المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ فِعْلُ الْكُفَّارِ مَعَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٣

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ فِعْلُ الْكُفَّارِ مَعَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ

فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ هُوَ فِعْلُ الْكُفَّارِ مَعَ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ ; كَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [14 \ 13]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [7 \ 88 - 89]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [2 \‌

‌ 21

7] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

مَسْأَلَةٌ

أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْعُذْرَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ [18 \ 20] ، ظَاهِرٌ فِي إِكْرَاهِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ طَوَاعِيَتِهِمْ، وَمَعَ هَذَا قَالَ عَنْهُمْ: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ بِعُذْرٍ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى حَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ فِي الَّذِي دَخَلَ النَّارَ فِي ذُبَابٍ قَرَّبَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْخَوْفِ مِنَ الْقَتْلِ ; لِأَنَّ صَاحِبَهُ الَّذِي امْتَنَعَ أَنْ يُقَرِّبَ وَلَوْ ذُبَابًا قَتَلُوهُ.

وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا دَلِيلُ الْخِطَابِ، أَيْ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ; فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: «تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي» أَنَّ غَيْرَ أُمَّتِهِ مِنَ الْأُمَمِ لَمْ يَتَجَاوَزْ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَدْ تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا بِالْقَبُولِ، وَلَهُ شَوَاهِدُ ثَابِتَةٌ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا) دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ (فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ الْآيَةَ [18 \ 20] ; وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، أَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُذْرِهِمْ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [16 \ 106] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.

لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ، هَلْ هُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنَ الْكُفَّارِ؟ وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ فِيهِمْ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ كُفَّارٌ، وَالثَّانِي أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ;

ص: 251

وَهِيَ قَوْلُهُمْ: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [18 \ 21] ; لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْمَسَاجِدِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ لَا مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ عَلَى الْقُبُورِ مِنْ فِعْلِ الْمَلْعُونِينَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا مِنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى بِأَدِلَّتِهِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ الْآيَةَ [15 \ 80] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.

أَخْبَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي عِدَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ عَلَى أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ، وَجَاءَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الصَّحِيحُ وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ الْآيَةَ [18 \ 22]، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، أَيْ: قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ، كَمَنْ يَرْمِي إِلَى مَكَانٍ لَا يَعْرِفُهُ فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يُصِيبُ، وَإِنْ أَصَابَ بِلَا قَصْدٍ ; كَقَوْلِهِ: وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [34 \ 53] .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الرَّجْمُ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، يُقَالُ لِكُلِّ مَا يُخْرَصُ رُجِمَ فِيهِ وَمَرْجُومٌ وَمُرَجَّمٌ كَمَا قَالَ زُهَيْرٌ:

وَمَا الْحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ

وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ

ثُمَّ حَكَى الْقَوْلَ الثَّالِثَ بِقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فَأَقَرَّهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الصَّحِيحُ، وَقَوْلُهُ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنْ ذَلِكَ الْقَلِيلِ الَّذِي يَعْلَمُهُمْ، كَانُوا سَبْعَةً. وَقَوْلُهُ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فِيهِ تَعْلِيمٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَرُدُّوا عِلْمَ الْأَشْيَاءِ إِلَى خَالِقِهَا جَلَّ وَعَلَا وَإِنْ عَلِمُوا بِهَا، كَمَا أَعْلَمَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِمُدَّةٍ لُبْثِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25]، ثُمَّ أَمَرَهُ مَعَ ذَلِكَ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [18 \ 26]، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِرَابِعٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. مَعَ أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ وَابْنَ جُرَيْجٍ قَالَا: كَانُوا ثَمَانِيَةً، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.

نَهَى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مُعَلِّقًا ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَةِ

ص: 252

اللَّهِ الَّذِي لَا يَقَعُ شَيْءٌ فِي الْعَالَمِ كَائِنًا مَا كَانَ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَقَوْلُهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ [18 \ 23]، أَيْ: لَا تَقُولَنَّ لِأَجْلِ شَيْءٍ تَعْزِمُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ الشَّيْءَ غَدًا.

وَالْمُرَادُ بِالْغَدِ: مَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ لَا خُصُوصُ الْغَدِ. وَمِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِطْلَاقُ الْغَدِ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ مِنَ الزَّمَانِ ; وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ

وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمُ

يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ الْغَدِ الْمُعَيَّنِ بِذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 24] ، إِلَّا قَائِلًا فِي ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَيْ: مُعَلِّقًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، أَوْ لَا تَقُولَنَّهُ إِلَّا بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ: إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، يَعْنِي إِلَّا مُتَلَبِّسًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ قَائِلًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ.

وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ فِي الْأَرْضِ،) يَعْنُونَ ذَا الْقَرْنَيْنِ (، وَعَنْ فِتْيَةٍ لَهُمْ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، يَعْنُونَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا عَمَّا سَأَلْتُمْ عَنْهُ» ، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةً، قِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَأَحْزَنَهُ تَأَخُّرُ الْوَحْيِ عَنْهُ، ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الثَّلَاثَةِ، قَالَ فِي الرُّوحِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي الْآيَةَ [17 \ 85] ، وَقَالَ فِي الْفِتْيَةِ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ الْآيَاتِ [18 \ 13] إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِمْ، وَقَالَ فِي الرَّجُلِ الطَّوَّافِ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا [18 \ 83] الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ قِصَّتِهِ.

فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَسَبَبَ نُزُولِهَا، وَأَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِيهَا عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ «سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا» ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَةٌ أُخْرَى بِضَمِيمَةِ بَيَانِ السُّنَّةِ لَهَا عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ سُلَيْمَانَ عَلَى عَدَمِ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، كَمَا عَاتَبَ نَبِيَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ فِتْنَةُ سُلَيْمَانَ بِذَلِكَ كَانَتْ أَشَدَّ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً - وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعِينَ امْرَأَةً، وَفِي رِوَايَةٍ مِائَةِ امْرَأَةٍ - تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، فَقِيلَ لَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ:«قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَلَمْ يَقُلْ، فَطَافَ بِهِنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ نِصْفَ

ص: 253

إِنْسَانٍ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَحْنَثْ وَكَانَ دَرْكًا لِحَاجَتِهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«وَلَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ» اهـ.

فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ بَيَّنَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا الْآيَةَ [38 \ 34] ، وَأَنَّ فِتْنَةَ سُلَيْمَانَ كَانَتْ بِسَبَبِ تَرْكِهِ قَوْلَهُ «إِنْ شَاءَ اللَّهُ» ، وَأَنَّهُ لَمْ يَلِدْ مِنْ تِلْكَ النِّسَاءِ إِلَّا وَاحِدَةً نِصْفَ إِنْسَانٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْجَسَدَ الَّذِي هُوَ نِصْفُ إِنْسَانٍ هُوَ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَى كُرْسِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا الْآيَةَ، فَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ الْآيَةَ، مِنْ قِصَّةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي أَخَذَ الْخَاتَمَ وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ، وَطَرَدَ سُلَيْمَانَ عَنْ مُلْكِهِ ; حَتَّى وَجَدَ الْخَاتَمَ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ الَّتِي أَعْطَاهَا لَهُ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ عِنْدَهُ بِأَجْرٍ مَطْرُودًا عَنْ مُلْكِهِ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، لَا يَخْفَى أَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ. فَهِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا يَخْفَى أَنَّهَا بَاطِلَةٌ.

وَالظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَيْهِ فِي الْجُلَّةِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ.

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ قُلْتَ سَأَفْعَلُ غَدًا كَذَا وَنَسِيتَ أَنْ تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; أَيِ: اذْكُرْ رَبَّكَ مُعَلِّقًا عَلَى مَشِيئَتِهِ مَا تَقُولُ أَنَّكَ سَتَفْعَلُهُ غَدًا إِذَا تَذَكَّرْتَ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الظَّاهِرُ ; لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23، 24] ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا قَبْلَهَا، أَنَّ الْمَعْنَى: إِذَا وَقَعَ مِنْكَ النِّسْيَانُ لِشَيْءٍ فَاذْكُرِ اللَّهَ ; لِأَنَّ النِّسْيَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [18 \ 63]، وَكَقَوْلِهِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [58 \ 19]، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [6 \ 68] ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 254

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [43 \ 36]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الْآيَةَ [114 \ 1 - 4] ; أَيِ: الْوَسْوَاسِ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، الْخَنَّاسِ: الَّذِي يَخْنِسُ وَيَتَأَخَّرُ صَاغِرًا عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِذَا ذَهَبَ الشَّيْطَانُ النِّسْيَانَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [18 \ 24]، أَيْ: صَلِّ الصَّلَاةَ الَّتِي كُنْتَ نَاسِيًا لَهَا عِنْدَ ذِكْرِكَ لَهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [20 \ 14] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِذَا نَسِيتَ، أَيْ: إِذَا غَضِبْتَ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ.

مَسْأَلَةٌ

اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ زَمَنًا طَوِيلًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى شَهْرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِلَى سَنَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ: لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ أَبَدًا. وَوَجَّهَ أَخْذَهُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ سَيَفْعَلُ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ; أَيْ: إِنْ نَسِيتَ تَسْتَثْنِي بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاسْتَثْنِ إِذَا تَذَكَّرْتَ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِاتِّصَالٍ وَلَا قُرْبٍ.

وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مُقْتَرِنًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَأَخِّرَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَا تُحَلُّ بِهِ الْيَمِينُ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَأَخِّرُ يَصِحُّ لَمَا عُلِمَ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ تَقَرَّرَ عَقْدٌ وَلَا يَمِينٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ طُرُوِّ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى. وَيُحْكَى عَنِ الْمَنْصُورِ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله يُخَالِفُ مَذْهَبَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ ; فَاسْتَحْضَرَهُ لِيُنْكِرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ لِلْمَنْصُورِ: هَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكَ! إِنَّك تَأْخُذُ الْبَيْعَةَ بِالْأَيْمَانِ، أَفَتَرْضَى أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ عِنْدِكَ فَيَسْتَثْنَوْا فَيَخْرُجُوا عَلَيْكَ! ؟ فَاسْتَحْسَنَ كَلَامَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ.

فَائِدَةٌ

قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ: سَمِعْتُ فَتَاةً بِبَغْدَادَ تَقُولُ لِجَارَتِهَا: لَوْ كَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [38 \ 44] ، بَلْ يَقُولُ اسْتَثْنِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحٍ، وَقَوْلِهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:

ص: 255

بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَطِّي قَالَا

بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا

وَفِي الْبَوَاقِي دُونَ مَا اضْطِرَارِ

وَأَبْطَلَنْ بِالصَّمْتِ لِلتِّذْكَارِ

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ رضي الله عنهما فِيمَا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَأَخِّرِ.

فَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ اللَّهَ عَاتَبَ نَبِيَّهُ عَلَى قَوْلِهِ إِنَّهُ سَيَفْعَلُ كَذَا غَدًا، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَإِذَا نَسِيَ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ ثُمَّ تَذَكَّرَ وَلَوْ بَعْدَ طُولٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ، وَيَكُونَ قَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى مَنْ لَا يَقَعُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، فَنَتِيجَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ: هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَةِ تَرِكَةِ الْمُوجِبِ لِلْعِتَابِ السَّابِقِ، لَا أَنَّهُ يُحِلُّ الْيَمِينَ لِأَنَّ تَدَارُكَهَا قَدْ فَاتَ بِالِانْفِصَالِ، هَذَا هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَلَا إِشْكَالَ.

وَأَجَابَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِجَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ نَوَى الِاسْتِثْنَاءَ بِقَلْبِهِ وَنَسِيَ النُّطْقَ بِهِ بِلِسَانِهِ، فَأَظْهَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي نَوَاهُ وَقْتَ الْيَمِينِ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِعِلْمِ الْغَيْبِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [27 \ 65]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [13 \ 9]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الْآيَةَ [3 \ 179]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ الْآيَةَ [11 \ 123]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [6 \ 59]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [10 \ 61]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [34 \ 3] ، وَقَوْلِهِ

ص: 256

تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ يُطْلِعُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ وَحْيِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [72 \ 26 - 27]، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ [3 \ 179] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.

أَيْ: مَا أَبْصَرَهُ وَمَا أَسْمَعَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنِ اتِّصَافِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [42 \ 11]، وَقَوْلِهِ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [58 \ 1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [22 \ 75] ، وَالْآيَاتُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ مِنْ دُونِهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ هُوَ وَلِيُّهُمْ جَلَّ وَعَلَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [2 \ 257]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [10 \ 62] ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلِيَاؤُهُ، وَالْوَلِيُّ: هُوَ مَنِ انْعَقَدَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ سَبَبٌ يُوَالِيكَ وَتُوَالِيهِ بِهِ، فَالْإِيمَانُ سَبَبٌ يُوَالِي بِهِ الْمُؤْمِنِينَ رَبَّهُمْ بِالطَّاعَةِ، وَيُوَالِيهِمْ بِهِ الثَّوَابَ وَالنَّصْرَ وَالْإِعَانَةَ.

وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [5 \ 55]، وَقَوْلِهِ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ الْآيَةَ [9 \ 671]، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [23 \ 6] .

وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ هِيَ وِلَايَةُ الثَّوَابِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ، فَلَا تُنَافِي أَنَّهُ مَوْلَى

ص: 257

الْكَافِرِينَ وِلَايَةَ مُلْكٍ وَقَهْرٍ وَنُفُوذٍ وَمَشِيئَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10 \ 30]، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ رَاجِعٌ لِأَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمَفْهُومَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: «مَا لَهُمْ» رَاجِعٌ لِمُعَاصِرِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكُفَّارِ، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنَّ وِلَايَةَ الْجَمِيعِ لِخَالِقِهِمْ جَلَّ وَعَلَا، وَأَنَّ مِنْهَا وِلَايَةَ ثَوَابٍ وَتَوْفِيقٍ وَإِعَانَةٍ، وَوِلَايَةَ مُلْكٍ وَقَهْرٍ وَنُفُوذٍ وَمَشِيئَةٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.

قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ عَامِرٍ «وَلَا يُشْرِكُ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْكَافِ عَلَى الْخَبَرِ، وَلَا نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: وَلَا يُشْرِكُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَحَدًا فِي حُكْمِهِ، بَلِ الْحُكْمُ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ، فَالْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ تَعَالَى، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ، وَالْقَضَاءُ مَا قَضَاهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنَ السَّبْعَةِ ; «وَلَا تُشْرِكْ» بِضَمِّ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَسُكُونِ الْكَافِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ، أَيْ: لَا تُشْرِكْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَوْ لَا تُشْرِكْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَحَدًا فِي حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، بَلْ أَخْلِصِ الْحُكْمَ لِلَّهِ مِنْ شَوَائِبِ شِرْكِ غَيْرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَحُكْمُهُ جَلَّ وَعَلَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا شَامِلٌ لِكُلِّ مَا يَقْضِيهِ جَلَّ وَعَلَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ التَّشْرِيعُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْحُكْمِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [12 \ 40]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ الْآيَةَ [12 \ 67]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [40 \ 12]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 88]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 70]، وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [5 \ 50]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [6 \ 114] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

ص: 258

وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، كَقَوْلِهِ: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [18 \ 26] ، أَنَّ مُتَّبِعِي أَحْكَامِ الْمُشَرِّعِينَ غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِيمَنِ اتَّبَعَ تَشْرِيعَ الشَّيْطَانِ فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ بِدَعْوَى أَنَّهَا ذَبِيحَةُ اللَّهِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [6 \ 121] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ بِطَاعَتِهِمْ، وَهَذَا الْإِشْرَاكُ فِي الطَّاعَةِ، وَاتِّبَاعِ التَّشْرِيعِ الْمُخَالِفِ لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُرَادُ بِعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [36 \ 60، 61]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [19 \ 44]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [4 \ 117]، أَيْ: مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا، أَيْ: وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ تَشْرِيعِهِ، وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ يُطَاعُونَ فِيمَا زَيَّنُوا مِنَ الْمَعَاصِي شُرَكَاءَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ الْآيَةَ [6 \ 137]، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [9 \ 31] ، فَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ إِيَّاهُمْ أَرْبَابًا.

وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا: أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي «سُورَةِ النِّسَاءِ» بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى غَيْرِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ يَتَعَجَّبُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ دَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ مَعَ إِرَادَةِ التَّحَاكُمِ إِلَى الطَّاغُوتِ بَالِغَةٌ مِنَ الْكَذِبِ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعَجَبُ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [4 \ 60] .

وَبِهَذِهِ النُّصُوصِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَظْهَرُ غَايَةَ الظُّهُورِ: أَنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ الَّتِي شَرَعَهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَةِ أَوْلِيَائِهِ مُخَالَفَةً لِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ إِلَّا مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ، وَأَعْمَاهُ عَنْ نُورِ الْوَحْيِ مِثْلَهُمْ.

ص: 259

تَنْبِيهٌ

اعْلَمْ، أَنَّهُ يَجِبُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ النِّظَامِ الْوَضْعِيِّ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْكِيمُهُ الْكُفْرَ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَبَيْنَ النِّظَامِ الَّذِي لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ النِّظَامَ قِسْمَانِ: إِدَارِيٌّ، وَشَرْعِيٌّ، أَمَّا الْإِدَارِيُّ: الَّذِي يُرَادُ بِهِ ضَبْطُ الْأُمُورِ وَإِتْقَانُهَا عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلشَّرْعِ، فَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَلَا مُخَالِفَ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ عَمِلَ عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَا كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَكَتْبِهِ أَسْمَاءَ الْجُنْدِ فِي دِيوَانٍ لِأَجْلِ الضَّبْطِ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ غَابَ وَمَنْ حَضَرَ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْمَقْصُودِ مِنْهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَحْمِلُ دِيَةَ الْخَطَأِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِتَخَلُّفِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ وَصَلَ تَبُوكَ صلى الله عليه وسلم، وَكَاشْتِرَائِهِ - أَعْنِي عُمَرَ رضي الله عنه دَارَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا سِجْنًا فِي مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ، مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَتَّخِذْ سِجْنًا هُوَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ، فَمِثْلُ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْإِدَارِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ لِإِتْقَانِ الْأُمُورِ مِمَّا لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ لَا بَأْسَ بِهِ، كَتَنْظِيمِ شُئُونِ الْمُوَظَّفِينَ، وَتَنْظِيمِ إِدَارَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَنْظِمَةِ الْوَضْعِيَّةِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ.

وَأَمَّا النِّظَامُ الشَّرْعِيُّ الْمُخَالِفُ لِتَشْرِيعِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَتَحْكِيمُهُ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، كَدَعْوَى أَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِإِنْصَافٍ، وَأَنَّهُمَا يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْمِيرَاثِ. وَكَدَعْوَى أَنَّ تَعَدُّدَ الزَّوْجَاتِ ظُلْمٌ، وَأَنَّ الطَّلَاقَ ظُلْمٌ لِلْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ وَالْقَطْعَ وَنَحْوَهُمَا أَعْمَالٌ وَحْشِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِعْلُهَا بِالْإِنْسَانِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.

فَتَحْكِيمُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ النِّظَامِ فِي أَنْفُسِ الْمُجْتَمَعِ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ كُفْرٌ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَتَمَرُّدٌ عَلَى نِظَامِ السَّمَاءِ الَّذِي وَضَعَهُ مَنْ خَلَقَ الْخَلَائِقَ كُلَّهَا وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِهَا سبحانه وتعالى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُشَرِّعٌ آخَرُ عُلُوًّا كَبِيرًا أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [42 \ 21] ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] ، وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [16 \ 116]، وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةً وَافِيَةً مِنْ هَذَا النَّوْعِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الْآيَةَ [17 \ 9] .

ص: 260