الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا الْآيَةَ [19 \ 41 - 42] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْمَنَامِ بِذَبْحِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ لَمَّا بَاشَرَ عَمَلَ ذَبْحِهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، فَدَاهُ اللَّهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، هَلْ هُوَ إِسْمَاعِيلُ أَوْ إِسْحَاقُ؟ وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، بِأَنَّا نُوَضِّحُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» ، وَهَذَا وَقْتُ إِنْجَازِ الْوَعْدِ.
اعْلَمْ، وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ، أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدْ دَلَّ فِي مَوْضِعَيْنِ، عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقَ. أَحَدِهِمَا فِي «الصَّافَّاتِ» ، وَالثَّانِي فِي «هُودٍ» .
أَمَّا دَلَالَةُ آيَاتِ «الصَّافَّاتِ» عَلَى ذَلِكَ، فَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [37 \
99
- 110] ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ عَاطِفًا عَلَى الْبِشَارَةِ الْأُولَى: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [37 \ 112]، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ الْأُولَى شَيْءٌ غَيْرُ الْمُبَشَّرِ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: فَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، ثُمَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ قِصَّةِ ذَبْحِهِ يَقُولُ أَيْضًا: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ، فَهُوَ تَكْرَارٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ يُنَزَّهُ عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْغُلَامَ الْمُبَشَّرَ بِهِ أَوَّلًا الَّذِي فُدِيَ بِالذَّبْحِ الْعَظِيمِ، هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَأَنَّ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا مُسْتَقِلَّةً بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [16 \ 97]، أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنْ
النَّصَّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا احْتَمَلَ التَّأْسِيسَ وَالتَّأْكِيدَ مَعًا وَجَبَ حَمَلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.
وَمَعْلُومٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، أَنَّ الْعَطْفَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، فَآيَةُ «الصَّافَّاتِ» هَذِهِ، دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِلْمُنْصِفِ عَلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ لَا إِسْحَاقُ، وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا بِأَنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا إِسْحَاقُ يَقِينًا عُبِّرَ عَنْهُ فِي كُلِّهَا بِالْعِلْمِ لَا الْحِلْمِ، وَهَذَا الْغُلَامُ الذَّبِيحُ وَصَفَهُ بِالْحِلْمِ لَا الْعِلْمِ.
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الثَّانِي الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [11 \ 71] ; لِأَنَّ رُسُلَ اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَشَّرَتْهَا بِإِسْحَاقَ، وَأَنَّ إِسْحَاقَ يَلِدُ يَعْقُوبَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ يُؤْمَرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَهُوَ عِنْدَهُ عِلْمٌ يَقِينٌ بِأَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَلِدَ يَعْقُوبَ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُنْصِفِ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ دَلَالَةِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ قِصَّةَ الذَّبِيحِ هَذِهِ تُؤَيِّدُ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي حِكْمَةِ التَّكْلِيفِ، هَلْ هِيَ لِلِامْتِثَالِ فَقَطْ، أَوْ هِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ؟ لِأَنَّهُ بَيِّنٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ حِكْمَةَ تَكْلِيفِهِ لِإِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ وَلَدَهُ لَيْسَتْ هِيَ امْتِثَالُهُ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَبْحُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ مُجَرَّدُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، هَلْ يُصَمِّمُ عَلَى امْتِثَالِ ذَلِكَ أَوْ لَا؟ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [37 \ 106 - 107] ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ. وَإِلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ:
لِلِامْتِثَالِ كَلَّفَ الرَّقِيبُ
…
فَمُوجِبٌ تَمَكُّنًا مُصِيبُ
أَوْ بَيْنَهُ وَالِابْتِلَا تَرَدَّدَا
…
شَرْطُ تَمَكُّنٍ عَلَيْهِ انْفَقَدَا
وَقَدْ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَمُوجِبٌ تَمَكُّنًا مُصِيبُ، وَقَوْلُهُ: شَرْطُ تَمَكُّنٍ عَلَيْهِ انْفَقَدَا، إِلَى أَنَّ شَرْطَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ فِي التَّكْلِيفِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، فَمَنْ قَالَ: إِنِ الْحِكْمَةَ فِي التَّكْلِيفِ هِيَ الِامْتِثَالُ فَقَطِ اشْتَرَطَ فِي التَّكْلِيفِ التَّمَكُّنَ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ لَا امْتِثَالَ إِلَّا مَعَ
التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْحِكْمَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الِامْتِثَالِ وَالِابْتِلَاءِ، لَمْ يَشْتَرِطْ مِنَ الْفِعْلِ ; لِأَنَّ حِكْمَةَ الِابْتِلَاءِ تَتَحَقَّقُ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ، كَمَا لَا يَخْفَى. وَمِنَ الْفُرُوعِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنْ تَعْلَمَ الْمَرْأَةُ بِالْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهَا تَحِيضُ بَعْدَ الظُّهْرِ غَدًا مِنْ نَهَارِ رَمَضَانَ، ثُمَّ حَصَلَ لَهَا الْحَيْضُ بِالْفِعْلِ، فَتُصْبِحُ مُفْطِرَةٌ قَبْلَ إِتْيَانِ الْحَيْضِ، فَعَلَى أَنَّ حِكْمَةَ التَّكْلِيفِ الِامْتِثَالُ فَقَطْ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، وَلَهَا أَنْ تُفْطِرَ ; لِأَنَّهَا عَالِمَةٌ بِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَعَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تَارَةً تَكُونُ الِامْتِثَالَ، وَتَارَةً تَكُونُ الِابْتِلَاءَ، فَإِنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا تَبْيِيتُ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْإِفْطَارُ إلَّا بَعْدَ مَجِيءِ الْحَيْضِ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ أَفْطَرَتْ قَبْلَهُ كَفَّرَتْ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَفْطَرَ لِحُمَّى تُصِيبُهُ غَدًا، وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْعَادَةِ، فَهُوَ أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 \ 124] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا مِنَّتَهُ عَلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ فِي «طه» : قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [20 \ 36 - 37] ; لِأَنَّ مِنْ سُؤْلِهِ الَّذِي أُوتِيَهُ إِجَابَةَ دَعْوَتِهِ فِي رِسَالَةِ أَخِيهِ هَارُونَ مَعَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرِّسَالَةَ مِنْ أَعْظَمَ الْمِنَنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ. قَوْلُهُ: وَقَوْمَهُمَا، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ نَجَّى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ مَا كَانَ يَسُومُهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنَ الْعَذَابِ، كَذَبْحِ الذُّكُورِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِهَانَةِ الْإِنَاثِ، وَكَيْفِيَّةِ إِنْجَائِهِ لَهُمْ مُبَيَّنَةٌ فِي انْفِلَاقِ الْبَحْرِ لَهُمْ، حَتَّى خَاضُوهُ سَالِمِينَ، وَإِغْرَاقِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [2 \ 50] ، وَقَدَّمْنَا تَفْسِيرَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ نُوحٍ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [21 \ 76] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ. بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ نَصَرَ مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا عَلَى فِرْعَوْنِ وَجُنُودِهِ، فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، أَيْ: وَفِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ هُمُ الْمَغْلُوبُونَ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ أَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا بِالْغَرَقِ، وَأَنْجَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا مِنْ ذَلِكَ الْهَلَاكِ، وَفِي ذَلِكَ نَصْرٌ عَظِيمٌ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [28 \ 35] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ. الْكِتَابُ هُوَ التَّوْرَاةُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [6 \ 154]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [23 \ 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [21 \ 48] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ الْآيَةَ [2 \ 53] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 76] . وَفِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [5 \ 32] ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. تَسْبِيحُ يُونُسَ هَذَا، عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَذْكُورُ فِي «الصَّافَّاتِ» ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [21 \ 87 - 88] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِيضَاحَهَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ. مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِ يُونُسَ وَأَنَّ اللَّهَ مَتَّعَهُمْ إِلَى حِينٍ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [10 \ 98] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ، إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [16 \ 57 - 59] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ الْآيَةَ [6 \ 157] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ. هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَأَتْبَاعُهُمْ مَنْصُورُونَ دَائِمًا عَلَى الْأَعْدَاءِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَمَنْ أُمِرَ مِنْهُمْ بِالْجِهَادِ مَنْصُورٌ أَيْضًا بِالسَّيْفِ وَالسِّنَّانِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [40 \ 51]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47] ،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [14 \ 13 - 14] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الْآيَةَ [3 \ 146] ، وَسَيَأْتِي لَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي آخِرِ سُورَةِ «الْمُجَادَلَةِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [13 \ 6] . وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [10 \ 15] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. خَتَمَ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ بِالسَّلَامِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [37 \ 182] ، مُعَلَّمًا خَلْقَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ حَمْدِهِ هَذَا الْحَمْدَ الْعَظِيمَ، وَالسَّلَامَ عَلَى رُسُلِهِ الْكِرَامِ، ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» : قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى الْآيَةَ [27 \ 59]، وَيُشْبِهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [10 \ 10] .