المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٣

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ

وَهَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي أُوعِدَ بِهِ إِبْلِيسُ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [38 \ 84 - 85]، وَقَوْلِهِ: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جَزَاءً مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ بِالْمَصْدَرِ قَبْلَهُ، عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:

بِمِثْلِهِ أَوْ فِعْلٍ اوْ وَصْفٍ نُصِبْ

وَكَوْنُهُ أَصْلًا لِهَذَيْنِ انْتُخِبْ

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ «مَوْفُورًا» بِمَعْنَى «وَافِرٍ» لَا دَاعِيَ لَهُ. بَلْ «مَوْفُورًا» اسْمُ مَفْعُولٍ عَلَى بَابِهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: وَفَرَ الشَّيْءَ يَفِرُهُ، فَالْفَاعِلُ وَافِرٌ، وَالْمَفْعُولُ مَوْفُورٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرْضِهِ

يَفِرْهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ

وَعَلَيْهِ: فَالْمَعْنَى: جَزَاءً مُكَمَّلًا مُتَمَّمًا. وَتُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ لَازِمَةً أَيْضًا تَقُولُ: وَفَرَ مَالُهُ فَهُوَ وَافِرٌ ; أَيْ كَثِيرٌ. وَقَوْلُهُ: «مَوْفُورًا» نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ قَبْلَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: هَذَا أَمْرٌ قَدَرِيٌّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [19 \ 83] ; أَيْ تُزْعِجُهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي إِزْعَاجًا، وَتَسُوقُهُمْ إِلَيْهَا سَوْقًا. انْتَهَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ صِيَغَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ [17 \‌

‌ 64]

، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَوْلِهِ: وَشَارِكْهُمْ، إِنَّمَا هِيَ لِلتَّهْدِيدِ، أَيِ افْعَلْ ذَلِكَ فَسَتَرَى عَاقِبَتَهُ الْوَخِيمَةَ ; كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [41 \ 40] ، وَبِهَذَا جَزَمَ أَبُو حَيَّانَ «فِي الْبَحْرِ» ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ: وَاسْتَفْزِزْ، أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَفِزَّهُ مِنْهُمْ، فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِفْزَازُ: الِاسْتِخْفَافُ. وَرَجُلٌ فَزٌّ: أَيْ خَفِيفٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِوَلَدِ الْبَقَرَةِ: فَزٌّ. لِخِفَّةِ حَرَكَتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

ص: 168

كَمَا اسْتَغَاثَ بِسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ

خَافَ الْعُيُونَ وَلَمْ يَنْظُرْ بِهِ الْحَشِكُ

«وَالسَّيْءُ» فِي بَيْتِ زُهَيْرٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ مَفْتُوحَةً بَعْدَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ هَمْزٌ: اللَّبَنُ الَّذِي يَكُونُ فِي أَطْرَافِ الْأَخْلَافِ قَبْلَ نُزُولِ الدِّرَّةِ، وَالْحَشَكُ أَصْلُهُ السُّكُونُ ; لِأَنَّهُ مَصْدَرُ حَشَكَتِ الدِّرَّةُ: إِذَا امْتَلَأَتْ، وَإِنَّمَا حَرَّكَهُ زُهَيْرٌ لِلْوَزْنِ. وَالْغَيْطَلَةُ هُنَا: بَقَرَةُ الْوَحْشِ ذَاتُ اللَّبَنِ. وَقَوْلُهُ ; بِصَوْتِكَ [17 \ 64]، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ ; أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ مِنْهُمْ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْتُهُ يَشْمَلُ كُلَّ دَاعٍ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ طَاعَةً لَهُ. وَقِيلَ: بِصَوْتِكَ: أَيْ وَسْوَسَتِكَ. وَقَوْلُهُ: وَأَجْلِبْ أَصْلُ الْإِجْلَابِ: السَّوْقُ بِجَلَبَةٍ مِنَ السَّائِقِ. وَالْجَلَبَةُ: الْأَصْوَاتُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: أَجْلَبَ عَلَى فَرَسِهِ، وَجَلَبَ عَلَيْهِ: إِذَا صَاحَ بِهِ مِنْ خَلْفٍ وَاسْتَحَثَّهُ لِلسَّبْقِ. وَالْخَيْلُ تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْأَفْرَاسِ، وَعَلَى الْفَوَارِسِ الرَّاكِبِينَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ. وَالرَّجْلُ: جَمْعُ رَاجِلٍ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ: جَمْعُ «الْفَاعِلِ» وَصْفًا عَلَى «فَعْلٍ» بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَأَوْضَحْنَا أَمْثِلَتَهُ بِكَثْرَةٍ، وَاخْتَرْنَا أَنَّهُ جَمْعٌ مَوْجُودٌ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ ; إِذْ لَيْسَتْ فَعْلٌ - بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ - عِنْدَهُمْ مِنْ صِيَغِ الْجُمُوعِ، فَيَقُولُونَ فِيمَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ كَرَاجِلٍ وَرَجْلٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَشَارِبٍ وَشَرْبٍ: إِنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.

وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَرَجِلِكَ [17 \ 64] بِكَسْرِ الْجِيمِ - لُغَةٌ فِي الرَّجْلِ جَمْعِ رَاجِلٍ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّ «فَعِلًا» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» نَحْوَ تَعِبٍ وَتَاعِبٍ وَمَعْنَاهُ: «وَجَمْعِكَ الرَّجِلِ» . اهـ ; أَيْ: الْمَاشِينَ عَلَى أَرْجُلِهِمْ.

وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ [17 \ 64]، أَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ فَعَلَى أَصْنَافٍ:(مِنْهَا) مَا حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ طَاعَةً لَهُ ; كَالْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنِ اكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ بِالطُّرُقِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا كَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَأَنْوَاعِ الْخِيَانَاتِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ طَاعَةً لَهُ.

وَأَمَّا مُشَارَكَتُهُ لَهُمْ فِي الْأَوْلَادِ فَعَلَى أَصْنَافٍ أَيْضًا:

مِنْهَا قَتْلُهُمْ بَعْضَ أَوْلَادِهِمْ طَاعَةً لَهُ.

ص: 169

وَمِنْهَا أَنَّهُمْ يُمَجِّسُونَ أَوْلَادَهُمْ وَيُهَوِّدُونَهُمْ وَيُنَصِّرُونَهُمْ طَاعَةً لَهُ وَمُوَالَاةً.

وَمِنْهَا تَسْمِيَتُهُمْ أَوْلَادَهُمْ عَبْدَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ سَمَّوْا أَوْلَادَهُمْ عَبِيدًا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ طَاعَةً لَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَوْلَادُ الزِّنَى ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَسَبَّبُوا فِي وُجُودِهِمْ بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ؛ طَاعَةً لَهُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بَعْضَ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، كَقَوْلِهِ: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [6 \ 140] فَقَتْلُهُمْ أَوْلَادَهُمُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَاعَةً لِلشَّيْطَانِ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَوْلَادِهِمْ حَيْثُ قَتَلُوهُمْ فِي طَاعَتِهِ. وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ بَعْضِ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ طَاعَةً لَهُ مُشَارَكَةٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ أَيْضًا ; وَكَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا الْآيَةَ [6 \ 136]، وَكَقَوْلِهِ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [6 \ 138]، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُبَيِّنَةِ بَعْضَ مُشَارَكَتِهِ لَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ، مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عز وجل إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ» ، وَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ» انْتَهَى.

فَاجْتِيَالُ الشَّيَاطِينِ لَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَتَحْرِيمُهَا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ (فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ) وَضُرُّهَا لَهُمْ لَوْ تَرَكُوا التَّسْمِيَةَ (فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي) كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِمْ. وَقَوْلُهُ:«فَاجْتَالَتْهُمْ» أَصْلُهُ افْتَعَلَ مِنَ الْجَوَلَانِ ; أَيِ اسْتَخَفَّتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الضَّلَالِ. يُقَالُ: جَالَ وَاجْتَالَ: إِذَا ذَهَبَ وَجَاءَ، وَمِنْهُ الْجَوَلَانُ فِي الْحَرْبِ، وَاجْتَالَ الشَّيْءَ: إِذَا ذَهَبَ بِهِ وَسَاقَهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: وَعِدْهُمْ ;

ص: 170

كَالْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: وَاسْتَفْزِزْ، وَقَوْلِهِ: وَأَجْلِبْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لِلتَّهْدِيدِ.

وَقَوْلُهُ: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [17 \ 64] بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ كُلَّهَا غُرُورٌ وَبَاطِلٌ ; كَوَعْدِهِ لَهُمْ بِأَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتُقَرِّبُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ زُلْفَى، وَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا جَعَلَ لَهُمُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فِي الدُّنْيَا سَيَجْعَلُ لَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِيدِ الْكَاذِبَةِ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120]، وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [57 \ 14]، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [14 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ

الْآيَةَ [17 \ 65]، بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ لَا سُلْطَانَ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَمَا قَدَّرْنَا، وَيَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَحْذُوفَةِ إِضَافَتُهُ الْعِبَادَ إِلَيْهِ إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ، وَتَدُلُّ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْمُقَدَّرَةِ أَيْضًا آيَاتٌ أُخَرُ ; كَقَوْلِهِ: إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [15 \ 40]، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَسَّهُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ; أَيِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمُ الرِّيحُ فَغَشِيَتْهُمْ أَمْوَاجُ الْبَحْرِ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا خَلَاصَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ - ضَلَّ عَنْهُمْ ; أَيْ غَابَ عَنْ أَذْهَانِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كُلُّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلَا يَدْعُونَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَّا اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُنْقِذُ مِنْ ذَلِكَ الْكَرْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْكُرُوبِ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا،

ص: 171

فَأَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ الَّذِي أَحَاطَ بِهِمْ فِيهِ هَوْلُ الْبَحْرِ، فَإِذَا نَجَّاهُمُ اللَّهُ وَفَرَّجَ عَنْهُمْ، وَوَصَلُوا الْبَرَّ رَجَعُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [17 \ 67] .

وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَوْضَحَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [10 \ 22 - 23]، وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [6 \ 63 - 64]، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [29 \ 65]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ [31 \ 32]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ [39 \ 8] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ «فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ» وَغَيْرِهَا.

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ سَخَافَةَ عُقُولِ الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا وَصَلُوا إِلَى الْبَرِّ وَنَجَوْا مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ رَجَعُوا إِلَى كُفْرِهِمْ آمِنِينَ عَذَابَ اللَّهِ، مَعَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بَعْدَ وُصُولِهِمْ إِلَى الْبِرِّ، بِأَنْ يَخْسِفَ بِهِمْ جَانِبَ الْبَرِّ الَّذِي يَلِي الْبَحْرَ فَتَبْتَلِعَهُمُ الْأَرْضُ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَتُهْلِكَهُمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْبَحْرِ فَتُغْرِقَهُمْ أَمْوَاجُهُ الْمُتَلَاطِمَةُ، كَمَا قَالَ هُنَا مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ أَمْنَهُمْ وَكُفْرَهُمْ بَعْدَ وُصُولِ الْبَرِّ: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [17 \ 68] وَهُوَ الْمَطَرُ أَوِ الرِّيحُ اللَّذَيْنِ فِيهِمَا الْحِجَارَةُ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [17 \ 69] ; أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ، فَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ، وَ «مَا» مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْقَاصِفُ: رِيحُ الْبِحَارِ الشَّدِيدَةُ الَّتِي تَكْسِرُ الْمَرَاكِبَ وَغَيْرَهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي تَمَامٍ:

إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ

عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ

يَعْنِي: إِذَا مَا هَبَّتْ بِشِدَّةٍ كَسَرَتْ عِيدَانَ شَجَرِ نَجْدٍ؛ رَتَمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

ص: 172

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ فِي غَيْرِ الْبَحْرِ بِخَسْفٍ أَوْ عَذَابٍ مِنَ السَّمَاءِ - أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ الْآيَةَ [34 \ 9]، وَقَوْلِهِ: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ الْآيَةَ [6 \ 65]، وَقَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [67 \ 16 - 17]، وَقَوْلِهِ «فِي قَوْمِ لُوطٍ» : إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [54 \ 34]، وَقَوْلِهِ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [51 \ 33] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْحَاصِبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهَا السَّحَابَةُ أَوِ الرِّيحُ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ كُلَّ رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ تُسَمَّى حَاصِبًا وَحَصْبَةً، وَكُلُّ سَحَابَةٍ تَرْمِي بِالْبَرَدِ تُسَمَّى حَاصِبًا أَيْضًا ; وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقَ:

مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ يَضْرِبُنَا

بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ

وَقَوْلُ لَبِيدٍ:

جَرَّتْ عَلَيْهَا أَنْ خَوَتْ مِنْ أَهْلِهَا

أَذْيَالَهَا كُلُّ عُصُوفٍ حَصِبَهْ

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا [17 \ 96] ، «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «فَاعِلٍ» . أَيْ تَابِعًا يَتْبَعُنَا بِالْمُطَالَبَةِ بِثَأْرِكُمْ ; كَقَوْلِهِ فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا [91 \ 14، 15] ، أَيْ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ تَبِعَةٍ تَلْحَقُهُ بِذَلِكَ. وَكُلُّ مُطَالِبٍ بَدِينٍ أَوْ ثَأْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ تَبِيعًا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّمَّاخِ يَصِفُ عُقَابًا:

تَلُوذُ ثَعَالِبُ الشَّرَفَيْنِ مِنْهَا

كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ

أَيْ: كَعِيَاذِ الْمَدِينِ مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ الَّذِي يُطَالِبُهُ بِغُرْمِهِ مِنْهُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:

غَدَوْا وَغَدَتْ غِزْلَانُهُمْ وَكَأَنَّهَا

ضَوَامِنُ غُرْمٍ لَهُنَّ تَبِيعُ

أَيْ خَصْمُهُنَّ مُطَالَبٌ بَدِينٍ.

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ الْآيَةَ [2 \ 178]، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: «تَبِيعًا» أَيْ نَصِيرًا، وَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: نَصِيرًا ثَائِرًا.

ص: 173

تَنْبِيهٌ

لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْكُفَّارَ وَعَاتَبَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ خَاصَّةً يُخْلِصُونَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ، وَلَا يَصْرِفُونَ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ لِمَخْلُوقٍ، وَفِي وَقْتِ الْأَمْنِ وَالْعَافِيَةِ يُشْرِكُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ الْوَاجِبَةِ لَهُ وَحْدَهُ، الَّتِي هِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ جَهَلَةِ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا دَهَمَتْهُمُ الشَّدَائِدُ، وَغَشِيَتْهُمُ الْأَهْوَالُ وَالْكُرُوبُ الْتَجَئُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مِمَّنْ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ الصَّلَاحَ، فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُخْلِصُ فِيهِ الْكُفَّارُ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ وَإِنْجَاءَهُ مِنَ الْكَرْبِ مِنْ حُقُوقِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ.

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى «فِي سُورَةِ النَّمْلِ» : آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ الْآيَاتِ [37 \ 27] 59 - 62، فَتَرَاهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ جَعَلَ إِجَابَةَ الْمُضْطَرِّ إِذَا دَعَا وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ الْخَالِصِ الَّذِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ ; كَخَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَإِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِنْبَاتِهِ بِهِ الشَّجَرَ، وَجَعْلِهِ الْأَرْضَ قَرَارًا، وَجَعْلِهِ خِلَالَهَا أَنْهَارًا، وَجَعْلِهِ لَهَا رَوَاسِيَ، وَجَعْلِهِ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا، إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ ; سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ: كَانَ سَبَبَ إِسْلَامِ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ; فَإِنَّهُ لِمَا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ ذَهَبَ فَارًّا مِنْهُ إِلَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ، فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْحَبَشَةِ، فَجَاءَتْهُمْ رِيحٌ عَاصِفٌ فَقَالَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْكُمْ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَحْرِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللَّهُمَّ لَكَ عَلَيَّ عَهْدٌ، لَئِنْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهُ لَأَذْهَبَنَّ فَلَأَضَعَنَّ يَدِيَ فِي يَدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَأَجِدَنَّهُ رَءُوفًا رَحِيمًا. فَخَرَجُوا مِنَ الْبَحْرِ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ رضي الله عنه. اهـ.

ص: 174

وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ تَبِيعًا [17 \ 69] رَاجِعٌ إِلَى الْإِهْلَاكِ بِالْإِغْرَاقِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ [17 \ 69] ، أَيْ لَا تَجِدُونَ تَبِيعًا يَتْبَعُنَا بِثَأْرِكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْإِغْرَاقِ.

وَقَالَ صَاحِبُ رُوحِ الْمَعَانِي: وَضَمِيرُ «بِهِ» قِيلَ لِلْإِرْسَالِ، وَقِيلَ لِلْإِغْرَاقِ، وَقِيلَ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مِنْ تَكْرِيمِهِ لِبَنِي آدَمَ خَلْقُهُ لَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ وَأَحْسَنِهَا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَمْشِي قَائِمًا مُنْتَصِبًا عَلَى رِجْلَيْهِ، وَيَأْكُلُ بِيَدَيْهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَيَأْكُلُ بِفَمِهِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [95 \ 4]، وَقَوْلُهُ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [40 \ 64] وَفِي الْآيَةِ كَلَامٌ غَيْرُ هَذَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

الْآيَةَ، أَيْ فِي الْبِرِّ عَلَى الْأَنْعَامِ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ.

وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [23 \ 22]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ [43 \ 12] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى بِإِيضَاحٍ «فِي سُورَةِ النَّحْلِ» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ.

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ «بِإِمَامِهِمْ» هُنَا كِتَابُ أَعْمَالِهِمْ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [36 \ 12]، وَقَوْلُهُ: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [45 \ 28]، وَقَوْلُهُ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ الْآيَةَ [18 \ 49]، وَقَوْلُهُ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [17 \ 13] ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ كَثِيرٍ ; لِدَلَالَةِ آيَةِ «يس» الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهَا ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَعَزَاهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ، وَعَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِـ بِإِمَامِهِمْ نَبِيُّهُمْ.

ص: 175

وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [10 \ 47]، وَقَوْلُهُ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا الْآيَةَ [4 \ 41]، وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ الْآيَةَ [16 \ 89]، وَقَوْلُهُ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ الْآيَةَ [39 \ 69] .

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: وَفِي هَذَا أَكْبَرُ شَرَفٍ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ إِمَامَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: بِإِمَامِهِمْ ; أَيْ بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيِّهِمْ مِنَ التَّشْرِيعِ ; وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: ابْنُ زَيْدٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [17 \ 71] ، أَيْ نَدْعُو كُلَّ قَوْمٍ بِمَنْ يَأْتَمُّونَ بِهِ، فَأَهْلُ الْإِيمَانِ أَئِمَّتُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ أَئِمَّتُهُمْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ مِنْ رُؤَسَاءِ الْكَفَرَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ الْآيَةَ [28 \ 41] ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

فَقَدْ رَأَيْتَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يَشْهَدُ لَهَا مِنْ قُرْآنٍ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا: فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [17 \ 71] ، مِنَ الْقَرَائِنِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْجِيحِ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِتَابُ الْأَعْمَالِ.

وَذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كِتَابَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ يَقْرَءُونَهُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا.

وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [69 \ 19]- إِلَى قَوْلِهِ - وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [69 \ 25] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِـ بِإِمَامِهِمْ كَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ «أُمَّهَاتُهُمْ» أَيْ يُقَالُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةٍ - قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «يُرْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ» .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.

الْمُرَادُ بِالْعَمَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَمَى الْقَلْبِ لَا عَمَى الْعَيْنِ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 176

فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [22 \ 46] ; لِأَنَّ عَمَى الْعَيْنِ مَعَ إِبْصَارِ الْقَلْبِ لَا يَضُرُّ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; فَإِنَّ أَعْمَى الْعَيْنِ يَتَذَكَّرُ فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى بِبَصِيرَةِ قَلْبِهِ، قَالَ تَعَالَى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [80 \ 1 - 4] .

إِذَا بَصُرَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى

فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما لَمَّا عَمِيَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ، كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ:

إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنِي نُورَهُمَا

فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ

قَلْبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ

وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [17 \ 72]، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَيْسَتِ الصِّيغَةُ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى كَذَلِكَ لَا يَهْتَدِي إِلَى نَفْعٍ، وَبِهَذَا جَزَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ أَنَّ لَفْظَةَ «أَعْمَى» الثَّانِيَةَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ ; أَيْ هُوَ أَشَدُّ عَمًى فِي الْآخِرَةِ.

وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَضَلُّ سَبِيلًا ; فَإِنَّهَا صِيغَةُ تَفْضِيلٍ بِلَا نِزَاعٍ. وَالْمُقَرَّرُ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ صِيغَتَيِ التَّعَجُّبِ وَصِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا يَأْتِيَانِ مِنْ فِعْلٍ، الْوَصْفُ مِنْهُ عَلَى «أَفْعَلَ» الَّذِي أُنْثَاهُ فَعْلَاءُ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَغَيْرِ ذِي وَصْفٍ يُضَاهِي أَشْهَلَا

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا وُجِدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَصُوغًا مِنْ صِيغَةِ تَفْضِيلٍ أَوْ تَعَجُّبٍ غَيْرَ مُسْتَوْفٍ لِلشُّرُوطِ، أَنَّهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ

وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ:

مَا فِي الْمَعَالِي لَكُمْ ظِلٌّ وَلَا ثَمَرُ

وَفِي الْمَخَازِي لَكُمْ أَشْبَاحُ أَشْيَاخِ

أَمَّا الْمُلُوكُ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَلْأَمُهُمْ

لُؤْمًا وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ «وَأَبْيَضُهُمْ سِرْبَالَ طَبَّاخِ» لَيْسَ صِيغَةَ

ص: 177

تَفْضِيلٍ، بَلِ الْمَعْنَى أَنْتَ وَحْدَكَ الْأَبْيَضُ سِرْبَالَ طَبَّاخٍ مِنْ بَيْنِهِمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا.

رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا لَهُ صلى الله عليه وسلم: لَا نَدَعُكَ تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ حَتَّى تُلِمَّ بِآلِهَتِنَا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ، أَتَوُا النَّبِيَّ فَسَأَلُوهُ شَطَطًا، قَالُوا: مَتِّعْنَا بِآلِهَتِنَا سَنَةً حَتَّى نَأْخُذَ مَا يُهْدَى لَهَا، وَحَرِّمْ وَادِيَنَا كَمَا حَرَّمْتَ مَكَّةَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ كَادُوا يَفْتِنُونَهُ، أَيْ قَارَبُوا ذَلِكَ. وَمَعْنَى يَفْتِنُونَكَ: يُزِلُّونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ مِمَّا لَمْ نُوحِهِ إِلَيْكَ.

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَارَبُوا ذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لَا فِيمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ خَطَرَ فِي قَلْبِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُوَافِقَهُمْ فِي بَعْضِ مَا أَحَبُّوا لِيَجُرَّهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إِسْلَامِهِمْ.

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْإِتْيَانَ بِغَيْرِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ امْتَنَعَ أَشَدَّ الِامْتِنَاعِ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ; بَلْ يَتَّبِعُ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنْ كَادُوا [17 \ 73] ، هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَهِيَ هُنَا مُهْمَلَةٌ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِنِ النَّافِيَةِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَخُفِّفَتْ إِنَّ فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَالْغَالِبُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ كَذَلِكَ مَعَ فِعْلٍ إِلَّا إِنْ كَانَ نَاسِخًا كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا

تُلْفِيهِ غَالِبًا بِإِنْ ذِي مُوصَلَا

كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.

بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَثْبِيتَهُ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِصْمَتَهُ لَهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ، وَأَنَّهُ لَوْ رَكَنَ إِلَيْهِمْ لَأَذَاقَهُ ضِعْفَ الْحَيَاةِ

ص: 178