الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النِّعْمَةِ، يَعْنِي أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ بِتَرْبِيَتِنَا إِيَّاكَ صَغِيرًا، وَإِحْسَانِنَا إِلَيْكَ تَتَقَلَّبُ فِي نِعْمَتِنَا فَكَفَرْتَ نِعْمَتَنَا، وَقَابَلْتَ إِحْسَانَنَا بِالْإِسَاءَةِ لِقَتْلِكَ نَفْسًا مِنَّا، وَبَاقِيَ الْأَقْوَالِ تَرَكْنَاهُ ; لِأَنَّ هَذَا أَظْهَرُهَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: رَدَّ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ امْتِنَانَهُ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ، بِقَوْلِهِ: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [26 \ 25] يَعْنِي: تَعْبِيدَكَ لِقَوْمِي، وَإِهَانَتَكَ لَهُمْ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ إِحْسَانُكَ إِلَيَّ لِأَنِّي رَجُلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. أَيْ: قَالَ مُوسَى مُجِيبًا لِفِرْعَوْنَ: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا، أَيْ: إِذْ فَعَلْتُهَا وَأَنَا فِي ذَلِكَ الْحِينِ مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: قَبْلَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَيَّ، وَيَبْعَثَنِي رَسُولًا، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: مِنَ الْجَاهِلِينَ، رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوَحْيِ يُعْتَبَرُ قَبْلَهُ جَاهِلًا، أَيْ: غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ لَفْظَ الضَّلَالِ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ثَلَاثَةَ إِطْلَاقَاتٍ: الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ: يُطْلَقُ الضَّلَالُ مُرَادًا بِهِ الذَّهَابُ عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، فَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ مَنْ ذَهَبَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ ضَلَّ عَنْهُ، وَهَذَا الضَّلَالُ ذَهَابٌ عَنْ عِلْمِ شَيْءٍ مَا، وَلَيْسَ مِنَ الضَّلَالِ فِي الدِّينِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ هُنَا: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، أَيْ: مِنَ الذَّاهِبِينَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْعُلُومِ، وَالْأَسْرَارِ الَّتِي لَا تُعْلَمُ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، لِأَنِّي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ، وَمِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [93 \ 3] أَيْ: ذَاهِبًا عَمَّا عَلَّمَكَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِالْوَحْيِ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى
[20
\ 52] فَقَوْلُهُ: لَا يَضِلُّ رَبِّي، أَيْ: لَا يَذْهَبُ عَنْهُ عَلْمُ شَيْءٍ كَائِنًا
مَا كَانَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [2 \ 282] فَقَوْلُهُ: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا، أَيْ: تَذْهَبَ عَنْ عِلْمِ حَقِيقَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [22 \ 8] وَقَوْلُهُ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] عَلَى التَّحْقِيقِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا
…
بَدَلًا أَرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ
وَالْإِطْلَاقُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ، وَفِي الْقُرْآنِ هُوَ إِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الذَّهَابِ عَنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ إِلَى الْكُفْرِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ إِلَى النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1 \ 7] .
وَالْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ: هُوَ إِطْلَاقُ الضَّلَالِ عَلَى الْغَيْبُوبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَلَّ الشَّيْءُ إِذَا غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطَّعَامِ، إِذَا غَابَ فِيهِ وَاضْمَحَلَّ، وَلِأَجْلِ هَذَا سَمَّتِ الْعَرَبُ الدَّفْنَ فِي الْقَبْرِ إِضْلَالًا ; لِأَنَّ الْمَدْفُونَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ فَيَغِيبُ فِيهَا وَيَضْمَحِلُّ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [32 \ 10] يَعْنُونَ: إِذَا دُفِنُوا وَأَكَلَتْهُمُ الْأَرْضُ، فَضَلُّوا فِيهَا، أَيْ: غَابُوا فِيهَا وَاضْمَحَلُّوا.
وَمِنْ إِطْلَاقِهِمُ الْإِضْلَالَ عَلَى الدَّفْنِ، قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ يَرْثِي النُّعْمَانَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيَّ:
فَإِنْ تُحْيَ لَا أَمْلِكْ حَيَاتِي وَإِنْ تَمُتْ
…
فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طَائِلُ
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ
…
وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
وَقَوْلُ الْمُخَبَّلِ السَّعْدِيِّ يَرْثِي قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ:
أَضَلَّتْ بَنُو قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ عَمِيدَهَا
…
وَفَارِسَهَا فِي الدَّهْرِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمِ
فَقَوْلُ الذُّبْيَانِيِّ: فَآبَ مُضِلُّوهُ، يَعْنِي: فَرَجَعَ دَافِنُوهُ، وَقَوْلُ السَّعْدِيِّ: أَضَلَّتْ، أَيْ: دَفَنَتْ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الضَّلَالِ أَيْضًا عَلَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَالِ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْيِدٍ
…
قَذَفَ الْأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الدِّيَارُ
…
عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا
وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ لِلضَّلَالِ إِطْلَاقًا رَابِعًا، قَالَ: وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَحَبَّةِ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ: قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [12 \ 95] قَالَ: أَيْ فِي حُبِّكَ الْقَدِيمِ لِيُوسُفَ، قَالَ: وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
هَذَا الضَّلَالُ أَشَابَ مِنِّي الْمَفْرِقَا
…
وَالْعَارِضَيْنِ وَلَمْ أَكُنْ مُتَحَقِّقًا
عَجَبًا لِعِزَّةٍ فِي اخْتِيَارِ قَطِيعَتِي
…
بَعْدَ الضَّلَالِ فَحَبْلُهَا قَدْ أُخْلِقَا
وَزَعَمَ أَيْضًا أَنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا [93 \ 7] قَالَ: أَيْ مُحِبٌّ لِلْهِدَايَةِ فَهَدَاكَ، وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ. خَوْفُهُ مِنْهُمْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِفِرَارِهِ مِنْهُمْ، قَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى وَبَيَّنَ سَبَبَهُ فِي قَوْلِهِ: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [28 \ 20 - 21] وَبَيَّنَ خَوْفَهُ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ الْآيَةَ [28 \ 18] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا، قَالَ بَعْضُهُمُ: الْحُكْمُ هُنَا هُوَ النُّبُوَّةُ، وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ ذَلِكَ السُّدِّيُّ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ بِالْوَحْيِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُ: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى [20 \ 49] وَقَوْلُهُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [28 \ 38] وَقَوْلُهُ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 \ 29] وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى، تَجَاهُلُ عَارِفٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [17 \ 102] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [27 \ 14] .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَفِي سُورَةِ «طَهَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى [20 \ 49] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ، إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «طَهَ» وَ «الْأَعْرَافِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، - إِلَى قَوْلِهِ - إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [26 \ 69 - 77] .
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ الْآيَاتِ [19 \ 41] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا [17 \ 63] وَفِي «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [15 \ 43 - 44] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَخْتَصِمُونَ فِيهَا، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [38 \ 59 - 64] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ [7 \ 38] وَفِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا الْآيَةَ [2 \ 166] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [6 \ 1] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ. قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [2 \ 48] وَفِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا الْآيَةَ [7 \ 53] .
قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ إِلَى الدُّنْيَا، لِأَنَّ (لَوْ) فِي قَوْلِهِ هُنَا: فَلَوْ أَنَّ لَنَا لِلتَّمَنِّي، وَالْكَرَّةُ هُنَا: الرَّجْعَةُ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا كَانُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ لِلرُّسُلِ، فِيمَا جَاءَتْ بِهِ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
أَمَّا تَمَنِّيهِمُ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] . وَأَمَّا زَعْمُهُمْ
أَنَّهُمْ إِنْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا آمَنُوا، فَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَفِي «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [6 \ 28] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ الْآيَاتِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» وَفِي غَيْرِهَا، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [26 \ 109 - 127 - 145 - 164 - 180] فِي قِصَّةِ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ، وَشُعَيْبٍ. وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [11 \ 29] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [11 \ 27] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [11 \ 29 - 30] .
وَأَوْضَحْنَاهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، إِلَى قَوْلِهِ: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [6 \ 25] وَفِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [18 \ 28] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا عَنْ نُوحٍ: قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا [71 \ 5 - 7] وَقَوْلُهُ هُنَا: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا، أَيِ: احْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ حُكْمًا، وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي سَأَلَ رَبَّهُ إِيَّاهُ هُوَ إِهْلَاكُ الْكُفَّارِ، وَإِنْجَاؤُهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [54 \ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [71 \ 26] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ هُنَا عَنْ نُوحٍ: وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَجَابَ دُعَاءَهُ هَذَا ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [29 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [37 \ 75 - 76] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [11 \ 37] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْمَشْحُونُ: الْمَمْلُوءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ:
شَحَنَّا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى
…
تَرَكْنَاهُمْ أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ
وَالْفُلْكُ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، فَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ جَازَ تَذْكِيرُهُ ; كَقَوْلِهِ هُنَا: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَإِنْ جُمِعَ أُنِّثَ، وَالْمُرَادُ بِالْفُلْكِ هُنَا السَّفِينَةُ ; كَمَا صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [29 \ 15] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ هُمْ مَدْيَنُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ بَيَّنَتْهَا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ قِصَّةَ شُعَيْبٍ مَعَ مَدْيَنَ، وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ قَالَ هُنَا لِأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [26 \ 181 - 183] وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَهُ لِمَدْيَنَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [11 \ 84 - 86] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» ، قَوْلَنَا: فَإِنْ قِيلَ الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «الْأَعْرَافِ» أَنَّهُ رَجْفَةٌ، وَذَكَرَ فِي «هُودٍ» أَنَّهُ صَيْحَةٌ، وَذَكَرَ فِي «الشُّعَرَاءِ» ، أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ.
فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ، قَالَ: وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ، أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٌ وَوَهَجٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ، انْتَهَى. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ شُعَيْبًا أُرْسِلَ إِلَى أُمَّتَيْنِ: مَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ، وَأَنَّ مَدْيَنَ لَيْسُوا هُمْ أَصْحَابَ الْأَيْكَةِ، فَلَا إِشْكَالَ. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: قَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ وَإِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [25 \ 78 - 79] وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ أَنَّ نَافِعًا، وَابْنَ عَامِرٍ، وَابْنَ كَثِيرٍ قَرَأُوا لَيْكَةَ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، وَسُورَةِ «ص» ، بِلَامٍ مَفْتُوحَةٍ أَوَّلَ الْكَلِمَةِ، وَتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ آخِرَهَا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَلَا تَعْرِيفٍ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْقَرْيَةِ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، وَأَنَّ الْبَاقِينَ قَرَأُوا:(الْأَيْكَةِ) بِالتَّعْرِيفِ وَالْهَمْزِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فِي «ق» وَ «الْحِجْرِ» ، وَأَوْضَحْنَا هُنَالِكَ تَوْجِيهَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي «الشُّعَرَاءِ» وَ «ص» ، وَمَعْنَى (الْأَيْكَةِ) فِي اللُّغَةِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ. الْجِبِلَّةُ: الْخَلْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا [36 \ 62] وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِآيَةِ «يس» ، الْمَذْكُورَةِ عَلَى آيَةِ «الشُّعَرَاءِ» هَذِهِ ابْنُ زَيْدٍ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَالْمَوْتُ أَعْظَمُ حَادِثٍ
…
مِمَّا يَمُرُّ عَلَى الْجِبِلَّهْ
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
أَكَّدَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - لِيَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِهِ، وَأَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا هُنَا أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. أَمَّا كَوْنُ هَذَا الْقُرْآنِ تَنْزِيلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [56 \ 77 - 79] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [69 \ 41 - 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا [20 \ 1 - 4] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [45 \ 2] وَقَوْلِهِ: حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا الْآيَةَ [41 \ 1 - 3] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [36 \ 1 - 6] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] وَقَوْلُهُ: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، أَيْ: نَزَلَ بِهِ عَلَيْكَ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِهِ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ الْآيَةَ [7 \ 1 - 2] أَيْ: أُنْزِلَ إِلَيْكَ لِتُنْذِرَ بِهِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ الْآيَةَ [36 \ 5 - 6] . وَقَوْلُهُ: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا الْآيَةَ [41 \ 3] .
وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِشَوَاهِدِهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [16 \ 103] وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى إِنْزَالِ جِبْرِيلَ الْقُرْآنَ
عَلَى قَلْبِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 97] .
قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، مَعَ مَا يُوَضِّحُهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ الْآيَةَ [16 \ 103] .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ صَوْتٍ غَيْرِ عَرَبِيٍّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ أَعْجَمَ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ عَاقِلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ يَذْكُرُ صَوْتَ حَمَامَةٍ:
فَلَمْ أَرَ مِثْلِي شَاقَهُ صَوْتُ مِثْلِهَا
…
وَلَا عَرَبِيًّا شَاقَهُ صَوْتُ أَعَجَمَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
قَوْلُهُ: سَلَكْنَاهُ، أَيْ: أَدْخَلْنَاهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الْآيَةَ [11 \ 40] وَالضَّمِيرُ فِي سَلَكْنَاهُ، قِيلَ: لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَقِيلَ: لِلتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ [26 \ 199] وَهَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ، هُمُ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ أَشْقِيَاءُ ; كَمَا يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [10 \ 96 - 97] وَقَدْ أَوْضَحْنَا شِدَّةَ تَعَنُّتِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآيَاتِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَغَيْرِهِمَا. وَقَوْلُهُ: كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَذَلِكَ السَّلْكُ، أَيِ: الْإِدْخَالُ، سَلَكْنَاهُ، أَيْ: أَدْخَلْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، وَإِيضَاحُهُ عَلَى أَنَّهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ عَلَى رَجُلٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، فَسَمِعُوهُ وَفَهِمُوهُ لِأَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ، وَدَخَلَتْ مَعَانِيهِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ; لِأَنَّ كَلِمَةَ الْعَذَابِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي سَلَكْنَاهُ لِلْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، يَدُلُّ عَلَى إِدْخَالِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ: كَذَلِكَ السَّلْكُ سَلَكْنَاهُ، إِلَخْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ.
لَفْظَةُ: هَلْ هُنَا يُرَادُ بِهَا التَّمَنِّي، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ تَمَنَّوُا التَّأْخِيرَ وَالْإِنْظَارَ، أَيِ: الْإِمْهَالَ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى طَلَبِهِمْ ذَلِكَ صَرِيحًا، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا إِلَى مَا طَلَبُوا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [14 \ 44] وَأَوْضَحَ أَنَّهُمْ لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [21 \ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [44 \ 29] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الْآيَةَ [13 \ 6] وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [10 \ 50 - 51] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ [2 \ 96] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [17 \ 15] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [10 \ 44] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [4 \ 40]
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ: ذِكْرَى، أَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَذِهِ ذِكْرَى، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَنْصُوبًا، وَفِي إِعْرَابِهِ عَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ أَوْجُهٌ: مِنْهَا أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ، مِنْ قَوْلِهِ: مُنْذِرُونَ، لِأَنَّ أَنْذَرَ وَذَكَرَ مُتَقَارِبَانِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: مُنْذِرُونَ مِنْ أَجْلِ الذِّكْرَى بِمَعْنَى التَّذْكِرَةِ.
وَمِنْهَا أَنَّهَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي مُنْذِرُونَ، أَيْ: يُنْذِرُونَهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ ذَوِي تَذْكِرَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا الْآيَةَ [15 \ 16 - 17] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ. قَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] بِالدَّلِيلِ الْقُرْآنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُخَاطَبُ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا [17 \ 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. هَذَا الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِإِنْذَارِهِ خُصُوصَ عَشِيرَتِهِ الْأَقْرَبِينَ، لَا يُنَافِي الْأَمْرَ بِالْإِنْذَارِ الْعَامِّ، كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [6 \ 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [5 \ 54] وَفِي «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [15 \ 88] وَقَدْ وَعَدْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [17 \ 23] بِأَنَّا نُوَضِّحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَى الذُّلِّ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَهَذَا وَفَاؤُنَا بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَيَكْفِينَا فِي الْوَفَاءِ بِهِ أَنْ نَنْقُلَ كَلَامَنَا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ:«مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ» .
فَقَدْ قُلْنَا فِيهَا، مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [17 \ 24] أَنَّ الْجَنَاحَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّ الْجَنَاحَ يُطْلَقُ لُغَةً حَقِيقَةً عَلَى يَدِ الْإِنْسَانِ وَعَضُدِهِ وَإِبِطِهِ. قَالَ تَعَالَى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [28 \ 32] وَالْخَفْضُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ مُرِيدَ الْبَطْشِ يَرْفَعُ جَنَاحَيْهِ، وَمَظْهَرُ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ يَخْفِضُ جَنَاحَيْهِ، فَالْأَمْرُ بِخَفْضِ الْجَنَاحِ لِلْوَالِدَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ لِينِ الْجَانِبِ لَهُمَا، وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا ; كَمَا قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِطْلَاقُ الْعَرَبِ خَفْضَ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنِ التَّوَاضُعِ وَلِينِ الْجَانِبِ أُسْلُوبٌ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَأَنْتَ الشَّهِيرُ بِخَفْضِ الْجَنَا
…
حِ فَلَا تَكُ فِي رَفْعِهِ أَجْدَلَا
وَأَمَّا إِضَافَةُ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ، فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْمَجَازَ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ كَالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ.
فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَاخْفِضْ لَهُمَا الْجَنَاحَ الذَّلِيلَ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَوِ الذَّلُولَ عَلَى قِرَاءَةِ الذُّلِّ بِالْكَسْرِ، وَمَا يُذْكَرُ عَنْ أَبِي تَمَّامٍ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ:
لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمَلَامِ فَإِنَّنِي
…
صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِي
جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: صُبَّ لِي فِي هَذَا الْإِنَاءِ شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمَلَامِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ أَتَيْتَنِي
بِرِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِ الذُّلِّ صَبَبْتُ لَكَ شَيْئًا مِنْ مَاءِ الْمَلَامِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا خَفْضُ الْجَنَاحِ الْمُتَّصِفِ بِالذُّلِّ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِهِمَا، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ كَحَاتِمِ الْجُودِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ الْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: مَطَرَ السَّوْءِ [25 \ 40] وَعَذَابَ الْهُونِ [6 \ 93] أَيْ: مَطَرَ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ الْمَوْصُوفَ بِسَوْئِهِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَعَذَابَ أَهْلِ النَّارِ الْمَوْصُوفَ بِهَوْنِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَالْمُسَوِّغُ لِإِضَافَةِ خُصُوصِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ مَعَ أَنَّ الذُّلَّ مِنْ صِفَةِ الْإِنْسَانِ لَا مِنْ صِفَةِ خُصُوصِ الْجَنَاحِ، أَنَّ خَفْضَ الْجَنَاحِ كُنِّيَ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْإِنْسَانِ، وَتَوَاضُعِهِ وَلِينِ جَانِبِهِ لِوَالِدَيْهِ رَحْمَةً بِهِمَا، وَإِسْنَادُ صِفَاتِ الذَّاتِ لِبَعْضِ أَجْزَائِهَا مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، كَإِسْنَادِ الْكَذِبِ وَالْخَطِيئَةِ إِلَى النَّاصِيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [96 \ 16] وَكَإِسْنَادِ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [88 \ 2 - 3] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي «الصَّوَاعِقِ» : إِنَّ مَعْنَى إِضَافَةِ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ أَنَّ لِلذُّلِّ جَنَاحًا مَعْنَوِيًّا يُنَاسِبُهُ لَا جَنَاحَ رِيشٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، انْتَهَى. وَفِيهِ إِيضَاحُ مَعْنَى خَفْضِ الْجَنَاحِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إِضَافَةَ الْجَنَاحِ إِلَى الذُّلِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ ; كَمَا أَوْضَحْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ قُلْتَ: الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْمُؤْمِنُونَ هُمُ الْمُتَّبِعُونَ لِلرَّسُولِ، فَمَا قَوْلُهُ: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَنْ يُسَمِّيَهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ مُؤْمِنِينَ، لِمُشَارَفَتِهِمْ ذَلِكَ. وَأَنْ يُرِيدَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ صَدَّقَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَصِنْفٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إِلَّا التَّصْدِيقُ فَحَسْبُ، ثُمَّ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ أَوْ فَاسِقِينَ، وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ، لَا يُخْفَضُ لَهُمَا الْجَنَاحُ.
وَالْمَعْنَى: الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَشِيرَتِكَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ: أَنْذِرْ قَوْمَكَ فَإِنِ اتَّبَعُوكَ وَأَطَاعُوكَ، فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَإِنْ عَصَوْكَ وَلَمْ يَتَّبِعُوكَ فَتَبَرَّأْ مِنْهُمْ وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَغَيْرِهِ، انْتَهَى مِنْهُ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي فِي قَوْلِهِ: لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ التَّوْكِيدِ يَكْثُرُ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ; كَقَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 167] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ [2 \ 79] وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَكْتُبُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [6 \ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [2 \ 109] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَتَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ فِي التَّرْجَمَةِ، وَفِيمَا مَضَى مِنَ الْكِتَابِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، قَالَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْمَعْنَى: وَتَقَلُّبَكَ فِي أَصْلَابِ آبَائِكَ السَّاجِدِينَ، أَيِ: الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ كَآدَمَ وَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ لِهَذَا الْقَوْلِ فِيمَنْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ آبَائِهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [43 \ 28] وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَفِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ مُقْتَرِنًا بِهِ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ أَنْ يَقُومَ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِجْمَاعًا، وَأَوَّلُ الْآيَةِ مُرْتَبِطٌ بِآخِرِهَا، أَيِ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ إِلَى صَلَاتِكَ، وَحِينَ تَقُومُ مِنْ فِرَاشِكَ وَمَجْلِسِكَ، وَيَرَى وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، أَيِ: الْمُصَلِّينَ، عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَتَقَلَّبُ فِي الْمُصَلِّينَ قَائِمًا، وَسَاجِدًا وَرَاكِعًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، أَيْ: إِلَى الصَّلَاةِ وَحْدَكَ، وَوَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، أَيِ: الْمُصَلِّينَ إِذَا صَلَّيْتَ بِالنَّاسِ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِهِ صلى الله عليه وسلم، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا الْآيَةَ [52 \ 48] .
وَقَوْلُهُ: وَتَوَكَّلْ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعِ غَيْرَ نَافِعٍ وَابْنِ عَامِرٍ: وَتَوَكَّلْ بِالْوَاوِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: فَتَوَكَّلْ بِالْفَاءِ، وَبَعْضُ نُسَخِ الْمُصْحَفِ الْعُثْمَانِيِّ فِيهَا الْوَاوُ وَبَعْضُهَا فِيهَا الْفَاءُ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْفَاتِحَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [1 \ 5] وَبَسَطْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مَعَ بَيَانِ مَعْنَى التَّوَكُّلِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [17 \ 2] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ. الْشُّعَرَاءُ: جَمْعُ شَاعِرٍ، كَجَاهِلٍ وَجُهَلَاءَ، وَعَالِمٍ وَعُلَمَاءَ. وَيَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ: جَمْعُ غَاوٍ وَهُوَ الضَّالُّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الشُّعَرَاءِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَحْدَهُ: يَتَّبِعُهُمُ بِسُكُونِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ، وَفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ يَتَّبِعُهُمُ بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ، وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي قَوْلِهِ: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، يَدُلُّ عَلَى تَكْذِيبِ الْكُفَّارِ فِي دَعْوَاهُمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَاعِرٌ ; لِأَنَّ الَّذِينَ يَتْبَعُهُمُ الْغَاوُونَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ.
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ مِنَ الْآيَاتِ، مُبَيِّنًا أَنَّهُمُ ادَّعَوْا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ شَاعِرٌ وَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، أَمَّا دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَاعِرٌ، فَقَدْ ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ الْآيَةَ [21 \ 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ [37 \ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [52 \ 30] . وَأَمَّا تَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [69 \ 41] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [36 \ 96] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [37 \ 36 - 37] ; لِأَنَّ
قَوْلَهُ تَعَالَى: بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ، تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهُ شَاعِرٌ مَجْنُونٌ.
مَسْأَلَتَانِ تَتَعَلَّقَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لِأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ:«يَرِيهِ» بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ، مُضَارِعُ وَرَى الْقَيْحُ جَوْفَهُ، يَرِيهِ، وَرْيًا إِذَا أَكَلَهُ وَأَفْسَدَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَصْلَ وَرَاهُ أَصَابَ رِئَتَهُ بِالْإِفْسَادِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ.
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الشُّعَرَاءَ، بِقَوْلِهِ: يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ [26 \ 224 - 226] اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا الْآيَةَ [26 \ 227] .
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُصَرِّحَ بِأَنَّ امْتِلَاءَ الْجَوْفِ مِنَ الْقَيْحِ الْمُفْسِدِ لَهُ خَيْرٌ مِنِ امْتِلَائِهِ مِنَ الشِّعْرِ، مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ، وَاشْتَغَلَ بِهِ عَنِ الذِّكْرِ، وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الشِّعْرِ الْقَبِيحِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكَذِبِ، وَالْبَاطِلِ كَذِكْرِ الْخَمْرِ وَمَحَاسِنِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّاعِرِ إِذَا اعْتَرَفَ فِي شِعْرِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ حَدًّا، هَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ، وَالْإِقْرَارُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُدُودُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فِي الشِّعْرِ ; لِأَنَّ كَذِبَ الشَّاعِرِ فِي شِعْرِهِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مُعْتَادٌ، وَاقِعٌ لَا نِزَاعَ فِيهِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ الشَّاعِرَ إِذَا أَقَرَّ فِي شِعْرِهِ بِمَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ، لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا صَرَّحَ هُنَا بِكَذِبِهِمْ فِي شِعْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدْرَأُ عَنْهُمُ الْحَدَّ،
وَلَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ اسْتَوْجَبَ بِإِقْرَارِهِ بِهِ الْمَلَامَ وَالتَّأْدِيبَ وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْمَشْهُورَةِ مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ فِي «الطَّبَقَاتِ» ، وَالزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ فِي كِتَابِ الْفُكَاهَةِ: أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَ النُّعْمَانَ بْنَ عَدِيِّ بْنِ نَضْلَةَ عَلَى مَيْسَانَ مِنْ أَرْضِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ يَقُولُ الشِّعْرَ، فَقَالَ:
أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ حَلِيلَهَا
…
بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ
إِذَا شِئْتُ غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ
…
وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسَمِ
فَإِنْ كُنْتَ نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي
…
وَلَا تُسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ
…
تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: إِي وَاللَّهِ إِنَّهُ لَيَسُوءُنِي ذَلِكَ، وَمَنْ لَقِيَهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنِّي قَدْ عَزَلْتُهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [40 \ 1 - 3] أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي قَوْلُكَ:
لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ
…
تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ
وَايْمُ اللَّهِ إِنَّهُ لَيَسُوءُنِي، وَقَدْ عَزَلْتُكَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ بَكَّتَهُ بِهَذَا الشِّعْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا شَرِبْتُهَا قَطُّ، وَمَا ذَلِكَ الشِّعْرُ إِلَّا شَيْءٌ طَفَحَ عَلَى لِسَانِي، فَقَالَ عُمَرُ: أَظُنُّ ذَلِكَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَا تَعْمَلُ لِي عَمَلًا أَبَدًا، وَقَدْ قُلْتَ مَا قُلْتَ، فَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ حَدَّهُ عَلَى الشَّرَابِ، وَقَدْ ضَمَّنَهُ شِعْرَهُ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَلَكِنَّهُ ذَمَّهُ عُمَرُ وَلَامَهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَزَلَهُ بِهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ يُسْتَأْنَسُ بِهَا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ، لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الْفَرَزْدَقِ:
فَبِتْنَ بِجَانِبَيَّ مُصَرَّعَاتٍ
…
وَبِتُّ أَفُضُّ أَغْلَاقَ الْخِتَامِ
قَالَ لَهُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْكَ الْحَدُّ، فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَرَأَ اللَّهُ عَنِّي
الْحَدَّ، بِقَوْلِهِ: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، فَلَمْ يَحُدَّهُ مَعَ إِقْرَارِهِ بِمُوجِبِ الْحَدِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا عَنِ «الشُّعَرَاءِ» مِنْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَقْتِ عِنْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [61 \ 2 - 3] وَالْمَقْتُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْبُغْضُ الشَّدِيدُ، فَقَوْلُ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَفْعَلُ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ الشِّعْرِ يُبْغِضُهُ اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مَا لَا يَفْعَلُ فِيهِ تَفَاوُتٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا الْآيَةَ [18 \ 2] مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا. أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِذِكْرِهِمُ اللَّهَ كَثِيرًا، وَهَذَا الَّذِي أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ هُنَا مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ، أَمَرَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، وَبَيَّنَ جَزَاءَهُ ; قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [8 \ 45] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [33 \ 41 - 42] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ الْآيَةَ [3 \ 191 - 192] وَقَالَ تَعَالَى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [33 \ 35] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [42 \ 41 - 42] فِي آخِرِ سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [16 \ 126] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ. الْمُنْقَلَبُ هُنَا الْمَرْجِعُ وَالْمَصِيرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ هُنَا مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الصَّرْفِ أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ كَانَ كُلٌّ مِنْ مَصْدَرِهِ الْمِيمِيِّ، وَاسْمِ مَكَانِهِ، وَاسْمِ زَمَانِهِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ.
وَالْمَعْنَى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مَرْجِعٍ يَرْجِعُونَ، وَأَيَّ مَصِيرٍ يَصِيرُونَ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الظَّالِمِينَ سَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَرْجِعَ الَّذِي يَرْجِعُونَ، أَيْ: يَعْلَمُونَ الْعَاقِبَةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي هِيَ مَآلُهُمْ وَمَصِيرُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ، جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [102 \ 3 - 7] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [25 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [13 \ 42] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ، مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْقَلِبُونَ، وَلَيْسَ مَفْعُولًا بِهِ، لِقَوْلِهِ: وَسَيَعْلَمُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَيَّ مَنْصُوبُ يَنْقَلِبُونَ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ سَيَعْلَمُ، لِأَنَّ أَيًّا وَسَائِرَ أَسْمَاءِ الِاسْتِفْهَامِ لَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا فِيمَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مَعْنًى وَمَا قَبْلَهُ مَعْنًى آخَرُ، فَلَوْ عَمِلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ لَدَخَلَ بَعْضُ الْمَعَانِي فِي بَعْضٍ، انْتَهَى مِنْهُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.