الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: توحيد الألوهية
المبحث الثالث
توحيد الألوهية
تقدم معنا في المبحثين الماضيين الإشارة إلى أهمية هذا المبحث، وتقدم أيضاً أن الإتيان بتوحيدي الربوبية والأسماء والصفات لا يكفي ولا ينجي بل لا بد من الإتيان مع ذلك بتوحيد الألوهية؛ وذلك لأن هذا النوع من التوحيد يعد أهم المطالب على الإطلاق، إذ من أجل تحقيقه خلق الله الخلق، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، كما سيأتي بيان ذلك.
وهذا ما جعل علماء الإسلام من السلف الصالح الذين هم ورثة الأنبياء، يهتمون بهذا النوع اهتماماً كبيراً، فبينوه وحذروا من الوقوع في ضده وأكثروا في ذلك التأليف والكتابة.
وقد اعتنى الشيخ ابن سعدي في مؤلفاته بهذا النوع من التوحيد عناية بالغة وأولاه اهتماماً كبيراً، فلقد لمست من خلال قراءتي لكتبه اهتمامه البالغ به، فهو في أكثر مؤلفاته يتحدث عن هذا التوحيد، ويحذر من الوقوع في مخالفته، ويبدي ويعيد في ذلك بعبارات متنوعة وأساليب مختلفة.
ولا ريب أن هذا النوع من التوحيد جدير بالعناية والاهتمام، بل هو أهم الأمور التي يجب العناية والاهتمام بها.
ولهذا فقد أشار رحمه الله في مواطن متعددة من مؤلفاته إلى أهميته، وأنه الغاية من خلق الإنس والجن، وأن الإيمان به يوصل إلى كل خير وصلاح.
قال: "وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق وأكملها وأفضلها وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله وخلق المخلوقات. وشرع الشرائع لقيامه وبوجوده يكون الصلاح وبفقده يكون الشر والفساد، وجميع الآيات القرآنية إما أمر به أو بحق من حقوقه أو نهي عن ضده، أو إقامة حجة عليه، أو بيان جزاء أهله في الدنيا والآخرة، أو بيان الفرق بينهم وبين المشركين.
ويقال له توحيد الألوهية، فإن الألوهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه، الدال عليها الاسم العظيم وهو الله، وهو مستلزم جميع صفات الكمال.
ويقال له: توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بصفته الملازمة له من مقتضيات العبودية للربوبية بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه مخلصا له جميع عباداته محققا ذلك بترك الشرك صغيرة وكبيرة، وباتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، والبراءة من كل بدعة وضلالة، والحب في الله والبغض لله"1. ثم قال:
"وهذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها قد قدره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في رسائل لا تحصى وبالأخص في كتاب التوحيد، وذكر من تقريره وتفاصيله وتحقيقه ونفي كل ما يضاده ما لم يوجد في كتاب غيره"2.
وقال في موضع آخر: "وهذان الأمران وهما معرفة الله وعبادته هما اللذان خلق الله الخلق لأجلهما، وهي الغاية المقصودة منه تعالى لعباده، وهما الموصلان إلى كل خير وفلاح وصلاح وسعادة دنيوية وأخروية، وهما أشرف عطايا الكريم لعباده وهما أشرف اللذات على الإطلاق وهما اللذان إن فاتا فات كل خير وحضر كل شر"3.
وبين رحمه الله أن الأعمال جميعها متوقفة في قبولها على توفره فقال: " ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان المخرج عن الكفر والشرك الذي هو شرط لكل عمل صالح"4.
وبين أيضاً أن هذا النوع هو خلاصة دعوة الرسل، وأنهم إنما قاتلوا أقوامهم من أجل تحقيقه.
فقال: " وهذا النوع زبدة رسالة الله لرسله، فكل نبي يبعثه الله يدعو قومه، يقول:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ
1 القواعد الحسان /192، 193.
2 القواعد الحسان /193.
3 التفسير 1/541، وانظر 7/181.
4 التفسير 3/291.
5 سورة الأعراف/ 59، 65، 73، 85 وغيرها.
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} 1 وهو الذي خلق الله لأجله، وشرع الجهاد لإقامته، وجعل الثواب الدنيوي والأخروي لمن قام به وحققه والعقاب لمن تركه.
وبه يحصل الفرق بين أهل السعادة القائمين به، وأهل الشقاوة التاركين له"2.
وقال رحمه الله: "فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دعوا إلى هذا التوحيد، ونهوا عن ضده من الشرك والتنديد، وخصوصاً محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا القرآن الكريم فإنه أمر به وفرضه وقرره أعظم تقرير، وبينه أعظم بيان، وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلا بهذا التوحيد، وأن جميع الأدلة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلة وبراهين على الأمر بهذا التوحيد ووجوبه.
فالتوحيد هو حق الله الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصل الأصول كلها، وأساس الأعمال"3
وقال رحمه الله: "وبالجملة: فكل خير عاجل وآجل، فإنه من ثمرات التوحيد وكل شر عاجل وآجل فإنه من ثمرات الشرك"4.
وكما أنه رحمه الله بين هذا التوحيد هذا البيان ونبه عليه هذا التنبيه، فقد حث على تعلمه ومعرفته والعمل به والحذر من مخالفته.
فقال: "فعلى العبد أن يبذل جهده في معرفته وتحقيقه والتحقق به ويعرف حده وتفسيره، ويعرف حكمه ومترتبته، ويعرف آثاره ومقتضياته وشواهده وأدلته وما يقويه وينميه، وما ينقضه، وشروطه ومكملاته، ويعرف نواقضه ومفسداته لأنه الأصل الأصيل الذي لا تصح الأصول إلا به فكيف بالفروع"5.
تعريف ابن سعدي لهذا التوحيد:
عرف ابن سعدي توحيد الألوهية بتعريف جامع، ذكر فيه حد هذا التوحيد وتفسيره وأركانه فقال:
"فأما حده وتفسيره وأركانه فهو أن يعلم ويعترف على وجه العلم واليقين أن الله هو المألوه وحده المعبود على الحقيقة، وأن صفات الألوهية ومعانيها ليست موجودة بأحد
1 سورة النحل/ الآية 36.
2 الحق الواضح المبين /56.
3 القول السديد /18.
4 القواعد الحسان /18.
5 الحق الواضح المبين /57.
من المخلوقات ولا يستحقها إلا الله تعالى. فإذا عرف ذلك واعترف به حقاً أفرده بالعبادة كلها الظاهرة والباطنة فيقوم بشرائع الإسلام الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين وصلة الأرحام والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه، ويقوم بأصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، ويقوم بحقائق الإحسان وروح الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة مخلصاً ذلك كله لله، لا يقصد به غرضاً من الأغراض غير رضا ربه وطلب ثوابه، متابعاً في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة. وأعماله وأفعاله ما شرعه الله ورسوله.
وأخلاقه وآدابه الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم في هديه وسمته وكل أحواله؛ ولهذا فإن كمال هذا التوحيد وقوامه بثلاثة أشياء:
ـ (توحيد الإخلاص لله وحده) فلا يكون للعبد مراد غير مراد واحد وهو العمل لله وحده.
ـ (وتوحيد الصدق) وهو توحيد إرادة العبد في إرادته وقوة إنابته لربه وكمال عبوديته.
ـ (وتوحيد الطريق) وهو المتابعة.
.....فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح ولا ينقص من كمال العبد إلا بنقص واحد من هذه الأشياء"1.
أدلة هذا النوع من التوحيد:
تقدم معنا أن هذا التوحيد هو المقصود من إنزال الكتب وإرسال الرسل؛ فلذا كانت الأدلة عليه في الكتاب والسنة كثيرة، لأنه كلما كان الأمر مهما كلما كثر إيضاحه وبيانه والحث على العمل به.
ولقد تضافرت الأدلة في الكتاب والسنة على وجوب إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها، وتنوعت فتارة تأتي النصوص لبيان أن هذا الأمر هو المقصود من خلق الإنس والجن، وتارة تأتي لبيان أنه المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وتارة تأتي للأمر به، والحث عليه، والتحذير من مخالفته، وتارة تأتي لبيان ثواب من عمل به وعقاب من تركه، وعلى هذا فإن النصوص الواردة في الكتاب والسنة جميعها لا تخلو من ذكر هذا النوع أو الإشارة إليه.
سأورد الآن جملة من الآيات القرآنية الدالة على ذلك. ثم أذكر كلام ابن سعدي عنها إجمالا:
1 الحق الواضح المبين /58، وانظر الفتاوى السعدية /8، 9، والقول السديد /16،17.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1.
وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 2.
وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} 3.
وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6.
وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 7.
قال ابن سعدي رحمه الله بعد ذكر جملة من هذه الآية:
"هذه الآيات الكريمة فيها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والدخول تحت رق عبوديته التي هي غاية شرف العبد والانقياد لأوامر واجتناب نواهيه محبة له وذلة وإخلاصا لله وإنابة له في جميع الحالات وفي جميع العبادات الظاهرة والباطنة وفيها النهي عن الشرك به شيئاً.
إلى أن قال: بل الواجب المتعين إخلاص العبادة لمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه والتدبير الكامل الشامل الذي لا يشركه ولا يعينه عليه أحد"8.
وقال في موضع آخر: "يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له، وهو الدخول تحت رق عبوديته والانقياد لأوامره ونواهيه محبة وذلاً وإخلاصاً له في جميع العبادات الظاهرة والباطنة وينهى عن الشرك به شيئاً
…
"9.
وقال في كتابه: "القول السديد في مقاصد التوحيد" بعد ذكره للأدلة التي ساقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدلالة على هذا التوحيد قال: "ذكر المصنف في هذه الترجمة
1 سورة الذاريات/ الآية 56.
2 سورة النساء/ الآية 36.
3 سورة الإسراء/ الآية 23.
4 سورة الإسراء/ الآية 39.
5 سورة الأنبياء/ الآية 25.
6 سورة النحل/ الآية 36.
7 سورة الأنعام/ الآية/ 151.
8 الخلاصة /34، 35.
9 التفسير 2/63.
من النصوص ما يدل على أن الله خلق الخلق لعبادته والإخلاص له، وأن ذلك حقه الواجب المفروض عليهم"1
أدلة استحقاق الله للعبادة:
هناك أمور كثيرة جداً تدل على أن الله وحده هو المستحق للعبادة دون من سواه، فبما أنه المتفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير فيجب أن يفرد بجميع أنواع العبادة وهذه تسمى دلالات التوحيد. وقد اهتم ابن سعدي بهذه الدلالات وبإيضاحها والتنبيه عليها، وذلك عند تفسيره للآيات التي اشتملت على هذه الدلالات فعند ذكره للآية يبين ما اشتملت عليه من دلالات وما تضمنته من براهين على وجوب إفراد الله بالعبادة. وفيما يلي ذكر بعض الأمثلة على ذلك:
1ـ "دقة صنع الله".
فمن أدلة استحقاق الله للعبادة، دقة صنعه لمخلوقاته:
قال ابن سعدي: "كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها.
فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات فلا إله إلا الله ولا رب سواه"2.
2ـ "تعدد النعم ":
وهذه من أدلة استحقاق الله للعبادة، قال ابن سعدي رحمه الله:"إذا علم أن ما بالعباد من نعمة فمن الله، وأن أحداً من المخلوقات لا ينفع أحداً، علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة، وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل وغير ذلك من أنواع الطاعات، وأن من أظلم الظلم وأقبح القبح أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد، وأن يشرك المخلوقين من تراب برب الأرباب، أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه مع الخالق المدبِر القادر القوي الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء"3.
1 القول السديد /17.
2 التفسير 1/194.
3 التفسير 1/188، 189، وانظر الخطب المنبرية /74، 75.
3ـ "تفرد الله بالأسماء الحسنى والصفات العلى".
فيستدل بتفرد الله وحده بالأسماء الحسنى والصفات العلى على وجوب إفراده العبادة: ـ قال ابن سعدي رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} 1: "يخبر تعالى وهو أصدق القائلين أنه (إله واحد) أي متوحد متفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فليس له شريك في ذاته ولا سمي له ولا كفو له ولا مثل ولا نظير ولا خالق ولا مدبر غيره.
فإذا كان كذلك فهو المستحق؛ لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ولا يشرك به أحد من خلقه"2.
وقال: "ومن الأدلة على ذلك معرفة تفرد الرب بالكمال المطلق وأن له كل صفة كمال، وأن المخلوقات كلها كل وصف حميد فيها فإنه من الله تعالى، ليس بها وليس منها وهذا من أعظم البراهين على أنه هو المخصوص بالتأله والعبودية"3.
4ـ "نعمة إنزال المطر":
وهذه النعمة العظيمة من جملة الأدلة الدالة على وجوب إفراد الله بالعبادة.
قال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 4 قال: "يذكر الله تعالى في هذه الآية نعمة من أعظم النعم ليعقلوا عن الله مواعظه وتذكيره فيستدلوا بذلك على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده"5.
5 ـ "تفرد الله بالربوبية".
وهذه من أعظم أدلة على وجوب إفراد الله تعالى الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك بالنعم الظاهرة والباطنة لم يشاركه في ذلك مشارك فعليك أن لا تتأله لغيره ولا تتعبد لغيره، وعليك أن تخصه بالتوحيد والسؤال واللجأ والفزع في أمورك كلها، وهذا من أعظم الأدلة على توحيد الألوهية، وهو الاستدلال بربوبية الله الذي لا يستحق الألوهية ولا شيئاً من العبودية غيره"6.
1 سورة البقرة/ الآية 163.
2 التفسير 1/188.
3 الحق الواضح المبين /58.
4 سورة النحل/ الآية 65.
5 التفسير 4/216.
6 الحق الواضح المبين /58.
6ـ "وكونه النافع الضار المعطي المانع".
فمن اتصف بهذه الصفات فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه، وهذا دليل عظيم على وجوب إفراد الله بالعبادة.
قال رحمه الله عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1.
قال: "هذا من أعظم الأدلة على أن الله وحده المستحق للعبادة، فإنه النافع الضار المعطي المانع الذي إذا مس بضر كفقر ومرض ونحوها فلا كاشف له إلا هو؛ لأن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروا أحداً لم يقدروا على شيء من ضرره إذا لم يرده"2.
هذا وإن هناك عدة أمور إذا تأملها الإنسان وتبصر فيها هدته إلى أن الله هو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه. أجملها الشيخ ابن سعدي في تسعة أمور ذكرها عند تفسيره لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 3.
قال: "العلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه وتمامه أن يعمل بمقتضاه.
وهذا العلم الذي أمر الله به وهو العلم بتوحيد الله فرض عين على كل إنسان لا يسقط عن أحد كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك.
والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا الله أمور:
أحدها: بل أعظمها تدبر أسمائه وصفاته الدالة على كماله وعظمته وجلاله فإنها توجب بذل الجهد في التأله والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال.
الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية.
الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته والتأله له وحده لا شريك له.
الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة ومن عقوبته لأعدائه المشركين به فإن هذا داع إلى العلم بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها.
1 سورة يونس/ الآية 107.
2 التفسير 3/397.
3 سورة محمد/ الآية 19.
الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة وأنها ناقصة من جميع الوجوه فقيرة بالذات لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ولا ينصرون من عبدهم ولا ينفعونهم بمثقال ذرة من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا الله وبطلان إلهية ما سواه.
السادس: اتفاق كتب الله على ذلك وتواطؤها عليه.
السابع: أن خواص الخلق الدين هم أكمل الخليقة أخلاقاً وعقولاً ورأياً وصواباً وعلماً وهم الرسل والأنبياء والعلماء الربانيون قد شهدوا لله بذلك.
الثامن: ما أقامه الله من الأدلة الأفقية والنفسية التي تدل على التوحيد أعظم دلالة تنادي عليه بلسان حالها بما أودعها من لطف صنعته وبديع حكمته وغرائب خلقه"1.
وذكر هذه الأمور الثمانية في خلاصة التفسير وزاد عليها تاسعا وهو: (ما أودعه الله في شرعه من الآيات المحكمة والأحكام الحسنة والحقوق العادلة والخير الكثير وجلب المنافع كلها ودفع المضار، ومن الإحسان المتنوع وذلك يدل أكبر دلالة أنه الله الذي لا يستحق العبادة سواه وأن شريعته التي أنزلت رسالة شاهدة بذلك"2.
ثم رحمه الله قال في تفسيره بعد ذكره الأمور التي يحصل بها العلم بوجوب إفراد الله بالعبادة: "فهذه الطرق التي أكثر الله من دعوة الخلق بها إلى أنه لا إله إلا الله وأبداها في كتابه وأعادها عند تأمل العبد في بعضها لا بد أن يكون عنده يقين وعلم بذلك فكيف إذا اجتمعت وتواطأت واتفقت وقامت أدلة للتوحيد من كل جانب فهناك يرسخ الإيمان والعلم بذلك في قلب العبد بحيث يكون كالجبال الرواسي لا تزلزله الشبه والخيالات ولا يزداد على تكرار الباطل والشبه إلا نمواً وكمالاً هذا وإن نظرت إلى الدليل العظيم والأمر الكبير وهو تدبير هذا القرآن العظيم والتأمل في آياته فإنه الباب الأعظم إلى العلم بالتوحيد ويحصل به من تفاصيله وجمله مالا يحصل في غيره"3.
كلامه في فضل التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:-
إن السشهادة لله بالوحدانية بجميع أنواع العبادة يترتب عليه حصول فوائد عظيمة وفضائل كثيرة لا تحصى لكثرتها. وقد عدد الشيخ ابن سعدي رحمه الله جملة من هذه الفوائد والفضائل التي لا تحصل إلا لمن وحد الله بالعبادة ولم يشرك به.
1 التفسير 7/73، 74، 75، وانظر التوضيح والبيان لشجرة الإيمان /23 وما بعدها، والقواعد الحسان /193.
2 الخلاصة /16
3 التفسير 1/75.
قال رحمه الله:
1ـ "من فضائل التوحيد أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
2ـ ومن فضائله أنه يكفر الذنوب.
3ـ ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار إن كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل.
4ـ وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
5ـ ومنها: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل، والأمن التام في الدنيا والآخرة.
6ـ ومنها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه.
7ـ ومن أعظم فضائله أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتيب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كلمت هذه الأمور وتمت.
8 ـ ومن فضائله أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات. فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه.
9ـ ومنها أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
10ـ ومنها أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام، فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
11ـ ومن أعظم فضائله أن يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي، ويكون مع ذلك متألها متعبداً لله لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
12ـ ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء إن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققاً كاملاً بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيراً، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السموات والأرض، وعمارها من جميع خلق الله"1.
هذا قليل من كثير من فوائد التوحيد، وفضائل لا إله إلا الله. لا ينالها إلا من فهم معناها وعمل بمقتضاها.
1 القول السديد /19 وما بعدها.
كلامه في معنى كلمة التوحيد "لا إله إلا الله":
وردت أحاديث كثيرة في فضل هذه الكلمة، ولا ينال أحد ثوابها والفضل الذي فيها إلا إذا فهم معناها وعمل بمقتضاها. منها حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل"1.
ومنها: حديث عتبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"2
ومنها: حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلا الله صادقا بها دخل الجنة"3.
وغيرها من الأحاديث التي تدل على فضل هذه الكلمة، ولكن كما تقدم هذا الفضل مختص بمن فهم معناها وعمل بمقتضاها.
وهذه الأحاديث المتقدمة متضمنة لمعنى لا إله إلا الله، وهو أن يفرد الله وحده بجميع أنواع العبادة ولا يشرك معه غيره4.
وقد فسرت لا إله إلا الله بتفسيرات باطلة، وذلك لعدم فهم مراد الله منها.
من هذه التفسيرات:
أن معنى لا إله إلا الله: أي لا موجود إلا الله وهذا يفهم منه الاتحاد.
ومنها: أن معناها أي لا معبود موجود إلا الله، وهذا باطل؛ لأنه يلزم منه أن كل معبود عبد بحق أو باطل هو الله.
ومنها: أن معناها أي لا خالق إلا الله، وهذا تدل عليه هذه الكلمة ولكن ليس هو المراد منها.
وإنما معنى هذه الكلمة باتفاق السلف الصالح.
1 أخرجه البخاري 4/139، ومسلم 1/57.
2 أخرجه البخاري 1/110، ومسلم 1/61.
3 أخرجه الإمام أحمد في مسند 4/411، والطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد 1/16 وإسناده صحيح. ورجاله رجال الشيخين.
4 فتح المجيد /41.
أنه لا معبود بحق إلا الله، "لا إله" نافية لجميع ما يعبد من دون الله فلا يستحق أن يعبد غيره، "إلا الله" مثبتة العبادة لله فهو الإله المستحق للعبادة1.
وقد أوضح الشيخ ابن سعدي هذا المعنى الأخير وبين أنه المراد بهذه الكلمة في مواطن متعددة في تفسيره.
قال رحمه الله: "لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له"2.
قال عند تفسيره لآية الكرسي: "فأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو فألوهية غيره، وعبادة غيره باطلة"3.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُو....} 4 "فأخبر أنه الله المألوه المعبود، الذي لا إله إلا هو، وذلك لكماله العظيم وإحسانه الشامل وتدبيره العام.
وكل إله غيره فإنه باطل، لا يستحق من العبادة مثقال ذرة؛ لأنه فقير عاجز ناقص لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً"5.
فمن شهد لله بالألوهية ونطق بهذه الكلمة لا بد أن يفرده بالعبادة، وأن يحذر من الوقوع بالإشراك فيه.
وأما من قال هذه الكلمة ولم يعمل بمقتضاها فإنها لا تنفعه؛ ولهذا يقول ابن سعدي.
"إن الشاهد لله بالوحدانية وعدم الشريك يقتضي كمال اعتقاده ذلك. وكمال الإخلاص لله، والقيام بحقوق العبودية كلها، فإنها من التأله لله تعالى، فإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والصيام والحج ونحوها داخلة في ألوهية الله تعالى، كما تدخل أعمال القلوب فيها من الإنابة لله خوفاً ورجاءً ومحبةً وتعظيماً ورغبةً ورهباً"6.
ولهذا فإن على من أراد أن يحقق معنى لا إله إلا الله أن يفهم معنى العبودية ليفرد الله بها.
1 معارج القبول للحكمي 1/375، وتطهير الاعتقاد للصنعاني /19.
2 التفسير 3/102.
3 التفسير 1/313.
4 سورة الحشر/ الآية 22.
5 التفسير 7/345.
6 الفتاوى السعدية /88.
كلامه في تعريف العبادة:-
اهتم الشيخ ابن سعدي رحمه الله بتعريف العبادة إذ هي المقصود من خلق الجن والإنس كما تقدم بيان ذلك.
وتظهر أهمية معرفة معنى هذه الكلمة إذا عرفنا أن جميع من عبد غير الله أو أكثرهم إنما عبدوهم لعدم فهمهم لمعنى العبادة، وأنها حق الله لا يجوز صرفها لغيره.
كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"1.
فإذا كانت العبودية بهذه المكانة، فهي جديرة بأن توضح وتبين ويظهر معناها.
وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بأنها "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة".
فيدخل تحت التعريف أمور كثيرة من الأعمال الظاهرة كالصلاة والزكاة والحج والصوم والصدقة والإحسان وبر الوالدين وإماطة الأذى عن الطريق وغيرها. وأمور من الأعمال الباطنة كالخشية والإنابة والخوف والرجاء وغيرها.
وهذا يبين خطأ تصور كثير من الناس من أن العبادة متقصرة على المباني الخمسة للإسلام.
فقد دلت النصوص على أن كل أمر يحبه الله ويرضاه يجب أن يتعبد الله به ولا يجوز أن يتعبد به غيره.
وهذا التعريف الذي ذكره شيخ الإسلام للعبادة يعد تعريفا جامعاً للعبادة؛ ولهذا فقد نقل الشيخ ابن سعدي رحمه الله هذا التعريف في عدة مواطن من مؤلفاته2.
قال عند تفسيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
"أي نخصك وحدك بالعبادة والاستعانة؛ لأن تقديم المعمول يفيد الحصر وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، فكأنه يقول نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك
…
إلى أن قال: والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"3.
1 أخرجه البخاري 8/164، ومسلم 1/58، والترمذي 5/27، وابن ماجه 2/1435. وأحمد 2/309.
2 انظر التفسير 1/35، والخلاصة /10 وغيرهما.
3 التفسير 1/35، والخلاصة /10.
وقال رحمه الله: "العبادة روحها وحقيقتها تحقيق الحب والخضوع لله فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة، فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة، فإن حقيقتها الذل والانكسار لله ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة تتبعها المحاب كلها"1.
وقال: "العبادة والعبودية لله: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العقائد وأعمال القلوب وأعمال الجوارح، فكل ما يقرب إلى الله من الأفعال والتروك فهو عبادة؛
ولهذا كان تارك المعصية لله متعبدا متقرباً إلى ربه بذلك"2.
وقول ابن سعدي إن تارك المعصية إذا تركها لأجل الله صار متعبداً لله بها تشهد له نصوص كثيرة.
ومنها حديث ابن عباس قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الحسنات والسئيات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسئية فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة"3.
ومنها حديث الثلاثة الذين أووا إلى غار في الجبل فانطبقت عليهم صخرة وسدت فم الغار. فأخذ كل واحد منهم يتوسل إلى الله بأعماله الصالحة فقال أحدهم: "اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحببتها كأشد ما يحب الرجل النساء وطلبت منها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فتعبت حتى جمعت مائة دينار. فجئتها بها. فلما وقعت بين رجليها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة. ففرج لهم.....الحديث"4.
وهذه نعمة عظيمة ومنّة جسيمة من الله على خلقه، فترك المعصية لأجل الله عبادة ويثاب عليها صاحبها، فلله الحمد والشكر.
بيان وتوضيحه أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين هما الإخلاص والمتابعة:-
هذا وإن العبادة أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها لا تقبل من فاعلها إلا إذا توفر فيها شرطان.
1 الحق الواضح المبين /59، 60.
2 الخلاصة /201.
3 أخرجه البخاري 7/187، ومسلم 1/118.
4 جزء من حديث أخرجه البخاري 7/69، ومسلم 4/2099، عن أنس بن مالك.
فإن عدما أو عدم أحدهما فلن تقبل من فاعلها، بل يكون من الخاسرين الذين قال الله عنهم:
ولأهمية هذين الشرطين ولتحتم معرفتهما على كل مسلم، فقد اهتم بهما علماء الإسلام قديماً وحديثاً.
وأول هذين الشرطين: أن تكون العبادة خالصة لوجه الله، فلا يشرك مع الله أحداً في العبادة.
وثانيهما: أن تكون العبادة مطابقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا ولقد تضافرت الأدلة في الكتاب والسنة على هذين الشرطين، فوردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على وجوب إفراد الله وحده بالعبادة وترك الشرك. ووردت نصوص كثيرة تدل على وجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته والسير على نهجه.
من أدلة الشرط الأول:
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2. وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 3 وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} 4 إلى قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} 5.
وقوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 6.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} 7.
1 سورة الكهف/ الآيتان 103، 104.
2 سورة البينة/ آية 5.
3 سورة الزمر/ آية 2.
4 سورة الزمر/ آية 11.
5 سورة الزمر/ آية 14.
6 سورة غافر/ آية 14.
7 سورة النساء/ آية 48.
8 سورة المائدة/ آية 72.
وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "1 واللفظ للبخاري.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"2.
وغيرها من النصوص الدالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده.
من أدلة الشرط الثاني:
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3. وقوله {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 4
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"6.
وفي رواية لمسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"7.
وعن عرباض بن سارية رضي الله عنه قال: " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاًُ كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا
1 البخاري 1/2، ومسلم 2/1515.
2 مسلم 4/2289، وأخرجه ابن ماجه 2/1405.
3 سورة الحشر/ آية 7.
4 سورة آل عمران/ آية 31، 32.
5 سورة النور/ آية 63.
6 البخاري 3/167، ومسلم 1343 وأخرجه ابن ماجه 1/7، وأبو داود 4/200، وأحمد 6/270.
7 مسلم 3/1344، ورواه أحمد في المسند 6/146.
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"1.
وغيرها من النصوص الدالة على هذا الأصل العظيم.
والمقصود أن إخلاص العمل لله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم من أوجب الواجبات على كل عبد، ولا يستقيم دين عبد ولا تصلح حاله ولا يطيب مآله إلا إذا تمسك بهما.
لذا صار التنبيه عليهما مهماً في جميع الأحوال؛ ولهذا فقد اهتم الشيخ ابن سعدي ببيان هذين الأصلين اهتماما كبيراً، ونبه عليهما وبين أنهما أصلان متفق عليهما بين سلف الأمة، وبين أن الأعمال لا تقبل إلا بهما، وبين أنهما معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال رحمه الله: "مذهب أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الله متفرد بالخلق والملك والسلطان والتدبير، فليس له في ذلك شريك ولا عوين، وأنه الإله الحق الذي لا معبود سواه، وأن كل من عبد من دونه من ملك مقرب أو نبي مرسل أو غيرهما فعبادته من أبطل الباطل وأعظم الشرك ويقومون بعبودية ربهم بكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، يخلصونها لله ويتابعون فيها رسول الله، ويتقربون بها إلى ربهم على وجه المحبة التامة والذل الكامل، فإن عبادة الله مبنية على هذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، الناشئين عن محبة الله وتعظيمه، فعبودية الله الظاهرة والباطنة تدور على هذا، ولا نجاة ولا فلاح إلا بذلك، ويرون أعظم القربات إلى الله الجد في إحسان الأعمال وإكمالها وإيقاعها على أكمل الوجوه مع استحضار مقام المراقبة لله وقت تلبس العبد بها، فيجتهدون في إتقان العمل وتنقيته من جميع المنقصات، ويعلمون أن هذا مراد الله من عباده كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2"3.
وقال رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: "أي ليمتحنكم إذ خلق لكم ما في السموات والأرض بأمره ونهيه، فينظر أيكم أحسن عملاً.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "دين الله أخصله وأصوبه".
1 أخرجه أبو داود 4/200 وابن ماجه 1/15، والدارمي 1/43، وأحمد في المسند 4/126.
والمروزي في السنة 4/126، وابن أبي عاصم في السنة بتحقيق الألباني 1/29، وقال الألباني إسناده صحيح ورجاله ثقات.
2 سورة هود/ آية 7. وسورة الملك/ آية 2.
3 توضيح الكافية الشافية /20.
قيل: يا أبا علي "ما أخلصه وأصوبه"؟
فقال: إن العمل إذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً.
والخالص: أن يكون لوجه الله والصواب: أن يكون متبعاً فيه الشرع والسنة"1.
ومن الآيات الجامعة لهذين الشرطين قوله تعالى في آخر سورة الكهف: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2.
وقال رحمه الله في تفسيرها: "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً وهو الموافق لشرع الله من واجب ومستحب، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً أي لا يرائي بعمله بل يعمله خالصاً لوجه الله تعالى.
فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة وهو الذي ينال ما يرجو، ويطلب، وأما من عدا ذلك فإنه خاسر في دنياه وأخراه وقد فاته القرب من مولاه ونيل رضاه"3.
تقسيمه للعبودية من حيث عموم الخلق:
إن الخلق كلهم عبيد الله باعتبار أنهم كلهم مخلوقون مربوبون له. وأما باعتبار أداء الواجب الذي خلقوا من أجله وهو تحقيق العبادة لله وحده وعدم الإشراك به فليس كلهم عبيد لله بل منهم العبيد ومنهم المشركون.
وعلى هذا فإن العبودية بهذا الاعتبار تكون على قسمين عبودية لربوبية الله، وعبودية لألوهيته.
وقد تناول الشيخ السعدي هذا التقسيم بالبيان فقال رحمه الله: " العبودية لله نوعان:
عبودية لربوبيته: فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم برهم وفاجرهم، فكلهم عبيد لله مربوبون مدبرون {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 4.
1 التفسير 3/404، وانظر التفسير 7/428، وانظر الخلاصة /201.
2 سورة الكهف/ آية 110.
3 التفسير 5/88.
4 سورة مريم/ آية 93.
وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته: وهي عبودية أنبيائه وأوليائه وهي المراده بقوله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} 1؛ ولهذا أضافها إلى اسمه إشارة إلى أنهم إنما وصلوا إلى هذه الحال بسبب رحمته"2.
ذكر بعض أنواع العبادة مع بيان ابن سعدي لها:
تقدم معنا أن العبادة أنواع كثيرة، إذ كل عمل يحبه الله ويرضاه وفيه تذلل وخضوع ومحبة، فهو عبادة ولا يجوز أن يصرف لغير الله فهو المعبود بحق ولا معبود بحق سواه.
وسأورد فيما يلي بعض أنواع العبادة، وأذكر كلام ابن سعدي عنها فإنه رحمه الله كما اهتم ببيان العقيدة إجمالاً فقد اهتم ببيانها على وجه التفصيل.
إذ أن القارئ في كتابه التفسير وخلاصته وغيرهما من كتبه يلمس هذا الاهتمام ويجد أنه رحمه الله يقف عند كثير من الآيات التي فيها ذكر نوع من أنواع العبادة ويتكلم عن هذا النوع المذكور ويبين أنه حق من حقوق الله التي لا يجوز صرفها لغيره ويذكر ما يتعلق بهذا النوع من التفصيلات وما يندرج تحته من أقسام وغير ذلك من الأمور التي تتعلق به على ما سيتبين من خلال كلامنا عن بعض أنواع العبادة.
وسأبدأ أولاً بذكر الدعاء. فالدعاء كما قال صلى الله عليه وسلم "هو العبادة"3.
ـ من العبادة الدعاء
إن الدعاء هو أعظم العبادة، وهو لبها ومخها، وقد وردت آيات كثيرة في كتاب الله في الحث عليه، وعدم الاستكبار عنه، والترغيب فيه. منها قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 4.
1 سورة الفرقان/ آية 63.
2 التفسير 5/293، والخلاصة /39.
3 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/267، وابن ماجه 2/1258، والترمذي 5/211، وقال حديث حسن صحيح، والبغوي في شرح السنة 5/184، وأبو نعيم في الحلية 8/120، والحاكم في المستدرك 1/490، وصححه ووافقه الذهبي.
4 سورة غافر/ آية 60.
5 سورة الأعراف/ آية 55، 56.
وقد ورد في السنة أيضاً أحاديث كثيرة في الترغيب فيه منها: حديث النعمان بن بشير قال: قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"2 وتلى قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 3.
ومنها ما رواه الترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل"4.
ومنها: حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"5.
وغيرها من الأحاديث.
والمقصود أن الدعاء من أفضل العبادات، ومن أعظم القربات التي يقوم به العبد لربه وخالقه ورازقه ومليكه؛ ولهذا فقد ظهر اهتمام ابن سعدي بهذه المسألة، حيث تناول بيانها وأشار إلى أهميتها في العديد من مؤلفاته، وفي مقدمتها التفسير.
قال رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 6.
"هذا من لطفه بعباده ونعمته العظيمة حيث دعاهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وأمرهم بدعائه، دعاء العبادة ودعاء المسألة، ووعدهم أن يستجيب لهم، وتوعد من استكبر عنها فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي ذليلين حقيرين، يجتمع عليهم العذاب والإهانة جزاء على استكبارهم"7.
1 سورة البقرة/ آية 186.
2 تقدم تخريج في ص 167.
3 سورة غافر/ آية 60.
4 الترمذي 5/565، ورواه أبو داود 2/76، وابن ماجه 2/1258، والحاكم (1/490) والبغوي في الشريعة فيها إسناد هذا الحديث من رواية حنش عن ابن عباس.
5 أخرجه أحمد 1/293، والترمذي 4/667 وقال: حديث حسن صحيح، والآجري في الشريعة /189 والحاكم 3/541، وقد أفرد فيه ابن رجب رسالة أسماها "نور الاقتباس" حسن فيها إسناد هذا الحديث من رواية حنش عن ابن عباس.
6 سورة غافر/ الآية 60.
7 التفسير 6/540.
وقال عند قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1: "فأمر بدعائه تضرعاً أي إلحاحاً في المسألة ودءوباً في العبادة وخفية أي لا جهر أو علانية يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصاً لله تعالى"2.
وقال في بيان أهمية الدعاء "....وكل القربات الظاهرة والباطنة تدخل في دعاء العبادة؛ لأن المتعبد لله طالب بلسان مقاله ولسان حاله من ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها"3.
وقال أيضاً في بيان أهميته عند قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4.
"فوضع كلمة الدين موضع كلمة العبادة، وهو في القرآن كثير جداً، يدل على أن الدعاء هو لب الدين وروح العبادة"5.
كلامه عن أقسام الدعاء:
بين الشيخ رحمه الله في مؤلفاته إن الدعاء ينقسم إلى قسمين دعاء مسألة ودعاء عبادة، فكل أمر في القرآن أو السنة بالدعاء لا يخرج عن هذين القسمين، قال رحمه الله في تفسيره " الدعاء نوعان: دعاء عبادة ودعاء مسألة"6.
وقال في القاعدة الحادية والخمسين من كتابه القواعد الحسان: "كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله والثناء على الداعين: يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخول العبادات في الدعاء، وهذا خطأ جرهم إلى ما هو شر منه، فإن الآيات صريحة في شموله لدعاء المسألة والعبادة، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي استجب طلبكم وأتقبل عملكم"7.
1 سورة الأعراف/ 55.
2 التفسير 3/40.
3 الخلاصة /57.
4 سورة غافر/ الآية 14.
5 القواعد الحسان /155.
6 التفسير 1/244، 3/40.
7 القواعد الحسان /156.
كلامه عن آداب الدعاء:
إن الالتزام بآداب الدعاء أمرٌ مطلوب من كل مسلم؛ وذلك لأن التزام آدابه سببٌ لقبوله.
وقد أشار رحمه الله إلى جملة من آداب الدعاء التي ينبغي للمسلم أن يلتزمها.
قال رحمه الله في تفسيره: ".....من آداب الدعاء: الإخلاص فيه لله وحده وإخفاؤه وأسراره، وأن يكون القلب خائفاً طامعاً لا غافلاً ولا آمنا ولا غير مبال بالإجابة"1.
وقال: "من شروط الدعاء وآدابه حضور قلب الداعي واستحضاره لمعاني ما يدعو به"2.
وهذا الشرط الأخير جعله يذكر في كتابه المواهب الربانية جملة من الأدعية الواردة في الكتاب والسنة ويقوم بشرحها ليسهل استحضارها، وهي في الحقيقة جملة من الأدعية الجامعة النافعة فلتراجع لأهميتها3.
وكذلك من آداب الدعاء أن لا يعتدي فيه ولا يتجاوز فيه الحد، وقد نهى عن الاعتداء في جميع الأمور.
قال رحمه الله عند قوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4.
"ومن الاعتداء كون العبد يسأل الله مسائل لا تصلح له، أو ينقطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه"5.
فعلى العبد أن يكثر من دعاء الله سبحانه، وأن يتأدب بآداب الدعاء، وأن يحسن في دعائه والله قريب من المحسنين.
ومن أنواع العبادة المحبة:
إن نصوص الكتاب والسنة الدالة على وجوب محبة الله سبحانه وتقديم محبته على سائر المحاب كثيرة جداً.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
1 التفسير 3/40، 41.
2 المواهب الربانية /28.
3 المواهب الربانية /28، وما بعدها، وانظر بهجة القلوب الأبرار /249.
4 سورة الأعراف/ الآية 40.
5 التفسير 3/40.
وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار"3.
وفيهما عنه رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "متى الساعة؟ فقال "ما أعددت لها"؟ قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنت مع من أحببت"4.
وقد تناول ابن سعدي هذا النوع من العبادة وبين أهميته وشدة الحاجة إليه وبين معناه، وأنواعه وما يتعلق به.
قال في بيان أهميته: "أصل التوحيد وروحه وإخلاص المحبة لله وحده وهي أصل التأله والتعبد، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعاً لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه"5.
وقال " العبادة روحها وحقيقتها الحب والخضوع لله، فالحب التام والخضوع الكامل لله هو حقيقة العبادة فمتى خلت العبادة من هذين الأمرين أو من أحدهما فليست عبادة، فإن حقيقتها الذل والانكسار لله، ولا يكون ذلك إلا مع محبته المحبة التامة التي تتبعها المحاب كلها"6.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ....} 7 الآية: "وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة الله ورسوله وعلى تقديمها على محبة كل شيء"8
1 سورة التوبة/ الآية 24.
2 سورة آل عمران/ الآية 31.
3 البخاري 1/9، ومسلم 1/66.
4 البخاري 7/113، ومسلم 4/2032.
5 القول السديد /110.
6 الحق الواضح المبين /59، 60.
7 سورة التوبة/ الآية 24.
8 التفسير 3/314.
كلامه في معنى محبة الله:
قال رحمه الله عند قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 1.
"وهذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة.
فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه، طريقاً إلى محبته ورضوانه.
فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما"2.
وقال: "ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وفي أقواله وأعماله وجميع أحواله"3.
والمقصود أن مجرد الادعاء لا يكفي بل لا بد من المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك ويتبين فيما إذا عرض للإنسان أمران أحدهما يحبه الله ورسوله وليس لنفسه فيه هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ولكنه يفوت عليه محبوباً لله ورسوله، وينقصه، فإن قدم ما يحبه الله ورسوله صار صادقاً في دعواه، وإن قدم ما تحبه نفسه وتهواه على ما يحبه الله دل ذلك على أنه ظالم تارك لما يجب عليه"4.
تقسيمه للمحبة:
قسم الشيخ ابن سعدي المحبة إلى أربعة أقسام فقال:
"واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام:
الأول: محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد.
الثاني: المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم، ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرها، وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها.
الثالث: محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر، وملك وغيرها وهي أصل الشرك وأساسه.
1 سورة آل عمران/ الآية 31.
2 التفسير 1/374.
3 التفسير 2/207.
4 التفسير 3/314.
وهنا قسم رابع: وهو المحبة الطبيعية التي تتبع ما يلائم العبد، ويوافقه من طعام وشراب ونكاح ولباس وعشرة وغيرها. وهذه إذا كانت مباحة إن أعانت على محبة الله وطاعته دخلت في باب العبادات، وإن صدت عن ذلك وتوسل بها إلى ما لا يحبه الله دخلت في المنهيات. وإلا بقيت من أقسام المباحات"1.
نسأل الله أن يرزقنا حبه، وحب من يحبه والعمل الذي يقرب إلى حبه إنه جواد كريم.
ومن أنواع العبادة الخوف:
الخوف من أفضل مقدمات الدين وأجلها، وقد ذكره الله في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة والأولياء والصالحين.
وقال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2.
وقال: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 3.
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 4.
وقال: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} 5.
وهو من العبادات العظيمة ولا يجوز صرفه لغير الله، وقد أمر الله بإخلاصه له في أكثر من آية.
وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 6.
وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 7.
وقال: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 9.
1 القول السدسد /112، 113.
2 سورة النحل/ الآية 50.
3 سورة الأنبياء/ الآية 28.
4 سورة المؤمنون/ الآية 57.
5 سورة الأحزاب/ الآية 39.
6 سورة المائدة/ الآية 44.
7 سورة النحل/ الآية 52.
8 سورة آل عمران/ الآية 175.
9 سورة البقرة/ الآية 40.
هذا وقد تناول الشيخ ابن سعدي هذا النوع من العبادة بالبيان والإيضاح.
فقال رحمه الله في بيان إخلاص هذا النوع من العبادة لله وحده عند تفسيره لقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُون} 1.
قال: "أي فلا تخافوا المشركين أولياء الشيطان، فإن نواصيهم بيد الله، لا يتصرفون إلا بقدره.
بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين إياه المستجيبين لدعوته وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود ما حجز العبد عن محارم الله"2.
وقال في بيان أهمية الخوف: "فالخوف يمنع العبد عن محارم الله وتشاركه الخشية في ذلك...."3. وقال: "فإن خشية الله جالبة لكل خير مانعة من كل شر"4.
تقسيمه للخوف:
يقسم ابن سعدي الخوف إلى أربعة أقسام:
(1)
خوف تأله لله، وتعلقه بالله من أعظم الواجبات.
(2)
خوف تأله لغير الله وهذا شرك أكبر.
(3)
خوف طبيعي كالخوف من الأسد والحية والنار وغير ذلك.
(4)
خوف وهمي كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً وهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء.
قال رحمه الله في بيان هذه الأقسام:
"اعلم أن الخوف والخشية تارة يقع عبادة وتارة يقع طبيعة وعادة، وذلك بحسب أسبابه ومتعلقاته.
فإن كان الخوف والخشية خوف تأله وتعبد وتقرب بذلك الخوف إلى من يخافه، وكان يدعو إلى طاعة باطنة وخوف سري يزجر عن معصية من يخافه كان تعلقه بالله من أعظم واجبات الإيمان.
وتعلقه بغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لأنه أشرك في هذه العبادة
1 سورة آل عمران/ الآية 175.
2 التفسير 1/457، وانظر القول السديد /114.
3 الخلاصة /201.
4 التفسير 6/225.
التي هي من أعظم واجبات القلب ـ غير الله مع الله، وربما زاد خوفه من غير الله على خوفه لله.
وأيضاً فمن خشي الله وحده على هذا الوجه مخلص موحد، ومن خشي غيره فقد جعل لله نداً في الخشية كمن جعل لله نداً في المحبة، وذلك كمن يخشى من صاحب القبر أن يوقع به مكروها أو يغضب عليه فيسلبه نعمه أو نحو ذلك مما هو واقع من عباد القبور.
وإن كان الخوف طبيعياً كمن يخشى من عدو أو سبع أو حية أو نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري، فهذا النوع ليس عبادة، وقد يوجد من كثير من المؤمنين، ولا ينافي الإيمان، وهذا إذا كان خوفاً محققاً قد انعقدت أسباب الخوف فليس بمذموم.
وإن كان هذا خوفاً وهميا كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً، أو له سبب ضعيف فهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة"1.
من أنواع العبادة التوكل:
قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2.
وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 4.
وغيرها من الآيات. والتوكل فريضة يجب إخلاصه لله إذ هو من أفضل العبادات وأعظم القربات وهو أعلى مقامات التوحيد.
وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذه العبادة كما اهتم ببيان غيرها من العبادات وأشار إلى أهمية التوكل وشدة الحاجة إليه.
قال رحمه الله: "التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان. وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه ويتم توحيده، والعبد يضطر إلى التوكل على الله والاستعانة به في كل ما يريد فعله أو تركه من أمور دينه أو دنياه"5.
1 القول السديد /115، 116.
2 سورة المائدة/ الآية 11.
3 سورة الفرقان/ الآية 58.
4القول السديد/ 117.
5 القول السديد /117.
وقال في إحدى خطبه: "فالاستعانة بالله، والتوكل عليه من أعظم واجبات الإيمان وأفضل الأعمال المقربة للرحمن. فإن الأمور كلها لا تحصل ولا تتم إلا بالاستعانة بالله، ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله. فإن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تحول للعباد من حال إلى حال إلا بالله، ولا قوة لهم على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ولا مانع لهم من الشر والمعاصي إلا عصمة الله، وكذلك أسباب الرزق لا تحصل وتتم إلا بالسعي في الطلب مع التوكل على الله"1.
وكما بين رحمه الله أهمية التوكل فقد بين حقيقته وكيفيته فقال: "حقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده، في فعل الأسباب النافعة. فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، ليبشر بكفاية الله له ووعده المتوكلين، ومتى علق ذلك بغير الله فهو شرك، ومن توكل على غير الله وتعلق به وكل إليه وخاب أمله"2.
كلامه في التوسل:
وهذه أيضا من العبادات التي تناولها الشيخ ابن سعدي وبين معناها وأقسامها.
قال رحمه الله في بيان معنى التوسل إلى الله وذلك عند قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} .
"أي القرب منه والحظوة لديه والحب له، وذلك بأداء فرائضه القلبية كالحب له وفيه، والخوف والرجاء والإنابة والتوكل.
وبدنية كالزكاة والحج.
1 الفواكه الشهية/22.
2 القول السديد /117، 118.
3 سورة المائدة/ الآية 35.
4 سورة الإسراء/ الآية 57.
والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها...."1.
وبين أن التوسل ثلاثة أقسام فقال: "التوسل يطلق على التوسل إلى الله بما جعله وسيلة إليه في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} 2.
وذلك يشمل التقرب إلى الله بالواجبات والمستحبات، وكذلك التقرب إليه بترك المكروهات.
فهذا توسل إليه بعبادته التي خلق لأجلها، ومن هذا التوسل إليه في دعاء المسألة بأسمائه وصفاته، والتوسل إليه بمنته ونعمه كالتوسل إليه بالإيمان به وبرسله وكتبه أو دفع نقمه، وبالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه بالصلاة والسلام عليه، فهذه الوسيلة لا يتم الإيمان إلا بها.
النوع الثاني: التوسل إلى الله بذوات المخلوقين، وجاههم فهذا الصواب أنه لا يحل؛ لأنه لا يتقرب إلى الله إلا بما شرع، وهذا ليس بمشروع، وأيضاً فذوات المخلوقين وإن كان لهم عند الله مقام وجاه، فهذا ليس لغيرهم وليس التوسل بهم سببا لشفاعتهم للمتوسل عند الله ولم يجعله الله من الأمور المقربة إليه، وليس ذلك إلا توسلا بما منّ الله على المتوسل فتعين أنه لا يجوز.
النوع الثالث: ما يسميه المشركون توسلاً وهو التقرب إلى المخلوقين بالدعاء والخوف والرجاء والطمع ونحو ذلك فهذا توسل الشيطان وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفر لصاحبه إن لم يتب"3.
كلامه عن الشرك:
تمهيد: إن معرفة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلانه وأنواعه من أهم الأمور، وذلك أنه لا يمكن للإنسان أن يحذر منه ويحذر غيره إلا إذا عرفه وعرف خطره.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: "كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"4.
1 التفسير 2/285.
2 سورة المائدة/ الآية 35.
3 الفتاوى السعدية /31، 32، وانظر التفسير 1/363، والمواهب الربانية /31، 32، 33.
4 البخاري 8/93، ومسلم 3/1475، وأخرجه الإمام أحمد 5/403، وأبو داود 4/95.
وهذا المعنى تمثل به أحد الشعراء بقوله:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه
ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه
ومن هنا يتلخص لنا أن في معرفة الشرك وما يتعلق به فوائد عديدة:
أحدها: إن الإنسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع فيه.
الثاني: أنه يمكنه بذلك أن يحذر غيره.
الثالث: أنه يظهر له بذلك حسن الإسلام والتوحيد، وذلك أنه إذا عرف الشرك وظهر له بطلانه، عرف أن ضده وهو التوحيد أفضل الأعمال، بضدها تتميز الأشياء.
إلى غير ذلك من الفوائد.
ولهذه الأسباب وغيرها فقد ظهر اهتمام الشيخ ابن سعدي ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه وخطره وجميع ما يتعلق به، وبين أن توحيد العبادة المتقدم بيانه لا يتم ولا يقبل من صاحبه إلا بترك الشرك والبعد عنه. قال:"ولا يتم توحيد العبادة حتى يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله، وحتى يدع الشرك الأكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة، وهو أن يصرف نوعاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى، وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع الشرك الأصغر وهو: كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله، ويسير الرياء ونحو ذلك"1.
ولهذا فإني سأذكر فيما يلي تعريفه للشرك وبيانه لأقسامه وأسبابه وذمه له وبيانه لبطلانه إلى غير ذلك من الأمور التي تتعلق بهذا الجانب.
تعريفه للشرك وبيانه لأقسامه:
قال رحمه الله في تعريف الشرك: "وحقيقة الشرك بالله: أن يُعبد المخلوق كما يعبد الله أو يُعظم كما يعظم الله أو يُصرف له نوع من خصائص الربوبية والألوهية"2.
وقسم الشرك إلى نوعين: شرك في الربوبية، وشرك في الألوهية فقال:"الشرك نوعان: شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خالقاً مع الله وشرك في ألوهيته كشرك المشركين الذين يعبدون الله ويعبدون غيره ويشركون بينه، وبين المخلوقين، ويسوونهم مع الله في شيء من خصائص ألوهيته"3.
1 الفتاوى السعدية /13.
2 التفسير 2/499.
3 الخلاصة /203 وانظر الرياض الناضرة /256، وسؤال وجواب /11.
وكلامنا هنا سيكون مقتصراً على النوع الثاني من أنواع الشرك وهو "الشرك في الألوهية"، أما النوع الأول فقد تقدم الكلام عليه ضمن توحيد الربوبية.
ذم الشرك:
وردت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة في التحذير من الشرك، وبيان خطره، وأنه أعظم ذنب عصى الله به، وأنه لا أضل من فاعله، وأنه مخلد في النار أبداً لا نصير له ولا حميم ولا شفيع يطاع.
بل إن الآيات والأحاديث الواردة في ذلك لا تحصى إلا بكلفة.
وقال للرسل وهم صفوة الخلق: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5.
وقال لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 6.
وغيرها من الآيات. ومن الأحاديث الواردة في ذلك.
حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار"7.
1 سورة النساء/ الآية 48.
2 سورة النساء/ الآية 116.
3 سورة المائدة/ الآية 72.
4 سورة الحج/ الآية 31.
5 سورة الأنعام/ الآية 88.
6 سورة الزمر/ الآية 65.
7 أخرجه البخاري 2/69، ومسلم 1/94.
وحديث جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة"1.
وحديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق"2.
وحديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" ثلاثاً: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"3.
وغيرها من الأحاديث.
ولقد اهتم سعدي ببيان خطورة الإشراك بالله وشناعته، وقبح فاعله وضلاله، وبين أن الله وملائكته ورسله قد حذروا من هذا العمل وبين أن ما عبد من دون الله لا يملك لنفسه ضراً ولا رشداً وأن النافع الضار هو الله إلى غير ذلك من الجوانب التي تناولها في سبيل بيان قبح الشرك.
قال رحمه الله: "فالله وملائكته ورسله قد نهوا عن الشرك، وذموا من عمله أشد الذم، ورتبوا عليه من الأسماء المذمومة والأوصاف المقبوحة ما كان به متعاطية أشنع الخلق وصفاً وأقبحهم نعتاً، وله في الخذلان في أمر دينه ودنياه بحسب ما تركه من التعلق بربه.
فمن تعلق بغيره فهو مخذول، قد وكل إلى من تعلق به، ولا أحد من الخلق ينفع أحداً إلا بإذن الله"4.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 5.
"فهذا برهان جلي دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله مستقبح عقلاً وشرعاً، ودل تنبيهه وإشارته أن الذي يجب ويحسن عبادته من له الكمال الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو الله تعالى"6.
1 أخرجه مسلم 1/94.
2 أخرجه البخاري 2/69، ومسلم 1/94.
3 أخرجه البخاري 3/152، ومسلم 1/91.
4 التفسير 4/369، وانظر 6/130.
5 سورة مريم/ الآية 42.
6 التفسير 5/110.
وقال عند قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1: ".. فالمخلوقات كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه حتى ينتهي القهر للواحد القهار، فالقهر والتوحيد متلازمان متبينان لله وحده.
فتبين بالدليل العقلي القاهر أن ما يدعى من دون الله ليس له شيء من خلق المخلوقات وبذلك كانت عبادته باطلة"2.
وقال عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
…
} 3.
".... الشرك لا يغفره الله لتضمنه القدح في رب العالمين، ووحدانيته وتسوية المخلوق الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، بمن هو مالك النفع والضر، الذي ما من نعمة إلا منه، ولا يدفع النقم إلا هو الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه والغني التام بجميع وجوه الاعتبارات.
فمن أعظم الظلم، وأبعد الضلال، عدم إخلاص العبادة لمن هذا شأنه وعظمته، وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال شيء ولا له من صفات الغني شيء بل ليس له إلا لعدم، عدم الوجود، وعدم الكمال وعدم الغنى من جميع الوجوه"4.
وقال في بيان وجه كون الشرك ظلماً عظيماً، عند قوله تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 5.
"ووجه كونه ظلماً عظيماً، أنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوّى المخلوق من تراب بمالك الرقاب، وسوّى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله وسوى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه، وسوى من لا يستطيع أن ينعم بمثقال ذرة من النعم بالذي ما بالخلق من نعمة في دينهم ودنياهم وأخراهم وقلوبهم وأبدانهم إلا منه ولا يصرف السوء إلا هو. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟
وهل أعظم ظلماً ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئاً"6.
1 سورة الرعد/ الآية 16.
2 التفسير 4/99.
3 سورة النساء/ الآية 116.
4 التفسير 2/165.
5 سورة لقمان/ الآية 13.
6 التفسير 6/155، 156، وانظر التفسير 6/276.
وبين أن كل من عبد أحداً غير الله وأشركه معه في العبادة يكون بعمله هذا طائعاً عابداً للشيطان؛ لأنه امتثل أمره وحقق مراده ومقصوده.
فقال عند قوله تعالى: {لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} 1 أي لا تطيعوه، وهذا التوبيخ يدخل فيه التوبيخ عن جميع أنواع الكفر والمعاصي؛ لأنها كلها طاعة للشيطان وعبادة له"2.
ويكفي في بيان ذم الشرك وخطره قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3.
فهو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه، وأما بقية الذنوب فإن صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
قال رحمه الله: "فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسباباً كثيرة كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين، بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين، ومن دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل الإيمان والتوحيد.
وهذا بخلاف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة، وأغلق دونه أبواب الرحمة، فلا تنفعه الطاعات من دون التوحيد، ولا تفيده المصائب شيئاً"4.
كلامه عن سبب أول شرك حصل في بني آدم:
بين الشيخ ابن سعدي عند تفسيره لسورة نوح ما قرره ابن عباس وغيره من أئمة السلف أن أول شرك حصل من بني آدم سببه هو تعظيم الصالحين وقبورهم، ورفعهم فوق منزلتهم حيث بين أن الناس مكثوا بعد آدم على ملة الإسلام يعبدون الله وحده
1 سورة يس/ الآية 60.
2 التفسير 5/111.
3 سورة النساء/ الآية 48.
4 التفسير 2/80.
فأفسد الشيطان عليهم دينهم بأن أملى لهم تعظيم الصالحين ثم ترقى بهم إلى أن جعلهم يعبدونهم من دون الله.
قال في خلاصة التفسير: "مكث البشر بعد آدم قروناً طويلة وهم أمة واحدة على الهدى، ثم اختلفوا وأدخلت عليهم الشياطين والشرور المتنوعة بطرق كثيرة فكان قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم الشيطان فأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتسلوا بهم وليتذكروا بها أحوالهم، فكان هذا مبتدأ الشر.
فلما هلك الذين صوروهم لهذا المعنى جاء من بعدهم وقد اضمحل العلم فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً قد كانوا أولوكم يدعونهم ويستشفعون بهم، وبهم يسقون الغيث وتزول الأمراض، فلم يزل بهم حتى انهمكوا في عبادتهم على رغم نصح الناصحين.
ثم بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1 " 2.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 3.
"وهذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا زين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم لينشطوا بزعمهم على الطاعة إذا رأوها.
ثم طال الأمد وجاء غير أولئك فقال لهم الشيطان إن أسلافكم كانوا يعبدونهم ويتوسلون بهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم"4.
كلامه عن فطرية التوحيد وأن الشرك طارئ على البشرية:
هذه المسألة للناس فيها قولان:
القول الأول: هو أن الله خلق الناس حنفاء على عقيدة واحدة وهي عقيدة التوحيد ثم عرضت لهذه العقيدة انحرافات فمال الناس وانحرفوا إلى الوثنية والشرك بالله وهذا القول هو القول الحق، الذي لا شك فيه والذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، ولا يعرف أحد من العلماء المعتبرين قال بخلافه.
1 سورة الأعراف/ الآية 59.
2 الخلاصة /107.
3 سورة نوح/ 23.
4 التفسير 7/ 485.
أما القول الثاني: فهو أن التدين بدأ بالخرافة والشرك وعبادة غير الله ثم أخذ يتطور إلى أن أفرد الله وحده بالعبادة1.
ولا شك أن هذا القول باطل فاسد يخالف نصوص الكتاب والسنة، بل إن نصوص الكتاب والسنة تدل على بطلانه2.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} 3.
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 4. وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 5.
وقال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 6.
وفي الحديث القدسي قال الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم"7.
وقال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطر فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"8.
وغيرها من النصوص، وهي كلها تدل على بطلان القول الثاني، وأن الصواب الموافق للكتاب والسنة وهو القول الأول، من أن الأصل في الناس التوحيد والشرك طارئ وحادث فيهم.
وقد بين ابن سعدي أن الأصل في الناس التوحيد وأنهم مفطورون على العقيدة، وأن الشرك والانحراف عن هذه العقيدة طارئ على البشرية.
وقال عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} 9.
"متفقين على الدين الصحيح، ولكنهم اختلفوا فبعث الله الرسل مبشرين ومنذرين"10
1 ذكر هذين القولين الدكتور محمد دراز في كتابه الدين /80.
2 انظر: في بيان بطلانه الفتاوى لابن تيمية 20/106.
3 سورة يونس/ الآية 19.
4 سورة البقرة/ الآية 213.
5 سورة الروم/ الآية 30.
6 سورة النحل/ الآية 36.
7 تقدم تخريجه ص 68.
8 تقدم تخريجه ص 68.
9 سورة يونس/ الآية 19.
10 التفسير 3/338.
وقال: "مكث البشر بعد آدم قرونا وهم أمة واحدة على الهدى ثم اختلفوا"1.
وقال عند قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} 2 بعد أن بين أن الناس جميعا مفطورون على التوحيد وأن هذا الأصل في جميع الناس قال: "ومن خرج عن هذا الأصل فعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو نصرانه أو مجسانه"3 4.
تنبيه:
قال الشيخ ابن سعدي عند تفسيره لقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 5.
قال: "أي كان الناس مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء ليس لهم نور ولا إيمان فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم"6.
وهذه الآية ذكر ابن كثير فيها قولين عن السلف وكلاهما ينسب إلى ابن عباس
أحدهما: أنهم كانوا على الهدى جميعهم.
والثاني: أنهم كانوا كفاراً.
ثم قال بعد ذكر هذين القولين: "والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً، ومعنى؛ لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض"7.
ولا ريب أن قول ابن سعدي المذكور آخراً يتعارض مع أقواله المتقدمة إلا إذا حمل على أن المراد بالناس في الآية الأقوام التي كفرت بالله بعد أن فطرت على التوحيد، وهذا له وجه من الصحة.
ومن أمعن النظر في أقواله المتقدمة التي ذكر فيها أن الناس كانوا على التوحيد ثم حصل منهم الكفر، عرف صحة هذا المحمل.
والمقصود أن ابن سعدي يرى أن الشرك طارئ على الناس بعد أن خلقوا حنفاء موحدين.
1 الخلاصة /107.
2 سورة الروم/ الآية 30.
3 تقدم تخريجه ص 68.
4 التفسير 6/126.
5 سورة البقرة الآية/ 213.
6 التفسير 1/260.
7 تفسير ابن كثير 1/250.
كلامه في الفرق بين الكفر والشرك:
ذكر الشيخ ابن سعدي فارقاً بين الكفر والشرك وهو أن الكفر أشمل من الشرك بحيث أنه كل شرك كفر وليس كل كفر شركاً.
ومثال ذلك الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم أو القرآن كفر وليس شركاً.
فهذا العمل كفر وليس بشرك، أما الأمور الشركية كعبادة غير الله من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم ودعائهم من دون الله، وطلب الحوائج منهم، وغير ذلك من الشركيات، فإنها كلها كفرية.
قال ابن سعدي في بيان هذا الفارق بين الكفر والشرك: "الكفر أعم من الشرك فمن جحد ما جاء به الرسول أو جحد بعضه بلا تأويل فهو كافر من أي دين يكون سواء كان صاحبه معانداً أو جاهلاً ضالاً
…
"2.
وبين أن الكفر نوعان كفر أكبر مخرج من الدين كالتكذيب لله ورسوله، وكفر أصغر كالاقتتال بين المسلمين والنياحة والتبرؤ من النسب3
كلامه في أنواع الشرك:
قسم ابن سعدي الشرك إلى نوعين: شرك أكبر مخرج من الملة، وشرك أصغر. وبين أن العبد لا يتم له توحيد العبادة حتى يتبرأ من الشرك بنوعيه.
فقال: "الشرك المناقض لتوحيد الألوهية نوعان:
جلي ظاهر مخرج من دائرة الإسلام وهو الشرك الأكبر، وهذا النوع لا يقبل الغفران. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4.
وتفسيره: أن يتخذ العبد لله نداً يحبه كمحبة الله أو يرجوه أو يخافه كخوفه من الله
1 سورة التوبة الآيتان 65، 66.
2 الخلاصة /203، وانظر الرياض الناضرة /255.
3 الفتاوى السعدية /103، وهو يشير في ذلك إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"سباب المسلم فسسوق وقتاله كفر" أخرجه البخاري 1/17، ومسلم 1/81، وقوله:"اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت" أخرجه مسلم 1/82.
4 سورة النساء/ الآية 48.
أو يدعوه أو يصرف له نوعاً من أنواع العبادة الظاهرة والباطنة. وفي هذا المقام لا فرق بين الملائكة والأنبياء والأولياء الصالحين والطالحين والأشجار والأحجار وغيرها.
فمن صرف لشيء منها نوعاً من العبادة فهو مشرك كافر قد سواها بربه في هذا الحق الذي يختص به، فإن العبودية لا حق فيها لملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غيرهما، بل هم مفتقرون غاية الافتقار إلى تألههم وتعبدهم لله.
وأما الشرك الأصغر: فهو كل وسيلة يتوسل بها ويتطرق إلى الشرك الأكبر بشرط أن لا يبلغ مرتبة العبادة كالحلف بغير الله وكالرياء والتصنع للمخلوقين ونحو ذلك من الأقوال المؤدية إلى الشرك.
فلا يتم للعبد توحيد حتى يتبرأ من الشرك كله جليه وخفيه ظاهره وباطنه الأقوال منه والأفعال، وتكون أعماله كلها خالصة. متبعا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
الفوارق بين الشرك الأكبر والأصغر:
وقد ذكر ابن سعدي جملة من الفوارق بين الشرك الأكبر والأصغر، وهي فوارق هامة.
قال رحمه الله: "اعلم أن الشرك الأكبر، والشرك الأصغر يفترقان في أحكام كثيرة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع: يفترقان في حدهما: أما الشرك الأكبر فهو: صرف نوع من العبادة لغير الله تعالى فكل ما ثبت في الكتاب والسنة من العبادات إذا صرف العبد منها شيئاً لغير الله فهو مشرك كافر.
وأما حد الشرك الأصغر فهو كل وسيلة يخشى أن توصل صاحبها إلى الشرك الأكبر كالحلف بغير الله، وكالرياء والسمعة وكالغلو في المخلوق الذي لا يصل إلى رتبة عبادته، فهذا هو أصل الفروق بينهما.
الفرق الثاني، والثالث: أن الشرك الأكبر محكوم على صاحبه بالكفر والخروج من الإسلام، ومحكوم عليه أيضاً بالخلود في النار، وتحريم دخول الجنة.
وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك في الحكمين فإنه لا يحكم على صاحبه بالكفر ولا الخروج من الإسلام، ولا يخلد في النار إذا لم يفعل مكفراً آخر.
1 الحق الواضح المبين /59، وانظر القول السديد /29، 52، والرياض الناضرة /256، وسؤال وجواب /11.
فهذه الأحكام الثلاثة وما يترتب عليها من التفريعات المبنية عليها لم يختلف فيها أهل العلم لأن نصوص الكتاب والسنة فيها كثيرة قاطعة صريحة"1.
هل الشرك الأصغر تحت المشيئة مثل الكبائر أم هو مثل الشرك الأكبر:
تقدم معنا من النصوص ما يدل على أن ذنب الشرك لا يغفره الله إذا مات صاحبه وهو لم يتب منه.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2.
وهنا يرد سؤال هل الشرك الأصغر داخل في عموم هذه الآية بحيث أن فاعله إذا مات عليه يكون معاقباً بإدخاله نار جهنم أم أنه كبقية الذنوب التي دون الشرك.
هذه المسألة بحثها الشيخ ابن سعدي وذكر فيها كلاماً نفيساً. حيث يقول: "من لحظ إلى عموم الآية، وأنه لم يخص شركاً دون شرك أدخل فيها الشرك الأصغر وقال إنه لا يغفر بل لا بد أن يعذب صاحبه، لأن من لم يغفر له لا بد أن يعاقب، ولكن القائلين بهذا لا يحكمون بكفره ولا بخلوده في النار وأنه يعذب عذاباً أبديا ـ لأن هذا مذهب الخوارج المنحرفين ـ وإنما يقولون يعذب عذاباً بقدر شركه ثم بعد ذلك مآله إلى الجنة.
وأما من قال إن الشرك الأصغر لا يدخل في الشرك المذكور في هذه الآية، وإنما هو تحت المشيئة فإنهم يحتجون بقوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 3. فيقولون كما أن بإجماع الأئمة أن الشرك الأصغر لا يدخل تحت هذه الآية التي حكم الله بها للمشرك بتحريم الجنة والخلود في النار فلا يدخل في تلك الآية وكذلك لا يدخل في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 4، لأن العمل هنا مفرد مضاف ويشمل الأعمال كلها، ولا يحبط الأعمال الصالحة كلها إلا الشرك الأكبر.
قالوا وإذا فارق الشرك الأكبر في تلك الأحكام السابقة بأنه لا يحكم عليه بالكفر والخروج من الإسلام ولا بالخلود في النار، فارقه في كونه مثل الذنوب التي دون الشرك وأنه تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه؛ ولأن مشاركته للكبائر في أحكامها الدنيوية والأخروية أكثر من مشاركته للشرك الأكبر.
1 ضمن فتاوى بعثها السعدي إلى الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الحصين، وهذه الفتاوى مؤرخة بتاريخ 29/6/1374هـ مخطوطه.
2 سورة النساء/ الآية 48.
3 سورة المائدة/ الآية 72.
4 سورة الزمر/ الآية 65.
ويؤيد قولهم أن الموازنة واقعة بين الحسنات وبين السيئات التي هي دون الشرك الأكبر لأن الشرك الأكبر؛ لا موازنة بينه وبين غيره فإنه لا يبقى معه عمل ينفع.
وأما السيئات التي دونه فيقع بينها الموازنة من رجحت حسناته على سيئاته دخل الجنة بلا عذاب، ومن رجحت سيآته على حسناته، استحق دخول النار بقدر ذنوبه، ومن تساوت حسناته وسيآته فهو من أهل الأعراف الذين مآلهم إلى دخول الجنة، ولكن الأولون قد يجيبون عن هذا بأنه قد يعذب صاحب الشرك الأصغر قبل الموازنة، إما في البرزخ، وإما قبل ذلك أو بعده في عرصات القيامة، فيقول الآخرون: وكذلك الكبائر قد يعذب صاحبها قبل الموازنة فتسقط الموازنة بها فلا يختص بذلك الشرك الأصغر، ومن تأمل الأدلة من الكتاب والسنة أمكنه أن يعرف الراجح من القولين"1.
وتقدم عند كلامه عن الفروق بين الشرك الأكبر والأصغر قوله: "وأما الشرك الأصغر فهو بخلاف ذلك في الحكمين فإنه لا يحكم على صاحبه بالكفر ولا الخروج من الإسلام ولا يخلد في النار إذا لم يفعل مكفراً آخر".
وهذا يبين أنه يرى أن الشرك الأصغر مثل الكبائر داخل تحت مشيئة الله إن شاء عذب فاعله وإن شاء عفى عنه.
ذكر جملة من أنواع الشرك وكلام السعدي عنها:
من أنواع الشرك دعاء غير الله:
قال رحمه الله: "ومن دعا غيره من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم أو استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر"2.
ومنها الذبح لغير الله:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَه} 3.
وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 4.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله"5.
1 ضمن الفتاوى السابقة.
2 القول السديد /59.
3 سورة الأنعام/ الآيتان 162، 163.
4 سورة الكوثر/ الآية 2.
5 أخرجه مسلم 3/1567، وأحمد 1/118، وغيرهما.
قال ابن سعدي بعد أن ذكر جملة من النصوص في ذلك: "وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام"1.
ومنها الاستعاذة والاستغاثة بغير الله:
قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} 2.
وقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 3.
قال ابن سعدي في بيان وجوب إخلاص هاتين العبادتين لله، وأن صرفهما لغير الله شرك "أمر الله بالاستعاذة به وحده من الشرور كلها، وبالاستغاثة به في كل شدة فهذه إخلاصها لله إيمان وتوحيد وصرفها لغير الله شرك وتنديد"5.
كلامه في لبس الحلقة والخيط:
بين ابن سعدي أن الحكم في هذه المسألة يتوقف على معرفة الأسباب التي دعت إلى لبسها، إذ إنه باختلاف الأسباب الجائزة لا تخرج عن ثلاثة أمور:
" أحدها: أن لا يجعل منها سبباً إلا ما ثبت إنه سبب شرعاً وقدراً. ثانيها: أن لا يعتمد العبد عليها بل يعتمد على مسببها، ومقدرها مع قيامه بالمشروع منها وحرصه على النافع منها.
ثالثها: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه"6.
والذي يلبس الحلقة أو الخيط أو غيرهما لا يخرج عن أمرين إما أن يعتقد في الذي لبس أنه قادر على رفع الضر وكشف البلاء عنه، أو يعتقد أن هذا مجرد سبب وأن النافع
1 القول السديد /51، وانظر التفسير 2/510.
2 سورة الناس/ الآية 1.
3 سورة الجن/ الآية 6.
4 سورة يونس/ الآيتان 106، 107.
5 القول السديد /58، وانظر التفسير 3/223.
6 القول السديد /41، 42.
الضار هو الله، وعلى هذا الضوء حكم ابن سعدي، فقال: "من لبس الحلقة والخيط أو نحوهما قاصداً بذلك رفع البلاء بعد نزوله أو دفعه قبل نزوله فقد أشرك، لأنه اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة فهذا الشرك الأكبر
…
وإن اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا يستدفع بها البلاء فقد جعل ما ليس سبباً شرعياً ولا قدرياً سبباً، وهذا محرم وكذب على الشرع والقدر"1.
كلامه في زيارة القبور:
قسم ابن سعدي زيارة القبور إلى نوعين: نوع مشروع، ونوع ممنوع، قال: "أما المشروع فهو ما شرعه الشارع من زيارة القبور على الوجه الشرعي من غير شد رحل، ويزورها المسلم متبعا للسنة فيدعو لأهلها عموماً ولأقاربه ومعارفه خصوصاً، فيكون محسناً إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم، ومحسناً إلى نفسه باتباع السنة وتذكرة الآخرة والاعتبار بها والاتعاظ.
وأما الممنوع فإنه نوعان:
أحدهما: محرم ووسيلة للشرك كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها، والصلاة عندها، وكإسراجها والبناء عليها، والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة.
والنوع الثاني: شرك أكبر كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، فهذا شرك أكبر، وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم"2.
وهذا آخر ما يتعلق بموضوع الشرك وأسبابه وأنواعه، وقد تبين شدة خطره وضرره.
فالواجب على المسلم أن يحذر منه أشد الحذر وأن يبذل وسعه في سبيل تحقيق التوحيد، ولا يكون ذلك إلا بالسلامة من الشرك بنوعيه والسلامة من البدع والخرفات.
قال ابن سعدي: "إن تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع القولية والاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي وذلك بكمال الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله وبالسلامة من البدع"3.
1 القول السديد /43.
2 القول السديد /81، 82.
3 القول السديد /25.
كلامه عن البدعة وأقسامها:
إن من شروط قبول العبادة أن تكون مطابقة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يتعبد الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1.
وقد دلت النصوص على أن كل عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله فهي بدعة محدثة في الدين مردودة على صاحبها غير مقبولة منه.
ففي صحيحين من حديث عائشة قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"3.
وفي رواية "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"4.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة"5.
وهنا تظهر خطورة الإحداث في دين الله؛ لما يترتب على هذا العمل المحدث من عدم قبوله ورده على صاحبه ووصفه بأنه ضلالة وشر، وأنه في النار، قال تعالى:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 6، وقد بين ابن كثير في تفسيره أن هذه الآية "عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود"7.
وقد اعتنى ابن سعدي بهذا الموضوع في مؤلفاته، وبين خطورة الابتداع في دين الله وأضرارٌ وأنه عناء ومشقة على صاحبه دون فائدة بل إنه يترتب عليه أضرارٌ كثيرة.
1 سورة الحشر/ الآية 7.
2 سورة آل عمران/ الآية 31.
3 تقدم تخريجه ص ـ163.
4 تقدم تخريجه ص ـ163.
5 مسلم 2/592.
6 سورة الكهف/ الآيتان 103، 104.
7 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/107.
قال عند قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} 1: "دل تقييد التطوع بالخير، أن من تطوع بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله، أنه لا يحصل له إلا العناء وليس بخير له بل قد يكون شراً له إن كان متعمداً عالماً بعدم مشروعية العمل"2.
وهذا شامل لجميع البدع لا فرق بينها، فليس هناك بدعة حسنة وبدعة ضلالة بل جميع البدع ضلالة مردودة على أصحابها.
وقد أشار ابن سعدي إلى هذا الجانب الهام الذي غلط فيه كثير من الناس في مواضع متعددة.
فقال: "وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله فهو متعبد ببدعة"3.
وقال في شرحه لحديث عائشة المتقدم: "وأما حديث عائشة....فإنه يدل على أن كل بدعة أحدثت في الدين ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة، سواء كانت من البدع القولية الكلامية كالتجهم والرفض والاعتزال وغيرها، أو من البدع العملية كالتعبد لله بعبادات لم يشرعها الله ولا رسوله، فإن ذلك كله مردود على أصحابه، وأهله مذمومون بحسب بدعهم وبعدها عن الدين فمن أخبر بغير ما أخبر الله به ورسوله، أو تعبد بشيء لم يأذن الله به ورسوله، ولم يشرعه فهو مبتدع، ومن حرم المباحات أو تبعد بغير المشروعات فهو مبتدع"4.
وكما تناول جانب البدعة وخطرها وأنها بجميع أنواعها ضلالة، فقد تناول جانب السنة وبين أن الدين كامل وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات حتى أتم الله الدين وأكمله، وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرهم منه.
فقال عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ....} 5. "
…
فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ ودعا وأنذر وبشر وعلم الجهال الأميين حتى صاروا من العلماء الربانيين وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله. فلم يبق خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها عنه.
1 سورة البقرة/ الآية 158.
2 التفسير1/184.
3 التفسير 1/231.
4 بهجة القلوب الأبرار /12، 13.
5 سورة المائدة/ الآية 67.
وشهد له بالتبليغ أفاضل الأمة من الصحابة، فمن بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين"1.
وقال عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2، "ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة من علم الكلام وغيره فهو جاهل مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله"3.
والمقصود أن الدين كامل بأخباره وبأوامره ونواهيه وفرائضه وسننه وجميع أحكامه فما ترك الرسول الكريم من خير إلا دل أمته عليه ورغبها في العمل به، وما ترك من شر إلا ودل أمته عليه وحذرها منه، وإن من أعظم الشرور التي حذر الرسول الأمة منها الإحداث والابتداع في الدين.
تعريفه للبدعة:
ذكر ابن سعدي تعريفاً جامعاً للبدعة فقال: "البدعة هي الابتداع في الدين فإن الدين: هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة وما دلت عليه أدلة الكتاب والسنة فهو من الدين وما خالف ذلك فهو البدعة، هذا هو الضابط الجامع"4.
وقال: "البدعة هي خلاف السنة"5.
تقسيمه للبدعة:
قسم ابن سعدي كغيره من العلماء البدعة إلى قسمين:-
بدعة قولية، وبدعة عملية.
فقال: "تنقسم البدعة بحسب حالها إلى قسمين: بدع اعتقاد ويقال لها البدع القولية، وميزانها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن "ستفترق هذه الأمة على ثلاث
1 التفسير 2/320.
2 سورة المائدة/ الآية 3.
3 التفسير 2/242، 243.
4 الفتاوى السعدية /73.
5 سؤال وجواب /17.
وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"1 فأهل السنة المحضة السالمون من البدع الذين تمسكوا بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الأصول كلها أصول التوحيد والرسالة والقدر ومسائل الإيمان وغيرها، وغيرهم من خوارج ومعتزلة وجهمية وقدرية ورافضة ومرجئة ومن تفرع عنهم كلهم من أهل البدع الاعتقادية وأحكامهم متفاوتة بحسب بعدهم عن أصول الدين وقربهم، وبحسب عقائدهم أو تأويلهم، وبحسب سلامة أهل السنة من شرهم في الأقوال والأفعال وعدمه وتفصيل هذه الجملة يطول جداً.
والنوع الثاني: بدعة عملية وهو: أن يشرع في الدين عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله، وكل عبادة لم يأمر بها الشارع أمر إيجاب أو استحباب فإنها من البدع العملية وهي داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"2.
ولهذا كان من أصول الأئمة الإمام أحمد وغيره: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع فلا يشرع منها إلا ما شرعه الله ورسوله، والأصل في المعاملات والعادات الإباحة فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
ولهذا نقول من قصور العلم: جعل بعض العادات التي ليست عبادات بدعاً ولا تجوز مع أن الأمر بالعكس، فإن الذي يحكم بالمنع منها وتحريمها هو المبتدع فلا يحرم من العادات إلا ما حرمه الله ورسوله بل العادات تنقسم إلى أقسام ما أعان منها على الخير والطاعة فهو من القرب، وما أعان على الإثم والعدوان فهو من المحرمات. وما ليس فيه هذا ولا هذا فهو من المباحات"3.
وهذا النوع الأخير قسمه ابن سعدي إلى قسمين:
فقال: " البدعة نوعان:
ونوع يتعبد لله بعبادة لم يشرعها أصلاً.
ونوع يتعبد له بعبادة شرعها على صفة مخصوصة فتفعل على غير تلك الصفة"4.
1 أخرجه الترمذي 5/26، والمروزي في السنة /18، والآجري في الشريعة 16/ 17، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/100، وانظر في الكلام عن هذا الحديث مقال الشيخ عبد الكريم مراد بعنوان: حديث تفترق الأمة، في مجلة الجامعة الإسلامية عدد /59 ص 47.
2 تقدم تخريجه ص ـ 164.
3 الفتاوى السعدية /73، 74، 75. وانظر سؤال وجواب /17.
4 التفسير 1/184.
هذا وإن البدع بجميع أنواعها مردودة لا يقبل منها شيء، وكلها قبيحة ليس فيها حسن، وكلها ضلالة ليس فيها هدى، وكلها أوزار ليس فيها أجر وكلها باطلة ليس فيها حق.
وما على المسلم إلا أن يتمسك بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ويعض عليها بنواجذه، ففي ذلك السلامة من البدع، والبعد من الشرور، قال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 1.
ويمكن أن نصل إلى نهاية هذا المبحث إلى خلاصة جامعة:
وهي أن توحيد الألوهية أعظم المطالب على الإطلاق فمن أجل تحقيقه خلق الله الخلق، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، ومن أجل تحقيقه حارب الرسل أقوامهم وعادوهم.
ولا يتحقق هذا التوحيد إلا بأمور:
أولا: السلامة من الشرك وذلك بتحقيق العبادة لله وحده بجميع أنواعها.
ثانيا: السلامة من البدع وهذا يتحقق بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: السلامة من الذنوب والمعاصي بالبعد عنها، وعدم اقترافها، وبالتوبة منها عند اقترافها. {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3.
1 سورة النور/ الآية 54.
2 سورة الأحزاب/ الآيتان 66، 67.
3 سورة الكهف/ الآية 110.