المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ: - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٣

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ:

الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ! ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبُ. فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا» قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.

وَتَحْرِيشُ الشَّيْطَانِ بَيْنَ النَّاسِ وَكَوْنُ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ، وَيَبْعَثُ سَرَايَا فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا، التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: مَا أَشْهَدْتُ إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ ; أَيْ: مَا أَحْضَرْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَأَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى خَلْقِهَا وَلَا خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: وَلَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: مَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ خَلْقَ بَعْضِهِمْ فَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، بَلْ تَفَرَّدْتُ بِخَلْقِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ! فَكَيْفَ تَصْرِفُونَ لَهُمْ حَقِّي وَتَتَّخِذُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَأَنَا خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ لَهُ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْهَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [16 \ 17]، وَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16]، وَقَوْلِهِ: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [31 \ 11]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [35 \ 40]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ [46 \ 4]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أَيْ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ; بَلْ خَلَقْتُهُمْ عَلَى مَا أَرَدْتُ وَكَيْفَ شِئْتُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [18 \‌

‌ 51]

، فِيهِ الْإِظْهَارُ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ الظَّاهِرَ. وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَهُمْ عَضُدًا، كَقَوْلِهِ: مَا أَشْهَدْتُهُمْ وَالنُّكْتَةُ الْبَلَاغِيَّةُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ هِيَ ذَمُّهُ تَعَالَى لَهُمْ بِلَفْظِ

ص: 294

الْإِضْلَالِ. وَقَوْلُهُ «عَضُدًا» أَيْ: أَعْوَانًا.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الضَّالِّينَ الْمُضِلِّينَ لَا تَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.

وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ أُشِيرَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [28 \ 17]، وَالظَّهِيرُ: الْمُعِينُ، وَالْمُضِلُّونَ: الَّذِينَ يُضِلُّونَ أَتْبَاعَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الضَّلَالِ وَإِطْلَاقَاتِهِ فِي الْقُرْآنِ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا.

أَيْ: وَاذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُشْرِكُونَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَوْبِيخًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ مَعِي، فَالْمَفْعُولَانِ مَحْذُوفَانِ: أَيْ: زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِي كَذِبًا وَافْتِرَاءً. أَيِ: ادْعُوهُمْ وَاسْتَغِيثُوا بِهِمْ لِيَنْصُرُوكُمْ وَيَمْنَعُوكُمْ مِنْ عَذَابِي، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، أَيْ: فَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَمْ يُغِيثُوهُمْ. وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ عَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُمْ إِذَا دَعَوْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْقَصَصِ» : وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [28 \ 62 - 64]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 \ 13 - 14]، وَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [46 \ 5]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 81]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [6 \ 94] ، وَالْآيَاتُ فِي تَبَرُّئِهِمْ مِنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَدَمِ اسْتِجَابَتِهِمْ لَهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَخُطْبَةُ الشَّيْطَانِ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» فِي

ص: 295

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ [14 \ 22] ، مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

الْأُولَى: فِي الْمُرَادِ بِالظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «بَيْنَ» ، وَالثَّانِيَةُ: فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ. وَالثَّالِثَةُ: فِي الْمُرَادِ بِالْمَوْبِقِ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا أَقْوَالَهُمْ، وَمَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

أَمَّا الْمَوْبِقُ: فَقِيلَ: الْمُهْلِكُ. وَقِيلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقِيلَ الْمَوْعِدُ. قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا يَقُولُ: مُهْلِكًا، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ «مَوْبِقًا» يَقُولُ: مُهْلِكًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ «مَوْبِقًا» قَالَ. وَادٍ فِي جَهَنَّمَ.

وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قَالَ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قَالَ: هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ فِي النَّارِ، فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ قَالَ: الْمَوْبِقُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: وَادٍ فِي النَّارِ، بَعِيدُ الْقَعْرِ، يُفَرِّقُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَوْبِقًا، قَالَ: هُوَ نَهْرٌ يَسِيلُ نَارًا عَلَى حَافَتَيْهِ حَيَّاتٌ أَمْثَالَ الْبِغَالِ الدَّهْمِ، فَإِذَا ثَارَتْ إِلَيْهِمْ لِتَأْخُذَهُمُ اسْتَغَاثُوا بِالِاقْتِحَامِ فِي النَّارِ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: إِنَّ فِي النَّارِ أَرْبَعَةَ أَوْدِيَةٍ يُعَذِّبُ اللَّهُ بِهَا أَهْلَهَا: غَلِيظٌ، وَمَوْبِقٌ، وَأَثَّامٌ، وَغَيٌّ. انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ. وَنَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: أَنَّ الْمَوْبِقَ: الْمَوْعِدُ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَجَادَ شَرَوْرَى وَالسِّتَّارُ فَلَمْ يَدَعْ

تِعَارًا لَهُ وَالْوَادِيَيْنِ بِمَوْبِقٍ

يَعْنِي: بِمَوْعِدٍ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَوْبِقَ الْمُهْلِكَ، مِنْ قَوْلِهِمْ وَبَقَ يَبِقُ، كَوَعَدَ يَعِدُ،

ص: 296

إِذَا هَلَكَ. وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى وَهِيَ: وَبَقَ يَوْبَقُ كَوَجِلَ يَوْجَلُ، وَلُغَةٌ ثَالِثَةٌ أَيْضًا وَهِيَ: وَبَقَ يَبِقُ كَوَرِثَ يَرِثُ. وَمَعْنَى كُلِّ ذَلِكَ: الْهَلَاكُ. وَالْمَصْدَرُ مِنْ وَبَقَ بِالْفَتْحِ الْوُبُوقُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْوَبْقُ. وَمِنْ وَبَقَ بِالْكَسْرِ الْوَبَقُ بِفَتْحَتَيْنِ عَلَى الْقِيَاسِ. وَأَوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ: أَهْلَكَتْهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا [42 \ 34]، أَيْ: يُهْلِكْهُنَّ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ، «فَمُوبِقٌ نَفْسَهُ أَوْ بَائِعُهَا فَمُعْتِقُهَا» وَحَدِيثُ «السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ» أَيِ: الْمُهْلِكَاتِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَمَنْ يَشْتَرِي حُسْنَ الثَّنَاءِ بِمَالِهِ

يَصُنْ عِرْضَهُ عَنْ كُلِّ شَنْعَاءَ مُوبِقِ

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ، إِنَّ الْمَوْبِقَ الْعَدَاوَةُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْمَجْلِسُ كِلَاهُمَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ. وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ «بَيْنَ» فَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَمَنْ وَافَقَهُ: أَنَّ الْمَوْبِقَ الْعَدَاوَةُ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ ; أَيْ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً ; كَقَوْلِهِ: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [43 \ 67]، وَقَوْلِهِ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [29 \ 25]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَكِنَّ تَفْسِيرَ الْمَوْبِقِ بِالْعَدَاوَةِ بَعِيدٌ كَمَا قَدَّمْنَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْبَيْنِ فِي الْآيَةِ: الْوَصْلُ ; أَيْ: وَجَعَلْنَا تَوَاصُلَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِلْكًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [2 \ 166]، أَيِ: الْمُوَاصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَكَمَا قَالَ: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [19 \ 82]، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [29 \ 25]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا: جَعَلْنَا الْهَلَاكَ بَيْنَهُمْ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ مُعِينٌ عَلَى هَلَاكِ الْآخَرِ لِتَعَاوُنِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْعَذَابِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [43 \ 39]، وَقَوْلُهُ: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 38]، وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا: أَيْ: بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مَوْبِقًا، أَيْ: مُهْلِكًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، فَالدَّاخِلُ فِيهِ، فِي هَلَاكٍ، وَالْخَارِجُ عَنْهُ فِي عَافِيَةٍ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي وَأَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، أَنَّ الْمَعْنَى: وَجَعَلْنَا بَيْنَ الْكُفَّارِ وَبَيْنَ مَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ وَيُشْرِكُونَهُمْ مَعَ اللَّهِ مَوْبِقًا أَيْ: مُهْلِكًا،

ص: 297

لِأَنَّ الْجَمِيعَ يُحِيطُ بِهِمُ الْهَلَاكُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [39 \ 16]، وَقَوْلِهِ: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [7 \ 41]، وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْآيَةَ [21 \ 98]، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: كُلُّ شَيْءٍ حَاجِزٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُسَمَّى مَوْبِقًا، نَقْلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ «بَيْنَهُمْ» قِيلَ رَاجِعٌ إِلَى أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ رَاجِعٌ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ مَعًا. وَقِيلَ رَاجِعٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُهَا لِدَلَالَةِ ظَاهِرِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [18 \ 52]، ثُمَّ قَالَ مُخْبِرًا عَنِ الْعَابِدِينَ وَالْمَعْبُودِينَ: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [18 \ 52]، أَيْ: مُهْلِكًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وَيُحِيطُ بِهِمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [10 \ 28]، أَيْ: فَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ يَقُولُ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا حَمْزَةَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ «نَقُولُ» بِنُونِ الْعَظَمَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَيْ: يَقُولُ هُوَ أَيِ: اللَّهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ يَرَوْنَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا، أَيْ: مُخَالِطُوهَا وَوَاقِعُونَ فِيهَا. وَالظَّنُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الْيَقِينِ ; لِأَنَّهُمْ أَبْصَرُوا الْحَقَائِقَ وَشَاهَدُوا الْوَاقِعَ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْوَاقِعِ ; كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [32 \ 12]، وَكَقَوْلِهِ: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [50 \ 22]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [19 \ 38]، وَمِنْ إِطْلَاقِ الظَّنِّ عَلَى الْيَقِينِ [قَوْلُهُ] تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [2 \ 45 - 46]، أَيْ: يُوقِنُونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [2 \ 249]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [69 \ 19 - 20] ،

ص: 298