الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالثَّانِي: وَقْتُ طُلُوعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى الْعَالَمِ، بِمَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَهُوَ وَقْتُ تَصَرُّمِ
فَصْلِ
الرَّبِيعِ وَانْقِضَائِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْفَسَادَ الْكَائِنَ عِنْدَ طُلُوعِهَا أَقَلُّ ضَرَرًا مِنَ الْفَسَادِ الْكَائِنِ عِنْدَ سُقُوطِهَا.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: يُقَالُ: مَا طَلَعَتِ الثُّرَيَّا، وَلَا نَأَتْ إِلَّا بِعَاهَةٍ فِي النَّاسِ وَالْإِبِلِ، وَغُرُوبُهَا أَعْوَهُ «1» مِنْ طُلُوعِهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلٌ ثَالِثٌ- وَلَعَلَّهُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِهِ- أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ: الثُّرَيَّا، وَبِالْعَاهَةِ: الْآفَةُ الَّتِي تَلْحَقُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ وَصَدْرِ فَصْلِ الرَّبِيعِ، فَحَصَلَ الْأَمْنُ عَلَيْهَا عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَلِذَلِكَ نَهَى صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ وَشِرَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا. وَالْمَقْصُودُ: الْكَلَامُ عَلَى هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ وُقُوعِ الطَّاعُونِ.
فصل
وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْأُمَّةِ فِي نَهْيِهِ عَنِ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ بِهَا، وَنَهْيِهِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَالَ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، فَإِنَّ فِي الدُّخُولِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ بِهَا تَعَرُّضًا لِلْبَلَاءِ، وَمُوَافَاةً لَهُ فِي مَحَلِّ سُلْطَانِهِ، وَإِعَانَةً لِلْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، بَلْ تَجَنُّبُ الدُّخُولِ إِلَى أَرْضِهِ مِنْ بَابِ الْحِمْيَةِ الَّتِي أَرْشَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهَا، وَهِيَ حِمْيَةٌ عَنِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَهْوِيَةِ الْمُؤْذِيَةِ.
وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ، فَفِيهِ مَعْنَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: حَمْلُ النُّفُوسِ عَلَى الثِّقَةِ بِاَللَّهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، والصبر على أقضيته، والرضى بِهَا.
وَالثَّانِي: مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الطِّبِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُحْتَرِزٍ مِنَ الْوَبَاءِ أَنْ يُخْرِجَ عَنْ بَدَنِهِ الرُّطُوبَاتِ الْفَضْلِيَّةِ، وَيُقَلِّلَ الْغِذَاءَ، وَيَمِيلَ إِلَى التَّدْبِيرِ الْمُجَفِّفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا الرِّيَاضَةَ وَالْحَمَّامَ، فَإِنَّهُمَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَا، لِأَنَّ الْبَدَنَ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ فَضْلٍ رَدِيءٍ كَامِنٍ فِيهِ، فَتُثِيرُهُ الرِّيَاضَةُ وَالْحَمَّامُ، ويخلطانه بالكيموس الجيد، وذلك يجلب
(1) أعوه: أشد عاهة وإصابة من: عاه الشيء: إذا أصابته عاهة
عِلَّةً عَظِيمَةً، بَلْ يَجِبُ عِنْدَ وُقُوعِ الطَّاعُونِ السُّكُونُ وَالدَّعَةُ، وَتَسْكِينُ هَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ، وَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالسَّفَرُ مِنْهَا إِلَّا بِحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ، وَهِيَ مُضِرَّةٌ جِدًّا، هَذَا كَلَامُ أَفْضَلِ الْأَطِبَّاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَظَهَرَ الْمَعْنَى الطِّبِّيُّ مِنَ الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَمَا فِيهِ مِنْ عِلَاجِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَصَلَاحِهِمَا
فَإِنْ قِيلَ: فَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» ، مَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ، وَلَا يَحْبِسُ مُسَافِرًا عَنْ سَفَرِهِ؟ قِيلَ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ طَبِيبٌ وَلَا غَيْرُهُ، إِنَّ النَّاسَ يَتْرُكُونَ حَرَكَاتِهِمْ عِنْدَ الطَّوَاعِينِ، وَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادَاتِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي فِيهِ التَّقَلُّلُ مِنَ الْحَرَكَةِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، وَالْفَارُّ مِنْهُ لَا مُوجِبَ لِحَرَكَتِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ الْفِرَارِ مِنْهُ، وَدَعَتُهُ وَسُكُونُهُ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ، وَأَقْرَبُ إِلَى تَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتِسْلَامِهِ لِقَضَائِهِ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الْحَرَكَةِ، كَالصُّنَّاعِ، وَالْأُجَرَاءِ، وَالْمُسَافِرِينَ، وَالْبُرُدِ، وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يُقَالُ لَهُمُ: اتْرُكُوا حَرَكَاتِكُمْ جُمْلَةً، وَإِنْ أُمِرُوا أَنْ يَتْرُكُوا مِنْهَا مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهِ، كَحَرَكَةِ الْمُسَافِرِ فَارًّا مِنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا عِدَّةُ حِكَمٍ:
أَحَدُهَا: تَجَنُّبُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالْبُعْدُ مِنْهَا.
الثَّانِي: الْأَخْذُ بِالْعَافِيَةِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.
الثالث: ألايستنشقوا الهواء الدي قد عفن وفسد فيمرضون.
الرابع: ألايجاوروا الْمَرْضَى الَّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِمُجَاوَرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ.
وَفِي «سُنَنِ أبي داود» مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنَ الْقَرَفِ التَّلَفَ» «1» .
قَالَ ابن قتيبة: الْقَرَفُ مُدَانَاةُ الْوَبَاءِ، وَمُدَانَاةُ الْمَرْضَى.
الْخَامِسُ: حِمْيَةُ النُّفُوسِ عَنِ الطِّيَرَةِ وَالْعَدْوَى، فَإِنَّهَا تَتَأَثَّرُ بِهِمَا، فَإِنَّ الطِّيَرَةَ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ بِهَا، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي النَّهْيِ عَنِ الدِّخُولِ فِي أَرْضِهِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ وَالْحِمْيَةِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِأَسْبَابِ التَّلَفِ. وَفِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتَّوَكُّلِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَالتَّفْوِيضِ، فَالْأَوَّلُ: تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ، والثاني: تفويض وتسليم.
(1) أخرجه أبو داود والإمام أحمد وفي سنده جهالة. والقرف: مداناة المرض وبابه طرب. مختار.