المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ‌ ‌ غَافِرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٦

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ‌ ‌ غَافِرٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةُ‌

‌ غَافِرٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ. جَمَعَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ، هُمَا جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [15 \‌

‌ 4

9 - 50] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْآيَةَ [7 \ 156] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. [6 \ 165] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [7 \ 167] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ لَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ، أَيْ لَا يُخَاصِمُ فِيهَا مُحَاوِلًا رَدَّهَا، وَإِبْطَالَ مَا جَاءَ فِيهَا إِلَّا الْكُفَّارُ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ الْغَرَضَ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى الْجِدَالِ فِيهَا مَعَ بَعْضِ صِفَاتِهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا [18 \ 56] وَأَوْضَحَ ذَلِكَ الْغَرَضَ، فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي قَوْلِهِ: وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [40 \ 5] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ مِنْهُمْ، أَتْبَاعٌ يَتَّبِعُونَ رُؤَسَاءَهُمُ الْمُضِلِّينَ، مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [22 \ 3 - 4] .

ص: 372

وَأَنَّ مِنْهُمْ قَادَةً هُمْ رُؤَسَاؤُهُمُ الْمَتْبُوعُونَ وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [22 \ 8 - 9] .

وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ جِدَالِ الْكُفَّارِ، جِدَالَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَبِرَسُولِهِ، لِيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ حُجَّةِ هَؤُلَاءِ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [42 \ 16] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ.

نَهَى اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، لِيَشْرَعَ لِأُمَّتِهِ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي بِلَادِ اللَّهِ، بِالتِّجَارَاتِ وَالْأَرْبَاحِ، وَالْعَافِيَةِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَفِيضُ عَلَيْهَا الْأَمْوَالُ مِنْ أَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [106 \ 2] أَيْ: إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَفَرَةٌ فَجَرَةٌ، يُكَذِّبُونَ نَبِيَّ اللَّهِ وَيُعَادُونَهُ.

وَالْمَعْنَى: لَا تَغْتَرَّ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَقَلُّبِهِمْ فِي بِلَادِهِ فِي إِنْعَامٍ وَعَافِيَةٍ ; فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا يَسْتَدْرِجُهُمْ بِذَلِكَ الْإِنْعَامِ، فَيُمَتِّعُهُمْ بِهِ قَلِيلًا، ثُمَّ يُهْلِكُهُمْ فَيَجْعَلُ مَصِيرَهُمْ إِلَى النَّارِ.

وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [3 \ 196 - 197] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 23 - 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [2 \ 26] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا يَغْرُرْكَ، سَبَبِيَّةٌ أَيْ: لَا يُمْكِنُ تَقَلُّبُهُمْ فِي بِلَادِ اللَّهِ. مُتَنَعِّمِينَ

ص: 373

بِالْأَمْوَالِ وَالْأَرْزَاقِ، سَبَبًا لِاغْتِرَارِكَ بِهِمْ، فَتَظُنُّ بِهِمْ ظَنًّا حَسَنًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ التَّنَعُّمَ، تَنَعُّمُ اسْتِدْرَاجٍ، وَهُوَ زَائِلٌ عَنْ قَرِيبٍ، وَهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ الدَّائِمِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (كَلِمَاتُ) بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ (كَلِمَةُ رَبِّكَ) بِالْإِفْرَادِ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَاتِ فِيمَا يُمَاثِلُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَةِ يس فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [36 \ 7] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْآيَةَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِوَعْدِهِمْ بِالْجَنَّاتِ، هُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ.

وَلَكِنَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ وَعْدَهُ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ الْآيَةَ [22 \ 23 - 13] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ. التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِمَاتَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، الْإِمَاتَةُ الْأُولَى، الَّتِي هِيَ كَوْنُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ نُطَفًا وَعَلَقًا وَمُضَغًا، قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِمْ، فَهَلْ قَبِلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِمْ لَا حَيَاةَ لَهُمْ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ اسْمَ الْمَوْتِ.

وَالْإِمَاتَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ إِمَاتَتُهُمْ وَصَيْرُورَتُهُمْ إِلَى قُبُورِهِمْ عِنْدَ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا.

وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْيَاءَتَيْنِ: الْإِحْيَاءَةَ الْأُولَى فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ، الَّتِي هِيَ الْبَعْثُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْحِسَابِ، وَالْجَزَاءِ وَالْخُلُودِ الْأَبَدِيِّ، الَّذِي لَا مَوْتَ فِيهِ، إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ.

ص: 374