الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثاني: أنه من الواضح جداً، أن الآية لم تتعرض لإتباع الأغلبية، ولا لعدم إتباعها، ولا لجواز ذلك، ولا لوجوبه، ولا لمنعه، فتحميلها الدلالة على جواز تفرد الأمير الأمر ومخالفة جميع مستشاريه أو جميعهم، إنما هو تكلف وتعسف.
(1)
الفقرة الثانية: من السيرة النبوية:
أـ وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلتزم الأغلبية في أحداث متعددة منها صلح الحديبية، حيث أن الصحابة عارضوا هذا الصلح، ومع هذا فقد أمضاه النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عليه من وجهين:
الأول: أن صلح الحديبية قد ثبت يقينا أنه تم بوحي من الله عز وجل، ومن الأدلة على ذلك: بروك الناقة: كما في حديث السور بن مخرمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية .. فذكر الحديث بطوله؛ وفيه: " وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يُهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل، فألحت فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل .. ".
(2)
وفي إكمال المعلم، عند قوله:" حبسها حابس الفيل " قال: يريد أمر الله ومراده ".
(3)
الثاني: عندما اشتد الأمر بعمر بن الخطاب رضي الله عنه من الصلح مع قريش ومن شروطه، اندفع عمر يعبر عما في نفسه قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت ألست نبي الله حقاً، قال: بلى، قلت: ألست على الحق وعدونا على الباطل، قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا، قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري .. ".
(4)
في إرشاد الساري: " وفيه تنبيه لعمر رضي الله عنه على إزالة ما حصل عنده من القلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا لأمر أطلعه الله عليه من حبس الناقة، وأنه لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله ".
(5)
فيتضح من خلال هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف بصفته رسولا، ينفذ أمر ربه، ولا يستطيع أن يعصيه، فلم يبق مجال لآراء الناس، ولهذا لم يستشاروا في الأمر أصلاً.
(6)
(1)
المرجع نفسه، ص 39.
(2)
صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، ج 3، ص 252، برقم 2731.
(3)
إكمال المعلم شرح صحيح مسلم: القاضي عياض، ج 6، ص 77.
(4)
صحيح البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد، ج 3، ص 256، برقم 2732
(5)
إرشاد الساري: القسطلاني، ج 4، ص 450.
(6)
قضية الأغلبية: الريسوني، ص 43.
ب- ما وقع منه ص من استشارات فردية لبعض أصحابه، ففي بدر أخذ برأي الحباب بن المنذر وحده، وفي أسرى بدر أخذ برأي أبي بكر رضي الله عنه، وفي الخندق أخذ برأي سلمان الفارسي وحده، وفي الحديبية قبل بروك الناقة، أخذ برأي أبي بكر الصديق، وفي حادثة الإفك لم يستشر إلا أفرادا معدودين منهم علي وأسامة، قالوا: فهذه الحالات تثبت أن للأمير أن يستشير من شاء، ويأخذ من الآراء ما شاء، ويترك ما شاء، وأنه ليس مقيداً بالأغلبية.
الجواب من وجهين:
الأول: ليس في هذه الأمثلة ما يدل على إهدار استشارة الأغلبية:
- أما ما أشار به الحباب بن المنذر فيما يخص مكان نزول بدر، فقد كان رأياً من رجل خبير بالمنطقة، عارف بآبارها، فاستحسنه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقع فيه خلاف ولا معارض لصوابه؛ ولذا مضى الصحابة مقتنعين به.
- ومثل ذلك يقال في رأي سلمان في حفر الخندق، ورأي الصديق في الحديبية.
- وأما رأي الصديق في أخذ الفداء من المشركين، فلم يكن هو رأيه، بل رأي جمهور الصحابة كما بينا سابقا.
- وأما استشارته علياً وأسامة في شان عائشة، وهل يطلقها أو يبقيها، بعد أن راج حديث الإفك مدة، وقبل أن ينزل القرآن بتبرئتها، فموضوع خاص ولهذا استشار صلى الله عليه وسلم خواصه
والمقربين منه، ولكل إنسان في مسائله الخاصة أن يستشير من شاء ويعمل بما شاء.
(1)
الثاني: أن للنبي صلى الله عليه وسلم خصوصيته فهو المؤيد بالوحي، المعصوم من الخطأ مع كونه أفضل الخلق وأكملهم عقلاً، وأسدهم نظراً، وأحكمهم تدبيراً، وهذه المنزلة لن تكون لأحد بعده، كما لم تكن لأحد قبله. ومن هنا ندرك فداحة غلط أولئك الذين يذهبون في قياس الأمراء على الرسول ويعطوا لأمرائهم ما للنبي صلى الله عليه وسلم من التعظيم والتفويض في الحقوق والصلاحيات.
(2)
روى ابن عبد البر بسنده عن ابن شهاب: أن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر: " أيها الناس إن الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً؛ لأن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف".
(3)
(1)
المرجع السابق، ص 49 - 50. بتصرف.
(2)
قضية الأغلبية: الريسوني ص 51 - 53. بتصرف.
(3)
جامع بيان العلم وفضله: ابن عبر البر، ج 6، ص 134.