم، والمسيئين بإساءتهم ما أخبر به من أيامه وسننه سبحانه في الأمم الماضية والقرون الغابرة، وكيف نجى الأنبياء وأتباعهم، وأهلك المكذبين لهم والمنكرين للبعث، ونوع عليهم العقوبات وأحل بهم المثلات، فهذا جزاء معجل ونموذج من جزاء الآخرة أراه الله عباده، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
1 سورة القيامة/ الآية/ 1.
ومن ذلك: ما أرى الله عباده من إحيائه الأموات في الدنيا كما ذكر الله عن صاحب البقرة والألوف من بني إسرائيل، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم الخليل والطيور وإحياء عيسى ابن مريم للأموات وغيرها مما أراه الله عباده في هذه الدار؛ ليعلموا أنه قوي ذو اقتدار، وأن العباد لا بد أن يردوا دار القرار، إما الجنة أو النار.
وهذه المعاني أبداها الله وأعادها في محال كثيرة. والله أعلم"1.
وقد جمع الله أكثر هذه الأساليب المتنوعة في أواخر سورة "يس" حيث قال سبحانه:
فهذه الآيات جمع الله فيها أدلة كثيرة على المعاد، وفيها أبلغ رد على من ينكره.
قال ابن سعدي عند تفسيره لها: "وهذه الآيات الكريمات فيها ذكر شبهة منكري البعث، والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه وأوضحه".
ثم ذكر شبهة المنكر للبعث أو الشاك فيه، وهي قوله من يحي العظام وهي رميم حيث قاس قدرة الخالق على المخلوق وهذا الأمر عنده مستبعد على ما يعهد من عادة البشر.
ثم استخلص ابن سعدي من هذه الآيات ستة أدلة فيها أبلغ رد على هذا المنكر3.
قال: "فأجاب تعالى عن هذا الاستبعاد بجواب شاف كاف فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وهذا بمجرد تصوره يعلم به علماً يقيناً لا شبهة فيه أن الذي أنشأها أول مرة قادر على الإعادة ثاني مرة، وهو أهون على القدرة إذا تصوره المتصور.
{وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} هذا أيضاً دليل ثان من صفات الله تعالى وهو أن علمه تعالى محيط بجميع مخلوقاته في جميع أحوالها في جميع الأوقات.
1 القواعد الحسان /24، 25.
2 سورة يس/ الآيات 77-83.
3 التفسير 6/363.
ويعلم ما تنقص الأرض من أجساد الأموات وما يبقى ويعلم الغيب والشهادة فإذا أقر العبد بهذا العلم العظيم علم أنه أعظم وأجل من إحياء الله الموتى من قبورهم.
ثم ذكر دليلاً ثالثاً فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} فإذا أخرج النار اليابسة من الشجر الأخضر الذي هو غاية الرطوبة مع تضادهما وشدة تخالفهما، فإخراجه الموتى من قبورهم مثل ذلك.
ثم ذكر دليلاً رابعاً فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} أي: أن يعيدهم بأعيانهم {بَلَى} قادر على ذلك فإن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس.
{وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} وهذا دليل خامس فإنه تعالى الخلاف الذي جميع المخلوقات متقدمها ومتأخرها صغيرها وكبيرها كلها أثر من آثار خلقه وقدرته وأنه لا يستعصى عليه مخلوق أراد خلقه فإعادته للأموات فرد من أفراد آثار خلقه ولهذا قال:
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} نكرة في سياق الشرط فتعم كل شيء {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي في الحال من غير تمانع.
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} وهذا دليل سادس، فإنه تعالى هو الملك المالك لكل شيء الذي جميع ما سكن في العالم العلوي والسفلي ملك له وعبيد مسخرون مدبرون يتصرف فيهم بأقداره الحكمية وأحكامه الشرعية وأحكامه الجزئية، فإعادته إياهم بعد موتهم لينفذ فيهم حكم الجزاء من تمام ملكه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} من غير امتراء ولا شك لتواتر البراهين القاطعة والأدلة الساطعة على ذلك فتبارك الذي جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور"1. أ. هـ.
ثم إن الناس بعد المعاد والنشور يواجهون أهوالاً عظيمة وشدائد مخيفة، ينقسم الناس بعدها إلى قسمين أو فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير.
وهذا ما سيدور عليه حديثنا في المبحث التالي:
1 التفسير 6/63، 364، 365.