المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها - الطب النبوي لابن القيم

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة المحقق]

- ‌فصول نافعة فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطِّبِّ الَّذِي تَطَبَّبَ بِهِ وَوَصَفَهُ لِغَيْرِهِ

- ‌فصل

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصل

- ‌فَصْلٌ

- ‌ذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعِلَاجُ بِالْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْحُمَّى

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ اسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الطَّاعُونِ، وَعِلَاجِهِ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ

- ‌ فَصْلِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي دَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ وَعِلَاجِهِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْجُرْحِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الْعِلَاجِ بِشُرْبِ الْعَسَلِ، وَالْحِجَامَةِ، وَالْكَيِّ

- ‌فصل: [في الحجامة]

- ‌فصل: [في منافع الحجامة]

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصل: [في منافع الحجامة تحت الذقن]

- ‌فصل فِي هَدْيِهِ فِي أَوْقَاتِ الْحِجَامَةِ

- ‌فصل [في وقت الحجامة]

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَطْعِ الْعُرُوقِ وَالْكَيِّ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الصَّرَعِ

- ‌فصل [في صرع الأخلاط]

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ عِرْقِ النَّسَا

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ يُبْسِ الطَّبْعِ، وَاحْتِيَاجِهِ إِلَى مَا يُمَشِّيهِ وَيُلَيِّنُهُ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ حِكَّةِ الْجِسْمِ وَمَا يُوَلِّدُ الْقَمْلَ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ ذَاتِ الْجَنْبِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الصُّدَاعِ وَالشَّقِيقَةِ

- ‌فَصْلٌ [في سبب صداع الشقيقة]

- ‌فصل [في علاج صداع الشقيقة]

- ‌فصل [في الحناء]

- ‌فصل فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِتَرْكِ إِعْطَائِهِمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِنَ الطعام والشراب، وأنهم لا يكرهون على تناولها

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْعُذْرَةِ، وَفِي الْعِلَاجِ بِالسَّعُوطِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في علاج المفؤود

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَفْعِ ضَرَرِ الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَإِصْلَاحِهَا بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهَا، وَيُقَوِّي نَفْعَهَا

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِمْيَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الرَّمَدِ بِالسُّكُونِ، وَالدَّعَةِ، وَتَرْكِ الْحَرَكَةِ، وَالْحِمْيَةِ مِمَّا يَهِيجُ الرَّمَدَ

- ‌فصل فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْخَدَرَانِ الْكُلِّيِّ الَّذِي يَجْمُدُ مَعَهُ الْبَدَنُ

- ‌فصل فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِصْلَاحِ الطَّعَامِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الذُّبَابُ، وَإِرْشَادِهِ إِلَى دَفْعِ مَضَرَّاتِ السُّمُومِ بِأَضْدَادِهَا

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْبَثْرَةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم في علاج الأورام، والخراجات الَّتِي تَبْرَأُ بِالْبَطِّ وَالْبَزْلِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْمَرْضَى بِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ بِمَا اعْتَادَتْهُ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ دُونَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَغْذِيَةِ الْمَرِيضِ بِأَلْطَفِ مَا اعْتَادَهُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ السُّمِّ الَّذِي أَصَابَهُ بِخَيْبَرَ مِنَ الْيَهُودِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ السِّحْرِ الَّذِي سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ بِهِ

- ‌فصل

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الِاسْتِفْرَاغِ بِالْقَيْءِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِرْشَادِ إِلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطَّبِيبَيْنِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَضْمِينِ مَنْ طَبَّ النَّاسَ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطِّبِّ

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌‌‌فَصْلٌ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصل

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّحَرُّزِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحَّاءَ إِلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَنْعِ مِنَ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمَاتِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْقَمْلِ الَّذِي فِي الرَّأْسِ وَإِزَالَتِهِ

- ‌[القسم الثاني وهو] فُصُولٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعِلَاجِ بِالْأَدْوِيَةِ الرُّوحَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُفْرَدَةِ، وَالْمُرَكَّبَةِ مِنْهَا، وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فصل

- ‌فَصْلٌ

- ‌فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي العلاج لكل شكوى بالرقية الإلية

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رُقْيَةِ اللَّدِيغِ بِالْفَاتِحَةِ

- ‌فصل

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ بِالرُّقْيَةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رُقْيَةِ النَّمْلَةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رُقْيَةِ الْحَيَّةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي رُقْيَةِ الْقَرْحَةِ وَالْجُرْحِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْوَجَعِ بِالرُّقْيَةِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ حَرِّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْكَرْبِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْحَزَنِ

- ‌فَصْلٌ فِي بَيَانِ جِهَةِ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْرَاضِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْفَزَعِ وَالْأَرَقِ الْمَانِعِ مِنَ النَّوْمِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ دَاءِ الْحَرِيقِ وَإِطْفَائِهِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَلْبَسِ

- ‌فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَسْكَنِ

- ‌فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النوم واليقظة

- ‌‌‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌ فَصَلَ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ الْعِشْقِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ بِالطِّيبِ

- ‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي حِفْظِ صِحَّةِ الْعَيْنِ

- ‌فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ الْمُفْرَدَةِ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم مُرَتَّبَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ

- ‌حَرْفُ الْهَمْزَةِ

- ‌حَرْفُ الْبَاءِ

- ‌حَرْفُ التَّاءِ

- ‌حَرْفُ الثَّاءِ

- ‌حَرْفُ الْجِيمِ

- ‌حرف الحاء

- ‌حَرْفُ الْخَاءِ

- ‌حَرْفُ الدَّالِ

- ‌حَرْفُ الذَّالِ

- ‌حَرْفُ الرَّاءِ

- ‌حَرْفُ الزَّايِ

- ‌حَرْفُ السِّينِ

- ‌حَرْفُ الشِّينِ

- ‌حَرْفُ الصَّادِ

- ‌حَرْفُ الضَّادِ

- ‌حَرْفُ الطَّاءِ

- ‌حَرْفُ الْعَيْنِ

- ‌حَرْفُ الْغَيْنِ

- ‌حَرْفُ الْفَاءِ

- ‌حَرْفُ الْقَافِ

- ‌حَرْفُ الْكَافِ

- ‌حَرْفُ اللَّامِ

- ‌حَرْفُ الْمِيمِ

- ‌حَرْفُ النُّونِ

- ‌حَرْفُ الْهَاءِ

- ‌حَرْفُ الْوَاوِ

- ‌حَرْفُ الْيَاءِ

- ‌فصل [في الحذر من أكل البيض والسمك معا]

- ‌فصل [في ما يمرض الجسم]

- ‌فصل [في الحمية المفرطة]

- ‌فَصْلٌ [في ما يهدم البدن:]

- ‌فَصْلٌ

الفصل: ‌فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج حر المصيبة وحزنها

مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ» «1» فَفِي هَذَا الْعِلَاجِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالتَّفْوِيضِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِعِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ الْأَلَمِ مَا يَذْهَبُ بِهِ، وَتَكْرَارُهُ لِيَكُونَ أَنْجَعَ وَأَبْلَغَ، كَتَكْرَارِ الدَّوَاءِ لِأَخْرَاجِ الْمَادَّةِ، وَفِي السَّبْعِ خَاصِّيَّةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا، وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» :

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُولُ:«اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» «2» . فَفِي هَذِهِ الرُّقْيَةِ تَوَسُّلٌ إِلَى اللَّهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ، وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ بِالشِّفَاءِ، وَأَنَّهُ وَحْدَهُ الشَّافِي، وَأَنَّهُ لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُهُ، فَتَضَمَّنَتِ التَّوَسُّلَ إِلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وربوبيته.

‌فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عِلَاجِ حَرِّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا

قَالَ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «3» . وَفِي «الْمُسْنَدِ» عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَجَارَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا» «4»

وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ أَبْلَغِ عِلَاجِ الْمُصَابِ، وَأَنْفَعِهِ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ، فَإِنَّهَا تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تَسَلَّى عَنْ مُصِيبَتِهِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وماله ملك لله عزوجلّ حَقِيقَةً، وَقَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ، فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ مَتَاعَهُ مِنَ الْمُسْتَعِيرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدَمَيْنِ: عَدَمٍ قَبْلَهُ، وَعَدَمٍ بَعْدَهُ، وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ في زمن

(1) أخرجه مسلم في السلام. وأخرجه ابن ماجه وأحمد والطبراني.

(2)

أخرجه البخاري في الطب، ومسلم في السلام

(3)

البقرة. آية 155.

(4)

أخرجه أحمد ومسلم في الجنائز

ص: 140

يَسِيرٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ الَّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمِهِ، حَتَّى يَكُونَ مِلْكُهُ حَقِيقَةً، وَلَا هُوَ الَّذِي يَحْفَظُهُ مِنَ الْآفَاتِ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَلَا يُبْقِي عَلَيْهِ وُجُودَهُ، فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ، وَلَا مِلْكٌ حَقِيقِيٌّ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ بِالْأَمْرِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيِّ، لَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ إِلَّا مَا وَافَقَ أَمْرَ مَالِكِهِ الْحَقِيقِيِّ.

وَالثَّانِي: أَنَّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُ الْحَقِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُخَلِّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيَجِيءَ رَبَّهُ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَلَكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ وَمَا خُوِّلَهُ وَنِهَايَتَهُ، فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ، أَوْ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ، فَفِكْرُهُ فِي مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدَّاءِ، وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. قَالَ تَعَالَى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «1»

وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا أُصِيبَ بِهِ، فَيَجِدُ رَبَّهُ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِ مِثْلَهُ، أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَادَّخَرَ لَهُ- إِنْ صَبَرَ وَرَضِيَ- مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أعظم مما هي.

ومن علاجه أن يطفىء نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التَّأَسِّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ [1] ، وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً، فَهَلْ يَرَى إِلَّا مِحْنَةً؟ ثُمَّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً، فَهَلْ يَرَى إِلَّا حَسْرَةً؟ [2] ، وَأَنَّهُ لَوْ فتش العالم لم يرفيهم إِلَّا مُبْتَلًى، إِمَّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ، أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، وَأَنَّ شُرُورَ الدُّنْيَا أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ، إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا، أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ سَرَّتْ يَوْمًا، سَاءَتْ دَهْرًا، وَإِنْ مَتَّعَتْ قَلِيلًا، مَنَعَتْ طَوِيلًا، وَمَا مَلَأَتْ دَارًا خِيرَةً إِلَّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً، وَلَا سَرَّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إِلَّا خَبَّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رضي الله عنه: لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ، وما ملىء بيت فرحا إلا ملىء تَرَحًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ.

وَقَالَتْ هند بنت النعمان: لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا، ثُمَّ لَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ أَقَلُّ النَّاسِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إلا ملأها عبرة.

(1) الحديد- 22-

ص: 141

وَسَأَلَهَا رَجُلٌ أَنْ تُحَدِّثَهُ عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَتْ؛ أَصْبَحْنَا ذَا صَبَاحٍ، وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلَّا يَرْجُونَا، ثُمَّ أَمْسَيْنَا وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إِلَّا يَرْحَمُنَا.

وَبَكَتْ أُخْتُهَا حرقة بنت النعمان يوما، وهي في غزها، فَقِيلَ لَهَا: مَا يُبْكِيكِ، لَعَلَّ أَحَدًا آذَاكِ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ رَأَيْتُ غَضَارَةً [1] فِي أَهْلِي، وَقَلَّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إِلَّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا.

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ طَلْحَةَ: دَخَلْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا، فَقُلْتُ لَهَا: كَيْفَ رَأَيْتِ عَبَرَاتِ الْمُلُوكِ؟ فَقَالَتْ: مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمَّا كُنَّا فِيهِ الْأَمْسَ، إِنَّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي خِيرَةٍ إِلَّا سَيُعْقَبُونَ بَعْدَهَا عَبْرَةً، وَأَنَّ الدَّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبُّونَهُ إِلَّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ، ثُمَّ قَالَتْ:

فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا

إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ

فَأُفٍّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا

تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ

[2]

وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَزَعَ لَا يَرُدُّهَا، بَلْ يُضَاعِفُهَا، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ تَزَايُدِ الْمَرَضِ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ فَوْتَ ثَوَابِ الصَّبْرِ وَالتَّسْلِيمَ، وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالرَّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ الَّتِي ضَمِنَهَا اللَّهُ عَلَى الصَّبْرِ، وَالِاسْتِرْجَاعِ أَعْظَمُ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي الْحَقِيقَةِ.

ومن علاجها أن يعلم أن الجزع بشمت عَدُوَّهُ، وَيَسُوءُ صَدِيقَهُ، وَيُغْضِبُ رَبَّهُ، وَيَسُرُّ شَيْطَانَهُ، وَيُحْبِطُ أَجْرَهُ، وَيُضْعِفُ نَفْسَهُ، وَإِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ أَنْضَى شَيْطَانَهُ، وَرَدَّهُ خَاسِئًا، وَأَرْضَى رَبَّهُ، وَسَرَّ صَدِيقَهُ، وَسَاءَ عَدُوَّهُ، وَحَمَلَ عَنْ إِخْوَانِهِ، وَعَزَّاهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُعَزُّوهُ، فَهَذَا هُوَ الثَّبَاتُ وَالْكَمَالُ الْأَعْظَمُ، لَا لَطْمُ الْخُدُودِ، وَشَقُّ الْجُيُوبِ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَالسُّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَا يُعْقِبُهُ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالْمَسَرَّةِ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِبَقَاءِ مَا أُصِيبَ بِهِ لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْتُ الْحَمْدِ الذي يا بنى لَهُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبِّهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ، فَلْيَنْظُرْ: أَيُّ الْمُصِيبَتَيْنِ أَعْظَمُ؟: مُصِيبَةُ الْعَاجِلَةِ، أَوْ مُصِيبَةُ فَوَاتِ بَيْتِ الْحَمْدِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ. وفي

ص: 142

الترمذي مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في التدنيا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاءِ» «1» .

وَقَالَ بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا القيامة مَفَالِيسَ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يُرَوِّحَ قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عِوَضٌ إِلَّا اللَّهَ، فَمَا مِنْهُ عِوَضٌ كَمَا قِيلَ:

مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ

وَمَا مِنَ اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ حَظَّهُ مِنَ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ، فَمَنْ رَضِيَ، فَلَهُ الرِّضَى، وَمَنْ سَخِطَ، فَلَهُ السُّخْطُ، فَحَظُّكَ مِنْهَا مَا أَحْدَثَتْهُ لَكَ، فَاخْتَرْ خَيْرَ الْحُظُوظِ أَوْ شَرَّهَا، فَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ سُخْطًا وَكُفْرًا، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْهَالِكِينَ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ جَزَعًا وَتَفْرِيطًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُفَرِّطِينَ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ شِكَايَةً، وَعَدَمَ صَبْرٍ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمَغْبُونِينَ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ اعْتِرَاضًا عَلَى اللَّهِ، وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ، فَقَدْ قَرَعَ بَابَ الزَّنْدَقَةِ أَوْ وَلَجَهُ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ صَبْرًا وَثَبَاتًا لِلَّهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الصَّابِرِينَ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الرِّضَى عَنِ اللَّهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرَّاضِينَ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الشَّاكِرِينَ، وَكَانَ تَحْتَ لِوَاءِ الْحَمْدِ مَعَ الْحَمَّادِينَ، وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ مَحَبَّةً وَاشْتِيَاقًا إِلَى لِقَاءِ رَبِّهِ، كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُحِبِّينَ الْمُخْلِصِينَ.

وَفِي «مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ» وَالتِّرْمِذِيِّ، مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ يَرْفَعُهُ:«إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمُ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى، ومن سخط فله السّخط» . زاد «وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ» «2» .

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْجَزَعِ غَايَتَهُ، فَآخِرُ أَمْرِهِ إِلَى صَبْرِ الِاضْطِرَارِ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مُثَابٍ، قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعَاقِلُ يفعل في أوّل

(1) أخرجه الترمذي في باب الزهد.

(2)

أخرجه أحمد في المسند، وهو حديث صحيح.

ص: 143

يَوْمٍ مِنَ الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُ بَعْدَ أَيَّامٍ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ، سَلَا سُلُوَّ الْبَهَائِمِ. وَفِي «الصَّحِيحِ» مَرْفُوعًا:«الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» «1» . وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ: إِنَّكَ إِنْ صَبَرْتَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَإِلَّا سَلَوْتَ سُلُوَّ الْبَهَائِمِ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ، وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَحَبَّةِ وَسِرَّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ، فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ مَحْبُوبٍ، ثُمَّ سَخِطَ مَا يُحِبُّهُ، وَأَحَبَّ مَا يَسْخَطُهُ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ، وَتَمَقَّتَ إِلَى مَحْبُوبِهِ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً، أحب أن يرضى به، وكان عمران ابن حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلَّتِهِ: أَحَبُّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أبو العالية.

وَهَذَا دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمُحِبِّينَ، وَلَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ.

وَمِنْ علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين، وَأَدْوَمِهِمَا: لَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ، وَلَذَّةِ تَمَتُّعِهِ بِثَوَابِ اللَّهِ لَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الرُّجْحَانُ، فَآثَرَ الرَّاجِحَ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ، وَإِنْ آثَرَ الْمَرْجُوحَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مُصِيبَتَهُ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِهِ الَّتِي أُصِيبَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ، وَلَا لِيُعَذِّبَهُ بِهِ، وَلَا لِيَجْتَاحَهُ، وَإِنَّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ، وَلِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ وَابْتِهَالَهُ، وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ، لَائِذًا بِجَنَابِهِ، مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ، رَافِعًا قَصَصَ الشَّكْوَى إِلَيْهِ.

قَالَ الشيخ عبد القادر: يَا بُنَيَّ! إِنَّ المصيبة ما جاءت لتهلك، وَإِنَّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَكَ وَإِيمَانَكَ، يَا بُنَيَّ! الْقَدَرُ سَبُعٌ، وَالسَّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ.

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُصِيبَةَ كِيرُ الْعَبْدِ الَّذِي يُسْبَكُ بِهِ حَاصِلُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ ذَهَبًا أَحْمَرَ، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ خَبَثًا كُلُّهُ، كَمَا قِيلَ:

سَبَكْنَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا

فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ

(1) أخرجه البخاري في الجنائز، ومسلم في الجنائز.

ص: 144

فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْكِيرُ فِي الدُّنْيَا، فَبَيْنَ يَدَيْهِ الْكِيرُ الْأَعْظَمُ، فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنَّ إِدْخَالَهُ كِيرَ الدُّنْيَا وَمَسْبَكَهَا خَيْرٌ لَهُ من ذلك الكير والمسبك، وأنه لابد مِنْ أَحَدِ الْكِيرَيْنِ، فَلْيَعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْكِيرِ الْعَاجِلِ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا، لَأَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ، تَكُونُ حَمِيَّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ، وَحِفْظًا لِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ، وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيئَةِ الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ:

قد ينعم الله بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ

وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ

فَلَوْلَا أَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ، لَطَغَوْا، وَبَغَوْا، وَعَتَوْا، وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ- إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ، حَتَّى إِذَا هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ وَصَفَّاهُ، أَهَّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا، وَهِيَ عُبُودِيَّتُهُ، وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ.

وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ مَرَارَةَ الدُّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ، يَقْلِبُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، وَحَلَاوَةَ الدُّنْيَا بِعَيْنِهَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ، وَلَأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إِلَى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ هَذَا، فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ:«حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» » .

وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ الْخَلَائِقِ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ الرِّجَالِ، فَأَكْثَرُهُمْ آثَرَ الْحَلَاوَةَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلَى الْحَلَاوَةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي لَا تَزُولُ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ، وَلَا ذُلَّ سَاعَةٍ لِعِزِّ الْأَبَدِ، وَلَا مِحْنَةَ سَاعَةٍ لِعَافِيَةِ الْأَبَدِ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ، وَالْمُنْتَظَرَ غَيْبٌ، وَالْإِيمَانَ ضَعِيفٌ، وَسُلْطَانُ الشَّهْوَةِ حَاكِمٌ، فَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ إِيثَارُ الْعَاجِلَةِ، وَرَفْضُ الْآخِرَةِ، وَهَذَا حَالُ النَّظَرِ الْوَاقِعِ عَلَى ظواهر الأمور،

(1) أخرجه مسلم في الجنة.

ص: 145