الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَا سَيْفُ الْعَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي
…
حَمِيدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا
وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
فَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالُ الْقَوَافِي
…
بَعْدَ الْمَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارًا
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ يُحَاوِرُهُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، وَالْمُحَاوَرَةُ: الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [58 \ 1]، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
لَوْ كَانَ يَدْرِي مَا الْمُحَاوَرَةُ اشْتَكَى
…
وَلَكَانَ لَوْ عَلِمَ الْجَوَابَ مُكَلِّمِي
وَكَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ فِي الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا فِي قِصَّتِهِمَا كَبَيَانِ أَسْمَائِهِمَا، وَمِنْ أَيِّ النَّاسِ هُمَا أَعْرَضْنَا عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنْ عَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهِ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُقْنِعِ عَلَيْهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا.
مَعْنَى قَوْلِهِ: «غَوْرًا» أَيْ: غَائِرًا ; فَهُوَ مِنَ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ ; كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا وَالْغَائِرُ: ضِدُّ النَّابِعِ، وَقَوْلُهُ: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [18 \ 41] ; لِأَنَّ اللَّهَ إِذَا أَعْدَمَ مَاءَهَا بَعْدَ وُجُودِهِ، لَا تَجِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَكَ بِهِ غَيْرَهُ جَلَّ وَعَلَا. وَأَشَارَ إِلَى نَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [67 \ 30]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ: لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَنَا بِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ; كَمَا قَالَ هُنَا: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [18 \ 41] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبَا.
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قِرَاءَاتٌ سَبْعِيَّةٌ، وَأَقْوَالًا لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ، بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ، يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُرْآنٌ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ فِي الْقُرْآنِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ [18 \
43]
، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِئَةٌ» بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَوْلَهُ: الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [18 \ 44] ، قَرَأَهُ السَّبْعَةُ
مَا عَدَا حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيَّ أَيْضًا «الْوَلَايَةُ» بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَقَوْلَهُ «الْحَقِّ» قَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا أَبَا عَمْرٍو وَالْكِسَائِيَّ بِالْخَفْضِ نَعْتَا «لِلَّهِ» ، وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ «الْوَلَايَةُ لِلَّهِ» بِفَتْحِ الْوَاوِ فَإِنَّ مَعْنَاهَا: الْمُوَالَاةُ وَالصِّلَةُ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَتِلْكَ الْحَالِ تَكُونُ الْوَلَايَةُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لِلَّهِ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ إِذَا رَأَى الْعَذَابَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [40 \ 84]، وَقَوْلِهِ فِي فِرْعَوْنَ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [10 \ 90 - 91] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَلَايَةَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَقَامِ وَتِلْكَ الْحَالِ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَيُوَالِي فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَلَايَةَ رَحْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [2 \ 257]، وَقَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] ، وَلَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَلَايَةُ الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10 \ 30] ، وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَالْوِلَايَةُ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، وَالْآيَةُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ; كَقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [40 \ 16]، وَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [25 \ 26]، وَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [22 \ 56] ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «الْحَقِّ» بِالْجَرِّ نَعْتًا لِلَّهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ الْآيَةَ [18 \ 44]، وَقَوْلِهِ: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الْآيَةَ [10 \ 32]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [24 \ 25] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ نَعْتًا لِلْوَلَايَةِ، عَلَى أَنَّ الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْ هَذَا الْكَافِرِ: مِنْ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ ذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَقَوْلِهِ فِي قَارُونَ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ [28 \ 81] ،
وَقَوْلِهِ: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [86 \ 10]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ: هُنَالِكَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَالْوَقْفُ تَامٌّ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالظَّرْفُ الَّذِي هُوَ «هُنَالِكَ» عَامِلُهُ مَا بَعْدَهُ، أَيِ: الْوَلَايَةُ كَائِنَةٌ لِلَّهِ هُنَالِكَ. وَعَلَى الثَّانِي فَالْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ «مُنْتَصِرًا» أَيْ: لَمْ يَكُنِ انْتِصَارُهُ وَاقِعًا هُنَالِكَ. وَقَوْلُهُ: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا، أَيْ: جَزَاءً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَوْلُهُ «عُقْبًا» أَيْ: عَاقِبَةً وَمَآلًا، وَقَرَأَهُ السَّبْعَةُ مَا عَدَا عَاصِمًا وَحَمْزَةَ «عُقُبًا» بِضَمَّتَيْنِ. وَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ «عُقْبًا» بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَوْلُهُ «ثَوَابًا» وَقَوْلُهُ «عُقْبًا» كِلَاهُمَا مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ بَعْدَ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ الَّتِي هِيَ «خَيْرٌ» كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا
…
مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلًا
وَلَفْظَةُ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلْتَاهُمَا تَأْتِي صِيغَةَ تَفْضِيلٍ حُذِفَتْ مِنْهَا الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْكَافِيَةِ:
وَغَالِبًا أَغْنَاهُمْ خَيْرٌ وَشَرٌّ
…
عَنْ قَوْلِهِمْ أُخَرُ مِنْهُ وَأَشَّرُ
تَنْبِيهٌ
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِئَةٌ مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفٌ بِلَا خِلَافٍ، إِلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ. هَلْ هُوَ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ، وَهَلْ هُوَ الْعَيْنُ أَوِ اللَّامُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ الْعَيْنُ، وَأَصْلُهُ يَاءٌ. وَأَصْلُ الْمَادَّةِ ف ي أ، مِنْ فَاءَ يَفِيءُ: إِذَا رَجَعَ ; لِأَنَّ فِئَةَ الرَّجُلِ طَائِفَتُهُ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا فِي أُمُورِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ الْعَيْنِ الْمَحْذُوفَةِ، وَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فِلَةٌ» وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَحْذُوفُ اللَّامِ، وَأَصْلُهُ وَاوٌ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ: إِذَا شَقَقْتَهُ نِصْفَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَالْفِئَةُ الْفِرْقَةُ مِنَ النَّاسِ. وَعَلَى هَذَا فَوَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فِعَةٌ» وَالتَّاءُ عِوَضٌ عَنِ اللَّامِ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ نَصَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَنْبِيهُ النَّاسِ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ ; لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ الْآيَةَ [3 \ 14 - 15]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [63 \ 9]، وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [64 \ 15]، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا الْآيَةَ [34 \ 37]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [26 \ 88] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ الِاشْتِغَالُ بِزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَمَّا يَنْفَعُهُ فِي آخِرَتِهِ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْأَعْمَالُ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ: مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَيْسَرَةَ، وَعَمْرُو بْنُ شُرَحْبِيلَ، أَوْ أَنَّهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَجَاءَتْ دَالَّةٌ عَلَيْهِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ «الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» لَفْظٌ عَامٌّ، يَشْمَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى: لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لِصَاحِبِهَا غَيْرُ زَائِلَةٍ. وَلَا فَانِيَةٍ كَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلِأَنَّهَا أَيْضًا صَالِحَةٌ لِوُقُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: خَيْرٌ ثَوَابًا تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ. وَقَوْلُهُ: وَخَيْرٌ أَمَلًا أَيِ: الَّذِي يُؤَمِّلُ مِنْ عَوَاقِبِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، خَيْرٌ مِمَّا يُؤَمِّلُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ زِينَةِ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا وَأَصْلُ الْأَمَلِ: طَمَعُ الْإِنْسَانِ بِحُصُولِ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «مَرْيَمَ» : وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [19 \ 76]، وَالْمَرَدُّ: الْمَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:«مَرَدًّا» مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، أَيْ: