الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظَهْرِهِ. مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسٌ فُرُطٌ، أَيْ: مُتَقَدِّمٌ لِلْخَيْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَلَقَدْ حَمَيْتُ الْخَيْلَ تَحْمِلُ شَكَّتِي
…
فُرُطٌ وِشَاحِي إِذْ غَدَوْتُ لِجَامَهَا
وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ تَرْجِعُ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ كُلُّهَا، كَقَوْلِ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ «فُرُطًا» أَيْ: ضَيَاعًا. وَكَقَوْلِ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ «فُرُطًا» أَيْ: سَرَفَا، كَقَوْلِ الْفَرَّاءِ «فُرُطًا» أَيْ: مَتْرُوكًا. وَكَقَوْلِ الْأَخْفَشِ «فُرُطًا» أَيْ: مُجَاوِزًا لِلْحَدِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، وَفِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ «الْحَقَّ» مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُهُ، أَيِ: الْحَقُّ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، الْمُتَضَمِّنُ لِدِينِ الْإِسْلَامِ كَائِنٌ مَبْدَؤُهُ مِنْ رَبِّكُمْ جَلَّ وَعَلَا، فَلَيْسَ مِنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ، وَلَا مِنِ افْتِرَاءِ الْكَهَنَةِ، وَلَا مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ. بَلْ هُوَ مِنْ خَالِقِكُمْ جَلَّ وَعَلَا، الَّذِي تَلْزَمُكُمْ طَاعَتُهُ وَتَوْحِيدُهُ، وَلَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الشَّامِلُ لِلصِّدْقِ فِي الْأَخْبَارِ، وَالْعَدْلُ فِي الْأَحْكَامِ، فَلَا حَقَّ إِلَّا مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ الْحَقُّ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرُهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [2 \ 147]، وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [3 \ 60]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَسَبَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْيِيرُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ. وَالتَّهْدِيدُ بِمِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّخْيِيرُ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا، وَهَذَا أَصْرَحُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّهْدِيدُ وَالتَّخْوِيفُ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ عَلَى بَابِهِ لَمَا تَوَعَّدَ فَاعِلَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْمُخَيَّرَ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَعْتَدْنَا [18 \
29]
، أَصْلُهُ مِنَ الِاعْتَادِ، وَالتَّاءُ فِيهِ
أَصْلِيَّةٌ وَلَيْسَتْ مُبْدَلَةً مِنْ دَالٍ عَلَى الْأَصَحِّ ; وَمِنْهُ الْعَتَادُ بِمَعْنَى الْعُدَّةِ لِلشَّيْءِ، وَمَعْنَى «أَعْتَدْنَا» : أَرْصَدْنَا وَأَعْدَدْنَا، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُنَا: الْكُفَّارُ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، وَقَدْ قَدَّمَنَا كَثْرَةَ إِطْلَاقِ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ فِي الْقُرْآنِ. كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الظُّلْمَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي مَخْلُوقٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الظُّلْمِ عَلَى النَّقْصِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [18 \ 33] ، وَأَصْلُ مَعْنَى مَادَّةِ الظُّلْمِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وَضْعِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلِأَجَلِ ذَلِكَ قِيلَ الَّذِي يَضْرِبُ اللَّبَنَ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ: ظَالِمٌ لِوَضْعِهِ ضَرْبَ لَبَنِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ ضَرْبَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ يُضِيعُ زُبْدَهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَقَائِلَةٍ ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي
…
وَهَلْ يَخْفَى عَلَى الْعَكِدِ الظَّلِيمُ
فَقَوْلُهُ «ظَلَمْتُ لَكُمْ سِقَائِي» ، أَيْ: ضَرَبْتُهُ لَكُمْ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ فِي سِقَاءٍ لَهُ ظَلَمَهُ بِنَحْوِ ذَلِكَ:
وَصَاحِبُ صِدْقٍ لَمْ تَرِبْنِي شِكَاتُهُ
…
ظَلَمْتُ وَفِي ظُلْمِي لَهُ عَامِدًا أَجْرُ
وَفِي لُغْزِ الْحَرِيرِيِّ فِي مَقَامَاتِهِ فِي الَّذِي يَضْرِبُ لَبَنَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُوبَ، قَالَ: أَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ ظَالِمًا؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَانَ عَالِمًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُمْ لِلْأَرْضِ الَّتِي حُفِرَ فِيهَا وَلَيْسَتْ مَحَلَّ حَفْرٍ فِي السَّابِقِ: أَرْضٌ مَظْلُومَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
إِلَّا الْأَوَارِي لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا
…
وَالنُّؤَيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ «الْمَظْلُومَةَ» فِي الْبَيْتِ هِيَ الَّتِي ظَلَمَهَا الْمَطَرُ بِتَخَلُّفِهِ عَنْهَا وَقْتَ إِبَّانِهِ الْمُعْتَادَ غَيْرُ صَوَابٍ. وَالصَّوَابُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا قَالُوا لِلتُّرَابِ الْمُخْرَجِ مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ حَفْرِهِ ظَلِيمٌ بِمَعْنَى مَظْلُومٌ ; لِأَنَّهُ حَفْرٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَفْرِ الْمُعْتَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ رَجُلًا مَاتَ وَدُفِنَ:
فَأَصْبَحَ فِي غَبْرَاءَ بَعْدَ إِشَاحَةٍ
…
عَلَى الْعَيْشِ مِرْوَدٌ عَلَيْهَا ظَلِيمُهَا
وَقَوْلُهُ: أَحَاطَ بِهِمْ أَيْ: أَحْدَقَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَقَوْلُهُ: سُرَادِقُهَا [18 \ 29] ، أَصْلُ السُّرَادِقِ وَاحِدُ السُّرَادِقَاتِ الَّتِي تُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ الدَّارِ، وَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ
كُرْسُفٍ فَهُوَ سُرَادِقٌ. وَالْكُرْسُفُ: الْقُطْنُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ أَوِ الْكَذَّابِ الْحِرْمَازِيِّ:
يَا حَكَمُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودِ
…
سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودِ
وَبَيْتٌ مُسَرْدَقٌ: أَيْ مَجْعُولٌ لَهُ سُرَادِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ سَلَامَةَ بْنِ جَنْدَلٍ يَذْكُرُ أبريويز وَقَتْلَهُ لِلنُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ تَحْتَ أَرْجُلِ الْفِيَلَةِ:
هُوَ الْمُدْخِلُ النُّعْمَانَ بَيْتًا سَمَاؤُهُ
…
صُدُورُ الْفُيُولِ بَعْدَ بَيْتٍ مُسَرْدَقِ
هَذَا هُوَ أَصْلُ مَعْنَى السُّرَادِقِ فِي اللُّغَةِ. وَيُطْلِقُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ عَلَى الْحُجْرَةِ الَّتِي حَوْلَ الْفُسْطَاطِ.
وَأَمَّا الْمُرَادُ بِالسُّرَادِقِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ إِحْدَاقُ النَّارِ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : أَيْ: سُورُهَا، قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَغَيْرُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : سُورٌ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ «سُرَادِقُهَا» : عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ كَالْحَظِيرَةِ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ دُخَانٌ يُحِيطُ بِهِمْ. وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْمُرْسَلَاتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [77 \ 30 - 31]، وَ «الْوَاقِعَةِ» فِي قَوْلِهِ: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [56 \ 43 - 44] .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ بِالدُّنْيَا. وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الْبَحْرُ هُوَ جَهَنَّمُ ثُمَّ تَلَا» نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا «ثُمَّ قَالَ وَاللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا أَبَدًا مَا دُمْتُ حَيًّا وَلَا تُصِيبُنِي مِنْهَا قَطْرَةٌ» ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِسُرَادِقِ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ كِثَفُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» وَأَخْرَجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا. قَالَهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَتَبِعَهُ الشَّوْكَانِيُّ. وَحَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ. قَالَ الشَّوْكَانِيُّ: وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورُ عَنِ الْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ النَّارَ مُحِيطَةٌ بِهِمْ مِنْ كُلِّ
جَانِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [7 \ 41]، وَقَالَ: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [39 \ 16]، وَقَالَ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [21 \ 39] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، يَعْنِي إِنْ يَطْلُبُوا الْغَوْثَ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكَرْبِ يُغَاثُوا، يُؤْتَوْا بِغَوْثٍ هُوَ مَاءٌ كَالْمُهْلِ. وَالْمُهْلُ فِي اللُّغَةِ: يُطْلَقُ عَلَى مَا أُذِيبَ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ، كَذَائِبِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى دُرْدِيِّ الزَّيْتِ وَهُوَ عَكَرُهُ. وَالْمُرَادُ بِالْمُهْلِ فِي الْآيَةِ: مَا أُذِيبُ مِنْ جَوَاهِرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: دُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَقِيلَ: هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقَطِرَانِ. وَقِيلَ السُّمُّ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ إِغَاثَةٍ فِي مَاءٍ كَالْمُهْلِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ [18 \ 29] .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ. وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
غَضِبَتْ تَمِيمٌ أَنْ تَقَتَّلَ عَامِرٌ
…
يَوْمَ النِّسَارِ فَأُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ
فَمَعْنَى قَوْلِهِ «أُعْتِبُوا بِالصَّيْلَمِ» : أَيْ: أُرْضُوا بِالسَّيْفِ. يَعْنِي لَيْسَ لَهُمْ مِنَّا إِرْضَاءً إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَقَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَخَيْلٌ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ
…
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ
يَعْنِي لَا تَحِيَّةَ لَهُمْ إِلَّا الضَّرْبُ الْوَجِيعُ. وَإِذَا كَانُوا لَا يُغَاثُونَ إِلَّا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا إِغَاثَةَ لَهُمُ الْبَتَّةَ. وَالْيَاءُ فِي قَوْلِهِ «يَسْتَغِيثُوا» وَالْأَلِفُ فِي قَوْلِهِ «يُغَاثُوا» كِلْتَاهُمَا مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ ; لِأَنَّ مَادَّةَ الِاسْتِغَاثَةِ مِنَ الْأَجْوَفِ الْوَاوِيِّ الْعَيْنِ، وَلَكِنَّ الْعَيْنَ أُعِلَّتْ لِلسَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهَا، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ مِنْ ذِي لِينٍ آتِ عَيْنَ فِعْلٍ كَأَبِنْ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، أَيْ: يَحْرِقُهَا حَتَّى تَسْقُطَ فَرْوَةُ الْوَجْهِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا وَعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ:«كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ» ، هُوَ كَعَكَرِ الزَّيْتِ فَإِذَا قَرُبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ، قَالَ
ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي) الْكَافِي الشَّافِ، فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ (: أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَاسْتَغْرَبَهُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، وَتُعُقِّبَ قَوْلُهُ بِأَنَّ أَحْمَدَ وَأَبَا يَعْلَى أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ، وَبِأَنَّ ابْنَ حِبَّانَ وَالْحَاكِمَ أَخْرَجَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بِئْسَ الشَّرَابُ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ فِيهِ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: بِئْسَ الشَّرَابُ ذَلِكَ الْمَاءُ الَّذِي يُغَاثُونَ بِهِ. وَالضَّمِيرُ الْفَاعِلُ فِي قَوْلِهِ «سَاءَتْ» عَائِدٌ إِلَى النَّارِ.
وَالْمُرْتَفَقُ: مَكَانُ الِارْتِفَاقِ. وَأَصْلُهُ أَنْ يَتَّكِئَ الْإِنْسَانُ مُعْتَمِدًا عَلَى مِرْفَقِهِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُرْتَفَقِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ فِي الْمَعْنَى. قِيلَ مُرْتَفَقًا. أَيْ: مَنْزِلًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ. وَقِيلَ مَقَرًّا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَطَاءٍ. وَقِيلَ مَجْلِسًا وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْعُتْبِيِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُرْتَفَقًا أَيْ: مُجْتَمَعًا. فَهُوَ عِنْدَهُ مَكَانُ الِارْتِفَاقِ بِمَعْنَى مُرَافَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي النَّارِ.
وَحَاصِلُ مَعْنَى الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّارَ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ هِيَ، وَبِئْسَ الْمَقَامُ هِيَ. وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [25 \ 66] ، وَكَوْنُ أَصْلِ الِارْتِفَاقِ هُوَ الِاتِّكَاءُ عَلَى الْمِرْفَقِ، مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
نَامَ الْخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْلَ مُرْتَفِقًا
…
كَأَنَّ عَيْنِيَ فِيهَا الصَّابُ مَذْبُوحُ
وَيُرْوَى «وَبِتُّ اللَّيْلَ مُشْتَجِرًا» وَعَلَيْهِ فَلَا شَاهِدَ فِي الْبَيْتِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ:
قَدْ بِتُّ مُرْتَفِقًا لِلنَّجْمِ أَرْقُبُهُ
…
حَيْرَانَ ذَا حَذَرٍ لَوْ يَنْفَعُ الْحَذَرُ
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
قَالَتْ لَهُ وَارْتَفَقَتْ أَلَا فَتًى
…
يَسُوقُ بِالْقَوْمِ غَزَالَاتِ الضُّحَا
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الشَّرَابِ، الَّذِي يُسْقَى بِهِ أَهْلُ النَّارِ، جَاءَ نَحْوُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [6 \ 70]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [47 \ 15]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [88 \ 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [55 \ 44]، وَالْحَمِيمُ الْآنِي: مِنَ الْمَاءِ الْمُتَنَاهِي فِي الْحَرَارَةِ.