الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257] وَمَنْ أُخْرِجَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَبْصَرَ الْحَقَّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ النُّورَ يَكْشِفُ لَهُ عَنِ الْحَقَائِقِ فَيُرِيهِ الْحَقَّ حَقًّا، وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا، وَقَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [67 \ 22]، وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [35 \ 19 - 22]، وَقَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْآيَةَ
[11
\ 24] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يُكْسِبُ الْإِنْسَانَ حَيَاةً بَدَلًا مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، وَنُورًا بَدَلًا مِنَ الظُّلُمَاتِ الَّتِي كَانَ فِيهَا.
وَهَذَا النُّورُ عَظِيمٌ يَكْشِفُ الْحَقَائِقَ كَشْفًا عَظِيمًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ - إِلَى قَوْلِهِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [24 \ 35]، وَلَمَّا كَانَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يَقْتَضِي تَتَبُّعَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَجَمِيعِ السُّنَّةِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [59 \ 7] ، وَكَانَ تَتَبُّعُ جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، اقْتَصَرْنَا عَلَى هَذِهِ الْجُمَلِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ هَدْيِ الْقُرْآنِ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ تَنْبِيهًا بِهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ، وَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ.
وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ [17 \ 11] ، كَأَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِالْهَلَاكِ عِنْدَ الضَّجَرِ مِنْ أَمْرٍ، فَيَقُولُ اللَّهُمَّ أَهْلِكْنِي، أَوْ أَهْلِكْ وَلَدِي، فَيَدْعُو بِالشَّرِّ دُعَاءً لَا يُحِبُّ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، وَقَوْلُهُ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ أَيْ يَدْعُو بِالشَّرِّ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ عِنْدَ الضَّجَرِ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْ وَلَدِي، كَمَا يَقُولُ فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّجَرِ: اللَّهُمَّ عَافِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ بِالشَّرِّ لَهَلَكَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [10 \ 11] أَيْ: لَوْ عَجَّلَ لَهُمُ الْإِجَابَةَ بِالشَّرِّ كَمَا يُعَجِّلُ لَهُمُ الْإِجَابَةَ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ; أَيْ لَهَلَكُوا
وَمَاتُوا، فَالِاسْتِعْجَالُ بِمَعْنَى التَّعْجِيلِ.
وَيَدْخُلُ فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ بِالشَّرِّ قَوْلُ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيِّ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [8 \ 32] .
وَمِمَّنْ فَسَّرَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ بِمَا ذَكَرْنَا: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَهُوَ أَصَحُّ التَّفْسِيرَيْنِ لِدَلَالَةِ آيَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ فَيَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَالسَّلَامَةَ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، كَذَلِكَ قَدْ يَدْعُو بِالشَّرِّ فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ لَهُ الزِّنَى بِمَفْسُوقَتِهِ، أَوْ قَتْلَ مُسْلِمٍ هُوَ عَدُوٌّ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنُ جَامِعٍ:
أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِيمَنْ يَطُوفُ
…
وَأَرْفَعُ مِنْ مِئْزَرِي الْمُسْبَلِ
وَأَسْجُدُ بِاللَّيْلِ حَتَّى الصَّبَاحَ
…
وَأَتْلُو مِنَ الْمُحْكَمِ الْمُنَزَّلِ
عَسَى فَارِجُ الْهَمَّ عَنْ يُوسُفَ
…
يُسَخِّرُ لِي رَبَّةَ الْمَحْمَلِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، أَيْ عَلَامَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكُ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَكَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ [41 \ 37]، وَقَوْلِهِ: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [36 \ 37]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [10 \ 6]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [3 \ 190]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ - إِلَى قَوْلِهِ - لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [2 \ 164]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [33 \ 80]، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [25 \ 62]، وَقَوْلِهِ: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [39 \ 5]، وَقَوْلِهِ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [6 \ 96]، وَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا الْآيَةَ [91 \ 1 - 4] ، وَقَوْلِهِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى الْآيَةَ [92 \ 1، 2]، وَقَوْلِهِ: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى الْآيَةَ [93 \ 1 - 2] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [17 \ 12] يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِمًا مُنَاسِبًا لِلْهُدُوءِ وَالرَّاحَةِ، وَالنَّهَارَ مُضِيئًا مُنَاسِبًا لِلْحَرَكَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا، فَيَسْعَوْنَ فِي مَعَاشِهِمْ فِي النَّهَارِ، وَيَسْتَرِيحُونَ مِنْ تَعَبِ الْعَمَلِ بِاللَّيْلِ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَنُ كُلُّهُ لَيْلًا لَصَعُبَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ نَهَارًا لَأَهْلَكَهُمُ التَّعَبُ مِنْ دَوَامِ الْعَمَلِ.
فَكَمَا أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَهُمَا أَيْضًا نِعْمَتَانِ مَنْ نِعَمِهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [28 \ 71 - 73] .
فَقَوْلُهُ: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، أَيْ فِي اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [28 \ 73] ، أَيْ فِي النَّهَارِ، وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا الْآيَةَ [78 \ 9 - 11]، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [25 \ 47]، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [30 \ 23]، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [6 \ 60] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [17 \ 12] ، بَيَّنَ فِيهِ نِعْمَةً أُخْرَى عَلَى خُلُقِهِ، وَهِيَ مَعْرِفَتُهُمْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، لِأَنَّهُمْ بِاخْتِلَافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْلَمُونَ عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُونَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيُصَلُّوا فِيهِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَشْهُرَ الْحَجِّ، وَيَعْلَمُونَ مُضِيَّ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ لِمَنْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [65 \ 4]، وَقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [2 \ 234] . وَيَعْرِفُونَ مُضِيِّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْإِجَارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [10 \ 5] . وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [2 \ 189] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [17 \ 12] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَآيَةُ اللَّيْلِ هِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ هِيَ الشَّمْسُ، وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ قِيلَ مَعْنَاهُ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه، وَمُجَاهِدٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
وَقِيلَ: مَعْنَى فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ [17 \ 12] ، أَيْ لَمْ نَجْعَلْ فِي الْقَمَرِ شُعَاعًا كَشُعَاعِ الشَّمْسِ تَرَى بِهِ الْأَشْيَاءَ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، فَنَقُصُّ نُورَ الْقَمَرِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ هُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
وَهَذَا أَظْهَرُ عِنْدِي لِمُقَابَلَتِهِ تَعَالَى لَهُ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [17 \ 12]، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى مَحْوِ آيَةِ اللَّيْلِ: السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، وَبَعْضُ أَجِلَّاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَوْلُهُ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ ; أَيِ الشَّمْسَ مُبْصِرَةً، أَيْ: ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارَ: إِذَا أَضَاءَ وَصَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ
بِهَا، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أَمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى
…
وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمُحِبِّ بِنَائِمِ
وَغَايَةُ مَا فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّفْسِيرِ: حَذْفُ مُضَافٍ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [17 \ 12] ، فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَهُمَا لَا هُمَا أَنْفَسَهُمَا، وَحَذْفُ الْمُضَافِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [12 \ 82]، وَقَوْلُهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [4 \ 23] ; أَيْ نِكَاحُهَا، وَقَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [5 \ 3] ، أَيْ أَكْلُهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ تَقَدَّمَتْ مُوَضَّحَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَيْسَ فِيهَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ نَفْسُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ، تَنْزِيلًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَعْنَى، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: شَهْرُ رَمَضَانَ الْآيَةَ [2 \ 185] ، وَرَمَضَانُ هُوَ نَفْسُ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ الْآيَةَ [12 \ 109] ، وَالدَّارُ هِيَ الْآخِرَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ [6 \ 32] بِالتَّعْرِيفِ، وَالْآخِرَةُ نَعْتٌ لِلدَّارِ، وَقَوْلُهُ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [50 \ 16] ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقَوْلُهُ: وَمَكْرَ السَّيِّئِ الْآيَةَ [35 \ 43]، وَالْمَكْرُ هُوَ السَّيْءُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [35 \ 43]
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَبِكْرِ الْمُقَانَاةِ الْبَيَاضِ بِصُفْرَةٍ
…
غَذَّاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ
لِأَنَّ الْمُقَانَاةَ هِيَ الْبِكْرُ بِعَيْنِهَا، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَمِشَكٍّ سَابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا
…
بِالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِ
لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِشَكِّ: السَّابِغَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى السَّابِغَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمِشَكِّ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا: أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ; لِأَنَّ تَغَايُرَ اللَّفْظَيْنِ رُبَّمَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَثْرَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَجَزَمَ بِذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدَ
…
مَعْنًى وَأَوَّلْ مُوَهَّمًا إِذَا وَرَدَ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ
…
حَتْمًا وَإِلَّا أَتْبَعَ الَّذِي رَدَفَ
لِأَنَّ إِيجَابَ إِضَافَةِ الْعَلَمِ إِلَى اللَّقَبِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْمَعْنَى إِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّأْوِيلِ، وَمَنْعُ الْإِتْبَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَسَالِيبِهَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ عَلَى الْمُحْتَاجِ إِلَى تَأْوِيلٍ كَمَا تَرَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَالْمَعْنَى: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلَنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ مُبْصِرَةً، أَيْ: جَعَلْنَا اللَّيْلَ مَمْحُوَّ الضَّوْءِ مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا تُسْتَبَانُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا، أَيْ تُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [17 \ 12] تَقَدَّمَ إِيضَاحَهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا