الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دُونِهِ إِلَهًا، فَقَدْ قُلْنَا شَطَطًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ.
" لَوْلَا " فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلتَّحْضِيضِ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الطَّلَبِ التَّعْجِيزُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ عَلَى جَوَازِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْبَيِّنِ: الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ عَلَى شِرْكِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَإِبْطَالِ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [6 \ 148]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [46 \ 4]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [43 \ 21]، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [30 \ 35]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [35 \ 40]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [23 \ 117] ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِي شِرْكِهِمْ إِلَّا تَقْلِيدَ آبَائِهِمِ الضَّالِّينَ، كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ:" هَؤُلَاءِ " مُبْتَدَأٌ، وَ " قَوْمًا " قِيلَ عَطْفُ بَيَانٍ، وَالْخَبَرُ جُمْلَةُ " اتَّخَذُوا "، وَقِيلَ " قَوْمُنَا " خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَجُمْلَةُ " اتَّخَذُوا فِي مَحَلِّ حَالٍ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.
أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بِادِّعَاءِ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا، كَمَا افْتَرَاهُ عَلَيْهِ قَوْمُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، كَمَا قَالَ عَنْهُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الْآيَةَ [18 \
15]
.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ افْتِرَاءَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ بِجَعْلِ الشُّرَكَاءِ لَهُ هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ الْآيَةَ [39 \ 32]، وَقَوْلِهِ:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [11 \ 18] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا.
«إِذْ» فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ لِلتَّعْلِيلِ، عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَلِأَجْلِ اعْتِزَالِكُمْ قَوْمَكُمُ الْكُفَّارَ وَمَا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَاتَّخِذُوا الْكَهْفَ مَأْوًى وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ، يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اعْتِزَالَ الْمُؤْمِنِ قَوْمَهُ الْكُفَّارَ وَمَعْبُودِيهِمْ مِنْ أَسْبَابِ لُطْفِ اللَّهِ بِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [19 \ 48 - 50] وَاعْتِزَالُهُمْ إِيَّاهُمْ هُوَ مُجَانَبَتُهُمْ لَهُمْ، وَفِرَارُهُمْ مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، اسْمُ مَوْصُولٍ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي قَوْلِهِ: اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، أَيْ وَاعْتَزَلْتُمْ مَعْبُودِيهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَقِيلَ:«مَا» مَصْدَرِيَّةٌ، أَيِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَاعْتَزَلْتُمْ عِبَادَتَهُمْ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَقَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهَ، قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَالْأَصْنَامَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ; بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الْأَصْنَامَ، وَلَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ.
وَقَوْلُهُ: مِرفَقًا أَيْ مَا تَرْتَفِقُونَ بِهِ، أَيْ تَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ مَعَ تَفْخِيمِ الرَّاءِ، وَقَرَأَهُ بَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَتَرْقِيقِ الرَّاءِ، وَهُمَا قِرَاءَتَانِ وَلُغَتَانِ فِي مَا يُرْتَفَقُ بِهِ، وَفِي عُضْوِ الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفِ، وَأَنْكَرَ الْكِسَائِيُّ فِي «الْمِرْفَقِ» بِمَعْنَى عُضْوِ الْإِنْسَانِ فَتْحَ الْمِيمِ وَكَسْرَ الْفَاءِ، وَقَالَ: هُوَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَزَعَمَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ بِمَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ، أَيْ يُهَيِّئْ لَكُمْ بَدَلًا مِنْ «أَمْرِكُمْ» الصَّعْبِ مِرْفَقًا: وَعَلَى هَذَا الَّذِي زَعَمَ غَايَةٌ ; كَقَوْلِهِ