الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
جهوده في توضيح الإيمان بالنبوات
الفصل الثاني: الإيمان بالنبوات
إن الرابطة بين هذا الفصل وبي الذي قبله وثيقة جداً، إذ أن الفصل الأول في الحديث عن معرفة الله ووجوب إفراده بالعبادة والحذر من الشرك والبدع.
وهذا لا يكون ولا يحصل إلا بإرسال هداة للناس يبينون لهم هذا الأمر العظيم ويوضحونه لهم ويرشدونهم إليه.
"ومن هنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيد الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، توزن الأقوال والأخلاق والأعمال.
وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها والروح إلى حياتها.
فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديُه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي، "وما لجرح بميت إيلام1"2.
وهذا يبين لنا أهمية الإيمان بالأنبياء، وشدة الحاجة إليهم إذ أن السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة لا يحصل إلا عن طريقهم وبإرشادهم وهدايتهم.
1 عجز بيت للمتنبي وأوله: من يهن يسهل الهوان عليه. من قصيدة يمدح بها أبا الحسن علي بن أحمد المري. ديوان المتنبي /164 ط دار بيروت.
2 زاد المعاد لابن القيم 1/69.
لذا فإن ورثة الأنبياء، وهم العلماء الصالحون السائرون على منهج الأنبياء، قد اهتموا غاية الاهتمام ببيان هذا النوع من الإيمان وبينوا أهميته وشدة الحاجة إليه.
وممن سار في هذا الراكب وسلك هذا المنهج الصالح الشيخ ابن سعدي فقد اهتم رحمه الله ببيان هذا النوع اهتماما عظيماً وتناوله من جميع جوانبه في أكثر مؤلفاته.
فتناول الإيمان بنبوة جميع الأنبياء جملة وتفصيلا وخص بالذكر خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وتناول كل ما يتعلق بالإيمان بالنبوات من جميع الجوانب على ما سيأتي بيانه في هذا الفصل.
كلامه في أهمية الإيمان بالنبوات:
إن من نظر وتأمل في الفوائد التي تحصل لمن آمن بالنبوات جميعها على الوجه المطلوب، عرف أهمية ذلك وتبين له شدة الحاجة إليه.
وقد عدد ابن سعدي جملة من الفوائد تحصل بسبب معرفة الأنبياء والإيمان بهم.
فبعد أن بين جملة من العلوم التي اشتمل عليه القرآن الكريم قال: "ومنها ـ أي هذه العلوم ـ ذكر الأنبياء وما أرسلوا به وما جرى لهم مع أممهم وفي ذلك فوائد:
ـ منها أن من تمام الإيمان بهم معرفتهم بصفاتهم وسيرهم وأحوالهم وكلما كان المؤمن بذلك أعرف كان أعظم إيماناً بهم ومحبة لهم وتعظيماً لهم وتعزيراً وتوقيراً.
ـ ومنها: أن من بعض حقوقهم علينا خصوصاً النبي صلى الله عليه وسلم معرفتهم ومحبتهم محبة صادقة ولا سبيل لذلك إلا بمعرفة أحوالهم.
ومنها: أن معرفة الأنبياء موجبة لشكر الله تعالى على ما من به على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد أن كانوا في ضلال مبين.
ـ ومنها: أن الرسل هم المربون للمؤمنين الذين ما نال المؤمنون مثقال ذرة من الخير، واندفع عنهم مثقال ذرة من الشر إلا على أيديهم وبسببهم، فقبيح بالمؤمن أن يجهل حالة مربيه ومزكيه ومعلمه، وإذا كان المستنكر جهل الإنسان بحال أبويه ومباعدته لذلك فكيف بحالة الرسول الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم الحقيقي الذي حقه مقدم على سائر الحقوق بعد حق الله تعالى.
ـ ومنها: أن في معرفة ما جرى لهم وما جرى عليهم تحصل للمؤمنين الأسوة والقدرة ويخف عنهم كثير من المقلقات والمزعجات؛ لأنها مهما بلغت من الثقل والشدة فلا تصل
إلى ما جرى على الأنبياء. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} 1 ومن أعظم الاقتداء بهم، الاقتداء بتعليماتهم وكيفية إلقاء العلم على حسب مراتب الخلق والصبر على التعليم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن؛ وبهذا وأمثاله كان العلماء ورثة الأنبياء.
ومن فوائد معرفة الرسل صلى الله عليه وسلم معرفة الآيات القرآنية المنزلة عليه، وفهم المعنى والمراد منها موقوف على معرفة أحوال الرسول وسيرته مع قومه وأصحابه وغيرهم من الناس، فإن الأزمنة والأمكنة والأشخاص تختلف اختلافاً كثيراً، فلو أراد الإنسان أن يصرف همه لمعرفة معاني القرآن من دون معرفة منه لذلك لحصل من الغلط على الله وعلى رسوله وعلى مراد الله من كلامه شيء كثير، وهذا إنما يعرف من عرف كيف كثر حمل مراد الله ورسوله على العرف الحادث فوقع الخلل الكثير.
ولغير ذلك من الفوائد المفيدة والنتائج السديدة"2.
وذكر هذه الجملة من الفوائد الحاصلة لمن عرف الرسل وآمن بهم يشعر بأهمية الإيمان بهم وشدة الحاجة إليهم.
كلامه في الإيمان بالنبوات على وجه الإجمال:
قبل الشروع في تفاصيل موضوع النبوات أرى من المناسب أن أذكر كلام الشيخ ابن سعدي عن الإيمان بالأنبياء على وجه الإجمال.
قال ابن سعدي في بيان هذا الأصل وما ينبغي للمسلم أن يقوم به نحوه إجمالاً:
"وهذا الأصل مبناه على أن يعترف ويعتقد بأن جميع الأنبياء قد اختصهم الله بوحيه وإرساله، وجعلهم وسائط بينه وبين خلقه في تبليغ شرعه ودينه وأن الله أيدهم بالبراهين الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به، وأنهم أكمل الخلق علماً وعملاً، وأصدقهم وأبرهم، وأكملهم أخلاقا وأعمالاً، وأن الله خصهم بخصائص وفضلهم بفضائل، لا يلحقهم فيها أحد.
وأن الله برأهم من كل خلق دنيء ورذيل، وأنهم معصومون في كل ما يبلغونه عن الله، وأنه لا يستقر في خبرهم وتبليغهم إلا الحق والصواب. وأنه يجب الإيمان بهم وبكل ما أتوه من الله ومحبتهم وتعظيمهم"3.
1 سورة الأحزاب/ الآية 21.
2 التفسير 1/26، 27، وانظر الخلاصة /101.
3 الفتاوى السعدية /14، وانظر سؤال وجواب /13، 14، 15.
ثم أشار إلى أهمية الإيمان بهم وأن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بهم فقال: "
…
فلا يتم الإيمان إلا بذلك، وكل من كان أعظم علماً بذلك وتصديقاً واعترافاً وعملاً، كان أكمل إيماناً"1.
وبين أن الإيمان بالأنبياء على هذه الصفة يُعدُ من الإيمان بالغيب فقال: "ومن الإيمان بالغيب الإيمان بجميع رسل الله الذين أرسلهم الله على وجه الإجمال والتفصيل لأشخاصهم ولدعواتهم وشرعهم.... إلى أن قال: فتمام الإيمان بالغيب أن يؤمن العبد بجميع رسل الله، ويعرف من صفاتهم ومن دعوتهم ما يحقق به هذا الأمر"2.
كلامه في الفرق بين النبوة والرسالة:
النبي لغة: مشتق من النبأ وهو الخبر، وقيل النبوة مشتقة من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض3.
والرسول لغة: مشتق من رسل التي تدل على الانبعاث والامتداد فيقال أرسلت فلاناً في رسالة أي بعثته فهو مرسل ورسول ويجمع على رُسُل ورسْل4.
وهذا من حيث اللغة، أما تعريف النبي وتعريف الرسول من حيث الاصطلاح فللعلماء فيها أقوال عديدة:
فقيل: النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه5.
وهذا التعريف عليه مآخذ إذ فيه إشارة إلى أن النبي غير مأمور بالإبلاغ، وهذا فيه كتمان للعلم.
والله يقول: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} 6.
1 الفتاوى السعدية /15.
2 المواهب الربانية /65.
3 انظر الصحاح للجوهري 1/74، ومعجم مقايس اللغة لابن فارس 5/385، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 5/14.
4 الصحاح للجوهري 4/1708، ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/392، وبصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي 2/98.
5 لوامع الأنوار البهية 1/49، وشرح العقيدة الطحاوية /107.
6 سورة آل عمران/ الآية 187.
إضافة إلى هذا فهو يتعارض مع نصوص كثيرة تفيد أن النبي مأمور بالإبلاغ منها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
…
} 2.
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل أو الرجلان والنبي ليس معه أحد....."3. وهؤلاء إنما حصل لهم اتباع بسبب إبلاغهم وحي الله إلى الناس.
إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن النبي مأمور بالإبلاغ.
وهذا التعريف هو الشائع عند العلماء4. وعليه يكون بين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق. فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً، فالأنبياء أعم والنبوة نفسها جزء من الرسالة، فالرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف النبوة فإنها لا تتناول الرسالة5.
وقيل: الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله6.
وهذا أيضاً يرد عليه اعتراض، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث أعواما بعد النبوة لم يؤمر فيها بالتبليغ، حتى نزلت عليه سورة المدثر. وأصبح رسولاً فأخذ يبلغ7.
ومن خلال تتبعي لمؤلفات السعدي، لم أره تعرض لهذه المسألة إلا في موضع واحد، مال فيه إلى القول الأول.
فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} 8.
"....فالرسالة تقتضي تبليغ كلام المرسل، وتبليغ جميع ما جاء به من الشرع
1 سورة الأعراف/ الآية 94.
2 سورة الحج/ الآية 52.
3 أخرجه البخاري 7/199، ومسلم 1/199، عن ابن عباس، واللفظ لمسلم.
4 لوامع الأنوار البهية 1/49، وشرح العقيدة الطحاوية /107، ومعارج القبول للحكمي 2/97.
5 الإيمان لابن تيمية /6، 7.
6 تفسير الألوسي 17/157، والكشاف للزمخشري 2/414.
7 تفسير القرآن العظيم 4/440.
8 سورة مريم/ الآية 51.
دقه وجله، والنبوة تقتضي إيحاء الله إليه وتخصيصه بإنزال الوحي إليه، فالنبوة بينه وبين ربه، والرسالة بينه وبين الخلق"1.
وقد تقدم معنا ما يرد على هذا التعريف من مآخذ واعتراضات؛ لذا فإني أرى أن أسلم تعريف للنبوة والرسالة.
هو ما ذكره شيخ الإسلام في كتاب النبوات حيث قال في بيان الفرق بين النبوة والرسالة: "والمقصود هنا الكلام على النبوة فالنبي هو الذي ينبئه الله، وهو نبيئ بما أنبأ الله به، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول، وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول"2. والله أعلم.
كلامه عن التفاضل بين الأنبياء وأن بعضهم أفضل من بعض:
لقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على أن الأنبياء متفاضلون، وأن بعضهم أفضل من بعض.
قال رحمه الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} 3.
وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} 4. فالآية الأولى تدل على أن هناك مفاضلة بين الرسل وأن بعض الرسل أفضل من بعض، والآية الثانية تدل أيضاً على أن هناك مفاضلة بين الأنبياء وأن بعضهم أفضل من بعض.
وقد أجمعت الأمة على أن الرسل أفضل من الأنبياء؛ لأنه كما تقدم الرسول أشمل وأعم من النبي إذ كل رسول نبي وليس كل نبي رسول.
وهذه المسألة "مسألة المفاضلة بين الرسل" تناولها ابن سعدي في مؤلفاته وبين أن هناك مفاضلة بين الرسل والأنبياء، كما بين من هو أفضلهم ومنهم أولو العزم من الرسل.
فقال عند تفسير لقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 5. "يخبر الباري أنه فاوت بين الرسل في الفضائل الجليلة والتخصصات الجميلة بحسب ما من
1 التفسير 5/116.
2 النبوات لابن تيمية /255.
3 سورة البقرة/ الآية 253.
4 سورة الإسراء/ الآية 55.
5 سورة البقرة / الآية 253.
الله به عليهم، وقاموا به من الإيمان الكامل واليقين الراسخ والأخلاق العالية والآداب السامية والدعوة والتعليم والنفع العميم. فمنهم من اتخذه خليلاً ومنهم من رفعه فوق الخلائق درجات
…
"1.
وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 2
قال: "فيعطى كلا منهم ما يستحقه وتقتضيه حكمته، ويفضل بعضهم على بعض في جميع الخصال الحسية والمعنوية، كما فضل بعض النبيين المشتركين بوحيه على بعض بالفضائل والخصائص الراجعة إلى ما من به عليهم، من الأوصاف الممدوحة، والأخلاق المرضية، والأعمال الصالحة وكثرة الأتباع ونزول الكتب على بعضهم المشتملة على الأحكام الشرعية والعقائد المرضية"3.
وبين رحمه الله أن الرسل الذين قصهم الله في كتابه وذكر شيئاً من خبرهم أفضل ممن لم يقصص، كما قال تعالى:
{وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ
…
} 4. قال ابن سعدي: "....فالرسل الذين قصهم الله في كتابه، أفضل ممن لم يقصص علينا نبأهم بلا شك"5.
أولو العزم من الرسل:
وكما تناول ابن سعدي مسألة المفاضلة بين الرسل والأنبياء فقد تناول المفاضلة بين الرسل وبين أولى العزم منهم.
قال رحمه الله "أفضل أنبياء الله المرسلون منهم، وأفضل المرسلين أولوا العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم"6.
وهؤلاء الخمسة أولو العزم من الرسل خصهم الله بالذكر مجتمعين في بعض الآيات.
1 التفسير 1/310.
2 سورة الإسراء/ الآية 55.
3 التفسير 4/289، 290.
4 سورة النساء/ الآية 164.
5 التفسير 2/430.
6 طريق الوصول /299، وانظر التفسير 6/201، و6/598.
وأمر رسوله أن يصبر ويتحمل من أذية قومه له، كما صبر إخوانه، أولو العزم من الرسل فقال:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم} 3.
قال ابن سعدي: "أمر تعالى رسوله، أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له، وأن لا يزال داعياً لهم إلى الله، وأن يقتدى بصبر أولي العزم من المرسلين سادات الخلق أولي العزائم والهمم العالية الذين عظم صبرهم وتم يقينهم. فهم أحق الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارهم"4.
كلامه في بعض صفات أولي العزم من الرسل:
هؤلاء الخمسة أولو العزم من الرسل اختص الله كل واحد منهم ببعض الخصال العظيمة والمناقب الحميدة، امتازوا بها عن غيرهم من الأنبياء.
وقد ذكر سعدي بعض ما امتاز به أفراد هؤلاء الرسل من الخصال فذكر أن نوحاً امتاز بأنه أول رسول أرسله الله، وأنه الأب الثاني للبشرية وجميع الأنبياء الذين جاءوا من بعده كلهم من ذريته5.
وذكر أن إبراهيم عليه السلام امتاز بأنه خليل الرحمن، وأن الله أكرمه بالكرامات المتنوعة فجعل في ذريته النبوة والكتاب وأخرج من صلبه أمتين هما أفضل الأمم العرب وبنو إسرائيل، واختاره الله لبناء بيته الذي هو أشرف بيت وأول بيت وضع للناس، ووهب له الأولاد بعد الكبر واليأس وملأ بذكره ما بين الخافقين، وامتلأ قلوب الخلق من محبته وألسنتهم من الثناء عليه6.
1 سورة الشورى/ الآية 3.
2 سورة الأحزاب/ الآية 7.
3 سورة الأحقاب/ الآية 35.
4 التفسير 7/59، 60.
5 الخلاصة /109، والتفسير 5/110.
6 انظر الخلاصة /122، والتفسير 7/302.
وذكر أن موسى عليه السلام امتاز بأنه كليم الله، وأنه أعظم أنبياء بني إسرائيل وأن شريعته وكتابه التوارة مرجع أنبياء بني إسرائيل وعلمائهم، وأن أتباعه أكثر أتباع الأنبياء غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن له من القوة العظيمة في إقامة دين الله والدعوة إليه والغيرة العظيمة ما ليس لغيره1.
وذكر أن عيسى عليه السلام امتاز بأن الله سبحانه آتاه من البينات الدالة على صدقه، وأنه رسول الله حقاً، فجعله يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، وكلم الناس في المهد صبياً، وأيده بروح القدس.2.
وذكر أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل على الإطلاق، وأنه خاتم النبيين، وإمام المتقين وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وصاحب لواء الحمد والحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة والفضيلة الذي بعثه بأفضل كتبه وشرع له أفضل شرائع دينه وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرقه فيمن قبلهم، وهم آخر الأمم خلقاً وأولهم بعثا3.
كلامه في أن الرسل أفضل الخلق وأكملهم:
اقتضت حكمة الله تعالى أن لا يصطفي لإبلاغ دينه، ولتحمل رسالته إلا صفوة الخلق وأفضلهم.
إذ أن كمال الرسل واختصاصهم بالفضل يوجب على الأمم تصديقهم والانقياد لهم، والسير على نهجهم وهذا من رحمة الله بعباده ولطفه بهم.
قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 4.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} 5.
قال ابن سعدي: "فالرسل لا يكونون إلا صفوة الخلق على الإطلاق، والذي اختارهم واجتباهم ليس جاهلاً بحقائق الأشياء فاختياره إياهم عن علم منه أنهم أهل
1 الخلاصة /129، والتفسير 7/614.
2 التفسير 1/310.
3 طريق الوصول /299.
4 سورة الحج/ الآية 75.
5 سورة آل عمران/ الآية 33.
لذلك، وأن الوحي يصلح فيهم كما قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 1" 2.
لذلك فإن الأنبياء لا يدعون إلا للخير والإصلاح ولا ينهون الناس إلا عن الشر والفساد.
قال ابن سعدي: "الأنبياء جميعهم بعثوا بالإصلاح، والصلاح، ونهوا عن الشرور والفساد، فكل صلاح وإصلاح ديني ودنيوي فهو من دين الأنبياء وخصوصاً إمامهم وخاتمهم فإنه أبدى وأعاد في هذا الأصل ووضح للخلق الأصول النافعة التي يجرون عليها في الأمور العادية والدنيوية كما وضع لهم الأصول في الأمور الدينية"3.
ولا ريب أن معرفة هذه الصفات التي توفرت في الأنبياء وفي دعوتهم، دافع عظيم لمن سمع بها وعرفها وحافز له لأن يتأسى بهم ويترسم خطاهم، وهذه هي الفائدة والثمرة من معرفة الأنبياء وأحوالهم.
قال ابن سعدي: "لما أخبر الله عن كمال الرسل وما أعطاهم من الفضل والخصائص وأن دينهم واحد ودعوتهم إلى الخير واحدة كان موجب ذلك ومقتضاه أن تجتمع الأمم على تصديقهم والانقياد لهم لما آتاهم من البينات التي على مثلها يؤمن البشر، لكن أكثرهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، ووقع الاختلاف بين الأمم فمنهم من آمن ومنهم من كفر"4.
بيانه أن الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء:
لما كان الأنبياء بهذه المثابة وعلى هذه الصفات وغايتهم واحدة وهدفهم واحد وجب على كل مسلم أن يؤمن بجميع الأنبياء دون تفريق بينهم، وصار الكفر بنبي واحد كفر بجيمع الأنبياء.
قال ابن سعدي: " الواجب في الأنبياء، أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل وجب الإيمان به مفصلاً"5.
وبين أن الكفر بنبي واحد كفر بجميع الأنبياء فقال: "من عادى أحداً من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله كما قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
1 سورة الأنعام/ الآية 124.
2 التفسير 5/328.
3 الخلاصة 5/328.
4 التفسير 1/311.
5 التفسير 1/146.
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} 1 وكذلك من كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل بل بالرسول الذي يزعم أنه مؤمن به"2.
وقال: "جميع الأنبياء دعوتهم واحدة، من كذب واحداًُ منهم فقد كذب الجميع؛ لأنه يكذب الحق الذي جاء به كل واحد منهم"3.
وهذا الذي ذكره ابن سعدي دلت عليه نصوص كثيرة:
منها قوله تعالى:
وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} 5.
وقوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} 6.
وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} 7.
وغيرها من الآيات، فمن كذب برسالة أحد الرسل أو نفاها، فقد نفى أعظم منة امتن الله بها على عباده، إذ أن العبادَ لا طريق لهم إلى نيل السعادة والكرامة والفلاح إلا عن طريق الرسلِ، ويكون بذلك قد كذب بالرسولِ الذي يزعم أنه آمن به وبغيره من الرسل.
كلامه في خلاصة دعوة الرسل:
تقدم معنا في توحيد الألوهية أن الله سبحانه ما خلق الخلق إلا لعبادته وما أوجدهم إلا لتحقيق توحيده وطاعته، كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 8.
1 سورة البقرة/ الآية 98.
2 التفسير 2/208.
3 الخلاصة /115.
4 سورة النساء/ الآيتان 150، 151.
5 سورة الشعراء/ الآية 105.
6 سورة الشعراء/ الآية 123.
7 سورة الشعراء/ الآية 141.
8 سورة الذاريات / الآية 56.
ولتحقيق هذا الأمر العظيم جعل الله بينه وبين خلقه وسائط في تبليغ الرسالة فاصطفى لهذا الأمر العظيم أفضل الملائكة وأفضل الرسل، وأمرهم بتبليغ وحيه وإيصاله إلى الناس.
فقاموا بذلك أتم القيام وأكمله، وعصمهم الله من الخطأ في تبليغ هذا الوحي.
فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن الله تعالى؛ لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك1.
ومقصود الرسالة الأعظم وأهم أمر بعثوا من أجله، وهو الدعوة إلى عبادة الله حده، وإفراده بجميع أنواع العبادة، والتحذير من الشرك والبدع وجميع الأنبياء متفقون على هذا المبدأ، سائرون على هذا المنهج، فما من نبي أرسله الله إلا وكان أول ما يدعو قومه إليه عبادة الله وحده وعدم الإشراك به.
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.
وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذه المسألة أعظم اهتمام إذ هي أفضل وسيلة إلى التوحيد الخالص والنهي عن الشرك فنوح وغيره أول ما يقولون لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
ويكررون هذا الأصل بطرق كثيرة"4.
وقال: "زبدة دعوة الرسل كلهم ومدارها على قوله: {أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أي على معرفة الله وتوحيده في صفات العظمة التي هي الألوهية وعبادته وحده لا شريك له فهي التي أنزل بها كتبه وأرسل رسله، وجعل الشرائع كلها تدعوا إليها وتحث وتجاهد من حاربها وقام بضدها"5.
1 التفسير لابن سعدي 6/424.
2 سورة النحل/ الآية 36.
3 سورة الأنبياء/ الآية 25.
4 الخلاصة /109.
5 التفسير 4/183.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
"فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم زبدة رسالتهم وأصلها الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وبيان أنه الإله الحق المعبود وأن عبادة ما سواه باطلة"1.
وتناول رحمه الله في تفسيره للقرآن وفي خلاصة تفسير القرآن دعوة كل نبي، وبين أنها كلها تدور حول تحقيق هذا الأصل العظيم.
فبين أن دعوة نوح2، وإبراهيم3 وموسى4 وهود5، وصالح6 وشعيب7 ولوط8 وخاتمهم محمد9 صلى الله عليه وسلم وغيرهم من الأنبياء، تدور حول الأمر بعبادة الله والتحذير من الشرك.
وبين رحمه الله أن ضد التوحيد هو الشرك محبط للعمل في نبوة جميع الأنبياء.
فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 10.
قال: "ففي نبوة جميع الأنبياء أن الشرك محبط لجميع الأعمال كما قال الله تعالى في سورة الأنعام لما عد كثيراً من أنبيائه ورسله، قال عنهم: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 11 "12.
وقال عند تفسيره هذه الآية: "فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار لو أشركوا وحاشاهم لحبطت أعمالهم، فغيرهم من باب أولى"13.
1 التفسير 5/223.
2 التفسير 3/417، والخلاصة /107.
3 الخلاصة /116.
4 الخلاصة /129.
5 التفسير 3/429، والخلاصة/112.
6 التفسير 3/436، والخلاصة /114.
7 التفسير 3/447، والخلاصة /126.
8 الخلاصة /124.
9 الخلاصة /164.
10 سورة الزمر/ الآية 65.
11 سورة الأنعام/ الآية 88.
12 التفسير 6/491.
13 التفسير 2/430.
هذا وقد تعرضنا لتفاصيل هذا الموضوع عند الحديث عن توحيد الألوهية وإنما هذه إشارة ناسب المقام ذكرها عند الحديث عن النبوات.
موقف طوائف الضلال من الأنبياء:
يتمثل قول جميع طوائف الضلال في الأنبياء عليهم السلام في طرفين كلاهما ذميم، الغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط.
ويتمثل جانب الغلو من الأمم السابقة في النصارى، وجانب الجفاء يتمثل في اليهود.
ومن أوضح الأمثلة المبينة لذلك: "موقف هاتين الطائفتين من عيسى عليه السلام".
فالنصارى غلو فيه عليه السلام فجعلوه تارة إلهاً وتارة ابن الإله، وثالث ثلاثة، وأما اليهود فقد جفوا في حقه عليه السلام فقالوا ـ وقبح الله قولهم ـ إنه ابن بغي.
قال ابن سعدي: "اختلفت فرق الضلال في عيسى عليه السلام من اليهود والنصارى وغيرهم، فمن غال فيه وجاف.
فمنهم من قال إنه الله، ومنهم من قال إنه ابن الله، ومنهم من قال إنه ثالث ثلاثة.
ومنهم من لم يجعله رسولاً بل رماه بأنه ولد بغي كاليهود. وكل هؤلاء مستحقون للوعيد الشديد"1.
وموقف أهل السنة هو التوسط بين جانبي الغلو والجفاء فيقولون إن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وهكذا موقفهم مع جميع أنبياء الله ورسله ويؤمنون بهم جملة، ويؤمن بهم تفصيلاً وفقا لما ورد في الكتاب والسنة.
كلامه في مدعي النبوة:
قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} 2.
هذه الآية دليل على أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى؛ لأنه كما تقدم مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا عكس.
وقد ورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على أن الرسالات ختمت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده ولا رسول.
1 التفسير 5/106.
2 سورة الأحزاب/ الآية 40.
قال صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم السلام"1.
وقال صلى الله عليه وسلم: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون"2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي"3.
وغيرها من الأحاديث، قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر جملة من هذه الأحاديث الدالة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده.
قال: "والأحاديث في هذا كثيرة، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له، وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك ودجال ضال مضل، ولو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرانيجات فكلها محال وضلال عند أولي الألباب"4.
هذا وقد أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج في أمته دجالون كذابون، كلهم يزعمون كذباً وزوراً أنهم مرسلون من عند الله.
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله"5.
"وقد ظهر بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أدعياء النبوة كمسيلمة والأسود العنسي وسجاح، ولا يزال يظهر بين الفينة والفينة دَعِيٌّ من أمثال هؤلاء.
وقد ظهر في القرن الماضي على محمد الشيرازي (ولد سنة 1819م) ولقب بالباب
1 أخرجه البخاري 4/162، ومسلم 4/1791، وأحمد 2/257.
2 أخرجه مسلم 1/371، وأحمد 2/412، والترمذي 4/123.
3 أخرجه البخاري 4/162، ومسلم 4/1828.
4 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/494.
5 البخاري 4/178، ومسلم 4/2240.
وأتباعه يدعون البابية، وادعى النبوة حيناً والألوهية حيناً، وسار على نهجه تلميذه الذي لقب (ببهاء الله) وأتباعه يدعون البهائية.
ومن هؤلاء الأدعياء غلام أحمد القادياني، وله أتباع منتشرون في الهند وألمانيا وأنكلترا وأمريكيا، ولهم فيها مساجد يضللون بها المسلمين، وكانوا يسمون بالقاديانية، وهم يسمون اليوم أنفسهم بالأحمدية إمعانا في تضليل عباد الله.
وآخر هؤلاء الأدعياء رجل ظهر في السودان يدعي أنه نبي وقد تكفل الله لفضح كل من ادعى هذه الدعوى وهتك ستره"1.
وقد اهتم علماء المسلمين قديماً وحديثاً بكشف كذب هؤلاء وبيان زيغهم وضلالهم وفجورهم وكفرهم، وبعدهم عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وقد أشار ابن سعدي إلى مسألة ادعاء النبوة في بعض مؤلفاته وبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده، وبين أن ادعاء النبوة من أظلم الظلم وأعظم الكذب على الله.
فقال عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2.
"ويدخل في ذلك ادعاء النبوة وأن الله يوحي إليه وهو كاذب في ذلك فإنه مع كذبه على الله وجرأته على عظمته وسلطانه يوجب على الخلق أن يتبعوه ويجاهدهم على ذلك ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
ويدخل في هذه الآية كل من ادعى النبوة كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي والمختار وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف"3.
وقد أشار في خلاصة التفسير إلى بعض الفوارق بين الأنبياء حقاً، وبين أدعياء النبوة فقال:
"فإن الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً ويشهد بعضهم لبعض، ويكون كما جاءوا به متفقاً لا يتناقض؛ لأنه من عند الله محكم منتظم.
1 الرسل والرسالات للدكتور عمر الأشقر /222 هاش.
2 سورة الأنعام/ الآية 93.
3 التفسير 2/434.
وأما الكذبة فإنهم لا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم ويعلم كذبهم بمخالفته لما يدعو إليه الأنبياء الصادقون"1.
بيانه أن الأنبياء ليس منهم نساء:
ذهب بعض العلماء إلى أن من النساء نبية. منهم:
القرطبي وابن حزم وغيرهما.
والذي عليه جمهور العلماء، وهو أن الذكورية شرط في الرسالة والنبوة، وعليه فإنه ليس من النساء نبيه2.
واستدلوا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 3.
وقد تناول ابن سعدي هذه المسألة وبين أن النساء ليس منهن نبية فقال عند قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} 4.
"....وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية بل أعلى أحوالها الصديقية وكفى بذلك فضلاً وشرفاً، وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبيه لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين في الرجال كما قال تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 5"6.
وقال عند تفسير هذه الآية: "أي لست ببدعٍ من الرسل، فلم نرسل قبلك ملائكة بل رجالاً كاملين لا نساء"7.
بيانه أن الخضر ليس بنبي:
اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو رسول أو ولي، كما قال الراجز:
واختلف في خضر أهل العقول
قيل نبي أو ولي أو رسول8
فذهب بعضهم إلى أن الخضر نبي واستدلوا بسياق الآيات في سورة الكهف،
1 الخلاصة /12.
2 تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/496، وفتح الباري لابن حجر 6/447.
3 سورة يوسف/ الآية 108.
4 سورة المائدة/ الآية 75.
5 سورة يوسف/ الآية 108.
6 التفسير 2/326.
7 التفسير 4/205.
8 أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 4/158.
كقوله تعالى: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} 1.
فقالوا المراد بالرحمة في الآية رحمة النبوة.
وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} 2.
فقالوا هذا العلم هو ما يوحيه الله إليه عن طريق الوحي.
واستدلوا بأفعال الخضر من قتل الغلام وخرق السفينة وبناء الجدار ثم قوله بعد ذلك {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 3.
فقالوا هذا الأمر أوحى الله به إلى الخضر، ولم يفعله من تلقاء نفسه، وكل ذلك يدل على نبوته4.
وذهب بعض العلماء إلى أن الخضر عبد صالح وليس نبي؛ وذلك لأن الله سبحانه لم ينص على نبوته، وإنما وصفه بالعبودية، فذلك يوقف عند نص الآية.
ومن هؤلاء الشيخ ابن سعدي فقد ذهب إلى أن الخضر عليه السلام عبد صالح وليس بنبي، اكتفاء بما نصت عليه الآية من وصفه بالعبودية وعدم وصفه بالنبوة.
فقال بعد تفسيره للآيات المتعلقة بنبأ موسى مع الخضر: "وفي هذه القصة العجيبة الجليلة من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير، ننبه على بعضه بعون الله.... ثم قال:
ومنها: أن ذلك العبد الذي لقياه، ليس نبياً، بل عبداً صالحاً لأنه وصفه بالعبودية، وذكر منّة الله عليه بالرحمة والعلم، ولم يذكر رسالته ولا نبوته، ولو كان نبياً لذكر ذلك كما ذكر غيره.
وأما قوله في آخر القصة {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} 5. فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث كما يكون لغير الأنبياء.
كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} 6.
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} 7 " 8.
1 سورة الكهف/ الآية 65
2 سورة الكهف/ الآية 65.
3 سورة الكهف/ الآية 82.
4 الزهر النضر في نبأ الخضر لابن حجر ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 2/197، وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي 4/158.
5 سورة الكهف/ الآية 82.
6 سورة القصص/ الآية 7.
7 سورة النحل/ الآية 68.
8 التفسير 5/65، 66.
وقال في خلاصة التفسير: "
…
ذلك العبد الذي لقياه ليس نبياً، بل هو عبد صالح ملهم؛ لأن الله ذكره بالعلم والعبودية الخاصة والأوصاف الجميلة، ولم يذكر معها أنه نبي أو رسول"1.
فائدة تتعلق بالخضر:
قال ابن سعدي عند تفسيره لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} 2. "وهذه الآية تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر، وأنه مخلد في الدنيا فهو قول لا دليل عليه، ومناقض للأدلة الشرعية"3
1 الخلاصة /146.
2 سورة الأنبياء/ الآيتان 34، 35.
3 التفسير 5/228، 229.
الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم
هذا أصل عظيم من أصول الإيمان التي ينبني عليها، بل لا يحصل الإيمان لأحد حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين.
وقد اهتم ابن سعدي ببيان هذا الأصل العظيم في مواضع متعددة من مؤلفاته، وتناوله من جوانب متعددة.
فبين أن محمدً صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين، وأن الأنبياء جميعهم مقرون بدعوته وبين وجوب الإيمان به وتصديقه ومحبته وأن ذلك من موجبات الإيمان، وبين أن الله قرر نبوته في القرآن الكريم بأساليب مختلفة. وبين دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه بالتوحيد وتحذيره من الشرك، وغير ذلك من الجوانب الهامة المتعلقة بنبوته صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي تفصيله وبيانه إن شاء الله.
وسنبدأ الحديث أولاً عن فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين وبيان ابن سعدي ذلك.
بيانه أن محمداً أفضل الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام:
قال ابن سعدي في بيان فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء "فضل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفضائل كثيرة فاق بها جميع الأنبياء، فكل خصلة حميدة ترجع إلى العلوم النافعة والمعارف الصحيحة، والعمل الصالح فلنبينا منها أعلاها وأفضلها وأكملها.
ولهذا لما ذكر الله أعيان الأنبياء الكرام قال لنبيه.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1.
وهداهم هو ما كانوا عليه من الفضائل الظاهرة والباطنة، وقد تمم صلى الله عليه وسلم ما أمر به وفاق جميع الخلق؛ ولذلك خص الله نبينا بخصائص لم يشاركه فيها أحد من الأنبياء منها:
هذه الخمسة التي عادت على أمته بكل خير وبركة ونفع"2.
1 سورة الأنعام/ الآية 90.
2 بهجة قلوب الأبرار/ 84، ويقصد بالخصائص الخمس ما ورد في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمس لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة". أخرجه البخاري 1/86.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} 1. "أي: امش أيها الرسول الكريم خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار واتبع ملتهم وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدى الرسل قبله وجمع كل كمال فيهم. فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وبهذا الملحظ استدل بهذا من استدل من الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم2.
وأعظم بيان لذلك وأوضح دليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع"3.
بيانه أن الأنبياء جميعهم مقرون بنبوته:
قال ابن سعدي في تفسير هذه الآية: "هذا إخبار منه تعالى أنه أخذ عهد النبيين وميثاقهم كلهم، بسبب ما أعطاهم ومن به عليهم من الكتاب والحكمة، والمقتضي للقيام التام بحق الله وتوفيقه أنه أن جاءهم رسول مصدق لما معهم، بما بعثوا به من التوحيد والحق والقسط والأصول التي اتفقت عليها شرائع أنهم يؤمنون به وينصرونه.
فأقروا على ذلك واعترفوا والتزموا وأشهدهم وشهد عليهم وتوعد من خالف هذا الميثاق، وهذا أمر عام بين الأنبياء جميعهم طريقهم واحد، وأن دعوة كل واحد منهم قد اتفقوا وتعاقدوا عليها.
وعموم ذلك، أنه أخذ على جميعهم الميثاق بالإيمان والنصرة لمحمد صلى الله عليه وسلم
…
"5.
1 سورة الأنعام/ الآية 90.
2 التفسير 2/431.
3 أخرجه مسلم 4/1782 من حديث أبي هريرة.
4 سورة آل عمران/ الآية 81.
5 التفسير 1/396.
كلامه في وجوب الإيمان به ومحبته وطاعته:
قال ابن سعدي في بيان وجوب الإيمان بالرسل صلى الله عليه وسلم والتزام طاعته وتصديقه.
"يجب معرفة جميع ما جاء به من الشرع جملة وتفصيلاً، بحسب الاستطاعة والإيمان بذلك والتزامه والتزام طاعته في كل شيء بتصديق خبره؛ وامتثال أمره واجتناب نهيه"1.
وقد بين ابن سعدي أن معرفة الرسول صلى الله عليه وما هو عليه من صفات أكبر دافع لتقوية الإيمان وزيادته، وأن ذلك من أعظم موجبات الإيمان، فبعد أن ذكر جملة من الأمور التي يحصل ويقوى بها الإيمان، قال: "ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة، فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه، وصدق ما جاء به من الكتاب والسنة والدين الحق.
كما قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} 2.
أي فمعرفته صلى الله عليه وسلم توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن [لم] يؤمن وزيادة الإيمان ممن آمن به"3.
وبين أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة وأنها من طاعة الله فقال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 4.
وقال: "طاعةُ الله وطاعة رسوله واجبة، فمن أطاع الله فقد أطاع الرسول ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله"5.
وقال عند تفسيره لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه} 6. "وكل من أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه فقد أطاع الله تعالى لكونه لا يأمر إلا بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله"7.
1 الفتاوى السعدية /15.
2 سورة المؤمنون/ الآية 69.
3 التوضيح والبيان /27.
4 سورة المائدة/ الآية 92.
5 التفسير 2/341.
6 سورة النساء/ الآية 80.
7 التفسير 2/100.
وبين رحمه الله أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي العلامة الواضحة على صدق محبته، فقال عند تفسيره لقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} 1.
"هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى، فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما فمن فعل ذلك أحبه الله وجازاه جزاء المحبين، وغفر له ذنوبه وستر عليه عيوبه.
فكأنه قيل ومع ذلك فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟
فأجاب بقوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 2. بامتثال الأمر واجتناب النهي وتصديق الخبر: "فإن تولوا" عن ذلك فهذا هو الكفر والله لا يحب الكافرين"3.
وبين رحمه الله أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته من تمام النصيحة له فقال في بيان معنى النصحية للرسول صلى الله عليه وسلم:
"والنصحية للرسول: هي كمال الإيمان به ومحبته وطاعته واتباعه، وتقديم قوله وهديه وسيرته على كل قول وهدى وسيرة ونصر ما جاء به"4.
بيانه أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مقررة في القرآن بطريق متعددة
ذكر ابن سعدي في كتابه القواعد الحسان جملة من القواعد المتعلقة بتفسير القرآن الكريم، وذكر من جملة هذه القواعد قاعدة جليلة تتعلق بالأساليب المختلفة والطرق المتنوعة التي ذكرها الله في كتابه لتقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله: "هذا الأصل الكبيير قرره الله في كتابه بالطرق المتنوعة التي يعرف بها كمال صدقه صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه صدق المرسلين، ودعا إلى ما دعوا إليه، وأن جميع المحاسن التي في الأنبياء في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما نزهوا عنه من النقائص والعيوب فرسولنا محمد أولاهم وأحقهم بهذا التنزيه.
وأن شريعته مهيمنة على جميع الشرائع، وكتابه مهيمن على كل الكتب، فجميع
1 سورة آل عمران/ الآيتان 31 ،32.
2 سورة آل عمران/ الآية 32.
3 التفسير 1/374.
4 الفتاوى السعدية /70.
محاسن الأديان والكتب قد جمعها الله في هذا الكتاب وهذا الدين، وفاق عليها بمحاسن وأوصاف لم توجد في غيره.
وقرر نبوته بأنه أمي لا يكتب ولا يقرأ ولا جالس أحداً من أهل العلم بالكتب السابقة. بل لم يفجأ الناس إلا وقد جاءهم بهذا الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما أتوا ولا قدروا ولا هو في استطاعتهم ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وأنه محال مع هذا أن يكون من تلقاء نفسه أو أن يكون قد تقول على ربه أو أن يكون على الغيب بظنين، وأعاد في القرآن وأبدى في هذا النوع"1.
واستمر ابن سعدي في ذكر هذه الطرق والأساليب والواردة في القرآن المقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال بعد أن ذكر جملة كبيرة من هذه الطرق: "فهذه الأمور والطرق قد أكثر الله من ذكرها في كتابه وقررها بعبارات متنوعة، ومعاني مفصلة وأساليب عجيبة وأمثلتها تفوق العد والإحصاء"2.
ثم إن القرآن الكريم أعظم دليل وأقوى برهان على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو وحده يكفي لأن يكون دليلاً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كما قرر الله ذلك في كتابه؛ لذلك يقول ابن سعدي:"والله تعالى يقرر أن القرآن كاف جداً أن يكون هو الدليل الوحيد على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم في مواضع عدة. منها قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3 "4.
هذا وقد جعل الله مع هذا البرهان الجلي والدليل القاطع جملة من البراهين فلا مجال للشك أو الريب بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن سعدي: "قد أقام الله على صدق رسله من الآيات البينات والأدلة الواضحات، ما على مثله يؤمن البشر وخصوصاً إمامهم وسيدهم محمداً صلى الله عليه وسلم فإن آيات نبوته وبراهين رسالته متنوعة. سيرته وأخلاقه وهديه، وما جاء به من الدين القويم، وحثه على كل خلق جميل وعمل صالح ونفع وإحسان إلى الخلق، ونهيه عند ضد ذلك.
1 القواعد الحسان/19.
2 القواعد الحسان /23.
3 سورة العنكبوت/ الآية 51.
4 القواعد الحسان /23.
كلها آيات وبراهين على رسالته وما جاء به من الوحي من الكتاب والسنة كله جملة وتفصيلاً أدلة وبراهين على رسالته مع ما أكرمه الله به من النصر العظيم وإظهار دينه على الأديان كلها، وإجابة الدعوات وحلول أنواع البركات التي لا تعد أنواعها فضلا عن أفرادها.
هذا بقطع النظر عن شهادة الكتب السابقة له، وعن معارضة المكذبين له، وتحديه إياهم بكل طريق حتى عجزوا غاية العجز عن نصر باطلهم، ولا يزال الباطل بين يدي ما جاء به الرسول مخذولاً بحيث إن القائمين بما جاء به الرسول والقائمين بمعرفة دينه يتحدون جميع أهل الأرض أن يأتوا بصلاح أو فلاح أو رقي حقيقي أو سعادة حقيقية بجميع وجوهها فيتبين أنه محال أن يتوصل إلى شيء من ذلك بغير ما جاء به الرسول وأرشد إليه ودل عليه"1.
وقال: "وأما ما آتى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات فهي لا تحد ولا تعد من كثرتها وقوتها ووضحها ولله الحمد، فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر"2.
بيانه لكمال دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:
بين ابن سعدي أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الجودة والحسن وبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم فاق في دعوته جميع الأنبياء قال رحمه الله:
"فانظر إلى دعوات الرسل صلوات الله وسلامه عليهم التي حكاها الله في كتابه مع أممهم المستجيبين والمعرضين والمعارضين تجدها محتوية على غاية الحسن في كل أحوالها.
ثم انظر إلى دعوة سيدهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم وما سلك من الطرق المتنوعة في دعاية الخلق عموماً وخصوصاً على اختلاف طبقاتهم، ومنازلهم وبحسب أحوالهم، وبحسب الأقوال والأحكام التي يدعو إليها، تجده قد فاق في ذلك الأولين والآخرين والآثار أكبر دليل على قوة المؤثر"3.
كما بين رحمه الله أن زبدة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلاصة دعوته الدعوة إلى توحيد الله سبحانه والتحذير من الشرك كما كان سلفه في ذلك إخوانه الأنبياء، قال تعالى:
1 الفتاوى السعدية /47، 48.
2 القواعد الحسان /151.
3 الخلاصة /197.
4 سورة الأنبياء/ الآية 25.
قال ابن سعدي مبيناً أعظم أمر دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: "فكان أعظم مقامات دعوته: دعوته إلى التوحيد الخالص والنهي عن ضده، دعى الناس لهذا، وقرره الله في كتابه وصرفه بطرق كثيرة واضحة تبين وجوب التوحيد وحسنه وتعينه طريقاً إلى الله وإلى دار كرامته، وقرر إبطال الشرك والمذاهب الضارة بطرق كثيرة احتوى عليها القرآن، وهي أغلب السور المكية.
فاستجاب له في هذا الواحد بعد الواحد على شدة عظيمة من قومه، وقاومه قومه وغيرهم وبغوا له الغوائل، وحرصوا على إطفاء دعوته بجدهم وقولهم وفعلهم وهو يجادلهم ويتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهم يعلمون أنه الصادق الأمين، ولكنهم يكابرون ويجحدون آيات الله"1.
وقال رحمه الله في بيان إتمام الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الدعوة وإبلاغه لها غاية البلاغ: "
…
بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء أمين أهل الأرض الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين. فلم يشحْ بشيء منه عن غني ولا فقير ولا رئيس ولا مرؤوس ولا ذكر ولا أنثى ولا حضري ولا بدوي؛ ولذلك بعثه الله في أمة أمية جاهلة جهلاء.
فلم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى كانوا علماء ربانيين، وأحباراً متفرسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والمفهوم، وهم الأساتذة وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم"2.
بيانه لكمال الرسول صلى الله عليه وسلم البشري:
تناول ابن سعدي في مؤلفاته عدة جوانب تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وبين تحقيقه لها، وكماله لقيامه بها.
فذكر منها تحقيق الرسول صلى الله عليه وسلم للعبودية، واتصافه بأحسن الأخلاق وعصمته وكمال عقله وكثرة علمه إلى غير ذلك من الجوانب الكثيرة التي كمل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لإكماله إياها ولكثرتها فسأقتصر على ذلك طرف منها:
تحقيق للعبودية:
وهذا أعظم الأمور التي يجب تحقيقها وقد بين الله سبحانه أن رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم قد حقق العبودية لله وحده؛ لذلك فإنه عند ذكره لرسوله في المقامات العظيمة يذكره بوصف العبودية وفي ذلك إشارة لتحقيق الرسول صلى الله عليه وسلم لها وإتمامه إياها.
1 الخلاصة /166.
2 التفسير 7/579، بتصرف يسير.
قال ابن سعدي عند قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1. "وذكره هنا وفي مقام الإنزال للقرآن ومقام التحدي بصفة العبودية؛ لأنه نال هذه المقامات الكبار بتكميله لعبوديته لربه"2.
وقال عند قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} 3.
"....وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين"4.
كمال أخلاقه:
إن الله سبحانه لما امتن على المؤمنين بهذا الرسول الكريم جمع له من صفات الكمال وأفضل الخصال ما لم يكن لغيره من البشر فجمع له جميع الخصال الموجودة في الرسل وغيرهم، وما من خصلة حميدة وصفة طيبة دعا إليها شرعنا الحكيم إلا ورسولنا صلى الله عليه وسلم متصف بها، فبهذا كان عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق أخلاقا وأحسنهم أوصافاً.
يقول ابن سعدي في بيان ذلك: "
…
فعلا صلى الله عليه وسلم بخلقه العظيم على جميع الخلق وفاق الأولين والآخرين، وكان خلقه العظيم كما فسرته به عائشة رضي الله عنها هذا القرآن الكريم"5.
وذلك نحو قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 6.
وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 7
…
الآية
1 سورة الإسراء/ الآية 1.
2 التفسير 4/259.
3 سورة البقرة/ الآية 23.
4 التفسير 1/61.
5 كما روى ذلك مسلم في صحيحه 1/513 من حديثها رضي الله عنها.
6 سورة الأعراف/ الآية 199.
7 سورة آل عمران/ الآية 159.
8 سورة التوبة/ الآية 128.
وما أشبهها من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، والآيات التي فيها الحث على كل خلق جميل فكان أول الخلق امتثالاً لها وسبقاً إليها وإلى تكميلها، فكان له منها أكملها وأجلها وأعلاها، وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا، فكان سهلاً ليناً قريباً من الناس مجيباً لدعوة من دعاه قاضياً لحاجة من استقضاه، جابراً لقلب من سأله لا يحرمه ولا يرده خائبا، وإذا أراد أصحابه أمراً وافقهم عليه وتابعهم فيه إذا لم يكن في ذلك محذور، وإن عزم على أمر لم يستبده به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبل من محسنهم ويعفو عن مسيئهم. ولم يكن يعاشر جليساً إلا أتم عشرة وأحسنها فكان لا يعبس في وجهه ولا يغلظ له في كلامه ولا يطوي عنه بشره ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة بل يحسن إليه غاية الإحسان ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم"1.
وقال في موضع آخر: " فهو صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق حلماً وصبراً، وأكثرهم عفواً عن الخلق وصفحاً وأجمعهم لجميع المحاسن والكمالات وأكرمهم في الخير والمعروف وبذل الهبات وهو الذي جمع الكرم والإحسان بعمله وعلمه وحاله وماله"2.
عصمته فيما يبلغ عن ربه:
وهذا مما يدل على كمال الرسول صلى الله عليه وسلم البشري، فهو في ألفاظه وأقواله التي يبلغ فيها رسالة ربه، ما يتكلم بشيء منها إلا عن وحي من الله سبحانه، فقد عصمه الله من الخطأ في تبليغ الرسالة. وأدل شيء على ذلك قول الله سبحانه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى.) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 3.
لذلك يقول ابن سعدي عن هذه الآية: "....ودل هذا على أن السنة وحي من الله ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} 4 وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه؛ لأن كلامه لا يصدر عن هوى وإنما يصدر عن وحي يوحى"5.
1 الخلاصة /25 بتصرف يسير.
2 الخطب المنبرية /66.
3 سورة النجم/ الآيتان 3، 4.
4 سورة النساء/ الآية/ 113.
5 التفسير 7/204.
سعة علمه:
وهذه من نعم الله على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث امتن عليه بأن أعطاه علماً واسعاً وعقلاً راجحاً، لا يماثله في ذلك أحد من البشر يقول ابن سعدي رحمه الله:"ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحد من الخلق"1.
أما عن كمال عقل الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ابن سعدي "محال أن توجد عقول تقارب عقل النبي صلى الله عليه وسلم الذي تستمد منه العقول والآراء.... حسب العقول الكاملة أن تستمد من عقل النبي صلى الله عليه وسلم وآرائه وتستنير بنور هديه وتوجيهه وإرشاده"2.
هذه إشارة وقليل من كثير مما امتن الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال وطيب الخصال، وحسب المسلم أن يعرف أن أكمل الخلق وأفضلهم وسيدهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإيمان بالكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام:
وهذا من المباحث الهامة إذ هو من أركان الإيمان الستة، وهو داخل في الإيمان بالنبوات؛ لأنه لا يتم الإيمان بالأنبياء إلا مع الإيمان بالكتب المنزلة عليهم.
لذا يقول ابن سعدي بعد أن ذكر أهمية الإيمان بالأنبياء عليهم السلام ووجوب الإيمان بهم جملة وتفصيلاً: "ويدخل في الإيمان بالرسل الإيمان بالكتب، فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يقتضي الإيمان بكل ما جاء به من الكتاب والسنة ألفاظها ومعانيها، فلا يتم الإيمان إلا بذلك، وكل من كان أعظم علماً بذلك وتصديقاً واعترافاً وعملاً كان أكمل إيماناً"3.
وقد سبق أن تحدثنا عن الكتب في مبحث الأسماء والصفات، من حيث كونها من كلام الله، والكلام صفة من صفاته سبحانه.
وأما حديثناً عن الكتب هنا، فعن أهمية الإيمان بها جملة وتفصيلاً، وأن فيها الهداية والتوفيق على من أنزلت إليهم من ذكر أسماء بعضها مما ورد ذكره في القرآن ومن أنزلت عليه، ثم بيان أهمها وأعظمها والمهيمن عليها وهو القرآن الكريم.
وهذه النقاط الهامة تكلم عنها الشيخ ابن سعدي في مؤلفاته ولا سيما في كتابه
1 التفسير 7/199.
2 الخطب المنبرية /53.
3 الفتاوى السعدية /15.
التفسير، فبين رحمه الله وجوب الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين وأن ذلك من تمام الإيمان بهم وقد تقدم النقل عنه أنها داخلة في الإيمان بالنبوات، ومعنى ذلك أن من آمن بأنبياء الله ورسله فإن الواجب عليه أن يؤمن بما أنزل عليهم من كتب.
وقد أخبر الله سبحانه في كتابه الكريم أن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين آمنوا بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهم آمنوا بالملائكة والكتب والرسل حيث يقول سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 1 إلى آخر الآية من سورة البقرة.
قال ابن سعدي عند تفسيره لهذه الآية: "فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان بجميع أصوله في قوله: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} 2 الآية. وأخبر في هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين آمنوا بهذه الأصول العظيمة وبجميع الرسل وجميع الكتب، ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض وكفر ببعض كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة"3.
لذا فإن الواجب على المسلم أن يؤمن بهذه الكتب جملة وتفصيلاً. فيؤمن جملة بجميع ما أنزل الله من الكتب، ويوقن أن في هذه الكتب الهداية للبشر، وأنها منزلة من عند الله، ويؤمن تفصيلاً بما ورد ذكره في القرآن الكريم من هذه الكتب فيؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور، ويؤمن بالقرآن الكريم وأنه أفضلها والمهيمن عليها.
وهذه النقاط المتقدمة تناولها ابن سعدي مفصلة في تفسيره.
كلامه في التوراة:
قال ابن سعدي في وصف التوراة، وبيان ما اشتملت عليه من النور والهداية عند تفسيره لقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه....} 4.
قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} على موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام {فِيهَا هُدىً} يهدي إلى الإيمان والحق ويعصم من الضلالة، {وَنُورٌ} يستضاء به في ظلم الجهل والحيرة والشكوك والشبهات والشهوات.
1 سورة البقرة/ الآية 285.
2 سورة المائدة/ الآية 44.
3 التفسير 1/352.
4 سورة المائدة/ الآية 44.
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} 1.
{يَحْكُمُ بِهَا} بين الذين هادوا، أي اليهود في القضايا والفتاوى. {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} لله وانقادوا لأوامره الذين إسلامهم أعظم من إسلام غيرهم صفوة الله من العباد"2.
وقد بين ابن سعدي أن الله سبحانه كثيراً ما يقرن بين القرآن والتوراة؛ وذلك لأنهما أفضل كتابين أنزلهما الله على خلقه، فقال:"كثيراً ما يجمع تعالى بين هذين الكتابين الجليلين اللذين لم يطرق العالم أفضل منهما ولا أعظم ذكراً ولا أبرك ولا أعظم هدى وبياناً وهما التوراة والقرآن"3.
وقال في موضع آخر: "كثيراً ما يقرن الباري بين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوة موسى عليه السلام، وبين كتابيهما وشريعتهما؛ لأن كتابيهما أفضل الكتب وشريعتهما أكمل الشرائع ونبوتيهما أعلى النبوات وأتباعهما أكثر المؤمنين"4.
كلامه في الإنجيل:
قال ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية: "أي واتبعنا هؤلاء الأنبياء والمرسلين الذين يحكمون بالتوراة، بعبدنا ورسولنا عيسى بن مريم، روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم.
بعثه الله مصدقاً لما بين يديه من التوراة، ومؤيداً لدعوته وحاكما بشريعته وموافقا له في أكثر الأمور الشرعية.
وقد يكون عيسى عليه السلام أخف في بعض الأحكام كما قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُم} 6
1 سورة الأنبياء/ الآية 48.
2 التفسير 2/294.
3 التفسير 5/236.
4 التفسير 4/260.
5 سورة المائدة/ الآية 46.
6 سورة آل عمران/ الآية 50.
{وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ} الكتاب العظيم المتمم للتوراة {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} يهدي إلى الصراط المستقيم ويبين الحق من الباطل.
{وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} بتثبيتها والشهادة لها والموافقة. {وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 1. فإنهم الذين ينتفعون بالهدى، ويتعظون بالمواعظ ويرتدعون عما لا يليق"2.
كلامه في الزبور:
قال عند تفسيره لقوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} 3 ".... وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه"4.
كلامه في القرآن الكريم:
وهو أفضل الكتب السماوية وخاتمها والمهيمن عليها والمصدق لها أنزله الله على صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وقد تناول ابن سعدي فضل القرآن الكريم، وبين أنه أفضل الكتب السماوية، وأنه المصدق لها والمهيمن عليها فقال في وصف القرآن الكريم فهو: "مشتمل على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه ومصدق لما بين يديه من الكتب؛ لأنه شهد للكتب السالفة ووافقها وطابقت أخباره أخبارها وشرائعه الكبار شرائعها وأخبرت به فصار وجودها مصداقا لخبرها.
وهو مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية، فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه، وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين.
وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة والإحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول وما شهد له بالرد فهو مردود قد دخله التحريف والتبديل وإلا فلو كان من عند الله لم يخالفه"5.
وقال: "وأكمل الرسالة وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه العظيم الذي هدى الله به
1 سورة المائدة/ الآية 46.
2 التفسير 2/298.
3 سورة النساء/ الآية 163.
4 التفسير 2/218، انظر 7/290.
5 التفسير 2/299، بتصرف.
الخلق من الضلالات واستنقذهم به من الجهالات وفرق به بين الحق والباطل والسعادة والشقاوة، والصراط المستقيم وطرق الجحيم فالذين آمنوا به واهتدوا حصل لهم به الخير الكثير والثواب العاجل والآجل"1.
وقال عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} 2.
"يخبر تعالى عن شرف القرآن وجلالته وأنه يهدي للتي هي أقوم أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع الأمور..
إلى أن قال فالقرآن مشتمل على البشارة والنذارة، وذكر الأسباب التي تنال بها البشارة وهو الإيمان والعمل الصالح والتي تستحق بها النذارة وهو ضد ذلك"3.
وقد عدد رحمه الله جملة من أوصاف القرآن الكريم وذلك في مقدمة كتابه خلاصة تفسير القرآن فقال: "قد وصف الله كتابه بأوصاف جليلة تنطبق على جميعه وتدل أكبر دلالة على أنه الأصل والأساس لجميع العلوم النافعة، والفنون المرشدة لخبر الدنيا والآخرة.
وصفه بالهدى والرشد والفرقان، وأنه مبين وتبيان لكل شيء فهو في نفسه هدى ويهدي الخلق لجميع ما يحتاجونه من أمور دينهم ودنياهم، ويرشدهم إلى كل طريق نافع، ويفرق لهم بين الحق والباطل والهدى والضلال وبين أهل السعادة والشقاوة بذكر أوصاف الفريقين، وفيه بيان الأصول والفروع
…
ووصفه بأن رحمة
…
ووصفه بأن نور.... ووصفه بأنه شفاء لما في الصدور"4.
إلى غير ذلك من الأوصاف العظيمة لهذا الكتاب والعظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وبهذه الأوصاف الجليلة والنعوت الجميلة يظهر لنا أهمية العناية بهذا القرآن؛ لما يترتب على ذلك من حصول السعادة والهداية والفلاح في الدنيا والآخرة.
1 التفسير 1/356.
2 سورة الإسراء/ الآية 9.
3 التفسير 4/264.
4 الخلاصة /6، 7.
الإيمان بالملائكة:
وهذا المبحث له صلة عميقة بالإيمان بالنبوات، إذ أن الملائكة هم الذين يبلغون وحي الله إلى خلقه، ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة، وقد أشار ابن سعدي إلى أن الإيمان بالملائكة داخل في الإيمان بالنبوات حيث قال:"والإيمان بالملائكة مع القدر داخل في هذا الأصل العظيم"1 يعني الإيمان بالنبوات؛ لذا فقد رأيت أن أجعل هذا المبحث ضمن الكلام على النبوات.
هذا وقد تناول ابن سعدي هذا الأصل العظيم في مؤلفاته وبين وجوب الإيمان به وأنه أحد أصول الإيمان. وبين أن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالملائكة، كما تناول ذكر أوصافهم وأعمالهم.
قال رحمه الله: "الإيمان بالملائكة أحد أصول الإيمان ولا يتم الإيمان بالله وكتبه ورسله إلا بالإيمان بالملائكة وقد وصفهم الله بأكمل الصفات وأنهم في غاية القوة على عبادة الله، والرغبة العظيمة فيها، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنهم لا يستكبرون عن عبادته بل يرونها من أعظم نعمه عليهم وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ففي هذا بيان كمال محبتهم لربهم وقوة إنابتهم إليه ونشاطهم التام في طاعته وأنهم لا يعصونه طرفة عين. وهم وسائط بينه وبين رسله، لا سيما جبريل أفضلهم وأعظمهم وأقواهم وأرفعهم عند الله منزلة، فإنه ذو قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما هو على الغيب بضنين {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 2.
وكما أنهم الوسائط بينه وبين عباده في تبليغ الوحي والشرائع إلى الأنبياء، فهم الوسائط في التدبيرات القدرية، فإن الله وصفهم بأنهم المدبرات أمراً فكل طائفة منهم قد وكله على عمل هو قائم به بإذن الله، فمنهم الموكلون بالغيث والنبات والموكلون بحفظ العباد مما يضرهم ويحفظ أعمالهم وكتابتهم والموكلون بقبض الأرواح وبتصوير الأجنة في الأرحام وكتابة ما يجري عليها في الحال والمآل، والموكلون على الجنة والنار، ومنهم حملة العرش ومن حوله من الملائكة المقربين، إلى غير ذلك مما وصفوا به في الكتاب والسنة"3.
1 الفتاوى السعدية /15.
2 سورة الشعراء/ الآيات 192-194.
3 الخلاصة /29.
ثم قال رحمه الله بعد ذكر هذه الجملة النافعة من أوصف هؤلاء الكرام البررة ومن نعوت هؤلاء الأطهار. مبينا الواجب نحوهم، وأنه يجب الإيمان بهم "فيجب الإيمان بهم إجمالا وتفصيلاً، وكثير من سور القرآن فيها ذكر الملائكة، والخبر عنهم فعلينا أن نؤمن بذلك كله"1.
كما بين رحمه الله أن الإيمان بالملائكة من الإيمان بالغيب الذي هو صفة من صفات المؤمنين المتقين كما قال سبحانه: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 2.
فبين أنه لا يتم الإيمان بالغيب إلا بالإيمان بالملائكة، قال:
"ومن الإيمان بالغيب الإيمان بالملائكة الكرام الذين جعلهم الله عباداً مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنه تعالى جعلهم يدبرون بأمره وإذنه أمور الدنيا والآخرة فهم أكثر جنود الله وهم رسله في أحكامه الدينية وأحكامه القدرية وأن الله جعل للعبد منهم معقبات يحفظونه من أمر الله ويحفظون عليه أعماله ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، ولهم صفات وأفعال مذكورة في الكتاب والسنة لا يتم الإيمان بالغيب إلا بالإيمان بها"3.
كلامه عن منكري وجود الملائكة:
بين ابن سعدي أن الإيمان بالملائكة وأوصافهم ونعوتهم عقيدة راسخة في نفوس المسلمين، ولا ينكر ذلك أحد إلا الزنادقة المنكرين لوجود الله سبحانه.
قال رحمه الله: "ولا تكاد تجد أحداً ينكر وجود الملائكة إلا الزنادقة المنكرين لوجود ربهم ومن تستر بالإسلام منهم فإنه ينكر الملائكة حقيقة وينكر خبر الله ورسوله عنهم، ويفسر الملائكة تفسيراً وتحريفاً خبيثاً فيزعم أن الملائكة هي القوى الخيرية والصفات الحسنة الموجودة في الإنسان، وأن الشياطين هي القوى الشريرة فيه وغرضهم من هذا التحريف دفع الشنعة عنهم، وقد ازدادوا بهذا التحريف شراً إلى شرهم، وراج هذا
1 الخلاصة /29.
2 سورة البقرة/ الآيتان 2، 3.
3 المواهب الربانية /67.
التحريف الخبيث على بعض الذين يحسنون الظن بهؤلاء الزنادقة، وليس عندهم بصيرة في أديان الرسل وإن أظهروا تعظيمهم، فإن زنادقة الفلاسفة أعظم في قلوبهم من الرسل وكفى بالعبد ضلالاً وغياً أن يصل إلى هذه الحال، نعوذ بالله من مضلات الفتن"1.
ومن هؤلاء البعض الذين ساروا في ركب الزنادقة وترسموا خطاهم القصيمي الملحد صاحب الأغلال وإليه وأمثاله يشير السعدي بقوله: "وراج هذا التحريف الخبيث على بعض الذين يحسنون الظن بهؤلاء الزنادقة، وليس عندهم بصيرة في أديان الرسل"2.
وقد أنكر هذا القصيمي في كتابه "الأغلال" وجود الملائكة وسخر ممن يثبت وجودهم وتهكم منه وقرر أن هذه خرافات لا حقيقة لها، وهذا غاية البهت والضلال.
قال ابن سعدي رحمه الله: "ومن فروع نبذه ـ أي القصيمي ـ الإيمان بالله وبما أخبر به على ألسنة رسله، إنكاره الملائكة والجن والأرواح وسياقه لهذا الإنكار بأساليب تهكمية وعبارات سخرية بما أخبر الله به وأخبرت به رسله ونطقت به الكتب واعترف به علية الخلق وسائر أهل الأديان السماوية وجاءت به نصوص الكتاب والسنة في نصوص كثيرة زادت على التواتر فأقر بها المسلمون واعترفوا بها وبكل ما أخبر الله به ورسله عن الملائكة والجن وعن أحوال البرزخ وغيره ولم ينكر ذلك إلا جاحد ملحد مكذب لله ورسله"3.
والمقصود أن الملائكة لهم وجود حقيقي خلقهم الله وأمرهم بأوامر متنوعة من حفظ للكائنات وإنزال للمطر وكتابة للإعمال وغير ذلك من الصفات والأعمال الواردة عنهم في الكتاب والسنة.
فواجب المسلم أن يؤمن بكل ما ورد في الكتاب والسنة عنهم من غير شك ولا ريب وأن يصدق بذلك تمام التصديق فالإيمان بهم أحد أركان الإيمان الستة. ولا يتم الإيمان لأحد حتى يؤمن بالملائكة على الإجمال والتفصيل. والله أعلم.
وهذا آخر ما يتعلق بالفصل الثاني، ويليه الفصل الثالث وفيه الإيمان باليوم الآخر. وبالله التوفيق.
1 الخلاصة /29.
2 تنزيه الدين /39.
3 تنزيه الدين /39.