الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
توحيد الأسماء والصفات
المبحث الثاني
توحيد الأسماء والصفات
تمهيد:
إن تدبر أسماء الله وصفاته وفهمها على مراد الله منها من أهم الأمور وأجلها؛ وذلك لما في هذا العمل من الفوائد العظيمة، والثمار النافعة.
لذلك فقد اشتغل علماء الإسلام قديماً وحديثاً في بيان أسماء الله الحسنى وصفاته العلى وشرحها وإيضاحها، والرد على من أنكرها أو أنكر بعضها، وألفوا في ذلك مؤلفات عديدة.
وكان الشيخ ابن سعدي رحمه الله ممن أسهم حديثاً في بيان الأسماء الحسنى والصفات العلى لما يرى في ذلك من الفوائد ولكونها من أجل العلوم وأنفعها.
وقد عدد رحمه الله فوائد عظيمة يحصل عليها المشتغل بهذا العلم النافع أذكر منها ما يلي:-
أولا: إن هذا العلم أشرف العلوم وأجلها على الإطلاق، فالاشتغال بفهمه والبحث عنه اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب.
ثانيا: إن معرفة الله تدعو إلى محبته وخشيته وخوفه ورجائه وإخلاص العمل له، وهذا عين سعادة العبد، ولا سبيل إلى معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته والتفقه في فهم معانيها.
ثالثا: إن الله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه وهذا هو الغاية المطلوبة منهم فالاشتغال بذلك بما خلق له العبد وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم من كل وجه أن يكون جاهلاً بربه معرضاً عن معرفته.
رابعا: إن أحد أركان الإيمان بل أفضلها وأصلها الإيمان بالله وليس الإيمان مجرد قوله آمنت بالله من غير معرفته بربه، بل حقيقة الإيمان أن يعرف الذي يؤمن به ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين،
وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه وكلما نقص نقص، وأقرب طريق يوصله إلى ذلك تدبر صفاته وأسمائه من القرآن، والطريق في ذلك إذا مر به اسم من أسماء الله أن يثبت له ذلك المعنى وكماله وعمومه وينزهه عما يضاد ذلك.
خامسا: إن العلم به تعالى أصل الأشياء كلها، حتى إن العارف به حقيقة المعرفة يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، ولذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق وأوامره ونواهيه عدل وحكمة.
وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه لوضوحه1.
ولهذه الفوائد العظيمة وغيرها من الفوائد التي يحصل عليها من اشتغل بفهم أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فإن الشيخ ابن سعدي يحث على تعلمها ويبين أن الناس بأحوج ما يكونوا إليها إذ هي أعظم الضروريات.
فيقول: "ولهذا فإنه لا أعظم حاجة وضرورة من معرفة النفوس بربها ومليكها الذي لا غنى لها عنه طرفة عين ولا صلاح لها ولا زكاء إلا بمعرفته وعبادته وكلما كان العبد أعرف بأسماء ربه وما يستحقه من صفات الكمال وما يتنزه عنه مما يضاد ذلك،
كان أعظم إيماناً بالغيب واستحق من الثناء والمدح بحسب معرفته وموضع هذا تدبر أسمائه الحسنى التي وصف بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله فيتأملها العبد اسماً اسماً ويعرف معنى ذلك وأن له تعالى من ذلك الاسم أكمله وأعظمه وأن هذا الكمال والعظمة ليس له منتهى، ويعرف أن ما ناقض هذا الكمال بوجه من الوجوه فإن الله تعالى منزه مقدس عنه...."2.
أقسام الناس في الأسماء والصفات وبيان منهج السلف فيها:
بعد أن عرفنا أهمية الاشتغال بفهم الأسماء والصفات على مراد الله منها، فلنعلم أن الناس في ذلك ثلاثة أقسام طرفان ووسط.
1 التفسير 1/24، 25، 26، والخلاصة /15 بتصرف يسير.
2 المواهب الربانية /61، 62.
فأما الطرفان فهم: النفاة المعطلون، والمشبهة المجسمون، وأما الوسط فهم أهل السنة والجماعة المؤمنون الموحدون.
وهذا ما فصله الشيخ ابن سعدي في كتبه في أكثر من موضع حيث يقول:
"الناس في هذا المقام ثلاثة أقسام: مؤمن موحد، ومشبه، ومعطلن فالمؤمن الموحد: يصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله.
والمشبه: هو الذي يشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين أو يعترض لمعرفة كنهها وحقيقتها التي لا يعلمها غير الله.
والمعطل: هو من نفى شيئاً من صفات الله"1.
وقد بين ابن سعدي أن كلاً من التشبيه، والتعطيل بعيدان عن الصواب وأن الطريق النافع والذي يجب أن يسلكه كل مسلم هو طريق أهل السنة والجماعة.
فقال: "وكل من المعطل والمشبه قد حرم الوصول إلى معرفة الله على وجهها المطلوب، وابتلي بالتكلف والتحريف لنصوص الوحي، وكما أنه مناقض للوحي فهو مناقض لما دلت عليه العقول والفطرة التي لن يطرأ عليها التغير، فلا معقول لديهم ولا منقول. وهدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن رسله، والمعقول لذوي الألباب، وذلك يظهر بتدبر ما عليه هذه الطوائف في المسائل والدلائل وتحقيقها ونسأل الله الهداية لأقوم الطرق"2.
منهج السلف في الأسماء والصفات:
عرفنا أن أهدى الطرق وأعدلها في الأسماء والصفات هو ما سلكه أهل السنة والجماعة من فهم لها على مراد الله منها، ولذلك أصبح منهجهم هو الذي يجب أن يحتذي ويسار عليه.
ويتلخص منهج السلف في الأسماء والصفات في النقاط التالية:
ـ أنهم يقرون ويعتقدون بجميع ما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله.
1 الحق الواضح المبين ص 12.
2 الحق الواضح المبين ص 12.
ـ فيثبتون لله جميع ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال.
ـ وينفون عنه جميع ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب.
ـ من غير تحريف1 ولا تعطيل2،ومن غير تكييف3 ولا تمثيل4.
وهذا هو المنهج الحق الذي لا مرية فيه، وقد سلك ابن سعدي هذا المنهج الحق في بيان توحيد الأسماء والصفات وسار عليه، وأطال رحمه الله في مؤلفاته في تقرير هذا المنهج والرد على من خالفه من سائر طوائف الضلال، ولا سيما في كتابيه: الحق الواضح المبين، وتوضيح الكافية الشافية.
ومما قاله في تقرير هذا المسلك أنه عرف توحيد الأسماء والصفات بأنه "اعتقاد انفراد الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك..... وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها، الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب وعن كل ما ينافي كماله"5.
لذلك كان في تفسيره للقرآن إذا مر بآيات تدل على ذلك، أشار إليها وبين وجه دلالتها على صحة هذا المنهج في أسماء الله وصفاته.
فمن ذلك ما قاله عند قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 6.
قال: "وهذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، وفيها رد على المشبهة في قوله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المعطلة في قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 7.
1 التحريف: هو تغيير ألفاظ الأسماء والصفات أو تغيير معانيها. كقولهم "استوى" بمعنى استول، وقولهم "الرحمة" إرادة الإنعام.
2 التعطيل: هو نفي الصفات وهو مأخوذ من قولهم جيد معطل أي خالي.
3 التكييف: معناه بيان الهيئة والكيفية التي تكون عليها الصفات مثل أن يقال كيف يده وكيف وجهه
…
الخ.
4 التمثيل: هو التشبيه بأن يقال وجه الله كوجه المخلوق وما أشبه ذلك تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
5 القول السديد ص 15.
6 سورة الشورى/ الآية 11.
7 التفسير 6/598.
وقال في نهاية تفسير سورة الإخلاص: "فهذه السورة مشتملة على توحيد الأسماء والصفات"1.
كما أشار إلى ذلك في غير التفسير من كتبه.
فقال في المواهب الربانية: "قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}
اشتملت على أن الله تعالى كامل الأسماء والصفات عظيم النعوت، جليل القدر وليس له في ذلك شبيه ولا نظير ولا سمي بل قد تفرد بالكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات"2.
وقال في خلاصة التفسير بعد أن ذكر قصة آدم وأخذ يعدد ما يستنبط منها من فوائد، قال:" ومنها "أي الفوائد" أن فيها دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين لله ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات كلها، لا فرق بين صفات الذات ولا بين صفات الأفعال"3.
وقد بين رحمه الله أن هذا المنهج في الأسماء والصفات هو المنهج الذي يقرره الله في كتابه، وهو المنهج الذي اتفقت عليه الرسل أجمعون.
حيث يقول: " انظر إلى توحيد الله وتفرده بالوحدانية، وتوحده بصفات الكمال، كيف كانت الكتب السماوية مشحونة بها، بل هي المقصد الأعظم، وخصوصاً القرآن الذي هو من أوله إلى آخره يقرر هذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها.
وانظر كيف اتفقت جميع الرسل والأنبياء وخصوصاً خاتمهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، على توحيد الله وأنه متفرد بالوحدانية وعظمة الصفات: من سعة العلم، وشمول القدرة والإرادة وعموم الحجة والحكمة والملك والمجد والسلطان والجلال والجمال والحسن والإحسان في أسمائه وصفاته وأفعاله"4.
ومعلوم أن المنهج الذي أنزلت به الكتب واتفقت عليه الرسل هو المنهج الحق الذي لا يجوز العدول عنه، بل إن العدول عنه إلى غيره بعد وضلال واستبدال للذي هو أدنى بالذي هو خير، وكلما ازداد الإنسان رغبة في غيره من المناهج ازداد بعداً عن الطريق المستقيم، وكلما بعد عن الطريق المستقيم ازداد إلحاده في أسماء الله وصفاته.
1 التفسير 7/686، وانظر الخلاصة ص 18.
2 المواهب الربانية ص 45 وانظر التفسير أيضا 5/126.
3 الخلاصة ص 107.
4 الفتاوى ص 44، 45.
وأول من عدل عن هذا الطريق من طوائف الضلال هم الجهمية المنسبون إلى الجهم بن صفوان، فهم أول الطوائف إنكاراً للأسماء والصفات.
قال ابن سعدي في بيان ذلك:
"وكان الجهم بن صفوان معروفاً بين الأمة بهذه البدعة الشنعاء الجامعة لشرور كثيرة أعظمها وأطمها نفي صفات الله التي تواترت في الكتاب والسنة واتفق عليها جميع سلف الأمة"2.
ثم أوضح رحمه الله أن جميع من جاء بعده من طوائف الضلال من معتزلة وأشعرية وكلابية وغيرهم ـ أخذوا عنه فهو رأسهم وشيخهم وسلفهم في هذا المنهج.
أما أهل السنة والجماعة فقد سلمهم الله من هذا الضلال بأن وفقهم لسلوك الصراط المستقيم والمنهج القويم.
قال رحمه الله في إيضاح ذلك: "فأخذت طوائف البدع من أقوال جهم بحسب بعدهم من مذهب السلف:
ـ فطائفة أثبتت الأسماء ونفت الصفات، وهم الجهمية والمعتزلة.
ـ وطائفة غلت فنفت الأسماء الحسنى.
ـ وطائفة وافقت الجهمية بنفي الأفعال الاختيارية، ووافقوا السلف في إثبات الصفات السبع وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وهم الأشعرية والماتريدية3،
ـ وطائفة أخذت بقوله إن العباد مجبورون على أفعالهم وهم الملقبون بالجبرية.
ـ وطائفة وافقته في أن القرآن الموجود المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف مخلوق، والمعنى القديم النفسي غير مخلوق، كالكلابية والأشعرية".
ثم قال رحمه الله:
"ونجى الله أهل السنة والجماعة من جميع أقواله الباطنة فأثبتوا جميع أسماء الله
1 سورة الأعراف/ الآية 180.
2 توضيح الكافية الشافية /5
3 إثبات الأشاعرة والماتريدية للصفات السبع ليس موافقاً للسلف تماماً بل بينهم تفاوت كبير وبون شاسع. وسيأتي مثال ذلك عند التحدث عن صفة الكلام.
الحسنى وما دلت عليه من الصفات العليا ولا فرق بين الصفات الذاتية المتعلقة بذاته التي لا ينفك عنها كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ونحوها، ولا بين صفات الأفعال القائمة بذاته المتصف بها المتعلقة بمشيئته وقدرته
…
"1.
ومذاهب هؤلاء جميعهم مبنية على التقول على الله بغير علم وتأويل الصفات على غير المراد منها، وقد بين رحمه الله خطورة التقول على الله بغير علم، وذلك عند تفسيره لقوله تعالى:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2.
فقال رحمه الله: "يدخل في ذلك القول على الله بلا علم في شرعه وقدره فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم.
إلى أن قال: ومن أعظم القول على الله بلا علم أن يتأول المتأول كلامه، أو كلام رسوله على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال ثم يقول إن الله أرادها.
فالقول على الله أكبر المحرمات أشملها وأكبر طرق الشيطان التي يدعوا إليها"3.
وقال عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 4: "ويدخل في هذا كل من كذب على الله بنسبه شريك له أو وصفه بما لا يليق بجلاله أو الإخبار عنه بما لم يقل"5.
وبين رحمه الله أنه لا يتم إيمان أحد بتوحيد الأسماء والصفات حتى يترك التأويل ويؤمن بجميع الصفات على مراد الله منها فقال:
"ولا يتم توحيد الأسماء والصفات حتى يعترف، ويؤمن بكل ما جاء في الكتاب والسنة والأسماء والصفات والأفعال، وأحكامها وعلى وجه يليق بعظمة الباري، ويعلم أنه كما لا يماثله أحد في ذاته فلا يماثله أحد في صفاته، ومن ظن أن في بعض النقليات ما يوجب تأويل بعض الصفات على غير المعروف فقد ضل ضلالاً مبيناً"6.
هذا وإن المتكلمين جميعهم قد جعلوا التأويل مطية لهم، فمتى رأوا النصوص تخالف قولتهم أولوها، وقالوا ظاهرها غير مراد، فحرفوا بذلك معاني نصوص الكتاب والسنة.
1 توضيح الكافية الشافية /13.
2 سورة البقرة / آية 169.
3 التفسير 1/200، 201.
4 سورة هود/ الآية 18.
5 التفسير 3/413.
6 الفتاوى /12.
قال ابن سعدي مشيراً إلى هذا الواقع: "إن المتكلمين بالكلام الباطل من جهمية ومعتزلة وقدرية وكلابية وأشعرية، قد اشتركوا في نفي صفات الباري، وقد تقاوتوا في كثرة ما ينفونه منها، وكل فريق منهم فيما ينفيه من الصفات إذا وردت عليه النصوص من الكتاب والسنة في إثباتها تأولها تأويلات تنفي ما تدل عليه من المعاني الصريحة الظاهرة الحقة، وصرفها لمعان باطلة لا تدل عليها.
ثم بين الذي شجعهم على ذلك فقال:
وجرأهم على ذلك التأويل أنهم سموا المعاني الفلسفية والأصول اليونانية قواطع عقلية وبراهين يقينية وأدلة الكتاب والسنة ظواهر لفظية قابلة للتأويل فسطوا عليها بالتأويلات الباطلة التي يجزم كل ذي بصيرة أنها خلاف مراد الله ورسوله منها"1.
موقفه من التأويل:
إن التأويل يعد من أخطر معاول الهدم للإسلام، إذ به استطاعت جميع طوائف الضلال أن تروج باطلها، فالجهمية والمعتزلة والرافضة وغيرهم لا يجدون من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على باطلهم بل إن نصوص الكتاب والسنة صريحة في الرد عليهم؛ ولذلك لجؤوا إلى التأويل فجعلوه مطية لهم، فأولوا نصوص المخالفة لهم وقالوا:"إن ظاهرها غير مراد"، وهكذا استطاعوا إفساد عقائد كثير من الناس بهذه التأويلات الفاسدة.
مما جعل علماء الإسلام قديما وحديثا يقومون بالتصدي لهذا النوع من التأويل وبيان فساده وضرره على الإسلام والمسلمين. وإن من أبرز من قام بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر مؤلفاته ولا سيما كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل ورسالة الإكليل في المتشابه والتأويل وغيرهما لهذا يقول الدكتور محمد الجليند في كتابه الإمام ابن تيمية وقضية التأويل عن ابن تيمية أنه "أبرز مفكر إسلامي عالج هذه القضية"2.
ومن علمائنا المعاصرين الذين قاموا بمعالجة هذه القضية الشيخ ابن سعدي فقد تناول رحمه الله هذه القضية في مواضع متعددة من مؤلفاته، وبين فساد التأويل وأنه جر وبالاً على الإسلام.
1 توضيح الكافية الشافية ص 59، 60.
2 الإمام ابن تيمية وقضية التأويل /9. ولو عبر بعالم المفكر لكان أنسب، وكتابه هذا قيم جداً في جمع وتنسيق "نقض التأويل وإبطاله" من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال رحمه الله: "ولا يرتاب عارف أن جميع المصائب التي جرت في صدر الإسلام وبعد ذلك، ووقوع الفتن والاقتتال والتحزبات كلها متفرعة عن التأويل الباطل الذي لا ينتج إلا شراً"1.
ثم عدد جملة من أضراره فقال: " فالتأويل الباطل سبب فتن الأقوال والبدع الاعتقادية والفتن الفعلية، فلم يزل التأويل يتوسع وكل بدعة متأخرة تحدث من التأويلات الباطلة غير ما أحدثته التي قبلها
…
"2.
وقال عند تفسيره لقوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ، "وفيه رد على المتكلمين من الجهمية ونحوهم ممن يرى أن كثيراً من نصوص القرآن محمولة على غير ظاهرها ولها معان غير ما يفهم منها فإذاً على قولهم لا يكون القرآن أحسن تفسيراً من غيره، وإنما التفسير الأحسن على زعمهم تفسيرهم الذي حرفوا له المعاني تحريفاً"3.
أنواع التأويل:
وقد صار للتأويل بسبب تعدد الاصطلاحات ثلاثة معان فصلها شيخ الإسلام في أكثر من موضع من كتبه.
أحدها: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين للقرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله من المصنفين في التفسير واختلف علماء التأويل، ومجاهد إمام المفسرين إذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه فالمراد به معرفة تفسيره.
الثاني: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق} 4. فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله به فيه مما يكون من القيامة والحساب والجزاء، والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال الله تعالى في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْل} 5 فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
1 توضيح الكافية الشافية ص 54.
2 توضيح الكافية الشافية ص 54.
3 التفسير 5/478.
4 سورة الأعراف/ آية 53.
5 سورة يوسف/ آية 100.
والثالث: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله.
وهذا التأويل في كثير من المواضع، أو أكثرها وعامتها من باب تحريف الكلم عن مواضعه1.
وجميع هذه الأنواع تناولها الشيخ ابن سعدي في مؤلفاته، وقد تقدم معنا ذمه للنوع الأخير، وأما النوع الأول والثاني فقد قال عنهما: "وأما التأويل الذي يراد به تفسير مراد الله ومراد رسوله بالطرق الموصلة إلى ذلك فهذه طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان وهي التي أمر الله ورسوله بها ومدح أهلها.
وكذلك التأويل الذي هو بمعنى ما يؤول إليه الأمر من العمل بأمر الله ومن فهمه ما يؤول إليه الخبر فلفظ التأويل في الكتاب والسنة الغالب عليه هذان الأمران.... إلى أن قال: فتبين أن التأويل الصحيح كله يعود إلى فهم مراد الله ورسوله وإلى العمل بالخبر وأن التأويل الباطل يراد به ضد ذلك ويراد به صرف النصوص عن معناها الذي أراده الله ورسوله إلى بدعهم وضلالهم وهو من أعظم ما يدخل في القول على الله بلا علم"2.
وهذا النوع الأخير تقدم معنا في كلام شيخ الإسلام أن عامته باطل؛ لذلك فإن هناك شروطاً لمن ادعى هذا النوع من التأويل إن توفرت في تأويله كان صحيحاً وإلا فهو من التأويل الباطل.
وهي أربعة شروط ذكرها الشيخ ابن سعدي في توضيح الكافية الشافية:
(أحدها) : أن يأتي بدليل يدل على قوله؛ لأنه خلاف الأصل فإن الأصل حمل اللفظ على ظاهره وحقيقته فمن ادعى خلاف ذلك فعليه البرهان، فإذا أتى بدليل طولب بأمر (ثاني) : وهو أن ذلك الذي تأوله إلى ذلك المعنى يحتمله؛ لأنه لا بد أن يكون بين الألفاظ والمعاني ارتباط وتناسب؛ لأنه باللسان العربي أنزله الله ليعقله العباد إذا تدبروا ألفاظه فهل يمكن أن يعقلوا أو يفهموا ما ليس له ارتباط ودلالة على المعاني من ذات اللفظ ونفس العبارة بحيث لا يحتاجون إلى أمور خارجية فإذا أتى بما يدل ويحتمل ذلك المعنى الذي عينه وهيهات له ذلك طولب بأمر (ثالث) : وهو تعيينه المعنى الذي تأول اللفظ له فهب أن ظاهره غير مراد فلا بد من دليل يعين المعنى الذي صرفه إليه ويخصصه به فإن التخصيص من دون دليل من باب التكهن والتخرص؛ لأن اللفظ
1 الرسالة التدمرية /29، الفتاوى /1 ص 68، 69.
2 توضيح الكافية الشافية /54، 55، وانظر الفتاوى السعدية /119، 120.
لا يدل عليه بخصوصه، فقد يكون القصد به معنى غير الذي عينوه، وقد يكون اللفظ متعبداً بتلاوته ولفظه مجرداً عن المعاني وهو أولى من تحريفهم أو إتيانهم بمعان ما أنزل الله بها من سلطان، وإن كان الأمران ينافيان حكمة الباري لكن التعبد أهون من التحريف.
فإن فرض أنه تأول على غير ظاهره وأتى بدليل على الاحتمال وعلى التعين طولب بأمر (رابع) وهو الجواب عن المعارض؛ لأن الدعوى لا تتم إلا بذلك.
والمعارض للنفي هو جميع الأدلة النقلية من الكتاب والسنة والأدلة العقلية والفطرة"1.
ويلاحظ أن هذه الشروط عسيرة ولا يمكن توفرها في تأويلاتهم الباطلة وبهذا يفهم قول شيخ الإسلام المتقدم عن هذه التأويلات أن عامتها باطلة.
والمقصود أن الشيخ ابن سعدي كغيره من علماء أهل السنة يرى فساد هذا النوع من التأويل وبطلانه، وأما النوعان الأولان فقد بين أنهما صحيحان وأنهما متعارف عليهما عند السلف الصالح.
ولذلك قال عند تفسيره لقوله تعالى:
" التأويل يطلق بمعنى التفسير والعلم به، ويطلق بمعنى بيان الحقيقة التي يؤول إليها الأمر، فإن كان الأول فيكون قوله (والراسخون) معطوفاً على قوله (إلا الله) وعلى هذا فإن معناه أن المتشابه هو ضد المحكم.
وهو الذي فيه احتمالات، فالرسخون في العلم يفهمونه ويرجعونه إلى المحكم، فالنص الصريح يقضي على النص الذي فيه عدة احتمالات.
وإن كان الثاني: فالتأويل الذي هو بمعنى نفس حقيقة المخبر عنه من صفات اليوم الآخر لا يعلم كنه ذلك وكيفيته إلا الله تعالى، فيكون الوقوف على (إلا الله) ويكون معنى قوله (والراسخون في العلم) بمعنى أنهم يفوضون معرفة الكنه والكيفية
1 توضيح الكافية الشافية /55.
2 سورة آل عمران/ آية 7.
إلى الله، ويقولون (آمنا به كل من عند ربنا) أي: وما كان من عند ربنا فهو حق، سواء عرفنا كنهه أم لا.
وكلا القولين صحيح، وقد قال بكل منهما طائفة من السلف، والجمع بينهما على ما ذكرنا من اختلاف معنى التأويل أولى وأحسن"1.
كلامه في ذم الإلحاد في أسماء الله:-
إن النوع الباطل من التأويل يعد من الإلحاد في أسماء الله ومن الميل والعدول بها عن مرادها، وقد حذر الله عز وجل في كتابه من الإلحاد في أسمائه أشد التحذير، بعد أن بين أن له الأسماء الحسنى، فقال سبحانه:
فالواجب على كل مسلم أن يقر ويعترف بجميع ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله من صفات الكمال وأن ينفي عنه ما نفاه عن نفسه وما نفاه عنه رسوله من صفات النقص من غير إلحاد فيها وذلك بأن يحرفها أو يعطلها عن معانيها أو يشبهها بأوصاف المخلوقين أو يكيفها أو غير ذلك من أنواع الإلحاد.
بل الواجب أن يثبتها على مراد الله وأن يحذر غاية الحذر من الإلحاد فيها.
والإلحادُ في أسماء الله له أنواع متعددة:
أـ أن يسمى بها من لا يستحقها مثل تسمية المشركين أصنامهم بأسماء الله فسموا العزى من العزيز واللات من إله وهكذا.
ب ـ أن تعطل عن معانيها كقول المعتزلة سميع بلا سمع بصير بلا بصر.
جـ ـ أن يشبه بها غيره؛ كقول المشبهة يد كأيدينا.
د ـ أن يحاول تكييفها ومعرفة كنهها.
وكل هذه الأنواع ترجع إلى الميل بها عن مراد الله منها، وقد ذم الشيخ ابن سعدي الإلحاد في أسماء الله وصفاته وحذر منه بجميع أنواعه، وبين أن نفي الإلحاد عن أسماء الله وصفاته من تمام الإيمان بها.
فقال رحمه الله (ونفي الإلحاد في أسماء الله وصفاته من تمام إثبات صفات الكمال
1 الفتاوى /119، 120، وانظر التفسير 1/358، الخلاصة 174.
2 سورة الأعراف/ الآية 180.
وتفرد الرب بنعوت العظمة والجلال، فعلى العبد المؤمن أن يحققها علماً وتعبداً لله بها ونفياً للإلحاد فيها"1.
وقال: " فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها ويحذر الملحدون فيها"2.
وقال في بيان حقيقة الإلحاد وأنواعه "وحقيقة الإلحاد في أسماء الله وصفاته الميل بها عما جعلت له.
إما بأن يسم بها من لا يستحقها، كتسمية المشركين بها لآلهتهم، وإما بنفي معانيها وتحريفها، وأن يجعل لها معنى ما أراده الله ولا رسوله وإما أن يشبه بها غيرها"3.
فالواجب إذاً على المسلم أن يسلك في أسماء الله وصفاته ما سلكه السلف الصالح من صحابة وتابعين من فهم لها على مراد الله منها ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد وضع لهذا المنهج قواعد مبينة له وبها يسهل معرفته.
قواعد في الأسماء والصفات:-
بيان أهمية القواعد واهتمام السعدي بها:
إن معرفة القواعد وإتقانها من أهم العلوم وأعظمها فائدة؛ وذلك أن القواعد يسهل حفظها فإذا حفظت وفهمت يمكن التفريع عليها؛ لذلك اعتنى العلماء بوضع القواعد في جميع الفنون، وليس هناك فن إلا وتجد له قواعد وأصولاً كثيرة تنتهج.
وقد اعتنى ابن سعدي بتدوين القواعد الكلية وأشار إلى أهميتها وفوائدها في غير موضع، ومن ذلك قوله:"ومعلوم أن الأصول والقواعد للعلوم بمنزلة الأساس للبنيان والأصول للأشجار لا ثبات لها إلا بها، والأصول تبنى عليها الفروع، والفروع تثبت وتقوى بالأصول، وبالقواعد والأصول يثبت العلم ويقوى وينمى نماءً مطرداً، وبها تعرف مآخذ الأصول، وبها يحصل الفرقان بين المسائل التي تشتبه كثيراً كما أنها تجمع النظائر والأشباه التي من جمال العلم جمعها ولها من الفوائد الكثيرة غير ما ذكرنا"4.
1 توضيح الكافية الشافية /97.
2 التفسير 3/122، الحق الواضح المبين /55، 56.
3 التفسير 3/122.
4 طريق الوصول /4.
ومما يؤكد اهتمام الشيخ واعتناءه بها أنه أفرد ثلاثة كتب من مؤلفاته خصها بذكر القواعد الكلية الجامعة.
وهي: كتاب طريق الوصول إلى العلم المأمول بمعرفة القواعد والضوابط والأصول وكتاب القواعد والأصول الجامعة، والفروع والتقاسيم والبديعة النافعة، وكتاب القواعد الحسان لتفسير القرآن، وله منظومة في القواعد الفقهية.
لهذا سأذكر جملة من القواعد في الأسماء والصفات التي اختارها ابن سعدي وتعرض لها في مؤلفاته.
وهي جملة من القواعد انتقاها الشيخ واختارها من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية. وأذكر بيانه لها؛ وذلك لأن تقرير القواعد وتأصيلها من منهجه كما تبين، ولا سيما في مجال العقيدة.
وهذه القواعد الآتية وإن كانت ليست من استنتاج الشيخ إلا أن ذكره لها وعنايته بشرحها وتوضيحها يدل على شدة اهتمامه بالقواعد.
القاعدة الأولى:
(أسماء الله كلها حسنى) .
هذه القاعدة من القواعد الثابتة المتقررة في الشريعة المتفق عليها عند السلف الصالح، وقد ورود في القرآن الكريم عدة نصوص تدل على هذه القاعدة، منها:
وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2.
وقوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3.
وهذه القاعدة من القواعد التي اهتم بها ابن سعدي وتناولها بالشرح والإيضاح.
1 سورة الأعراف/ الآية 180.
2 سورة الإسراء/ الآية 110.
3 سورة طه/الآية 8.
قال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 1 "هذا بيان لعظيم جلاله وسعة أوصافه بأن له الأسماء الحسنى"2.
وقال عند قوله تعالى: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 "أي له الأسماء الكثيرة جداً، التي لا يحصيها ولا يعلمها أحد إلا هو ومع ذلك فكلها حسنى"4.
وقال في بيان وجه كونها حسنى هو "أن كل اسم دل على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى.
فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علماً محضاً لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة، ليست بصفة كمال بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح لم تكن حسنى.
فكل اسم من أسمائه دال على جميع الصفة التي اشتق منها مستغرق لجميع معناها، وذلك نحو "العليم" الدال على أن له علماً محيطاً عاماً لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء"5.
وقال: "ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها، لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحبها ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها"6.
القاعدة الثانية:-
(أسماء الله كلها توقيفية) .
ومعنى ذلك أنه ليس هناك وسيلة لمعرفة أسماء الله وصفاته إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون عن الله.
وذلك أن الإيمان بالله وصفاته من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الوحي وقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب وبين أن الإيمان بالغيب من صفات المتقين، فقال سبحانه:{ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 7.
1 سورة الأعراف/ الآية 180.
2 التفسير 3/120.
3 سورة طه/ الآية110، وسورة الحشر/ الآية 24.
4 التفسير 7/346، و5/145.
5 التفسير 3/120، 121، وانظر الحق الواضح المبين /55.
6 التفسير 5/145.
7 سورة البقرة/ الآيات 1، 2، 3.
ومن هنا يعلم أن أسماء الله وصفاته لا مجال للعقل فيها، فلا يجوز أن يوصف الله عز وجل إلا بما ورد في الكتاب والسنة.
ولو وصف أحد الله عز وجل بصفة لم ترد في الكتاب والسنة فقد تقول على الله بلا علم، وافترى على الله الكذب، قال تعالى:{وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 2.
يقول الشيخ ابن سعدي في بيان هذه القاعدة: "فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو نفى عنه ما أثبته لنفسه أو أثبت له ما نفاه عن نفسه فقد قال على الله بلا علم"3.
قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} 4.
(أسماء الله الحسنى كلها أعلام وأوصاف دالة على معانيها وكلها أوصاف مدح وحمد وثناء)5.
ومعنى ذلك أن أسماء الله ليست أعلام محضة لا تدل على معاني كما يقول ذلك المعتزلة، فالمعتزلة أثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفة، ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات6.
بل هي أعلام وأوصاف. ولو كانت أسماؤه تعالى أعلاما محضة بدون معاني لم تكن حسنى، ومن قال بذلك فقد عطل أسماء الله عن معانيها. ولا يتم الإيمان بالأسماء والصفات إلا بترك التعطيل.
1 سورة/ الآيتان 168، 169
2 سورة هود/ الآية 18.
3 التفسير 1/200، 102، وانظر أيضا التفسير 3/413، والمواهب الربانية /61.
4 سورة الإسراء/ الآية 36.
5 هذه القاعدة قد تكون بمثابة التوضيح والبيان للقاعدة الأولى.
6 الفتاوى لابن تيمية 3/8، والرسالة التدمرية له /13.
قال ابن سعدي في بيان هذه القاعدة "إن أسماء الله الحسنى كلها أعلام وأوصاف دالة على معانيها وكلها أوصاف مدح وحمد وثناء ولذلك كانت حسنى فلو كانت أعلاماً محضة لم تكن حسنى.... إلى أن قال: فصفاته كلها صفات كمال محض فهو موصوف بأكمل الصفات، وله أيضا من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه"1.
القاعدة الرابعة:-
(يجب الإيمان بأسماء الله وصفاته وأحكام الصفات) .
فهذه ثلاثة أركان للإيمان بأسماء الله وصفاته:
1ـ أن يؤمن بالأسماء الحسنى.
2ـ وأن يؤمن بما دلت عليه من الصفات.
3ـ أن يؤمن بأحكام تلك الصفات ومتعلقاتها.
وبيان ذلك يظهر بالأمثلة:
فمثلاً الرحمن اسم من أسماء الله والرحمة صفة من صفاته وأنه يرحم من يشاء.
والقدير اسم من أسماء الله والقدرة صفة من صفاته وأنه يقدر بها على فعل كل شيء.
وهكذا في بقية أسماء الله الدالة على أوصاف متعدية.
أما إن كانت تدل على وصف غير متعد فإنها تتضمن أمرين:
ـ إثبات الاسم لله.
ـ وإثبات الصفة التي تضمنها.
ومثاله الحي والقيوم.
وهذه القاعدة أشار إليها ابن سعدي في أكثر من موضع من مؤلفاته قال رحمه الله:
إن من قواعد المتفق عليها بين سلف الأمة وأئمتها ما دل عليه الكتاب والسنة من الإيمان بأسماء الله كلها وصفاته جميعها وبأحكام تلك الصفات فيؤمنون مثلاً بأنه رحمن رحيم ذو الرحمة العظيمة التي اتصف بها المتعلقة بالمرحوم فالنعم كلها من آثار رحمته.
وهكذا يقال في سائر الأسماء الحسنى فيقال عليم ذو علم عظيم يعلم به كل شيء قدير ذو قدرة يقدر على كل شيء.
فإن الله قد أثبت لنفسه الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأحكام تلك الصفات.
1 الحق الواضح المبين /55،، وانظر توضيح الكافية الشافية /96.
فمن أثبت شيئاً منها، ونفى الآخر كان مع مخالفته للنقل والعقل متناقضاً مبطلاً"1.
القاعدة الخامسة:
(دلالة الأسماء على الذات والصفات تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام) .
قال ابن سعدي رحمه الله: "وهذه القاعدة من أجل القواعد وأنفعها وتستدعي قوة فكر، وحسن تدبر وصحة قصد.....إلى أن قال:
والطريق إلى سلوك هذا الأصل النافع أن تفهم ما دل عليه اللفظ من المعاني، فإذا فهمتها فهماً جيداً، ففكر في الأمور التي تتوقف عليها ولا تحصل بدونها وما يشترط لها، وكذلك فكر فيما يترتب عليها وما يتفرع عنها وينبغي عليها، وأكثر من هذا التفكير وداوم عليه حتى يصير لك ملكة جيدة في الغوص على المعاني الدقيقة فإن القرآن حق ولازم الحق حق وما يتوقف على الحق حق، وما يتفرع عنه الحق حق، ذلك كله حق ولا بد"2.
وضرب لذلك مثلاً فقال:
"الرحمن الرحيم تدل بلفظها على وصفه بالرحمن، وسعة رحمته فإذا فهمت أن الرحمة التي لا يشبهها رحمة: هي وصفه الثابت وأنه أوصل رحمته إلى كل مخلوق، ولم يخل أحد من رحمته طرفة عين، عرفت أن هذا الوصف يدل على كمال حياته، وكمال قدرته وإحاطة علمه، ونفوذ مشيئته، وكمال حكمته لتوقف الرحمة على ذلك كله، ثم استدللت بسعة رحمته على أن شرعه نور ورحمه؛ ولهذا يعلل الله تعالى كثيراً من الأحكام الشرعية برحمته وإحسانه، لأنها من مقتضاها وأثرها"3
وقال في كتابه الحق الواضح المبين بعد أن ذكر هذه القاعدة "وهذا يجري في جميع الأسماء الحسنى، كل واحد منها يدل على الذات وتلك الصفة دلالة مطابقة، ويدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة التزام. مثال ذلك:
الرحمن: يدل على الذات وحدها وعلى الرحمة دلالة تضمن، وعلى الأمرين دلالة
1 الخلاصة /7، وانظر الفتاوى السعدية /11، وسؤال وجواب /6، والتفسير 1/33، 34، والقواعد الحسان /110، والتنبيهات اللطيفة /20.
2 القواعد الحسان /31 بتصرف يسير.
3 القواعد الحسان /32.
مطابقة ويدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام؛ لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الراحم وقدرته الموصلة لرحمته للمرحوم وعلمه به وبحاجته"1.
وقال في موضع آخر مشيراً إلى أهمية هذه القاعدة "وهذه القاعدة تنفعك في جميع النصوص الشرعية فدلالتها الثلاث كلها حجة؛ لأنها معصومة محكمة"2.
القاعدة السادسة:
(أسماء الله غير محصورة في عدد معين) .
وهذه القاعدة دلت عليها نصوص كثيرة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم منها:-
ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان وهو يقول "اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك"3.
ووجه الدلالة في هذا الحديث "أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا يحصي ثناء عليه، ولو أحصي جميع أسمائه لأحصى صفاته كلها فكان يحصي الثناء عليه؛ لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه"4.
ومنها: ما ورد في حديث الشفاعة الطويل أنه صلى الله عليه وسلم، قال "ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي"5.
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن هناك محامد من أسماء الله وصفاته ويفتح الله بها على رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وهي بلا شك غير المحامد المأثورة في الكتاب والسنة.
ومنها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضي في حكمك عدل في قضاؤك أسلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل
1 الحق الواضح المبين /54، 55، وانظر التفسير 2/174.
2 توضيح الكافية الشافية /97.
3 مسلم 1/352، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود.
4 درء تعارض العقل والنقل 3/322، 333.
5 أخرجه البخاري 5/226، والترمذي 4/624، من حديث أبي هريرة.
القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا" 1.
والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" حيث "دل على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره"2.
وبهذا يتبين أن أسماء الله غير محصورة في عدد معين، وهذا هو قول جمهور العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم3.
فهو يرى أنها محصورة بتسعة وتسعين اسما. واستدل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحدة، من أحصاها دخل الجنة"4.
فهو يرى أن هذا الحديث أفاد الحصر5.
ولا دلالة في الحديث لما ذهب إليه؛ لأن الحديث لا يفيد الحصر. يقول ابن القيم رحمه الله: "فقوله إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة، لا ينفي أن يكون له غيره، والكلام جملة واحدة أي له أسماء موصوفة بهذه الصفة، كما يقال لفلان مائة عبد أعدهم للتجارة وله مائة فرس أعدها للجهاد"6. وأيضا فإن الأحاديث المتقدمة أفادت عدم الحصر.
هذا وقد تناول ابن سعدي رحمه الله هذه القاعدة في مواطن متعددة وبين أن معنى الإحصاء للأسماء الحسنى الواردة في الحديث المتقدم هو فهمها وحفظها والاعتراف بها ودعاء الله بها7.
1 أخرجه أحمد 1/391، والحاكم 1/509، وغيرهما. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/136:"رواه أحمد وأبو يعلي والبزار إلا أنه قال وذهاب غمي مكان همي، والطبراني، ورجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح غير الجهني وقد وثقه ابن حبان" أ. هـ.
2 شفاء العليل لابن القيم /277.
3 شفاء العليل لابن القيم /277، والتلخيص الحبير لابن حجر 3/174.
4 أخرجه البخاري 8/169، ومسلم 2/2062، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 الفصل لابن حزم 2/345.
6 شفاء العليل لابن القيم /277، وانظر أيضاً في ذلك درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية 3/332، والفتاوى لابن تيمية 22/486.
7 انظر طريق الوصول /308، والمواهب الربانية /62، والحق الواضح المبين /13، والخلاصة /18، والتفسير 7/346.
كما اهتم رحمه الله بشرح الأسماء الحسنى وتوضيحها، وعقد لذلك فصلاً خاصاً في تفسيره، بين في مقدمته أن الحاجة داعية إلى التنبيه إلى معاني الأسماء الحسنى، ثم أخذ يذكرها اسماً اسماً ويشرحها بإيجاز"1.
والمقصود أن من أهم القواعد الثابتة في الأسماء والصفات، أن أسماء الله الحسنى غير محصورة في عدد معين.
القاعدة السابعة:
(المضافات إلى الله إذا كانت أعياناً فهي من جملة المخلوقات وإذا كانت أوصافاً فهي من صفات الله) .
وبيان ذلك أن المضافات إلى الله تكون على نوعين:
الأول: أعيان مثل عبد الله، بيت الله، ناقة الله، فهذه أعيان قائمة بأنفسها فهي إذاً من جملة المخلوقات، وإضافتها إلى الله تقتضي تفضيلها وتشريفها على غيرها من المخلوقات.
الثاني: أوصاف مثل سمع الله، بصر الله، قدرة الله، علم الله.
فهذه الإضافة تقتضي أن هذه الصفة قائمة بالله. وأن الله متصف بها.
وقد أشار ابن سعدي إلى هذه القاعدة وأوضحها فقال:
"والذي يضيفه الله إلى نفسه، إما أعيان يخصها بهذه الإضافة المقتضية للاختصاص والتشريف مثل عبد الله وناقة الله وبيت الله، ومثله {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} 2 فهذه أعيان قائمة بأنفسها وهي من جملة المخلوقات لكنه أضافها لنفسه تفضيلاً لها على غيرها وتعظيماً.
وإما إضافة أوصاف كعلم الله وقدرته وإرادته، وكذلك كلامه وحياته. فهذه الإضافة تقتضي قيامها بالله وأنه موصوف بها. وكذلك ما أخبر أنه منه.
فإن كان أعياناً كروح منه {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 3. فهذه منه خلقاً وتقديراً.
وإن كان ذلك أوصافاً كقوله {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} 4. دل على أن ذلك من
1 التفسير 5/620، وما بعدها.
2 سورة الفرقان/ آية 63.
3 سورة الجاثية/ آية 13.
4 سورة الزمر/ آية 1 وفي غيرها.
صفاته لامتناع قيام الصفة بنفسها"1.
ثم أشار رحمه الله إلى أهمية هذه القاعدة فقال "ولهذا لما اهتدى السلف لهذا الفرق الذي يحصل به الفرقان بين الحق والباطل هدوا إلى الصراط المستقيم، ولما ضل عنه الجهمية ونحوهم وقعوا في الأقوال الباطلة"2.
القاعدة الثامنة:
(الإيمان بالأسماء والصفات يدور على أصلين: النفي المجمل، والإثبات المفصل)
بيان ذلك: أن المؤمن بأسماء الله وصفاته لا بد أن يكون إيمانه مبنياً على هذين الأصلين:
الأول: الإثبات المفصل:
وهو أن يثبت لله جميع ما أثبته لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، على وجه التفصيل أي أن كل ما ورد في الكتاب والسنة من الصفات الثبوتية كالسمع والبصر والحياة والقدرة والإرادة وغيرها، فإنه يثبتها لله عز وجل على الوجه اللائق به.
الثاني: النفي المجمل:
وهو أن ينفي عن الله كل ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص، وأن يثبت له ضد هذه الصفة المنفية؛ لأن النفي المحض لا يكون كمالا.
وماثل ذلك إذا نفى الشريك عن الله فإنه يثبت له التوحيد بالكمال وإذا نفى الولد والمكافئ عن يثبت له الكمال المطلق وهكذا.
والمنفي عن الله نوعان: متصل، ومنفصل:
فنفي المتصل: هو أن ينفي عن الله ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما يضاد الصفات الكمالية. مثل تنزيه الله: عن السنة والنوم واللغوب والنعاس.
ونفي المنفصل: وهو أن ينفي عن الله الشريك في خصائصه التي لا تكون لغيره من التوحيد والتفرد كالكمال مثل: تنزيه الله عن أن يكون لله صاحبة أو ولد أو شريك في الملك.
1 توضيح الكافية الشافية /31.
2 توضيح الكافية الشافية/31
وهذه قاعدة جليلة نافعة شاملة لجميع الأسماء والصفات وقد بين ابن سعدي هذه القاعدة بأنواعها، وأطال في شرحها في مواضع متعددة وبين أهميتها.
فقال: "وهذا النوع ـ توحيد الأسماء والصفات ـ مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما: تنزيه الباري وتقديسه عما لا يليق بجلاله، وما ينافي كماله عن أمور ثلاثة:
عن تشبيهها بصفات المخلوقين أو نفيها عن الله، أو نفي بعض معانيها؛ فيعلم أن له الكمال المطلق غايته ومنتهاه وأكمله فهو المنزه عن الشريك والظهير والعوين والشفيع بلا إذنه، وهو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وهو المنزه عن السنة والنوم والموت والتعب واللغوب، وأن يغيب عن سمعه أو بصره أو علمه شيء، وهو المنزه عن كل ما ينافي كماله وعظمته وجلاله.
والثاني: وهو المقصود الأعظم، وما مضي وسيلة وتتميم له، فإن جميع ما ينزه الله عنه فإنما ذلك لأجل ثبوت ضده، وهذا النوع على إثبات جميع صفات الله الموجودة في الكتاب والسنة والأسماء الحسنى ومعانيها على وجهها والتفقه في معرفة معانيها والتحقق بها تصديقاً ومعرفة وتعبداً لله بها"1.
وبين رحمه الله أن النفي نوعان فقال: "ما ينزه الله عنه من النقص نوعان: سلب المتصل: وضابطه نفي ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله من كل ما يضاد الصفات الكاملة.
وسلب المنفصل: وضابطه وتنزيه رب العالمين عن أن يشاركه أحد من الخلق في خصائصه التي لا تكون لغيره من التوحد والتفرد بالكمال وأن يفرد بالعبودية"2.
وبين أن النفي إذا كان محضا لا يكون من صفات الكمال: فقال: "النفي نفي ذلك النقص المصرح به وإثبات ضده ونقيضه"3.
والمقصود أن هذه قاعدة هامة، وقد أشار ابن سعدي رحمه الله إلى أهميتها فقال: بعد أن ذكر هذه القاعدة:
1 توضيح الكافية الشافية/84، 85 وانظر التنبيهات اللطيفة /12، والحق والواضح المبين /5 وما بعدها.
2 الحق الواضح المبين /6.
3 الخلاصة / 177.
" وهذا ضابط نافع في كيفية الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته"1. وقال في موضع آخر:
"وهذه فائدة عظيمة فاحفظها في خزانة قلبك فإنها خير الكنوز وأنفعها"2.
وإليك جملة من الأمثلة في أمور ينزه الله عنها مع بيان ابن سعدي لها:
ـ الله منزه من النسيان والغفلة، قال ابن سعدي رحمه الله:
"وينزه عن الغفلة والنسيان بوجه من الوجوه؛ لأنه عالم الغيب والشهادة وعلمه محيط لا يعرض له ما يعرض لعلم المخلوق من خفاء بعض المعلومات أو نسيانها والذهول عنها"3.
قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4.
ـ ومنزه عن الاحتياج إلى الرزق والطعام قال رحمه الله: "وينزه عن احتياجه إلى الطعام والرزق فإنه تعالى هو الرزاق لجميع الخلق الغني عنهم وكلهم فقراء إليه قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 5، {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} 6"7.
ـ ومنزه عن الظلم: قال رحمه الله: "وينزه الباري عن الظلم للعباد بأن يزيد في سيئاتهم أو ينقص من حسناتهم أو يعاقبهم على ما لم يفعلوا فإن الظالم لا يفعله إلا من هو محتاج إليه أو من هو موصوف بالجور، وأما الله الغني عن خلقه من جميع الوجوه الحكم العدل الحميد، فما له وظلم العباد. قال الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} 8"9.
ـ ومنزه عن العبث: قال رحمه الله "ويجب تنزيه الله عن العبث في الخلق والأمر فلم يخلق شيئاً عبثاً ولا باطلاً ولا شرع شيئاً إلا لحكمة عظيمة؛ لأنه حكيم حميد فمن تمام حكمته وحمده إتقان المصنوعات وإحكامها وإحكام الشرائع على أكمل وجه وأتمه"10.
1 التنبيهات اللطيفة /12.
2 الخلاصة /177.
3 الحق الواضح المبين/10
4 سورة طه/ آية 52.
5 سورة الذاريات/ الآيات 56، 57، 58.
6 سورة الأنعام/ الآية 14.
7 الحق الواضح المبين/10، 11 والتفسير 7/182.
8 سورة فصلت/ آية 46.
9 الحق الواضح المبين/10
10 الحق الواضح المبين/10.
القاعدة التاسعة:
(القول في بعض الصفات كالقول في بعضها)
وهي قاعدة يرد بها على من فرق بين الصفات فأثبت بعضها ونفى البعض أو أثبت الأسماء دون الصفات.
فمثلا الذي ينازع في محبة الله ورضاه فيجعلها مجازاً ويفسرها بالإرادة يقال له: لا فرق بين ما نفيته وما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قال إرادته مثل إرادة المخلوق قيل وكذلك محبته ورضاه وهذا هو التمثيل، وإن قال: له إرادة تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به يقال له: وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به.
وهكذا يقال في سائر الصفات لمن فرق بينها. وهؤلاء الذين فرقوا بين الصفات فأثبتوا بعضها ونفوا الآخر فروا من شيء ووقعوا في شر منه.
ولو أنهم ساروا في الصفات على منهج واحد فأثبتوها جميعها على الوجه اللائق بالله لسلموا"1.
وقد أشار ابن سعدي إلى هذه القاعدة فقال: "يقال لمن أثبت بعض الصفات ونفى بعضاً، أو أثبت الأسماء دون الصفات، إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع وتكون منكراً لرب العالمين. وأما إثباتك بعض ذلك ونفيك لبعضه فهذا تناقض، ففرق بين ما أثبته وبين ما نفيته ولن تجد إلى الفرق سبيلا، فإن قلت ما أثبته لا يقتضي تشبيها، قال لك أهل السنة والإثبات: لما نفيته لا يقتضي تشبيهاً فإن قلت لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه قال لك النفاة: ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه فما أجبت به النفاة أجابك به أهل السنة لما نفيته"2.
ثم بين تناقض من فرق بين الصفات وأنه ليس معه حجة فقال: "والحاصل أن من نفى شيئاً مما دل الكتاب والسنة على إثباته فهو متناقض لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي بل خالف المعقول والمنقول"3.
القاعدة العاشرة:
(القول في الصفات كالقول في الذات) .
وذلك أن الله سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله،
1 الرسالة التدميرية / 11، وما بعدها.
2 التفسير 1/258، وانظر: طريق الوصول/7.
3 التفسير 1/258، وانظر طريق الوصول /7.
فإذا كان له ذات حقيقية لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل الصفات1.
وهذه القاعدة من القواعد التي نبه ابن سعدي عليها؛ قال رحمه الله:
"فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل الكلام على الصفات، يتبع الكلام على الذات فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات، فلله صفات لا تشبهها الصفات فصفاته تبع لذاته، وصفات خلقه تبع لذواتهم فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه"2.
القاعدة الحادية عشرة:
(معاني الصفات معلومة وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب والسؤال عن كيفيتها بدعة) .
سئل الإمام مالك رحمه الله وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟
فقال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
فبين رحمه الله أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة، وجميع صفات الله يقال فيها هذه القاعدة فمن سئل عن العلو يقال علو الله على خلقه معلوم وكيفيته مجهولة، والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب. وهكذا بقية الصفات.
وقد نبه ابن سعدي إلى هذه القاعدة وبين أن من سأل عن كيفية الاستواء على العرش:
"الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"؟
فمن سأل عن كيفية علم الله أو كيفية خلقه وتدبيره قيل له فكما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله ويعرفون ما تعرف لهم به من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله"3.
1 التدمرية لابن تيمية /15.
2 التفسير 1/257، وانظر طريق الوصول /6.
3 بهجة قلوب الأبرار /219، وانظر طريق الوصول /8.
كلامه في تقسيم الصفات:
بعد ذكر هذه القواعد الهامة في أسماء الله وصفاته وتوضيح ابن سعدي لها، أرى من المناسب أن أذكر المنهج الذي يراه السلف من أن صفات الله تنقسم إلى قسمين ذاتية وفعلية، وقد بين أن هذا أصل متفق عليه بين السلف كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
قال: "ومن الأصول المتفق عليها بين السلف التي دلت عليها النصوص أن صفات الباري قسمان:
ـ صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات كصفة الحياة والعلم، والقدرة والقوة والعزة، والملك، والعظمة، والكبرياء، ونحوهما كالعلو المطلق.
ـ وصفات ذاتية لا فعلية: تتعلق بها أفعاله في كل وقت وآن وزمان ولها آثارها في الخلق والأمر فيؤمنون بأنه تعالى فعال لما يريد وأنه لم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور وأن أفعاله تقع شيئا فشيئا تبعا لحكمته وإرادته، فإن شرائعه وأوامره ونواهيه الشرعية لا تزال تقع شيئا فشيئاً.. إلى أن قال: فعلى المؤمن الإيمان بكل ما نسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته كالاستواء على العرش والمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا والقول ونحوها، والمتعلقة بخلقه كالخلق والرزق وأنواع التدبير"1.
وبين أن صفات الأفعال قائمة بذات الله ومتعلقة بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال2.
وذم من خلف هذا التقسيم من أهل الكلام فقال: "أما تقسيم3 بعض أهل الكلام الباطل أن صفات الأفعال لا تقوم بذات الله بل الفعل عندهم عين المفعول، فهذا قول باطل بالكتاب والسنة والإجماع من السلف......"4.
وقول أهل الكلام هذا مخالف لما ذهب إليه أهل السنة والجماعة من عدم التفريق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية المتعلقة بمشيئة الله وقدرته.
ولذا يقول ابن سعدي رحمه الله: " أما أهل السنة والجماعة فإنهم أثبتوا كل ما جاء
1 التنبيهات اللطيفة /20، 21.
2 الحق الواضح المبين/52، والفتاوى السعدية /11.
3 كذا قال ولم يورد تقسيما فالأولى أن يقال أما القول.......الخ.
4 الحق الواضح المبين/52، وتوضيح الكافية الشافية /30.
به الكتاب والسنة من صفات الله، واعترفوا بها لا فرق عندهم بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية المتعلقة بمشيئته وقدرته، وكلها قائمة بالله، والله موصوف بها، وهو القول الذي دل عليه النقل والعقل"1.
وقسم رحمه الله صفات الأفعال إلى قسمين: قسم متعلق بذات الله والآخر متعلق بخلقه فقال:
(جميع صفات الأفعال المتعلقة بذاته كالاستواء على العرش ونزوله إلى سماء الدنيا على ما وردت به النصوص والمجيء والإتيان والقول ونحو ذلك والمتعلقة بخلقه كالإحياء والإماتة والخلق وأنواع التدبيرات كلها تصدر عن القدرة والإرادة"2.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الصفات قد تكون ذاتية باعبتار وفعلية باعتبار آخر.
كصفة الكلام مثلاً:
فإنها باعتبار أصلها صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً، وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية لأن الكلام متعلق بمشيئة الله يتكلم بما شاء متى شاء3.
وفيما يلي سأذكر جملة من الصفات الذاتية، وجملة أخرى من الصفات الفعلية وأذكر كلام ابن سعدي عنها:
وقد نهج رحمه الله في إثبات الصفات منهج السلف الصالح من فهم النصوص على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منها، وهذا هو المنهج الحق والمسلك المستقيم.
أولاً: ذكر جملة من الصفات الذاتية وكلام الشيخ عنها:
أـ من الصفات الذاتية الحياة قال ابن سعدي في إثبات هذه الصفة: "الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة من السمع والبصر والقدرة وغيرها من الصفات الذاتية"4، "والحي يتضمن جميع الصفات الذاتية"5.
ب ـ ومنها السمع قال رحمه الله: "فالسميع الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات،
1 الحق الواضح المبين/53، وانظر توضيح الكافية الشافية/ 13، والتفسير 1/256.
2 الحق الواضح المبين/23.
3 انظر الحق الواضح المبين/ 23.
4 التفسير 1/313، توضيح الكافية الشافية /21، وغيرهما.
5 الخلاصة /13. وانظر توضيح الكافية الشافية/46.
فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات يسمعها سرها وعلنها وكأنها لديه صوت واحد لا تختلط عليه الأصوات ولا تخفى عليه جميع اللغات والقريب والبعيد والسر والعلانية عنده سواء"1.
جـ ـ ومنها البصر: قال رحمه الله: "والبصير الذي يبصر كل شيء وإن دق وصغر فيبصر دبيب النملة والسوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، ويبصر ما تحت الأرضين السبع كما يبصر ما فوق السموات السبع"2.
وقال: " فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان الماء في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من ذلك"3.
د ـ ومنها العلم قال رحمه الله: "فيعلم تعالى الأمور المتقدمة والأمور المتأخرة أزلا وأبداً ويعلم جليل الأمور وحقيرها وصغيرها وكبيرها ويعلم تعالى ظواهر الأشياء وبواطنها غيبها وشهادتها ما يعلم الخلق منها وما لا يعلمون، ويعلم تعالى الواجبات والمستحيلات والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلي كما يعلم ما فوق السموات العلى ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور وخفايا الأشياء في كل الأوقات ولا يعرض لعلمه خفاء ولا نسيان"4.
هـ ـ ومنها القدرة قال رحمه الله: " فالله كامل القدرة بقدرته أوجد الموجودات بقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها وبقدرته يحي ويميت ويبعث العباد للجزاء ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته إذا أراد شيئاً قال له "كن فيكون" وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد"5.
وـ ومنها الإرادة: قال رحمه الله في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة في الإرادة: " ويعتقدون أن له الإرادة النافذة في جميع الموجودات، وبها خصص ما يشاء من
1 الحق الواضح المبين/19، وانظر التفسير 5/622.
2 التفسير /622.
3 الحق الواضح المبين/20
4 المواهب الربانية /63، التفسير 5/145، وتوضيح الكافية الشافية /21.
5 التفسير 5/624، 625.
المخلوقات بالصفات المتباينة والنعوت المتنوعة"1.
ز ـ ومنها اليدان قال رحمه الله: "فله يدان حقيقة، كما أن ذاته لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات"2.
حـ ـ ومنها الوجه قال رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3 قال: "وفيه إثبات الوجه لله تعالى على الوجه اللائق به تعالى، وأن لله وجهاً لا تشبهه الوجوه"4.
ط ـ ومنها القدم: قال رحمه الله: عند قوله تعالى: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيد} 5
…
"وقد وعدها الله ملأها كما قال تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 6 حتى يضع رب العزة عليها قدمه الكريمة المنزهة عن التشبيه فينزوي بعضها على بعض وتقول قط قط قد اكتفيت وامتلأت"7.
ي ـ ومنها الساق: قال رحمه الله: "إذا كان يوم القيامة وانكشف فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخل تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاء بين عباده ومجازاتهم فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبهها شيء، ورأى الخلائق من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه
…
"8.
ثانيا: ذكر جملة من الصفات الفعلية "الاختيارية" وكلام الشيخ عنها:
أـ من صفات الأفعال القيومية: قال رحمه الله في إثبات هذه الصفة: "القيوم تدخل فيه جميع صفات الأفعال؛ لأنه القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع مخلوقاته، وقام بجميع الموجودات، فأوجدها وأبقاها، وأمده بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها"9 وهذا من الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار فهو قائم بنفسه ومقيم لغيره.
1 توضيح الكافية الشافية /21.
2 الخلاصة /107.
3 سورة البقرة / آية 115.
4 التفسير 1/129.
5 سورة ق/ آية 30.
6 سورة هود آية 119.
7 التفسير 7/155.
8 التفسير 7/452.
9 التفسير 1/313، والخلاصة /13.
ب ـ ومنها الرحمة قال رحمه الله: "الرحمن الرحيم اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء وعمت كل مخلوق"1.
ج ـ ومنها الرزق قال رحمه الله: "الرزاق لجميع عباده فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها. ورزقه لعباده نوعان: رزق عام شمل البر والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان.
ورزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان، والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم معه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته"2.
د ـ ومنها الإتيان والنزول والاستواء: قال ابن سعدي عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً
…
} 3.
قال: "وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الأفعال الاختيارية لله تعالى كالاستواء والنزول والإتيان لله تبارك وتعالى من غير تشبيه له بصفات المخلوقين"4.
وقال عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} 5: "هذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين للصفات الاختيارية كالاستواء والنزول والمجيء ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه وأخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته من غير تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل"6.
هـ ـ ومنها الرضى والغضب والسخط قال رحمه الله عند قوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 7.
1 الخلاصة /9، والمواهب الربانية /64.
2 التفسير 5/626، 627، والحق الواضح المبين /45.
3 سورة الأنعام/ آية 158.
4 التفسير 2/509.
5 سورة البقرة/ آية 210.
6 التفسير 1/256، وانظر سؤال وجواب /7.
7 سورة التوبة/ آية 96.
قال: " وفيها إثبات الرضا لله عن المحسنين والغضب والسخط على الفاسقين"1.
ز ـ ومنها الصبر قال رحمه الله "الكمال المطلق التام من جميع الوجوه ثابت لله تعالى نقلاً في جميع الأسماء والصفات والنعوت ومن أنواع الكمال الصبر
…
"2.
ح ـ منها الحياء قال رحمه الله: "هذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يستحي من عبده إذا مد يداه إليه أن يردها صفراء"3 وهذا من رحمته وكرمه وكماله وحلمه أن العبد يجاهر بالمعاصي مع فقره الشديد إليه حتى إنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحي من هتكه وفضيحته وإحلال العقوبة به"4.
د ـ ومنها المعية قال رحمه الله: "إخبار الله أنه مع عبده يرد في القرآن على أحد نوعين:
أحدهما: المعية العامة كقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} 5 أي هو معهم بعلمه وإحاطته.
الثاني: المعية الخاصة وهي أكثر وروداً في القرآن وعلامتها أن يقرنها الله بالاتصاف بالأوصاف التي يحبها والأعمال التي يرتضيها مثل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} 6 وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 7 وقوله {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} 8 وهذه المعية تقتضي العناية من الله والنصر والتأييد والتسديد بحسب قيام العبد بذلك الوصف الذي رتبت عليه المعية"9.
1 التفسير 3/285.
2 الفتاوى السعدية/ 29، وانظر الحق الواضح المبين /31.
3 أخرجه أحمد 5/438، 6/314، وابن ماجه 2/1270، والترمذي 5/556، وقال حديث حسن غريب. والحاكم 1/497 وقال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
4 الحق الواضح المبين 29، 30.
5 سورة المجادلة/ آية 7.
6 سورة البقرة/ آية 194.
7 سورة التوبة/ آية 40.
8 سورة طه/ آية 46.
9 الخلاصة /174، والتفسير 5/617، والمواهب الربانية /14، 15.
هذا وبعد ذكر هذه الجملة من صفات الله الثبوتية الذاتية منها والفعلية، يجد القارئ أن ابن سعدي رحمه الله قد سار في إثبات الصفات في جميع مؤلفاته ومن أهمها التفسير على منهج السلف الصالح، وذلك بإثبات جميع ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله من صفات الكمال من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل وهذا هو المنهج الحق بخلاف غيره من المناهج الباطلة كمذهب الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
وكما أنه رحمه الله سار على هذا المنهج في التأصيل والتقدير، فإنه كذلك سار عليه في الرفض والرد، وأعني بذلك أنه رحمه الله دافع عن هذا المنهج على طريقة السلف من رفض كل ما يخالف هذه العقيدة في الأسماء والصفات.
فتناول بالرد من ينكر الصفات أو ينكر بعضها أو يتأولها، أو يشبهها بصفات المخلوقين أو غير ذلك من أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته وقد تقدم معنا في القواعد التي قررها رحمه الله قاعدة:"القول في الصفات كالقول في الذات"، وقاعدة "القول في بعض الصفات كالقول في بعض"، وقاعدة "الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب"، وتقدم معنا شرحه لها وكيف يرد بها على المعطلة والمؤولة وغيرهم، وهي قواعد هامة تبين تهافت أقوالهم وتناقض آرائهم التي ليس عليها برهان من كتاب ولا سنة ولا عقل بل هي مخالفة لما تقرر في الكتاب والسنة من إثبات الصفات ومخالفة للعقل السليم الذي لم ينحرف.
وكما قرر رحمه الله هذه القواعد العامة التي يرد بها على هؤلاء المؤولة فقد ناقشهم في ما ينكرونه من الصفات، وبين أنه ليس معهم حجة ولا برهان. وذكر الأدلة الدالة على بطلان مذاهبهم.
فناقشهم في صفة الاستواء والكلام والعلو، والنزول والإثبات وغيرها من صفات الله الثابتة بالكتاب والسنة.
ولكي نتعرف على منهجه في الرد على هؤلاء أرى من المناسب أن أذكر مناقشاته معهم في بعض الصفات وأكتفي بذكر صفتين فقط وهما:
صفة الكلام، وصفة الاستواء؛ ليكونا كنموذج لمناقشاته معهم في بقية الصفات.
أولا: صفة الكلام أدلتها، وردود ابن سعدي على من أنكرها:
إن هذه المسألة قد طال الكلام فيها وتنازع الناس فيها نزاعاً كبيراً، وكثرت أقوال المتكلمين فيها، حتى إنه يقال إنما سمي علم الكلام لكثرة التكلم في هذه الصفة وسيرتكز حديثنا في هذه المسألة في ثلاث نقاط:
أولا: ذكر أقوال الناس في هذه المسألة.
ثانيا: بيان نصرة الشيخ لمذهب السلف وأدلته على ذلك.
ثالثا: ردوده على المخالفين.
أولاً: ذكر أقوال الناس في هذه المسألة:
إن من المناسب أن أذكر أقوال الناس في هذه المسألة، قبل بيان المذهب الحق، وقبل الرد على مخالفيه؛ وذلك ليكون عند القارئ تصور لها.
وتتلخص أقوال الناس في هذه الصفة في تسعة أقوال:
أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه، وهذا قول المعتزلة.
وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، وهو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري1 وغيره.
ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في "المطالب العالية".
وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره وهذا قول أبي منصور الماترودي.
1 تجدر الإشارة هنا إلى أن أبا الحسن الأشعري قد رجع عن عقيدة الكلابية وألف رسائل على عقيدة السلف وإن كان فيها بعض الشوائب العالقة إثر تركه لعقيدة المعتزلة، ومن ثم تركه لعقيدة الكلابية.
ومن هذه المؤلفات التي سار فيها الأشعري على نهج السلف كتابه الإبانة وكتابه رسالة إلى أهل الثغرة، وكتابه مقالات الإسلاميين.
ولمزيد من الإيضاح راجع رسالة أبي القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس في الذب عن أبي الحسن الأشعري بتحقيق الدكتور على ناصر فقيهي، وسالة الشيخ حماد الأنصاري في أبي الحسن الأشعري، طبع مؤسسة النور 1382هـ.
وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه.
وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن كلامه قديم النوع حادث الآحاد، وأنه لا نهاية له؛ لأنه لا نهاية للمتكلم به وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة1.
ثانيا: بيان نصرة الشيخ لمذهب السلف وأدلته على ذلك:
لا ريب أن المذهب الحق من هذه المذاهب، هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة2؛ لذا فإن ابن سعدي قد أيد هذا المذهب ونصره وبين أنه المذهب الحق وأطال في ذكر أدلته.
قال رحمه الله: "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود والله المتكلم به حقاً لفظه ومعانيه ولم يزل ولا يزال متكلما بما شاء إذا شاء وكلامه لا ينفد ولا له المنتهى"3.
وبين رحمه الله أن هذا هو قول أهل السنة والجماعة فقال: " ومن قول أهل السنة والجماعة قولهم في الكلام وأن الله لم يزل ولا يزال له الكمال المطلق فكلامه القرآن هو المقروء بالألسنة المحفوظ في الصدور المسموع بالآذان، وكلامه من جملة صفاته الفعلية فهو متصف به، وهو متعلق بمشيئته وقدرته، وليس مخلوقاً؛ لأن الكلام صفة المتكلم"4.
أدلة ابن سعدي على هذا المذهب:
تقدم معنا أنه رحمه الله أكثر من ذكر الأدلة على صحة هذا المذهب؛ لذا سأكتفي بذكر جملة منها:
1ـ قال رحمه الله عنده تفسيره لقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ
1 انظر شرح العقيدة الطحاوية /119، 120، ومختصر الصواعق لمحمد بن الموصلي /423 وما بعدها.
2 الفتاوى لابن تيمية 13/132.
3 سؤال وجواب /8، وانظر الفتاوى /12، والخطب المنبرية /75، والحق الواضح المبين /23.
4 توضيح الكافية الشافية /22.
نَجِيّاً} 1 "وفي هذا إثبات صفة الكلام لله تعالى وأنواعه من النداء والنجاء كما هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لمن أنكر ذلك من الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم"2.
2ـ ومن الأدلة قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 3 قال رحمه الله: "ففي هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم وأكده بقوله قولاً"4.
3ـ ومنها قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} 5 قال رحمه الله: أي مشافهة منه إليه بلا واسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال "موسى كليم الرحمن"6.
4ـ ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 7 قال رحمه الله: "وفي هذا حجة صريحة لمذهب أهل السنة والجماعة القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لأنه تعالى هو المتكلم به وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها"8.
5 ـ ومنها قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} 9 وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 10.
وقال رحمه الله: "هذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان؛ لأن هذه الأشياء مخلوقة وصفاته غير مخلوقة ولا لها حد ولا منتهى، فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك؛ وهكذا سائر صفات الله تعالى كعلمه وحكمته وقدرته ورحمته"11.
6ـ ومنها قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 12 قال رحمه الله:
1 سورة مريم/ آية 52.
2 التفسير 5/117.
3 سورة يس/ آية 58.
4 التفسير 6/354.
5 سورة النساء/ آية 164.
6 التفسير 2/218.
7 سورة التوبة/ آية 6.
8 التفسير 3/201.
9 سورة الكهف/ آية 109.
10 سورة لقمان/ آية 27.
11 التفسير 5/86، وانظر التفسير 6/168، 169.
12 سورة الحجر/ آية 9.
"اشتملت على فوائد عديدة الأولى والثانية أن القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله تعالى عليٌ على خلقه وهذا مأخوذ من قوله "نزلنا الذكر" فإنه نزل به جبريل من الله العزيز العليم فكونه نازلاً من عند الله يدل على علو الله، وكونه من عنده يدل على أنه كلام الله فإن الكلام صفة للمتكلم ونعت من نعوته"1.
7ـ ومنها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2 قال رحمه الله: "هذه العبارة وما أشبهها مما هو كثير في القرآن تدل على أن جميع الأشياء غير الله وأسمائه وصفاته مخلوقة
…
وليس كلام الله من الأشياء المخلوقة؛ لأن الكلام صفة المتكلم والله تعالى بأسمائه وصفاته أول ليس قبله شيء.
فأخذُ أهل الاعتزال من هذه الآية ونحوها أن كلام الله مخلوق من أعظم الجهل، فإنه تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته، ولم يحدث صفة من صفاته، ولم يكن معطلاً عنها بوقت من الأوقات"3.
8 ـ ومنها قول صلى الله عليه وسلم في حديث القدسي: "فيقول الله تعالى: يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار"4.
قال رحمه الله: "ففي هذا الحديث إثبات القول من الله والنداء لآدم وأنه نداء حقيقة بصوت، وهذا من فضل الله لا يشكل على المؤمنين فإن النداء والقول من أنواع الكلام، وكلام الله صفة من صفاته، والصفة تتبع الموصوف"5.
9ـ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان"6.
قال رحمه الله: "وهذا أيضاً إثباتٌ لتكليمه لجميع العباد بلا واسطة"7.
وأكتفي بهذا القدر من الأدلة وهي في الحقيقة كثيرة جداً ولا تحصر إلا بكلفة.
ثالثا: ردوده على المخالفين:
أعني بالمخالفين من خالف هذا المنهج الواضح الذي دلت عليه نصوص الكتاب
1 المواهب الربانية /26.
2 سورة الزمر/ آية 62.
3 التفسير 6/489.
4 أخرجه البخاري 8/195.
5 التنبيهات اللطيفة /29.
6 أخرجه البخاري 8/185، ومسلم 2/703، والترمذي 4/611، وأحمد في المسند 40/256.
7 التنبيهات اللطيفة 30.
والسنة، كما تقدم وذكر هذه الجملة من الأدلة على صحة هذا المذهب يعد رداً على غيره من المذاهب؛ وذلك لأنه إذا تعين أن هذا المذهب هو الحق فإن ما سواه يعد باطلاً لا يلتفت إليه.
ومع ذلك فقد تناول السعدي رحمه الله الرد على هؤلاء، ونقض شبههم وبين ضعفها وأنها ليس فيها حجة، وأنها مخالفة لمراد الله ورسوله، من وجوب إثبات هذه الصفة العظيمة لله عز وجل على الوجه اللائق به، كغيرها من صفاته عز وجل.
فناقش الفلاسفة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة والكلابية والكرامية وغيرها من الطوائف التي ضلت في هذه الصفة وبين أنهم كلهم عدلوا عن الصراط المستقيم وألحدوا في هذه الصفة إذ لم يثبتوها لله عز وجل.
وقد تقدم معنا أقوال هذه الطوائف في هذه الصفة، والآن سنتناول ردوده عليهم، كل طائفة على حده باختصار.
ذكر قول الفلاسفة في صفة الكلام والرد عليه:
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله مبينا قول الفلاسفة ومن أين أخذوه: "فلما كان من أصولهم القول بقدم العالم وأن العقل الفعال هو المحدث لكل ما تحته وأن هذا العقل دائم الفيض على ما تحته على المحال المستعدة بحسب قابليتها، فيفيض الوجودات وأوصافها وأفعالها وأقوالها وآثارها، فيفسرون كلام الله على هذا الأصل الباطل فيقولون لما كان محمد قد اجتمعت فيه القوى الكاملة من الزكاء والذكاء والقوة العملية، فاض عليه من هذا العقل ما يناسب حاله وهو الكلام الراقي فتلقاه وأتى به للعباد ألفاظاً وخطابة ومواعظ خالية من البراهين لم تصرح بالحق بل رمزت إليه وأشارت إليه من بعيد"1.
ومقصود قولهم أن القرآن ليس كلام الله وإنما هو معاني تخيلها الرسول صلى الله عليه وسلم ونظمها وعبارات من عنده، وهذا قول باطل لا مرية في بطلانه، وهو ناتج أولا وقبل كل شيء عن عدم إيمانهم بالله عز وجل.
لذا يقول ابن سعدي رحمه الله في بيان بطلان هذا المذهب: "ومن تصور أقوالهم جزم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا يثبتون وجوده ولا يثبتون الرسالة ولا المعاد الأخروي، وعلم أن ما قالوه مع مخالفته لجميع ما جاءت به الرسل فإنه مخالف لما دلت عليه العقول الصحيحة، وأن ما ادعوه من العقليات هو في الحقيقة جهليات وخيالات. وبسط الكلام على مذهبهم يستدعي أكثر من ذلك، وإنما راج مذهبهم على كثير من الناس لما فيه من
1 توضيح الكافية الشافية /33، 34.
الممويهات والتلبيس والنفاق ويصادف مع هذا قلة بصيرة والله المستعان"1.
ولا شك أن قول هؤلاء الفلاسفة ساقط، ومخالف لما جاءت به الرسل ومخالف للعقول السليمة كما أوضح ذلك ابن سعدي رحمه الله إلا أنه مع ذلك فإنه يوجد من أبناء المسلمين من اغتر بهذا القول وأخذ به وصار يدعو إليه.
ومن هؤلاء الذين اغتروا بهذا المعتقد الفاسد القصيمي صاحب الأغلال الذي تقدمت ردود ابن سعدي عليه في مسألة إنكار وجود الباري عز وجل، فهو في هذه المسألة أيضاً أخذ بقول الفلاسفة واعتمده كما أنه أخذ بجميع ما يدعون إليه.
وفي رد ابن سعدي على كتاب القصيمي "هذي هي الأغلال" تناول هذه المسألة وبين ضلاله فيها وبين أن قصده من وراء ذلك هو إفساد الدين والدعاية إلى نبذه ومحاربته بكل طريق"2.
ومن أقوال القصيمي الباطلة في هذه المسألة والتي تناولها ابن سعدي بالرد قوله في بيان مأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم لنصوص الوحي من أي طريق؟ أنه " كان يعبد الطبيعة وأخذت قلبه وقالبه ولبه وكان يناجي الليل والنهار والضياء والظلمة والنسيم ونحوها مما يشاهد، وافتتح رسالته بمناجاة الطبيعة والخلوة بها في غار حراء، وختم رسالته وحياته بشدة النزع إليها وقت السياق حيث كان يقول في الرفيق الأعلى"3.
فهو يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بالقرآن من عند نفسه، وهذا القول كفر ليس وراءه كفر، لأنه أنكر بذلك الوحي والرسالة.
لذا يقول ابن سعدي: " فهو بهذا التحليل أنكر الوحي والرسالة ورمى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طبيعي لا يعرف الله ولا يعرف الوحي فلم ينزل عليه جبريل من عند الله، ولا كان يناجي الله ولا يعبده، ولا كان عند السياق إلا مشتاقاً إلى الطبيعة فقط؛ لأنه لا يعرف الله ولا يريده، ولا يحبه4 ولا يطلبه، وظهر بهذا غرض القصيمي الوحيد، وهو الدعاية إلى نبذ الدين ومحاربته"5.
1 توضيح الكافية الشافية /34.
2 انظر تنزيه الدين /19، 20.
3 هذي هي الأغلال للقصيمي /56، 157.
4 هذه المسألة قد استوفى ابن تيمية الرد فيها على أسلاف القصيمي من الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم في أكثر كتبه، ولا سيما كتابه "النبوات" انظر ص 248 وما بعدها من كتاب النبوات فقد ذكر أقوال المتكلمين ورد عليها.
5 تنزيه الدين /18، بتصرف يسير.
وهذا من قلة بصيرة هذا الشخص بدين الله؛ لأن هذا الكلام لا يقوله عاقل مؤمن بالله مصدق برسوله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود أن قول الفلاسفة المتقدم ذكره والذي أيده هذا القصميمي، لا يلتفت إليه لمخالفته جميع ما جاءت به الرسل ولمخالفته للعقول السليمة.
قول الجهمية والمعتزلة ورد ابن سعدي عليه:
تقدم أن قول الجهمية والمعتزلة في صفة الكلام، هو أنهم يرون أن الكلام ليس صفة لله عز وجل، وإنما هو مخلوق من مخلوقاته خلقه كما خلق السموات والأرض خارجاً عن ذات الله لا يقوم بذاته كلام ولا قول، قال ابن سعدي رحمه الله في بيان بطلان هذا القول وأنه أمر مستنكر عند الناس غير مستساغ: "فلما قال الناس لهم هذا أمر معلوم بطلانه فإن الكلام صفة للمتكلم، والله قد أضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها فزعموا أن إضافته إليه إضافة تشريف كإضافة ناقة الله وعبد الله.
فأجابهم الناس بما هو معروف ومتقر عند كل أحد مع دلالة الكتاب والسنة إليه، فقالوا إن الإضافة نوعان:
أحدهما: ما يضيفه الله إلى نفسه من الأعيان كبيت الله وناقة الله ونحوهما، فهذه الإضافة لبعض مخلوقاته تفيد تشريفه وتكريمه بما امتاز به ذلك المضاف من الأوصاف الفاضلة.
والثاني: إضافة معاني وأوصاف تقوم كعلم الله وقدرته وإرادته وكلامه فهذه الإضافة من باب إضافة الأوصاف إلى موصوفها تقتضي قيامها به واتصافه بها.
ومن خالف هذا الفرق فهو منكر للمحسوسات"1.
ويستدل الجهمية والمعتزلة لقولهم هذا بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُْ} 2.
فهم يجعلون لذلك مقدمة وهي أن القرآن شيء وكل شيء مخلوق إذا فالقرآن مخلوق. وهذا كلام باطل، لأن الآية لم تدل على ذلك، وإنما دلت على أن كل شيء غير أسماء الله وصفاته مخلوق؛ لذا يقول ابن سعدي رحمه الله:"وليس كلام الله من الأشياء المخلوقة؛ لأن الكلام صفة المتكلم والله تعالى بأسمائه وصفاته أول ليس قبله شيء"3.
1 توضيح الكافية الشافية /25، وانظر القاعدة السابعة من قواعد الأسماء والصفات المتقدمة.
2 سورة الرعد/ آية 16.
3 التفسير 6/489.
ثم بين أنه لا دلالة في هذه الآية لما ذهب إليه المعتزلة فقال: "فأخذ أهل الاعتزال من هذه الآية ونحوها أن كلام الله مخلوق من أعظم الجهل، فإنه تعالى لم يزل بأسمائه وصفاته ولم يحدث صفة من صفاته، ولم يكن معطلاً عنها بوقت من الأوقات"1.
قول الكلابية والأشعرية ورد ابن سعدي عليه:
وهم القائلون " بأن القرآن نوعان ألفاظ ومعان، فالألفاظ مخلوقة وهي هذه الألفاظ الموجودة والمعاني قديمة قائمة في النفس وهي معنى واحد لا تبعض فيه ولا تعدد، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، أو بالسريانية كان إنجيلا"2.
ولا شك أن هذا القول معلوم البطلان، ولا دلالة عليه من كتاب أو سنة ولا مستند من لغة العرب.
قال ابن سعدي رحمه الله في معرض رده على هذا القول: " وهذا القول تصوره كاف بمعرفة بطلانه وليس لهم دليل ولا شبهة على هذا القول الذي لم يقله أحد غيرهم"3.
أما عن استشهادهم على هذا القول بقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فأجاب عنه بقوله: "هذا البيت معروف معناه، وإن الكلام يخرج من القلب ويعبر عنه اللسان، وأما الكلام الذي في اللسان فقط فهذا يشبه كلام النائم والهاذي ونحوهما.
وهب أنه دل على القول الذي قالوه فكيف يتركون لأجله أدلة الكتاب والسنة والذي يعقله العقلاء بعقولهم أن الكلام صفة للمتكلم، وأنه الكلام المسموع منه، وأن ما في النفس لا يسمى كلاماً بوجه من الوجوه"4.
ثم إنه من المعلوم أن هذا البيت للأخطل النصراني فكيف يجوز أن يترك الكتاب والسنة لأقوال النصارى مع العلم بكثرة أخطائهم في العقيدة والفروع.
لذا يقول ابن سعدي: "وأيضاً فإن غلطهم في الأصول والفروع معروف"5 ومقصوده أنه كيف يؤخذ بقولهم وهذه حالهم.
وقول الكلابية والأشعرية قريب من قول المعتزلة؛ لأن مؤداه ومعناه أن القرآن
1 التفسير 6/489
2 توضيح الكافية الشافية /23.
3 توضيح الكافية الشافية /23.
4 توضيح الكافية الشافية /23.
5 توضيح الكافية الشافية /23.
مخلوق. كما اعترف بذلك بعضهم قال ابن سعدي رحمه الله: "وهذا القول كما قال من اعترف منهم أنه لا فرق بينه وبين قول المعتزلة إلا في اللفظ"1.
والمقصود أن هذا القول ظاهر البطلان من أوجه متعددة قال رحمه الله: "وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول وبين بطلانه في رسالته التسعينية فبين من تسعين وجهاً كل واحد منها يدل على بطلانه أدلة نقلية وأدلة عقلية"2.
قول الاقترانية ورد ابن سعدي عليهم:
الاقترانية هم القائلون بأن كلام الله حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل.
وأما عن سبب تسميتهم بذلك يقول ابن سعدي رحمه الله "لما قيل لهم هذا مخالف للمحسوس المعلوم بالبديهة أن حروف الكلام طبعاً لا بد أن يسبق بعضها بعضاً، قالوا إنما تربيتها بالنسبة إلى سمع الإنسان، وإلا فهي ما زالت متصاحبة مقترنة"3.
وقال في رده عليهم: "ولا شك أن هذا القول إلى التخليط والهذيان أقرب منه إلى التحقيق والبرهان"4.
وقال: "وهو مخالف لأصل الأئمة وموافق لبعض قول الكلابية"5. وقد تقدم رده على الكلابية.
وبعد ذكر هذه الجملة من ردود ابن سعدي رحمه الله على المخالفين لمذهب السلف الصالح في صفة الكلام أنتقل إلى الصفة الأخرى وهي صفة الاستواء لنرى كيفية مناقشة ابن سعدي للمخالفين في هذه الصفة.
ثالثا: صفة الاستواء وأدلتها ودحض ابن سعدي شبه من أنكرها:
الاستواء من الصفات الثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة، وهو من الصفات التي تدل على عظمة الله وعلوه على عباده وأنه القاهر فوقهم، وأنه سبحانه بذاته وأسمائه وصفاته له العلو المطلق من جميع الوجوه.
وكلامي عن هذه الصفة سيكون مقتصراً على ما يلي:
أولا: ذكر معاني الاستواء الواردة في القرآن مع بيان السعدي لها.
ثانيا: إثبات الشيخ للاستواء على طريقة السلف وأدلته على ذلك.
ثالثا: دحض شبه من أنكر هذه الصفة.
1 توضيح الكافية الشافية /23.
2 توضيح الكافية الشافية /23
3 توضيح الكافية الشافية /24
4 توضيح الكافية الشافية /24.
5 توضيح الكافية الشافية /25.
أولا: ذكر معاني الاستواء الواردة في القرآن:
ذكر ابن سعدي في مؤلفاته أن لفظة استوى ترد في القرآن الكريم على ثلاثة أحوال:
فتارة تكون متعدية بنفسها، وتارة تكون متعدية بـ "على" وتارة تكون متعدية بـ "إلى". وذكر أيضا أن لها في كل موضع من هذه المواضع معنى خاص: فإن كانت متعدية بنفسها فمعناها التمام والكمال، وإن كانت متعدية بـ "على: فمعناها العلو والارتفاع وإن كانت متعدية بـ "إلى" فمعناها القصد، ومن ذلك قوله رحمه الله:
"استوى ترد في القرآن على ثلاثة معان:
فتارة لا تعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 1، وتارة تكون بمعنى "علا" و"ارتفع" وذلك إذا عديت بـ "على" كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2وقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} 3.
وتارة تكون بمعنى قصد4، كما إذا عديت بـ "إلى" كما في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} 5 أي لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سموات فخلقها، وأحكمها وأتقنها وهو بكل شيء عليم"6.
ثانيا: إثبات الشيخ للاستواء على طريقة السلف وأدلته على ذلك:
قال رحمه الله في بيان عقيدة السلف الصالح في هذه الصفة العظيمة: "
…
ويقرون ويعتقدون بجميع ما ثبت في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله،
1 سورة القصص/ آية 14.
2 سورة طه/ آية 5.
3 سورة الزخرف/ آية 13.
4 تنبيه: الصواب أن استوى وإن عديت بـ "إلى" فهى بمعنى على وارتفع، كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وقد نقلا عن جمع من السلف هذا التفسير، كما حكى ابن القيم إجماع السلف على ذلك. انظر الفتاوى 5/518 وما بعدها ومختصر الصواعق المرسلة /330
5 سورة البقرة/ آية 29.
6 التفسير 1/69، وانظره /618، 619 والخلاصة /174.
ويقولون إنه على خلقه مستو على عرشه...."1.
وقال "نعرف ربنا بأنه على بكل معنى واعتبار علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، وأنه بائن من خلقه مستو على عرشه كما وصف لنا نفسه بذلك، والاستواء معلوم والكيف مجهول، فقد أخبرنا أنه استوى ولم يخبرنا عن الكيفية، وكذلك نقول في جميع صفات الباري أنه أخبرنا بها ولم يخبرنا عن كيفيتها فعلينا أن نؤمن بكل ما أخبرنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا نزيد على ذلك ولا ننقص منه"2.
وقال رحمه الله "وأما استواؤه على العرش العظيم فيستفاد من النقل الكتاب والسنة"3.
أدلته على إثبات هذه الصفة:
ولقد ورد في القرآن والسنة أدلة كثيرة تبين أن الله سبحانه مستو على عرشه بائن من خلقه، وهي كثيرة جداً.
وقد أشار ابن سعدي رحمه الله في توضيحه للكافية الشافية إلى كثرة الأدلة في ذلك وتنوعها فقال:
"ذكر المصنف ـ يعني ابن القيم ـ واحداً وعشرين نوعاً من الأدلة على هذه المسألة العظيمة كل نوع منها تحته من الأفراد ما لا يعد ولا يحصى"4.
ثم أخذ رحمه يعدد هذه الأنواع من الأدلة، ومن أجل عدم الإطالة سأختصر جملة من هذه الأدلة فيما يلي:
1ـ أخبر الله سبحانه بأنه مستو على عرشه في سبعة مواضع من القرآن وكلها جاءت بلفظ على العرش؛ وعلى تدل على العلو والارتفاع.
2ـ تكرر في الكتاب وصف الله العلي الأعلى وهذا يدل على علوه من جميع الوجوه.
3ـ ورد في القرآن التصريح بالفوقية مثل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} 5، والفوقية وصف ثابت لله، دال على علوه.
4ـ إخبار الله أن القرآن نزل منه، ومن المعلوم أن النزول لا يكون إلا من علو.
1 توضيح الكافية الشافية/ 20.
2 سؤال وجواب /7.
3 الحق الواضح المبين /13.
4 توضيح الكافية الشافية /45.
5 سورة النحل/ الآية 50.
هـ ـ ورد في القرآن أن بعض المخلوقات والأعمال تصعد إليه وهذا تصريح بعلوه.
6ـ إخبار الله أنه في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 1 ومعناه عند جميع المفسرين أنه في العلو.
7ـ إجماع الكتب السماوية والرسل عليهم الصلاة والسلام على التصريح بعلو الله على خلقه وفوقيته.
8 ـ إجماع أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة المسلمين المعتبرين، على ذلك2.
هذه جملة من الأدلة التي ذكرها الشيخ ابن سعدي رحمه الله على علو الله تعالى على جميع خلقه، ثم أحال رحمه الله من أراد الاستزادة من هذه الأدلة إلى كتاب ابن القيم "اجتماع الجيوش الإسلامية"3.
وكان الشيخ ابن سعدي في تفسيره للقرآن إذا مر على الآيات الدالة على استواء الله على عرشه ينبه عليها، ويشير إلى دلالتها على علو الله على جميع خلقه.
ومن ذلك قوله رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 4: "استواء يليق بجلاله فوق جميع خلقه"5.
ثالثا: دحضه لشبه المنكرين:
سأورد هنا بعض الشبه التي يطرحها من ينكر هذه الصفة من الجهمية وغيرهم، ثم أذكر أجوبة الشيخ عن هذه الشبه.
الشبهة الأولى: "قولهم إن للاستواء عدة معان"
فإذا قال الجهمي لأتباعه: إن قال لكم المجسم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6. فقولوا له هذه لفظة فإن "العرش" له عدة محامل فأي المعاني تريد، و"على" أيضاً تأتي في العربية لعدة معاني.
وقد أجاب ابن سعدي على هذه الشبهة فقال:
1 سورة الملك/ الآية 16.
2 انظر الكافية الشافية /45 وما بعدها.
3 انظر هذه الأدلة في ص 49، وما بعدها من كتاب "اجتماع الجيوش الإسلامية" لابن القيم.
4 سورة الحديد/ الآية 4.
5 التفسير 7/283، وانظر في ذلك التفسير 3/38، 5/489، 6/ 177، 5/ 144 وغيرها.
6 سورة طه الآية 5.
"إذا سمع الجاهل هذا التلبيس والتمويه استعظم ذلك ورآه إشكالاً يعسر الانحلال عنه، وأما المتبصر الذي نور الله قلبه فإنه يعرف أن هذا ليس محل إشكال ولا لبس بل هو من أوضح الأشياء وأبينها.
فإن الألف واللام في العرش للعهد الذي يفهمه كل مسلم أنه عرش الرب العظيم لا غيره من عروش الكرم ونحوها، ولو قيل له يحتمل واحداً غير هذا لبادر لإنكاره.
هذا مع اتفاق جميع الرسل وشهادتهم أنه استوى على العرش العظيم فكل مؤمن يفهم المعنى من قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1.
وكذلك لفظ الاستواء المعدى بعلى فإنه واضح جداً دال على العلو والظهور فإن الاستواء حيث عُدي بعلى فإنه يدل على العلو والظهور، وأما إذا عدي بإلى نحو {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} 2 فإنه يدل على القصد3، وإذا قيل استوى كذا وكذا دل على معية الأول للثاني كقوله:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 4 فهذه المعاني المتباينة بحسب تعديته كما ذكرنا.
فعلم علماً يقيناً أن قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} لا إشكال فيه ولا إجمال خصوصاً وقد طرد إتيانه بهذا السياق في جميع موارده ومصادره ولم يأت هذا المعنى بلفظ فيه إجمال، فلو كان المراد ما قصده الجهمي لأتى به ولو في موضع واحد ليستبين المراد"5.
الشبهة الثانية: "قولهم إن إثبات الاستواء يقتضي التجسيم".
فالأشاعرة وغيرهم من الذين يثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر، يقولون إن إثبات الاستواء وغيره من الصفات الاختيارية يقتضي التجسيم.
وأجاب ابن سعدي عن هذه الشبهة، بأن جميع الصفات وردت في الكتاب والسنة فكيف جاز لكم تأويل بعضها وترك البعض، فإن قالوا بأن ما يقتضي التجسيم تأولناه؛ لأن الجسم من خصائص المحدثات المخلوقة فهذا الذي تأولناه ما نعقل منه إلا التجسيم فتعين تأويله.
1 سورة طه/ الآية 5.
2 سورة البقرة / الآية 29 وغيرها.
3 تقدم معنا ص 142 أن هذا القول مخالف لأقوال السلف، وأن استوى وإن عديت بـ "إلى" فمعناه على وارتفع، فليراجع.
4 سورة القصص/ الآية 14.
5 توضيح الكافية الشافية /57، 58.
يقال لهم بأن تفريقكم بين الأمرين تفريق بين متماثلين، إذ أنكم إذا تأولتم صفة وقعتم في مثل ما فررتم منه، فأثبتوا جميع الصفات فالباب واحد، وإلا فبينوا فرقاً بين ما نفيتم وبين ما أثبتم، ومن المعلوم أنهم لا يهتدون إلى فرق بين الصفات بإثبات بعضها ونفي بعضها فالواجب إذا هو اتباع السلف الصالح وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله من صفات الكمال"1.
الشبهة الثالثة: "قولهم استوى بمعنى استولى"
وهذا قول الجهمية وغيرهم فهم يقولون إن المراد بقوله تعالى {ثم استوى على العرش} أي استولى على العرش.
واستدلوا على ذلك بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف أو دم مهراق،
وأجاب ابن سعدي عن هذه الشبهة بأن الله أخبر أنه مستو على العرش في سبعة مواضع من القرآن وكلها جاءت بلفظ "على العرش" وعلى تدل على العلو والارتفاع وهذا نص لا يقبل الاحتمال ولا الاشتباه في معناه. ولو كان استوى بمعنى استولى كما يقول الجهمية وأتباعهم لأتت اللام في موضع واحد أو أكثر لأجل أن يحمل الباقي عليها فلما لم ترد في موضع واحد بذلك كانت نصا صريحا في العلو والفوقية؛ لأن العرب جرت عادتهم في كلامهم الفصيح أن يضمروا بعض القيود في بعض كلامهم ويذكروه في كلام لفظ آخر فيحمل مطلق الكلام على مقيده، وأما هذا الموضع فالحمل متعذر.
وهم بعملهم هذا مشابهين لليهود، لأن اليهود لما قيل لهم {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} .
دخلوا على آساتهم وقالوا حبة في حنطة تهكماً وجرأة على الله فاليهود زادوا النون في
1 انظر توضيح الكافية الشافية /61.
قولهم حنطة بدل حطة والجهمية زادوا اللام في قولهم استولى بدل استوى 1.
وهذا قول باطل قد بين الأئمة بطلانه من وجوه كثيرة2.
وهذا آخر ما رأيت إيراده في هذا المبحث المتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، ويمكن أن نصل إلى خلاصة لما تقدم، وهي: أن الواجب على كل مسلم أن يكون منهجه في توحيد الأسماء والصفات منهج السلف الصالح.
وذلك بإثبات جميع ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال، وأن ينفي عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من صفات النقص من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل.
هذا وليعلم أن الإنسان لو أتى بهذا التوحيد وسابقه توحيد الربوبية على الوجه المطلوب، ولم يأت مع ذلك بتوحيد الألوهية، فإن توحيده هذا لا ينفعه؛ لأنه لازم على من أقر بربوبية الله وأقر بأسمائه وصفاته أن يوحده بجميع أنواع العبادة، فكما أن الله واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، فالواجب أن يوحد ويفرد بجميع أنواع العبادة، وهذا هو موضوع المبحث التالي.
1 انظر توضيح الكافية /54، 56.
2 قال العلامة ابن القيم رحمه الله في نونيته:
أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا حنطة لهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى فأبى وزاد الحرف للنقصان
قال استوى استولى قيل وذا من جهلة لغة وعقلاً ما هما سيان
نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان??