الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ الْآيَةَ [17 \ 12] .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى [92 \ 1 - 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [91 \ 3 - 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَفِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ بَيَانُ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِهِ، وَنِعْمَتَانِ مِنْ نِعَمِهِ جَلَّ وَعَلَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بُشْرًا بِالْبَاءِ.
وَآيَةُ «الْأَعْرَافِ» ، وَآيَةُ «الْفُرْقَانِ» الْمَذْكُورَتَانِ تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمَطَرَ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [30 \
50]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [42 \ 28] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا.
التَّحْقِيقُ: أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ، رَاجِعٌ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ
رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَصَدَّرَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَصَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمَا يَقْرُبُ مِنْهُ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: صَرَّفْنَاهُ، عَائِدٌ إِلَى مَاءِ الْمَطَرِ.
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا مَاءَ الْمَطَرِ بَيْنَ النَّاسِ فَأَنْزَلْنَا مَطَرًا كَثِيرًا فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمَنَعْنَا الْمَطَرَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَنْ بَعْضِ الْبِلَادِ، فَيَكْثُرُ الْخِصْبُ فِي بَعْضِهَا، وَالْجَدْبُ فِي بَعْضِهَا الْآخَرِ، وَقَوْلُهُ: لِيَذَّكَّرُوا، أَيْ: صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا، أَيْ: يَتَذَكَّرَ الَّذِينَ أَخْصَبَتْ أَرْضُهُمْ لِكَثْرَةِ الْمَطَرِ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيَشْكُرُوا لَهُ، وَيَتَذَكَّرَ الَّذِينَ أَجْدَبَتْ أَرْضُهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ، فَيُبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا لِيَرْحَمَهُمْ وَيَسْقِيَهُمْ، وَقَوْلُهُ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، أَيْ: كُفْرًا لِنِعْمَةِ مَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، أَشَارَ لَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ «الْوَاقِعَةِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [56 \ 82] فَقَوْلُهُ: رِزْقَكُمْ، أَيِ: الْمَطَرَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [40 \ 13] وَقَوْلُهُ: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، أَيْ: بِقَوْلِكُمْ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَيَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ بِسَنَدِهِ وَمَتْنِهِ مُسْتَوْفًى، وَهُوَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمًا عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ أَصَابَتْهُمْ مِنَ اللَّيْلِ:«أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«قَالَ: أَصْبَحَ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَاكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَاكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ» .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا، يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا. وَمَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالْبُخَارِ، يَعْنِي أَنَّ الْبَحْرَ يَتَصَاعَدُ مِنْهُ بُخَارُ الْمَاءِ، ثُمَّ يَتَجَمَّعُ ثُمَّ يَنْزِلُ عَلَى الْأَرْضِ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ لَا بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَأَنَّ الْمَطَرَ مِنْهُ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فَسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا.
الْمَعْنَى: لَوْ شِئْنَا لَخَفَّفْنَا عَنْكَ أَعْبَاءَ الرِّسَالَةِ، وَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا يَتَوَلَّى مَشَقَّةَ إِنْذَارِهَا عَنْكَ، أَيْ: وَلَكِنَّنَا اصْطَفَيْنَاكَ، وَخَصَصْنَاكَ بِعُمُومِ الرِّسَالَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِكَ، وَرَفْعًا مِنْ مَنْزِلَتِكَ، فَقَابَلَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّشَدُّدِ التَّامِّ فِي إِبْلَاغِ الرِّسَالَةِ، وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ الْآيَةَ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ اصْطِفَائِهِ صلى الله عليه وسلم بِالرِّسَالَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [7 \ 158] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [34 \ 28] وَقَوْلِهِ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ الْآيَةَ [11 \ 17] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَقَوْلُهُ: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ الْآيَةَ [33 \ 48] وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ الْآيَةَ [18 \ 28] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [68 \ 10] .
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْجِهَادُ الْكَبِيرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْمَصْحُوبُ بِالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً الْآيَةَ [9 \ 123] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [9 \ 73] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ، مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يُطِيعُ الْكَافِرِينَ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى لِيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا.
اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ: مَرَجَ، تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ إِطْلَاقَيْنِ:
الْأَوَّلُ: مَرَجَ بِمَعْنَى: أَرْسَلَ وَخَلَّى، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَجَ دَابَّتَهُ إِذَا أَرْسَلَهَا إِلَى الْمَرَجِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الدَّوَابُّ ; كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رضي الله عنه:
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ
…
خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
وَعَلَى هَذَا، فَالْمَعْنَى: أَرْسَلَ الْبَحْرَيْنِ وَخَلَّاهُمَا لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: مَرَجَ بِمَعْنَى: خَلَطَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أَيْ: مُخْتَلِطٍ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: فَالْمُرَادُ بِالْبَحْرَيْنِ الْمَاءُ الْعَذْبُ فِي جَمِيعِ الدُّنْيَا، وَالْمَاءُ الْمِلْحُ فِي جَمِيعِهَا.
وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ، يَعْنِي: بِهِ مَاءَ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ، أَيِ: الْبَحْرُ الْمِلْحُ، كَالْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْبِحَارِ الَّتِي هِيَ مِلْحٌ أُجَاجٌ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِأَنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى خَلَطَ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ الْعَذْبِ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، وَلَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، بَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مُحَقَّقُ الْوُجُودِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَمِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هُوَ وَاقِعٌ فِيهَا الْمَحَلُّ الَّذِي يَخْتَلِطُ فِيهِ نَهْرُ السِّنْغَالِ بِالْمُحِيطِ الْأَطْلَسِيِّ بِجَنْبِ مَدِينَةِ سَانْ لُوِيسْ، وَقَدْ زُرْتُ مَدِينَةَ سَانْ لُوِيسْ عَامَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ وَأَلْفٍ هِجْرِيَّةً، وَاغْتَسَلْتُ مَرَّةً فِي نَهْرِ السِّنْغَالِ، وَمَرَّةً فِي الْمُحِيطِ، وَلَمْ آتِ مَحَلَّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَلَكِنْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ الْمُرَافِقِينَ الثِّقَاتِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى مَحَلِّ اخْتِلَاطِهِمَا، وَأَنَّهُ جَالِسٌ يَغْرِفُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَذْبًا وَفُرَاتًا، وَبِالْأُخْرَى مِلْحًا أُجَاجًا، وَالْجَمِيعُ فِي مَجْرًى وَاحِدٍ، لَا يَخْتَلِطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، فَسُبْحَانَهُ جَلَّ وَعَلَا مَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتُهُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [35 \ 12] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ
[55 \ 19 - 20] أَيْ: لَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَمْتَزِجَ بِهِ، وَهَذَا الْبَرْزَخُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» وَسُورَةِ «الرَّحْمَنِ» ، قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» أَنَّهُ حَاجِزٌ حَجَزَ بِهِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [27 \ 61] وَهَذَا الْحَاجِزُ هُوَ الْيُبْسُ مِنَ الْأَرْضِ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَالْمَاءِ الْمِلْحِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي: فَهُوَ حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ لِلْبَشَرِ، وَأَكَّدَ شِدَّةَ حَجْزِهِ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ هُنَا: وَحِجْرًا مَحْجُورًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: حِجْرًا، أَيْ: مَنْعًا وَحَرَامًا قَدَرِيًّا، وَأَنْ مَحْجُورًا تَوْكِيدٌ لَهُ، أَيْ: مَنْعًا شَدِيدًا لِلِاخْتِلَاطِ بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ: هَذَا عَذْبٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَذُبَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ فَهُوَ عَذْبٌ. وَقَوْلُهُ: فُرَاتٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا، مِنْ فَرُتَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ، فَهُوَ فُرَاتٌ، إِذَا كَانَ شَدِيدَ الْعُذُوبَةِ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا مِلْحٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَلُحَ الْمَاءُ بِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، فَهُوَ مِلْحٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَلَا يُقَالُ مَالِحٌ إِلَّا فِي لُغَةٍ رَدِيَّةٍ، اه.
وَقَدْ أَجَازَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ:
وَلَوْ تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ وَالْبَحْرُ مَالِحٌ
…
لَأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقِهَا عَذْبًا
وَقَوْلُهُ: أُجَاجٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ أَيْضًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَجَّ الْمَاءُ يَؤُجُّ أُجُوجًا فَهُوَ أُجَاجٌ، أَيْ: مِلْحٌ مُرٌّ، فَالْوَصْفُ بِكَوْنِهِ أُجَاجًا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَرَارَةِ عَلَى كَوْنِهِ مِلْحًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَقَسَّمَ الْبَشَرَ قِسْمَيْنِ، ذَوَيْ نَسَبٍ، أَيْ: ذُكُورًا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ، فَيُقَالُ: فَلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، وَذَوَاتِ صِهْرٍ، أَيْ: إِنَاثًا يُطَاهِرُ بِهِنَّ ; كَقَوْلِهِ: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 39] وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا، حَيْثُ خَلَقَ مِنَ النُّطْفَةِ الْوَاحِدَةِ بَشَرًا نَوْعَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، انْتَهَى مِنْهُ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ، يَدُلُّ لَهُ مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 37 - 39] وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ آيَةَ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ بَيَّنَتْهَا آيَةُ «الْقِيَامَةِ» الْمَذْكُورَةُ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
مِنْهَا مَا ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ، قَالَ: فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، فَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَلَدُ نَسِيبٍ ثُمَّ يَتَزَوَّجُ فَيَصْهِرُ صِهْرًا، وَانْظُرْ بَقِيَّةَ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَ «الدَّرِّ الْمَنْثُورِ» لِلسُّيُوطِيِّ.
مَسْأَلَةٌ.
اسْتَنْبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بِنْتَ الرَّجُلِ مِنَ الزِّنَى، لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَالنَّسَبُ عِبَارَةٌ عَنْ خَلْطِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِهِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ لَهُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا، وَأَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَى بِنْتَ أُمٍّ، وَلَا أُمَّ بِنْتٍ، وَمَا يُحَرَّمُ مِنَ الْحَلَالِ، لَا يُحَرَّمُ مِنَ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا، وَلَا يُسَاوِيهِمَا، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نِكَاحِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ مِنْ زِنًى، أَوْ أُخْتَهُ، أَوْ بِنْتَ ابْنِهِ مِنْ زِنًى فَحَرَّمَ ذَلِكَ قَوْمٌ، مِنْهُمُ: ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَأَجَازَ ذَلِكَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ: عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي «النِّسَاءِ» مُجَوَّدًا، انْتَهَى مِنْهُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ، وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ أَنَّ الزِّنَى لَا يُحَرَّمُ بِهِ حَلَالٌ، فَبِنْتُهُ مِنَ الزِّنَى لَيْسَتْ بِنْتًا لَهُ شَرْعًا، وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [4 \ 11] فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَرِثُ، وَلَا تَدْخُلُ فِي آيَاتِ
الْمَوَارِيثِ، دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِنْتًا شَرْعًا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِحَالٍ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَوْنَهَا مَخْلُوقَةً مِنْ مَائِهِ، يَجْعَلُهَا شَبِيهَةً شَبَهًا صُورِيًّا بِابْنَتِهِ شَرْعًا، وَهَذَا الشَّبَهُ الْقَوِيُّ بَيْنَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَزَعَهُ عَنْ تَزْوِيجِهَا.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِشَيْءٍ سَبَبُ وُجُودِهِ مَعْصِيَتُهُ لِخَالِقِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِ الذَّنْبِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّوْبَةِ، لَا يُلَائِمُ التَّلَذُّذَ بِمَا هُوَ نَاشِئٌ عَنْ نَفْسِ الذَّنْبِ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الْبِنْتَ مِنَ الزِّنَى لَا تَحْرُمُ، هُوَ مُرَادُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِقَوْلِهِ:
وَإِنْ شَافِعِيًّا قُلْتُ قَالُوا بِأَنَّنِي
…
أُبِيحُ نِكَاحَ الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ تَحْرُمُ
تَنْبِيهٌ.
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» عَنْ قَتَادَةَ مِمَّا يَقْتَضِي أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، أَنَّ الصِّهْرَ كَالنَّسَبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَأَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْرُمُ بِهِ سَبْعُ نِسَاءٍ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ، وَمِمَّا يَزِيدُهُ عَدَمَ ظُهُورٍ ضَعْفُ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ ; كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ.
تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَغَيْرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا. الظَّهِيرُ فِي اللُّغَةِ: الْمُعِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [66 \ 4] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ [28 \ 17] .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا، عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ: وَكَانَ الْكَافِرُ مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ، وَحِزْبِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَالْكَافِرُ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَالْكَافِرُ يُعِينُ الشَّيْطَانَ وَحِزْبَهُ فِي سَعْيِهِمْ ; لِأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ لَيْسَتْ هِيَ الْعُلْيَا، وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ
آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ الْآيَةَ [4 \ 76] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، الْمُقَاتِلِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَنَّهُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ [36 \ 74 - 75] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْجُنْدَ الْمُحْضَرُونَ هُمُ الْكُفَّارُ، يُقَاتِلُونَ عَنْ آلِهَتِهِمْ وَيُدَافِعُونَ عَنْهَا، وَمَنْ قَاتَلَ عَنِ الْأَصْنَامِ مُدَافِعًا عَنْ عِبَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرٌ، وَكَوْنُهُ ظَهِيرًا عَلَى رَبِّهِ، أَيْ: مُعِينًا لِلشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ ; كَكَوْنِهِ عَدُوًّا لَهُ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [2 \ 98] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [41 \ 19] وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ لَوْ تَعَاوَنُوا عَلَى عَدَاوَةِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَضُرُّوهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، وَأَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 29] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمِثْلِهِ فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [1 \ 5] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [17 \ 17] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَةَ الَّتِي فِيهَا تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [7 \ 54] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الْآيَةَ [7 \ 54] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ، أَيْ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ، تَجَاهَلُوا الرَّحْمَنَ، وَقَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ، وَأَنْكَرُوا السُّجُودَ لَهُ تَعَالَى، وَزَادَهُمْ ذَلِكَ نُفُورًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالسُّجُودِ لَلرَّحْمَنِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا مَذْكُورًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [41 \ 37] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [53 \ 62] وَقَدْ وَبَّخَهُمْ تَعَالَى عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [84 \ 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [77 \ 48] وَتَجَاهُلُهُمْ لِلرَّحْمَنِ هُنَا أَجَابَهُمْ عَنْهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [55 \ 1 - 4] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [17 \ 110] وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ اللَّهُ، وَأَنَّ تَجَاهُلَهُمْ لَهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ، وَأَدِلَّةَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ هُنَا: وَزَادَهُمْ نُفُورًا، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا
الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا [17 \ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [67 \ 21] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا.
قَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ، فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَالْبُرُوجُ فِي اللُّغَةِ: الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْبُرُوجِ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ لِلْحَرَسِ. وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَيْضًا، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ، هِيَ قُصُورٌ لِلْحَرَسِ فَيَجْتَمِعُ الْقَوْلَانِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [67 \ 5] اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : الْبُرُوجُ مَنَازِلُ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ: الْحَمْلُ، وَالثَّوْرُ، وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ، وَالْأَسَدُ، وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ، وَالدَّلْوُ، وَالْحُوتُ، سُمِّيَتِ الْبُرُوجُ الَّتِي هِيَ الْقُصُورُ الْعَالِيَةُ ; لِأَنَّهَا لِهَذِهِ الْكَوَاكِبِ كَالْمَنَازِلِ لِسُكَّانِهَا، وَاشْتِقَاقُ الْبُرْجِ مِنَ التَّبَرُّجِ لِظُهُورٍ، اه مِنْهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَهُوَ الشَّمْسُ، وَقَمَرًا مُنِيرًا، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [15 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [85 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [78 \ 13] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [71 \ 15 - 16] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، بِكَسْرِ السِّينِ وَفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سُرُجًا بِضَمِّ السِّينِ وَالرَّاءِ جَمْعُ سِرَاجٍ، فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِإِفْرَادِ السِّرَاجِ، فَالْمُرَادُ
بِهِ الشَّمْسُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [71 \ 16] وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِالْجَمْعِ، فَالْمُرَادُ بِالسُّرُجِ: الشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ لَا السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، أَنَّ السَّمَاءَ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا الْبُرُوجُ هِيَ الْمَحْفُوظَةَ، وَالْمَحْفُوظَةُ هِيَ الْمَبْنِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [51 \ 47] وَقَوْلِهِ: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [78 \ 12] وَلَيْسَتْ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ، وَالْبَيَانُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا الْآيَةَ [15 \ 16 - 17] فَآيَةُ «الْحِجْرِ» هَذِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْبُرُوجِ هِيَ الْمَبْنِيَّةُ الْمَحْفُوظَةُ، لَا مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ، بَيَّنَ أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الَّتِي جَعَلَ فِيهَا الْبُرُوجَ ; لِأَنَّهُ قَالَ هُنَا: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [25 \ 61] وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُطْلَقُ مَا عَلَاكَ، وَهَذَا الظَّاهِرُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
فَإِنْ قِيلَ: يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ السَّلَفِ، أَنَّ الْقَمَرَ فِي فَضَاءٍ بَعِيدٍ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ عِلْمَ الْهَيْئَةِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأَرْصَادَ الْحَدِيثَةَ بَيَّنَتْ ذَلِكَ.
قُلْنَا: تَرْكُ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ عَمَلٌ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَمَّا تَاقَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى تَعَلُّمِ هَيْئَةِ الْقَمَرِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم، وَقَالُوا لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا بَالُ الْهِلَالِ يَبْدُو دَقِيقًا ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَكْبُرُ حَتَّى يَسْتَدِيرَ بَدْرًا؟ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْجَوَابِ بِمَا فِيهِ فَائِدَةٌ لِلْبَشَرِ، وَتَرَكَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [2 \ 189] وَهَذَا الْبَابُ الَّذِي أَرْشَدَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ إِلَى سَدِّهِ لَمَّا فَتَحَهُ الْكَفَرَةُ كَانَتْ نَتِيجَةُ فَتْحِهِ الْكُفْرَ، وَالْإِلْحَادَ وَتَكْذِيبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، وَالَّذِي أَرْشَدَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ هُوَ النَّظَرُ فِي غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِيَسْتَدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، وَهَذَا الْمَقْصِدُ الْأَسَاسِيُّ لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّاظِرِينَ فِي الْهَيْئَةِ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَرْكُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُقْنِعٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِينَ يُحَاوِلُونَ الصُّعُودَ إِلَى الْقَمَرِ بِآلَاتِهِمْ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا عَلَى سَطْحِهِ، سَيَنْتَهِي أَمْرُهُمْ إِلَى ظُهُورِ حَقَارَتِهِمْ، وَضَعْفِهِمْ، وَعَجْزِهِمْ، وَذُلِّهِمْ أَمَامَ قُدْرَةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ [38 \ 10 - 11] .
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتَ بِهَا عَلَى أَنَّ الْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ الْمَحْفُوظَةِ فِيهَا احْتِمَالٌ عَلَى أُسْلُوبٍ عَرَبِيٍّ مَعْرُوفٍ، يَقْتَضِي عَدَمَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا ذَكَرْتَ، وَهُوَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّفْظِ وَحْدَهُ، دُونَ الْمَعْنَى.
وَإِيضَاحُهُ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا، هِيَ السَّمَاءُ الْمَحْفُوظَةُ، وَلَكِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، رَاجِعٌ إِلَى مُطْلَقِ لَفْظِ السَّمَاءِ الصَّادِقِ بِمُطْلَقِ مَا عَلَاكَ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، بِمَسْأَلَةِ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [35 \ 11] أَيْ: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ.
قُلْنَا: نَعَمْ، هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ عِنْدَنَا دَلِيلٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ أَقْوَالِ الْكَفَرَةِ وَمُقَلِّدِيهِمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [17 \ 37] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [19 \ 47] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مِنْ أَنَّ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَيُصَلُّونَ لَهُ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ [39 \ 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [32 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [51 \ 16 - 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَبِيتُونَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: بَاتَ الرَّجُلُ يَبِيتُ، إِذَا أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ، نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ، قَالَ زُهَيْرٌ:
فَبِتْنَا قِيَامًا عِنْدَ رَأْسِ جَوَادِنَا
…
يُزَاوِلُنَا عَنْ نَفْسِهِ وَنُزَاوِلُهْ
انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا.
الْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَانَ غَرَامًا، أَيْ: كَانَ لَازِمًا دَائِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا، أَيْ: لَازِمٌ لَهُ، مُولَعٌ بِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [9 \ 68] وَقَوْلِهِ: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [43 \ 75] وَقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [25 \ 77] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [78 \ 30] وَقَوْلِهِ: لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [3 \ 88] وَقَوْلِهِ: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [35 \ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [4 \ 56] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْغَرَامُ أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَرَامُ الشَّرُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلَاكُ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ يُعْ
…
طِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِ
يَعْنِي: يَكُنْ عَذَابُهُ دَائِمًا لَازِمًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ:
وَيَوْمُ النِّسَارِ وَيَوْمُ الْجِفَا
…
رِ كَانَا عَذابًا وَكَانَا غَرَامَا
وَذَلِكَ هُوَ الْأَظْهَرُ أَيْضًا فِي قَوْلِ الْآخَرِ:
وَمَا أَكْلَةٌ إِنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ
…
وَلَا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَامِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: وَلَمْ يُقْتِرُوا بِضَمِّ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ التَّاءِ، مُضَارِعُ أَقْتَرَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: وَلَمْ يَقْتِرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَكَسْرِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، مُضَارِعُ قَتَرَ الثُّلَاثِيِّ كَضَرَبَ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَلَمْ يَقْتُرُوا بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَضَمِّ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، مُضَارِعُ قَتَرَ الثُّلَاثِيِّ كَنَصَرَ، وَالْإِقْتَارُ عَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ، وَالْقَتْرُ عَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّضْيِيقُ الْمُخِلُّ بِسَدِّ الْخَلَّةِ اللَّازِمُ، وَالْإِسْرَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يُسْرِفُوا، مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ اللَّهَ مَدَحَ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِتَوَسُّطِهِمْ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَلَا يُجَاوِزُونَ الْحَدَّ بِالْإِسْرَافِ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَقْتُرُونَ، أَيْ: لَا يُضَيِّقُونَ فَيَبْخَلُونَ بِإِنْفَاقِ الْقَدْرِ اللَّازِمِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْإِسْرَافُ فِي الْآيَةِ: الْإِنْفَاقُ فِي الْحَرَامِ وَالْبَاطِلِ، وَالْإِقْتَارُ مَنْعُ الْحَقِّ الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا الْآيَةَ، أَيْ: لَيْسُوا مُبَذِّرِينَ فِي إِنْفَاقِهِمْ، فَيَصْرِفُوا فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَلَا بُخَلَاءَ عَلَى أَهْلِيهِمْ، فَيُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَكْفُوهُمْ بَلْ عَدْلًا خِيَارًا، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، لَا هَذَا وَلَا هَذَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، أَيْ: بَيْنَ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ قَوَامًا أَيْ: عَدْلًا وَسَطًا سَالِمًا مِنْ عَيْبِ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ.
وَأَظْهَرُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ عِنْدِي فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: قَوَامًا خَبَرُ
كَانَ، وَاسْمُهَا مُقَدَّرٌ فِيهَا، أَيْ: كَانَ الْإِنْفَاقُ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْقَتْرِ قَوَامًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَبَاقِي أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي ; كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَفْظَةَ بَيْنَ هِيَ اسْمُ كَانَ، وَأَنَّهَا لَمْ تُرْفَعْ لِبِنَائِهَا بِسَبَبِ إِضَافَتِهَا إِلَى مَبْنِيٍّ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ بَيْنَ هِيَ خَبَرُ كَانَ، وَقَوَامًا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لَهُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُمَا خَبَرَانِ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّوَسُّطَ فِي الْإِنْفَاقِ الَّذِي مَدَحَهُمْ بِهِ شَامِلٌ لِإِنْفَاقِهِمْ عَلَى أَهْلِيهِمْ، وَإِنْفَاقِهِمُ الْمَالَ فِي أَوْجُهِ الْخَيْرِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْصَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ الْآيَةَ [17 \ 29] فَقَوْلُهُ: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ، أَيْ: مُمْسِكَةً عَنِ الْإِنْفَاقِ إِمْسَاكًا كُلِّيًّا، يُؤَدِّي مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: وَلَمْ يَقْتُرُوا. وَقَوْلُهُ: وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ، يُؤَدِّي مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: لَمْ يُسْرِفُوا، وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [17 \ 26] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ الْآيَةَ [2 \ 219] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [2 \ 3] .
مَسْأَلَةٌ.
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا الْآيَةَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَهَا، قَدْ بَيَّنَتْ أَحَدَ رُكْنَيْ مَا يُسَمَّى الْآنَ بِالِاقْتِصَادِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الِاقْتِصَادِ عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا رَاجِعَةٌ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ إِلَى أَصْلَيْنِ، لَا ثَالِثَ لَهُمَا.
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: اكْتِسَابُ الْمَالِ.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: صَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الِاقْتِصَادَ عَمَلٌ مُزْدَوَجٌ، وَلَا فَائِدَةَ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إِلَّا بِوُجُودِ الْآخَرِ، فَلَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ أَحْسَنَ النَّاسِ نَظَرًا فِي
أَوْجُهِ اكْتِسَابِ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَقُ جَاهِلٍ بِأَوْجُهِ صَرْفِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا حَصَلَ مِنَ الْمَالِ يَضِيعُ عَلَيْهِ بِدُونِ فَائِدَةٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَحْسَنَ النَّاسِ نَظَرًا فِي صَرْفِ الْمَالِ فِي مَصَارِفِهِ الْمُنْتِجَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَخْرَقُ جَاهِلٍ بِأَوْجُهِ اكْتِسَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ حُسْنُ نَظَرِهِ فِي الصَّرْفِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ يَصْرِفُهُ، وَالْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ أَرْشَدَتِ النَّاسَ وَنَبَّهَتْهُمْ عَلَى الِاقْتِصَادِ فِي الصَّرْفِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَسَائِلَ الِاقْتِصَادِ كُلَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ دَلَّتْ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْآخَرَ مِنْهُمَا وَهُوَ اكْتِسَابُ الْمَالِ أَرْشَدَتْ إِلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ دَلَّتْ عَلَى فَتْحِ اللَّهِ الْأَبْوَابَ إِلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْأَوْجُهِ اللَّائِقَةِ، كَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [2 \ 198] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [62 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [73 \ 20] وَالْمُرَادُ بِفَضْلِ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ رِبْحُ التِّجَارَةِ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْآيَةَ [18 \ 19] أَنْوَاعَ الشَّرِكَاتِ وَأَسْمَاءَهَا، وَبَيَّنَّا مَا يَجُوزُ مِنْهَا، وَمَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَوْضَحْنَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِهِ، وَمَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبِهِ تَعْلَمُ كَثْرَةَ الطُّرُقِ الَّتِي فَتَحَهَا اللَّهُ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بِالْأَوْجُهِ الشَّرْعِيَّةِ اللَّائِقَةِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الِاقْتِصَادِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلَيْنِ، هُمَا: اكْتِسَابُ الْمَالِ، وَصَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ، لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَمْرَيْنِ ضَرُورِيَّيْنِ لَهُ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يُبِحِ اكْتِسَابَ الْمَالِ بِجَمِيعِ الطُّرُقِ الَّتِي يَكْتَسِبُ بِهَا الْمَالَ، بَلْ أَبَاحَ بَعْضَ الطُّرُقِ، وَحَرَّمَ بَعْضَهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [2 \ 275] وَلَمْ يُبِحِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا صَرْفَ الْمَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ أَبَاحَ بَعْضَ الصَّرْفِ وَحَرَّمَ بَعْضَهُ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [2 \ 261] وَقَالَ تَعَالَى فِي الصَّرْفِ الْحَرَامِ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً
الْآيَةَ [8 \ 36] فَمَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ وَفِي صَرْفِهِ فِي مَصَارِفِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا بُدَّ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ قَدْ يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، وَالْمَالُ الْمُكْتَسَبُ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، لَا خَيْرَ فِيهِ الْبَتَّةَ، وَقَدْ يُصْرَفُ الْمَالُ فِي وَجْهٍ حَرَامٍ، وَصَرْفُهُ فِي ذَلِكَ حَسْرَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ مَعْرِفَةُ الطَّرِيقِ الْكَفِيلَةِ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ، فَقَدْ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ مثلًا أَنَّ التِّجَارَةَ فِي النَّوْعِ الْفُلَانِيِّ مُبَاحَةٌ شَرْعًا، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَوْجُهَ التَّصَرُّفِ بِالْمَصْلَحَةِ الْكَفِيلَةِ بِتَحْصِيلِ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ، وَكَمْ مِنْ مُتَصَرِّفٍ يُرِيدُ الرِّبْحَ، فَيَعُودُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُهُ بِالْخُسْرَانِ، لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأَوْجُهِ الَّتِي يُحَصِّلُ بِهَا الرِّبْحَ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَعْلَمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ الصَّرْفَ فِي الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ مُبَاحٌ، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَلَكِنَّهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَعْرِفَةِ الصَّرْفِ الْمَذْكُورِ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمَشَارِيعِ الْكَثِيرَةِ النَّفْعِ إِنْ صَرَفَ فِيهَا الْمَالَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّ جَوَازَ الصَّرْفِ فِيهَا مَعْلُومٌ، وَإِيقَاعُ الصَّرْفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لَا يَعْلَمُهُ كُلُّ النَّاسِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ أُصُولَ الِاقْتِصَادِ الْكِبَارَ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يُكْتَسَبُ بِهِ الْمَالُ، وَاجْتِنَابُ الِاكْتِسَابِ بِهِ، إِنْ كَانَ مُحَرَّمًا شَرْعًا.
الثَّانِي: حُسْنُ النَّظَرِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ مَا يُبِيحُهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا لَا يُبِيحُهُ.
الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْأَوْجُهِ الَّتِي يُصْرَفُ فِيهَا الْمَالُ، وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمِ مِنْهَا.
الرَّابِعُ: حُسْنُ النَّظَرِ فِي أَوْجُهِ الصَّرْفِ، وَاجْتِنَابُ مَا لَا يُفِيدُ مِنْهَا، فَكُلُّ مَنْ بَنَى اقْتِصَادَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُسُسِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ اقْتِصَادُهُ كَفِيلًا بِمَصْلَحَتِهِ، وَكَانَ مُرْضِيًّا لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمَنْ أَخَلَّ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُسُسِ الْأَرْبَعَةِ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ بِالطُّرُقِ الَّتِي لَا يُبِيحُهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فَلَا خَيْرَ فِي مَالِهِ، وَلَا بَرَكَةَ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [2 \ 276] وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ الْآيَةَ [5 \ 100] .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى مَسَائِلِ الرِّبَا فِي آيَةِ الرِّبَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى أَنْوَاعِ
الشَّرِكَاتِ وَأَسْمَائِهَا، وَبَيَّنَّا مَا يَجُوزُ مِنْهَا وَمَا لَا يَجُوزُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ الْآيَةَ [18 \ 19] .
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُلْزِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا التَّعَاوُنَ عَلَى اقْتِصَادٍ يُجِيزُهُ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَيَكُونُ كَفِيلًا بِمَعْرِفَةِ طُرُقِ تَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْأَوْجُهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَصَرْفِهِ فِي مَصَارِفِهِ الْمُنْتِجَةِ الْجَائِزَةِ شَرْعًا ; لِأَنَّ الِاقْتِصَادَ الْمَوْجُودَ الْآنَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا لَا يُبِيحُهُ الشَّرْعُ الْكَرِيمُ، لِأَنَّ الَّذِينَ نَظَّمُوا طُرُقَهُ لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَمُعَامَلَاتُ الْبُنُوكِ وَالشَّرِكَاتِ لَا تَجِدُ شَيْئًا مِنْهَا يَجُوزُ شَرْعًا، لِأَنَّهَا إِمَّا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَاتٍ رِبَوِيَّةٍ، أَوْ عَلَى غَرَرٍ، لَا تَجُوزُ مَعَهُ الْمُعَامَلَةُ كَأَنْوَاعِ التَّأْمِينِ الْمُتَعَارَفَةِ عِنْدَ الشَّرِكَاتِ الْيَوْمَ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، فَإِنَّكَ لَا تَكَادُ تَجِدُ شَيْئًا مِنْهَا سَالِمًا مِنَ الْغَرَرِ، وَتَحْرِيمُ بَيْعِ الْغَرَرِ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي إِبَاحَةَ أَنْوَاعِ التَّأْمِينِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الشَّرِكَاتِ، مِنَ الْمُعَاصِرِينَ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ مَعَهُ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقُولُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا.
أَيْ: إِذَا مَرُّوا بِأَهْلِ اللَّغْوِ وَالْمُشْتَغِلِينَ بِهِ مَرُّوا مُعْرِضِينَ عَنْهُمْ كِرَامًا مُكْرِمِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْخَوْضِ مَعَهُمْ فِي لَغْوِهِمْ، وَهُوَ كُلُّ كَلَامٍ لَا خَيْرَ فِيهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا بِقَوْلِهِ: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [28 \ 55] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مُعَامَلَةِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ لِلْجَاهِلِينَ، فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الْآيَةَ [19 \ 47] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْخُرُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ لَهُ، وَنَفْيٌ لِلصَّمَمِ وَالْعَمَى ; كَمَا تَقُولُ: لَا يَلْقَانِي زَيْدٌ مُسَلِّمًا، وَهُوَ نَفْيٌ لِلسَّلَامِ لَا لِلِّقَاءِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَكَبُّوا عَلَيْهَا، حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِهَا وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمُذَكِّرِ
بِهَا، وَهُمْ فِي إِكْبَابِهِمْ عَلَيْهَا سَامِعُونَ بِآذَانٍ وَاعِيَةٍ مُبْصِرُونَ بِعُيُونٍ رَاعِيَةٍ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَتَيْنِ: دَلَالَةٌ بِالْمَنْطُوقِ، وَدَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ، فَقَدْ دَلَّتْ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى أَنَّ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحِمَنِ، أَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا، لَمْ يَكِبُّوا عَلَيْهَا فِي حَالِ كَوْنِهِمْ صُمًّا عَنْ سَمَاعِ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ، وَعُمْيَانًا عَنْ إِبْصَارِهِ، بَلْ هُمْ يَكُبُّونَ عَلَيْهَا سَامِعِينَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ مُبْصِرِينَ لَهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ [8 \ 2] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ هَذَا الْقُرْآنِ، فَزَادَتْهُ إِيمَانًا أَنَّهُ لَمْ يَخِرَّ عَلَيْهَا أَصَمَّ أَعْمَى ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [9 \ 124] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [39 \ 23] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا بِمَفْهُومِهَا أَنَّ الْكَفَرَةَ الْمُخَالِفِينَ، لِعِبَادِ الرَّحِمَنِ الْمَوْصُوفِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ: إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ خَرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا، أَيْ: لَا يَسْمَعُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يُبْصِرُونَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوهَا أَصْلًا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِمَفْهُومِهَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «لُقْمَانَ» : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [31 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْجَاثِيَةِ» : وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [45 \ 7 - 9] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ الْآيَةَ [9 \ 124 - 125] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ مَعْنَى خُرُورِ الْكُفَّارِ عَلَى الْآيَاتِ، فِي حَالِ كَوْنِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، هُوَ إِكْبَابُهُمْ عَلَى إِنْكَارِهَا وَالتَّكْذِيبِ بِهَا، خِلَافًا لِمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، وَالصُّمُّ فِي
الْآيَةِ جَمْعُ أَصَمَّ، وَالْعُمْيَانُ جَمْعُ أَعْمَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا. الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغُرْفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جِنْسُهَا الصَّادِقُ بِغُرَفٍ كَثِيرَةٍ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ الْآيَةَ [39 \ 20] .
وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، وَفِي غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [10 \ 10] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [18 \ 31] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا.
الْعَرَبُ الَّذِينَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ، يَقُولُونَ: مَا عَبَأْتُ بِفُلَانٍ، أَيْ: مَا بَالَيْتُ بِهِ، وَلَا اكْتَرَثْتُ بِهِ، أَيْ: مَا كَانَ لَهُ عِنْدِي وَزْنٌ، وَلَا قَدْرٌ يَسْتَوْجِبُ الِاكْتِرَاثَ وَالْمُبَالَاةَ بِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعِبْءِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي زَيْدٍ يَصِفُ أَسَدًا:
كَانَ بِنَحْرِهِ وَبِمَنْكِبَيْهِ
…
عَبِيرًا بَاتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ
وَقَوْلُهُ: يَعْبَؤُهُ، أَيْ: يَجْعَلُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ لِمُبَالَاتِهِ بِهِ وَاكْتِرَاثِهِ بِهِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ.
وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، هَلْ هُوَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ، أَوْ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَعَلَى أَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَالْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ دَاعُونَ،
لَا مَدْعُوُّونَ، أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: عِبَادَتُكُمْ لَهُ. وَأَمَّا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَالْمُخَاطَبُونَ بِالْآيَةِ مَدْعُوُّونَ لَا دَاعُونَ، أَيْ: مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ ثَلَاثَةً مِنَ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْمَصْدَرِ فِيهَا مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ. وَالرَّابِعُ: مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى مَفْعُولِهِ.
أَمَّا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى فَاعِلِهِ.
فَالْأَوَّلُ مِنْهَا أَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: عِبَادَتُكُمْ لَهُ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْخِطَابُ عَامٌّ لِلْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَفْرَدَ الْكَافِرِينَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ الْآيَةَ.
وَالثَّانِي مِنْهَا: أَنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ لَهُ وَحْدَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، أَيْ: وَلَوْ كُنْتُمْ تَرْجِعُونَ إِلَى شِرْكِكُمْ، إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي، أَيْ: مَا يَصْنَعُ بِعَذَابِكُمْ، لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى، وَلَا يَخْفَى بُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّ فِيهِ تَقْدِيرَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ.
أَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ الْمَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، أَيْ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ، فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا، قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قُرْآنٌ، وَسَنُبَيِّنُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلَ كُلِّ قَوْلٍ مِنْهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ ذِكْرِ مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَرْجَحُهَا.
أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ الْمَبْنِيُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ» : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [1 \ 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» : إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [18 \ 7] وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْمُلْكِ» :
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [67 \ 2] .
فَهَذِهِ الْآيَاتُ قَدْ أَوْضَحَتْ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَجَمِيعَ مَا عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، هِيَ أَنْ يَدْعُوَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ وَيَبْتَلِيَهُمْ، أَيْ: أَنْ يَخْتَبِرَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ تُبَيِّنُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [51 \ 56] .
وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِيضَاحٌ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَابْتِلَاؤُكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ:(مَا يَعْبَأُ بِكُمْ لَوْلَا) دُعَاؤُهُ إِيَّاكُمْ، أَيْ: وَقَدْ دَعَاكُمْ فَكَذَّبْتُمْ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ وَحْدَهُ الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَهُوَ قَوِيٌّ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: إِخْلَاصُكُمُ الدُّعَاءَ لَهُ أَيُّهَا الْكُفَّارُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [29 \ 65] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [20 \ 22] .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ الْآيَةَ [17 \ 67] وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ هُوَ مَعْنَى آيَةِ «الْفُرْقَانِ» هَذِهِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَعْنَى: مَا يَصْنَعُ بِعَذَابِكُمْ، لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى ; فَقَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ الْآيَةَ [4 \ 147] .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ أَشْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَكْثَرُهَا قَائِلًا، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: عِبَادَتُكُمْ لَهُ وَحْدَهُ، قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُعْطِيهِ اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَمَا أَعَدَّهُ لِمَنْ عَصَاهُ، وَكَثْرَتُهَا مَعْلُومَةٌ لَا خَفَاءَ بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ (مَا)، فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ: هِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ نَافِيَةٌ وَكِلَاهُمَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ، أَيْ: دُعَاؤُكُمْ إِيَّايَ لِأَغْفِرَ لَكُمْ، وَأُعْطِيَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَقَوْلُهُ: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ، أَيْ: بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [25 \ 65] أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، أَيْ: سَوْفَ يَكُونُ الْعَذَابُ مُلَازِمًا لَهُمْ غَيْرَ مُفَارِقٍ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ اللَّازِمِ لَهُمُ الْمُعَبَّرِ عَنْ لُزُومِهِ لَهُمْ، بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، أَنَّهُ مَا وَقَعَ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَنَّهُمْ قُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ وَأُسِرَ سَبْعُونَ، وَالَّذِينَ قُتِلُوا مِنْهُمْ أَصَابَهُمْ عَذَابُ الْقَتْلِ، وَاتَّصَلَ بِهِ عَذَابُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ فَهُوَ مُلَازِمٌ لَا يُفَارِقُهُمْ بِحَالٍ، وَكَوْنُ اللِّزَامِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَذَابَ الْوَاقِعَ يَوْمَ بَدْرٍ، نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا، انْتَهَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ «الدُّرِّ الْمَنْثُورِ» عَنْ أَكْثَرِ الْمَذْكُورِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، قَالُوا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى [32 \ 21] أَيْ: يَوْمَ بَدْرٍ، دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [32 \ 21] أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا، وَأَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ بِالْبَطْشِ وَالِانْتِقَامِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [44 \ 16] وَأَنَّهُ هُوَ الْفُرْقَانُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [8 \ 41] وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ النَّصْرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الْآيَةَ [3 \ 123] وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ بَدْرٍ ثَبَتَ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الشَّيْخِ أَحْمَدَ الْبَدَوِيِّ الشِّنْقِيطِيِّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي الْكَلَامِ عَلَى بَدْرٍ، وَقَدْ أَتَى مُنَوَّهًا فِي الذِّكْرِ:
لِأَنَّهُ الْعَذَابُ وَاللِّزَامُ
…
وَأَنَّهُ الْبَطْشُ وَالِانْتِقَامُ
وَأَنَّهُ الْفُرْقَانُ بَيْنَ الْكُفْرِ
…
وَالْحَقِّ وَالنَّصْرِ سَجِيسَ الدَّهْرِ.
وَمَعْنَى سَجِيسَ الدَّهْرِ، أَيْ: مَدَّتَهُ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ عِنْدِي، هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ فِيهَا مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ لِجَرَيَانِهِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ قَتَادَةُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.