الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْإِرْشَادِ إِلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطَّبِيبَيْنِ
ذَكَرَ مالك فِي «مُوَطَّئِهِ» : عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابَهُ جُرْحٌ، فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدَّمَ، وَأَنَّ الرَّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَارَ، فَنَظَرَا إِلَيْهِ فَزَعَمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا:«أَيُّكُمَا أَطَبُّ» ؟ فَقَالَ: أَوَ فِي الطِّبِّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ» «1» .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ، فَإِنَّهُ إِلَى الْإِصَابَةِ أَقْرَبُ.
وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ بِالْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِصَابَةً مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ أَعْلَمَ مَنْ يَجِدُهُ، وَعَلَى هَذَا فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، كَمَا أَنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِنَّمَا سُكُونُ نَفْسِهِ، وَطُمَأْنِينَتُهُ إِلَى أَحْذَقِ الدَّلِيلَيْنِ وَأَخْبَرِهِمَا، وَلَهُ يَقْصِدُ، وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُ، فَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى هَذَا الشَّرِيعَةُ وَالْفِطْرَةُ وَالْعَقْلُ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَنْزَلَ الدَّوَاءَ الَّذِي أَنْزَلَ الدَّاءَ» ، قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ هلال بن يساف، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ:«أَرْسِلُوا إِلَى طَبِيبٍ» ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً» .
وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى «أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ» ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْزَالُهُ إِعْلَامُ الْعِبَادِ بِهِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِعُمُومِ الْإِنْزَالِ لِكُلِّ دَاءٍ وَدَوَائِهِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ:«عَلِمَهُ مَنْ علمه، وجهله من جهله» .
(1) أخرجه مالك في الموطأ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْزَالُهُمَا: خَلْقُهُمَا وَوَضْعُهُمَا فِي الْأَرْضِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ:«إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً» ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَلَفْظَةُ الْإِنْزَالِ أَخَصُّ مِنْ لَفْظَةِ الْخَلْقِ وَالْوَضْعِ، فَلَا يَنْبَغِي إِسْقَاطُ خُصُوصِيَّةِ اللَّفْظَةِ بِلَا مُوجِبٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنْزَالُهُمَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ الْخَلْقِ مِنْ دَاءٍ وَدَوَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكَّلَةٌ بِأَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَأَمْرِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ فِي رَحِمِ أُمِّهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، فَإِنْزَالُ الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا أَقْرَبُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ عَامَّةَ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ هِيَ بِوَاسِطَةِ إِنْزَالِ الْغَيْثِ مِنَ السَّمَاءِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ بِهِ الْأَغْذِيَةُ، وَالْأَقْوَاتُ، وَالْأَدْوِيَةُ، وَالْأَدْوَاءُ، وَآلَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَسْبَابُهُ وَمُكَمِّلَاتُهُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنَ الْمَعَادِنِ الْعُلْوِيَّةِ، فَهِيَ تَنْزِلُ مِنَ الْجِبَالِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنَ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ، فَدَاخِلٌ فِي اللَّفْظِ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنِ الْفِعْلَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُهُمَا، وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، بَلْ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
…
حَتَى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
[1]
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا
…
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
[2]
وَقَوْلِ الْآخَرِ:
إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا
…
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
[3]
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا قَبْلَهُ مِنَ الْوُجُوهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا من تمام حكمة الرب عزوجل، وَتَمَامِ رُبُوبِيَّتِهِ، فَإِنَّهُ كَمَا ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْأَدْوَاءِ، أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا يَسَّرَهُ لَهُمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالذُّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ، وَالْحَسَنَاتِ الماحية والمصائب المفكرة، وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِجُنْدٍ مِنَ الْأَرْوَاحِ الطَّيِّبَةِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالشَّهَوَاتِ أَعَانَهُمْ عَلَى قَضَائِهَا بِمَا يَسَّرَهُ لَهُمْ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنَ الْمُشْتَهَيَاتِ اللَّذِيذَةِ النَّافِعَةِ، فَمَا ابْتَلَاهُمْ سُبْحَانَهُ بِشَيْءٍ إِلَّا أَعْطَاهُمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى ذَلِكَ