المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، مِنْ أَوْجُهٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ، - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٦

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، مِنْ أَوْجُهٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ،

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، مِنْ أَوْجُهٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [10 \ 45] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ الْآيَةَ [21 \ 39] ، وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [17 \ 8] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [1 \ 5] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ، مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ وَحْيِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الْآيَةَ [23 \ 68] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [86 \ 13 - 14] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \‌

‌ 18]

أَيْ: يُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ، الَّذِي هُوَ أَشَدُّ حُسْنًا، عَلَى الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ فِي الْحُسْنِ، وَيُقَدِّمُونَ الْأَحْسَنَ مُطْلَقًا عَلَى الْحَسَنِ. وَيَدُلُّ لِهَذَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.

أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْأَحْسَنَ الْمُتَّبَعَ. مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ، فَهُوَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [39 \ 55] وَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى يَأْمُرُهُ بِالْأَخْذِ بِأَحْسَنِ مَا فِي التَّوْرَاةِ: فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا [7 \ 145] .

وَأَمَّا كَوْنُ الْقُرْآنِ فِيهِ الْأَحْسَنُ وَالْحَسَنُ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِهِ.

وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ أَحْسَنُ مِنَ الْمَنْدُوبِ، وَأَنَّ الْمَنْدُوبَ أَحْسَنُ مِنْ

ص: 356

مُطْلَقِ الْحَسَنِ، فَإِذَا سَمِعُوا مَثَلًا قَوْلَهُ تَعَالَى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [22 \ 77] قَدَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ الْوَاجِبَ، عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الْمَنْدُوبِ، وَقَدَّمُوا هَذَا الْأَخِيرَ، عَلَى مُطْلَقِ الْحَسَنِ الَّذِي هُوَ الْجَائِزُ، وَلِذَا كَانَ الْجَزَاءُ بِخُصُوصِ الْأَحْسَنِ الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، لَا عَلَى مُطْلَقِ الْحَسَنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] وَقَالَ تَعَالَى وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [39 \ 35] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ الْمَرَاقِي:

مَا رَبُّنَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ حَسَنُ وَغَيْرُهُ الْقَبِيحُ وَالْمُسْتَهْجَنُ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْأَخْذِ بِالْأَحْسَنِ وَأَفْضَلِيَّتِهِ مَعَ جَوَازِ الْأَخْذِ بِالْحَسَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ لِلْجَوَازِ، وَاللَّهُ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِحَسَنٍ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِانْتِقَامَ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّبْرَ، خَيْرٌ مِنْهُ وَأَحْسَنُ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِبَاحَةِ الِانْتِقَامِ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [42 \ 43] ، مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الصَّبْرَ وَالْغُفْرَانَ خَيْرٌ مِنْهُ، فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 43]، وَكَقَوْلِهِ فِي جَوَازِ الِانْتِقَامِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [4 \ 148] مَعَ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعَفْوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا مَعَ كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [4 \ 149] . وَكَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا مُثْنِيًا عَلَى مَنْ تَصَدَّقَ، فَأَبْدَى صَدَقَتَهُ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ [2 \ 271] ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ إِخْفَاءَهَا وَإِيتَاءَهَا الْفُقَرَاءَ، خَيْرٌ مِنْ إِبْدَائِهَا الَّذِي مَدَحَهُ بِالْفِعْلِ الْجَامِدِ، الَّذِي هُوَ لِإِنْشَاءِ الْمَدْحِ الَّذِي هُوَ نَعِمَّ، فِي قَوْلِهِ: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [2 \ 271] .

ص: 357

وَكَقَوْلِهِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ اللَّازِمِ، لِلزَّوْجَةِ بِالطَّلَاقِ، قَبْلَ الدُّخُولِ، فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [2 \ 237] وَلَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ النِّصْفَ حَسَنٌ، لِأَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ مَعَ أَنَّهُ رَغَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَنْ يَعْفُوَ لِلْآخَرِ عَنْ نِصْفِهِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [2 \ 237] .

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [42 \ 40] ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَحْسَنِ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [42 \ 40] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [5 \ 45] ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى الْأَحْسَنِ، فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [5 \ 45] .

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالًا غَيْرَ الَّذِي اخْتَرْنَا.

مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي مَعْنَى فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ قَالَ:«هُوَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ فَيَتَحَدَّثُ بِالْحَسَنِ، وَيَنْكَفُّ عَنِ الْقَبِيحِ، فَلَا يَتَحَدَّثُ بِهِ» .

وَقِيلَ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَهُ، فَيَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ.

وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأَحْسَنِ الْقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَبَعْضُ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَقُولُ: إِنِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ قَبْلَ بَعْثِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، كَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ، وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ. أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُمَا جُمْلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ، فَقَوْلُهُ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَكِنَّ فِيهَا حَذْفًا، وَحَذْفُ مَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ وَاضِحٌ، لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

وَالتَّقْدِيرُ: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، تُخَلِّصُهُ أَنْتَ مِنْهُ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا تُخَّلِصُ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَحَدًا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُعَذِّبُهُ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَهَذَا الْمَحْذُوفُ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا قَوْلِي الْمُفَسِّرِينَ فِي أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَدَاةِ عَطْفٍ كَالْفَاءِ وَالْوَاوِ

ص: 358

وَثُمَّ كَقَوْلِهِ هُنَا: أَفَمَنْ حَقَّ وَقَوْلَهُ: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ.

أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرْطِيَّةٌ، كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُ الْكَلَامِ: أَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، فَأَنْتِ تُنْقِذُهُ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، دَخَلَ عَلَيْهَا هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ فَاءُ الْجَزَاءِ، ثُمَّ دَخَلَتِ الْفَاءُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، تَقْدِيرُهُ: أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهِمْ، فَمِنْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ فَأَنْتَ تُنْقِذُهُ، وَالْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى كُرِّرَتْ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَوَضْعِ مَنْ فِي النَّارِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ كُلَّ الظُّهُورِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ الْآيَةَ [36 \ 7] ، وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَاتِ عَلَى الْمُرَادِ بِكَلِمَةِ الْعَذَابِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ. مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ وَعْدِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْغُرَفِ الْمَبْنِيَّةِ، ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ سَبَأٍ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ الْآيَةَ [9 \ 72] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّفِّ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [61 \ 12] ، لِأَنَّ الْمَسَاكِنَ الطَّيِّبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّوْبَةِ وَالصَّفِّ صَادِقَةٌ بِالْغُرَفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الزُّمَرِ وَسَبَأٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا الْآيَةَ [25 \ 75] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ. الْيَنَابِيعُ: جَمْعُ يَنْبُوعٍ، وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ.

وَقَوْلُهُ: فَسَلَكَهُ أَيْ أَدْخَلَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [11 \ 40] .

ص: 359

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ، قَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْآيَةَ [34 \ 2] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا يُمَاثِلُهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الرُّومِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [30 \ 22] وَأَحَلْنَا عَلَيْهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا الْآيَةَ [35 \ 27] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. قَوْلُهُ: ثُمَّ يَهِيجُ أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ نَضَارَةِ ذَلِكَ الزَّرْعِ وَخُضْرَتِهِ يَيْبَسُ، وَيَتِمُّ جَفَافُهُ وَيَثُورُ مِنْ مَنَابِتِهِ فَتَرَاهُ أَيُّهَا النَّاظِرُ مُصْفَرًّا يَابِسًا، قَدْ زَالَتْ خُضْرَتُهُ وَنَضَارَتُهُ. ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا أَيْ فُتَاتًا، مُتَكَسِّرًا، هَشِيمًا، تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ الْمَذْكُورِ مِنْ حَالَاتِ ذَلِكَ الزَّرْعِ، الْمُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ، لَذِكْرَى أَيْ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً وَتَذْكِيرًا لِأُولِي الْأَلْبَابِ، أَيْ لِأَصْحَابِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا مَصِيرَ هَذَا الزَّرْعِ عَلَى سَبِيلِ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ مَا وَعَظَ بِهِ خَلْقَهُ هُنَا مِنْ حَالَاتِ هَذَا الزَّرْعِ شَبِيهٌ أَيْضًا بِالدُّنْيَا. فَوَعَظَ بِهِ فِي مَوْضِعٍ وَشَبَّهَ بِهِ حَالَةَ الدُّنْيَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [257 \ 20] . وَيُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ اصْفِرَارِهِ الْمَذْكُورِ إِرْسَالُ الرِّيحِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [30 \ 51] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [6 \ 125] .

ص: 360

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [16 \ 37] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا الْآيَةَ [18 \ 1 - 2] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قُرْآنًا انْتُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَهِيَ حَالٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَالْحَالُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ عَرَبِيًّا، وَقُرْآنًا تَوْطِئَةٌ لَهُ وَقِيلَ انْتُصِبَ عَلَى الْمَدْحِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَرَبِيًّا، أَيْ: لِأَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] . وَقَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [43 \ 3] . وَقَالَ فِي أَوَّلِ الزُّخْرُفِ: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [43 \ 3] . وَقَالَ فِي طه وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [20 \ 113] وَقَالَ تَعَالَى فِي فُصِّلَتْ: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [41 \ 44] وَقَالَ تَعَالَى فِي الشُّعَرَاءِ: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [26 \ 192 - 195] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّورَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا الْآيَةَ [42 \ 7] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي الرَّعْدِ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ [13 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَعِظَمِهَا، دَلَالَةً لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ.

ص: 361

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ. أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [29 \ 33 - 34] .

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ «الَّذِي» تَأْتِي بِمَعْنَى الَّذِينَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الزُّمَرِ هَذِهِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [2 \ 17] أَيِ: الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [2 \ 17] وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ [2 \ 264] أَيْ: كَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّوْبَةِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [9 \ 69] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي مَوْصُولَةٌ لَا مَصْدَرِيَّةٌ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ أَشْهَبَ بْنِ رُمَيْلَةَ:

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ

هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

وَقَوْلُ عُدَيْلِ بْنِ الْفَرْخِ الْعِجْلِيِّ:

فَبِتُّ أُسَاقِي الْقَوْمَ إِخْوَتِي الَّذِي

غَوَايَتُهُمْ غَيٌّ وَرُشْدُهُمْ رُشْدُ

وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:

يَا رَبَّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ

فِي قَائِمٍ مِنْهَا وَلَا فِيمَنْ قَعَدْ

إِلَّا الَّذِي قَامُوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ الْآيَةَ [16 \ 31] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \ 17 - 18] وَفِي سُورَةِ

ص: 362

النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [16 \ 97] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [8 \ 64] وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِكَافٍ عَبْدَهُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، بِإِفْرَادِ الْعَبْدِ، وَالْمُرَادُ بِهِ، النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم. كَقَوْلِهِ: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [2 \ 137] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الْآيَةَ [8 \ 64] .

وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ عِبَادَهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتَحِ الْبَاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ عَبْدٍ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَشْمَلُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعَهُمْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، يُخَوِّفُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بِالْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهُ: إِنَّهَا سَتَضُرُّهُ وَتَخْبِلُهُ، وَهَذِهِ عَادَةُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، يُخَوِّفُونَ الرُّسُلَ بِالْأَوْثَانِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا سَتَضُرُّهُمْ وَتَصِلُ إِلَيْهِمْ بِالسُّوءِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، لَا يَخَافُونَ غَيْرَ اللَّهِ وَلَا سِيَّمَا الْأَوْثَانُ، الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ، وَلَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا خَوَّفُوهُ بِهَا: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ الْآيَةَ [6 \ 81] .

وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ وَمَا ذَكَرَهُ لَهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [11 \ 54 - 56] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، مُخَاطِبًا نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَخْوِيفَهُمْ لَهُ بِأَصْنَامِهِمْ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [39 \ 38] .

ص: 363

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَوْفَ مِنْ تِلْكَ الْأَصْنَامِ مَنْ أَشْنَعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنِينَ أَيْضًا، الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَوْلِيَائِهِ مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [3 \ 175] .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ حُذِفَ فِيهِ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، أَيْ: يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ الْآيَةَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ. مَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِهِ، لَا تَقْدِرُ أَنْ تَكْشِفَ ضُرًّا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ أَحَدًا، أَوْ تُمْسِكَ رَحْمَةً أَرَادَ بِهَا أَحَدًا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا [19 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [26 \ 72 - 74] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [35 \ 2] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ الْآيَةَ [10 \ 107] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [34 \ 35] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

ص: 364