المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ؟ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِحَسَبِ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٣

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ؟ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِحَسَبِ

أَدْرِي مَا الرَّقِيمُ أَكِتَابٌ أَمْ بُنْيَانٌ؟ .

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِحَسَبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنَّ الرَّقِيمَ مَعْنَاهُ: الْمَرْقُومُ، فَهُوَ «فَعِيلٌ» بِمَعْنَى «مَفْعُولٍ» مِنْ: رَقَمْتُ الْكِتَابَ: إِذَا كَتَبْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كِتَابٌ مَرْقُومٌ الْآيَةَ [83 \ 9، و83 \ 20] . سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الرَّقِيمَ كِتَابٌ كَانَ عِنْدَهُمْ فِيهِ شَرْعُهُمُ الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ، أَوْ لَوْحٌ مِنْ ذَهَبٍ كُتِبَتْ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ وَقِصَّتُهُمْ وَسَبَبُ خُرُوجِهِمْ، أَوْ صَخْرَةٌ نُقِشَتْ فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ: طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ أُضِيفَتْ إِلَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ طَائِفَةٌ، وَأَصْحَابَ الرَّقِيمِ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَأَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَى نَبِيِّهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ شَيْئًا عَنْ أَصْحَابِ الرَّقِيمِ، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ هُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ سَقَطَتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ الَّذِي هُمْ فِيهِ، فَدَعَوُا اللَّهَ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ، وَهُمُ الْبَارُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْعَفِيفُ، وَالْمُسْتَأْجِرُ، وَقِصَّتُهُمْ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ، إِلَّا أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُرَادُ، بَعِيدٌ كَمَا تَرَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَأَسْمَاءَهُمْ، وَفِي أَيِّ مَحِلٍّ مِنَ الْأَرْضِ كَانُوا، كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ إِسْرَائِيلِيَّةٌ أَعْرَضْنَا عَنْ ذِكْرِهَا لِعَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَجَبًا صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ شَيْئًا عَجَبًا. أَوْ آيَةً عَجَبًا.

وَقَوْلُهُ: مِنْ آيَاتِنَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ النَّحْوِ أَنَّ نَعْتَ النَّكِرَةِ إِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهَا صَارَ حَالًا، وَأَصْلُ الْمَعْنَى: كَانُوا عَجَبًا كَائِنًا مِنْ آيَاتِنَا، فَلَمَّا قُدِّمَ النَّعْتُ صَارَ حَالًا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ صِفَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ فِتْيَةٌ، وَأَنَّهُمْ أَوَوْا إِلَى الْكَهْفِ، وَأَنَّهُمْ دَعَوْا رَبَّهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ الْعَظِيمَ الشَّامِلَ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَنْهُمْ: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [18 \‌

‌ 10]

.

وَبَيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَشْيَاءَ أُخْرَى مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ ; كَقَوْلِهِ:

ص: 206

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى - إِلَى قَوْلِهِ - يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [18 \ 13 - 16] وَإِذْ فِي قَوْلِهِ هُنَا: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ [18 \ 10] مَنْصُوبَةٌ بِـ اذْكُرْ مُقَدَّرًا، وَقِيلَ: بِقَوْلِهِ: عَجَبًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [18 \ 10] ، أَيْ جَعَلُوا الْكَهْفَ مَأْوًى لَهُمْ وَمَكَانَ اعْتِصَامٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، أَيْ أَعْطِنَا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَالرَّحْمَةُ هُنَا تَشْمَلُ الرِّزْقَ وَالْهُدَى وَالْحِفْظَ مِمَّا هَرَبُوا خَائِفِينَ مِنْهُ مِنْ أَذَى قَوْمِهِمْ، وَالْمَغْفِرَةَ.

وَالْفِتْيَةُ: جَمْعُ فَتًى جَمْعُ تَكْسِيرٍ، وَهُوَ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، وَيَدُلُّ لَفْظُ الْفِتْيَةِ عَلَى قِلَّتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ شَبَابٌ لَا شِيبَ، خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ ابْنُ السَّرَّاجِ مِنْ: أَنَّ الْفِتْيَةَ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعَ تَكْسِيرٍ، وَإِلَى كَوْنِ مِثْلِ الْفِتْيَةِ جَمْعَ تَكْسِيرٍ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

أَفْعِلَةٌ أَفْعُلٌ ثُمَّ فِعْلَهْ

كَذَاكَ أَفْعَالٌ جُمُوعِ قِلَّةْ

وَالتَّهْيِئَةُ: التَّقْرِيبُ وَالتَّيْسِيرُ، أَيْ يَسِّرْ لَنَا وَقَرِّبْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، وَالرَّشَدُ: الِاهْتِدَاءُ وَالدَّيْمُومَةُ عَلَيْهِ. وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَمْرِنَا فِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا هُنَا لِلتَّجْرِيدِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: اجْعَلْ لَنَا أَمْرَنَا رَشَدًا كُلَّهُ، كَمَا تَقُولُ: لَقِيتُ مِنْ زَيْدٍ أَسَدًا. وَمِنْ عَمْرٍو بَحْرًا.

وَالثَّانِي أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَاجْعَلْ لَنَا بَعْضَ أَمْرِنَا ; أَيْ وَهُوَ الْبَعْضُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ مِنْ مُفَارَقَةِ الْكَفَّارِ، رَشَدًا، حَتَّى نَكُونَ بِسَبَبِهِ رَاشِدِينَ مُهْتَدِينَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى آذَانِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ هَذَا الْعَدَدِ هُنَا، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25] .

وَضَرْبُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ أَنَامَهُمْ، وَمَفْعُولُ «ضَرَبْنَا» مَحْذُوفٌ، أَيْ ضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ حِجَابًا مَانِعًا مِنَ السَّمَاعِ فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يُوقِظُهُمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَمْنَاهُمْ إِنَامَةً ثَقِيلَةً لَا تُنَبِّهُهُمْ فِيهَا الْأَصْوَاتُ.

وَقَوْلُهُ: سِنِينَ عَدَدًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ; أَيْ ذَاتَ عَدَدٍ، أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ سِنِينَ مَعْدُودَةً، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَةَ الْمُبَيِّنَةَ لِقَدْرِ عَدَدِهَا بِالسَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ

ص: 207

وَالشَّمْسِيَّةِ، كَمَا يُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَازْدَادُوا تِسْعًا [18 \ 25] .

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [18 \ 11] عَبَّرَ بِالضَّرْبِ لِيَدُلَّ عَلَى قُوَّةِ الْمُبَاشَرَةِ وَاللُّصُوقِ وَاللُّزُومِ، وَمِنْهُ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [2 \ 61] ، وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ وَضَرَبَ الْبَعْثَ، وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:

ضَرَبَ عَلَيْكَ الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ

وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرَ:

وَمِنَ الْحَوَادِثِ لَا أَبَا لَكَ أَنَّنِي

ضُرِبَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِالْأَسْدَادِ

وَقَالَ آخَرُ:

إِنَّ الْمُرُوءَةَ وَالسَّمَاحَةَ وَالنَّدَى

فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ

وَذَكَرَ الْجَارِحَةَ الَّتِي هِيَ الْآذَانُ (إِذْ هِيَ يَكُونُ مِنْهَا السَّمْعُ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحْكِمُ نَوْمٌ إِلَّا مَعَ تَعَطُّلِ السَّمْعِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«ذَلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ» ; أَيِ اسْتَثْقَلَ نَوْمَهُ جِدًّا حَتَّى لَا يَقُومَ بِاللَّيْلِ. اهـ كَلَامُ أَبِي حَيَّانَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ بَعْدَ هَذِهِ النَّوْمَةِ الطَّوِيلَةِ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ أَحْصَى لِذَلِكَ وَأَضْبَطُ لَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا عَنِ الْحِزْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.

وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْحِزْبَيْنِ هُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَالْحِزْبَ الثَّانِي هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ حِينَ كَانَ عِنْدَهُمُ التَّارِيخُ بِأَمْرِ الْفِتْيَةِ، وَقِيلَ: هُمَا حِزْبَانِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَقِيلَ: هُمَا حِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ: وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُلُوكُ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ حِزْبٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.

وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّ الْحِزْبَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [18 \ 19] ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ

ص: 208

قَالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ قَدْ تَطَاوَلَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ عَنْهُمْ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُحْصُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَدْ يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ رَدَّ الْعِلْمِ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ نَبِيَّهُ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الْآيَةَ [8 \ 25]، ثُمَّ أَمَرَهُ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا الْآيَةَ [18 \ 26] .

وَقَوْلُهُ: بَعَثْنَاهُمْ أَيْ مِنْ نَوْمَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ، وَالْبَعْثُ: التَّحْرِيكُ مِنْ سُكُونٍ، فَيَشْمَلُ بَعْثَ النَّائِمِ وَالْمَيِّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا حِكْمَةً لِشَيْءٍ فِي مَوْضِعٍ، وَيَكُونَ لِذَلِكَ الشَّيْءِ حِكَمٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى، فَإِنَّا نُبَيِّنُهَا، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ، وَذَكَرْنَا مِنْهُ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيَّنَ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِمْ إِظْهَارَهُ لِلنَّاسِ: أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا، وَقَدْ بَيَّنَ لِذَلِكَ حِكَمًا أُخَرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

مِنْهَا أَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ ; كَقَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ الْآيَةَ [18 \ 19] .

وَمِنْهَا إِعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ لِدَلَالَةِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا الْآيَةَ [18 \ 21] .

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ الْآيَةَ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ قَبْلَ بَعْثِهِمْ، وَإِنَّمَا عَلِمَ بَعْدَ بَعْثِهِمْ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ الْكَفَرَةِ الْمَلَاحِدَةِ، بَلْ هُوَ جَلَّ وَعَلَا عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ عِلْمًا جَدِيدًا سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آلِ عِمْرَانَ: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [3 \ 154]، فَقَوْلُهُ:

ص: 209

وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلِيَبْتَلِيَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ فِي ذَلِكَ.

وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَمَعْنَى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَيْ نَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا يُظْهِرُ الْحَقِيقَةَ لِلنَّاسِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ دُونَ خَلْقِهِ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَحْصَى فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ وَ «أَمَدًا» مَفْعُولُهُ، وَ «مَا» فِي قَوْلِهِ:«لِمَا لَبِثُوا» مَصْدَرِيَّةٌ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ضَبَطَ أَمَدًا لِلُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ.

وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ: الْفَارِسِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمْ.

وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ أَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَ «أَمَدًا» تَمْيِيزٌ، وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَالتِّبْرِيزِيُّ، وَغَيْرُهُمَا. وَجَوَّزَ الْحَوْفِيُّ وَأَبُو الْبَقَاءِ الْوَجْهَيْنِ.

وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ أَحْصَى فِعْلٌ مَاضٍ، قَالُوا: لَا يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ، لِأَنَّهَا لَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا هِيَ وَلَا صِيغَةُ فِعْلِ التَّعَجُّبِ قِيَاسًا إِلَّا مِنَ الثُّلَاثِيِّ، وَ «أَحْصَى» رُبَاعِيٌّ فَلَا تُصَاغُ مِنْهُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ وَلَا التَّعَجُّبِ قِيَاسًا، قَالُوا: وَقَوْلُهُمْ: مَا أَعْطَاهُ وَمَا أَوْلَاهُ لِلْمَعْرُوفِ، وَأَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ - شَاذٌّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ.

وَاحْتَجَّ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ أَيْضًا لِأَنَّ أَحْصَى لَيْسَتْ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ بِأَنَّ أَمَدًا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ «أَفْعَلَ» فَـ «أَفْعَلُ» لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ لَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ سَدِيدًا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَقَالَ: فَإِنْ زَعَمْتَ نَصْبَهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصَى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ:

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا

أَيْ نَضْرِبُ الْقَوَانِسَ - فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ؛ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصَى فِعْلًا، ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ. انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ.

وَأُجِيبُ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِينَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ لَا تُصَاغُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ، وَلَا نُسَلِّمُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَعْمَلُ.

وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّ فِي كَوْنِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ تُصَاغُ مِنْ «أَفْعَلَ» كَمَا

ص: 210

هُنَا، أَوْ لَا تُصَاغُ مِنْهُ - ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ لِعُلَمَاءِ النَّحْوِ:

الْأَوَّلُ: جَوَازُ بِنَائِهَا مِنْ «أَفْعَلَ» مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ.

وَالثَّانِي: لَا يُبْنَى مِنْهُ مُطْلَقًا، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ فَهُوَ شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَبِالنُّدُورِ احْكُمْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرْ

وَلَا تَقِسْ عَلَى الَّذِي مِنْهُ أُثِرْ

كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [17 \ 72] .

الثَّالِثُ: تُصَاغُ مِنْ «أَفْعَلَ» إِذَا كَانَتْ هَمْزَتُهَا لِغَيْرِ النَّقْلِ خَاصَّةً ; كَـ «أَظْلَمَ اللَّيْلُ» وَ: «أَشْكَلَ الْأَمْرُ» لَا إِنْ كَانَتِ الْهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلَا تُصَاغُ مِنْهَا، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ مَذْكُورَةٌ بِأَدِلَّتِهَا فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَأَمَّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ تَعْمَلُ فِي التَّمْيِيزِ بِلَا خِلَافٍ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَالْفَاعِلَ الْمَعْنَى انْصِبَنْ بِأَفْعَلَا

مُفَضِّلًا كَأَنْتَ أَعْلَى مَنْزِلَا

وَأَمَدًا تَمْيِيزٌ كَمَا تَقَدَّمَ ; فَنَصْبُهُ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

وَذَهَبَ الطَّبَرَيُّ إِلَى أَنَّ: أَمَدًا مَنْصُوبٌ بِـ لَبِثُوا، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ.

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ: قَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ، وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُدَّةَ غَايَةٌ. وَمَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَأَمَدًا مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ ; أَيْ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ، أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ «مِنْ أَمَدٍ» تَفْسِيرًا لِمَا انْبَهَمَ فِي لَفْظِ مَا لَبِثُوا كَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [2 \ 106] ، مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [35 \ 2] ، وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: إِطْلَاقُ الْأَمَدِ عَلَى الْغَايَةِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:

إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ

سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ

ص: 211

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» أَنَّ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الْأَخْفَشَ الصَّغِيرَ أَجَازَ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ نَصْبُ قَوْلِهِ: أَمَدًا بِقَوْلِهِ: لَبِثُوا غَيْرُ سَدِيدٍ كَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَكَمَا لَا يَخْفَى. اهـ.

وَأَجَازَ الْكُوفِيُّونَ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ، وَأَعْرَبُوا قَوْلَ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ:

فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْحَيِّ حَيًّا مُصَبِّحًا

وَلَا مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا فَوَارِسَا

أَكَرَّ وَأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ

وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا

بِأَنَّ «الْقَوَانِسَ» مَفْعُولٌ بِهِ لِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ الَّتِي هِيَ «أَضْرَبَ» قَالُوا: وَلَا حَاجَةَ لِتَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، وَمِنْ هُنَا قَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: إِنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [6 \ 117] ، مَنْصُوبٌ بِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ قَبْلَهُ نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ هَذَا أَجْرَى عِنْدِي عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِيهَا مَعْنَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِيهَا، فَلَا مَانِعَ مِنْ عَمَلِهَا عَمَلَهُ ; أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا، مَعْنَاهُ: يَزِيدُ ضَرْبُنَا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسِ عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ. وَعَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَا فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ أَمَدًا مَنْصُوبٌ بِـ أَحْصَى نَصْبَ الْمَفْعُولِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَحْصَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَعْرَبُوا أَمَدًا بِأَنَّهُ تَمْيِيزٌ.

تَنْبِيهٌ

فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ رَفْعِ أَيُّ مِنْ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ لِلْعُلَمَاءَ فِي ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا، أَنَّ أَيُّ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَالِاسْتِفْهَامُ يُعَلِّقُ الْفِعْلَ عَنْ مَفْعُولَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُعَلِّقُ الْفِعْلَ الْقَلْبِيَّ عَنْ مَفْعُولَيْهِ:

وَإِنْ وَلَا لَامُ ابْتِدَاءٍ أَوْ قَسَمْ

كَذَا وَالِاسْتِفْهَامُ ذَا لَهُ انْحَتَمْ

وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْجُمْلَةَ بِمَجْمُوعِهَا مُتَعَلَّقُ الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ السَّبَبِ لَمْ يَظْهَرْ عَمَلُ قَوْلِهِ: لِنَعْلَمَ فِي لَفْظَةِ أَيُّ بَلْ بَقِيَتْ عَلَى ارْتِفَاعِهَا، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ اتِّجَاهِ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تَرَى.

ص: 212