المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ‌ ‌ الرُّومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٦

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ‌ ‌ الرُّومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ

بسم الله الرحمن الرحيم

سُورَةُ‌

‌ الرُّومِ

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ، مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [30 \ 3 - 5] ، هُوَ نَفْسُ الْوَعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعْدًا.

وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ.

وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. [13 \ 31] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ وَعِيدَهُ لِلْكُفَّارِ لَا يُخْلَفُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [50 \ 28 - 29] .

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ وَعِيدُهُ لِلْكُفَّارِ.

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14]، وَقَوْلِهِ: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14]، فَقَوْلُهُ: حَقَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَيْ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بِحَالٍ.

ص: 164

وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا: وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْكَافِرُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [11 \ 17]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [37 \ 71]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [26 \ 8]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [6 \ 116]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [12 \ 103] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [2 \ 170]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [2 \ 171]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [25 \ 44]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [7 \ 179]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [67 \ 10] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [29 \ 38]، أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ [53 \ 29 - 30] .

وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا الْآيَةَ [23 \ 36 - 37] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] ، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] ، مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

[تَنْبِيهٌ]

ص: 165

تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَتَدَبَّرَ آيَةَ «الرُّومِ» هَذِهِ تَدَبُّرًا كَثِيرًا، وَيُبَيِّنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لِكُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ بَيَانَهُ لَهُ مِنَ النَّاسِ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ فِتَنِ آخِرِ الزَّمَانِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا ضِعَافَ الْعُقُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةَ إِتْقَانِ الْإِفْرِنْجِ لِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَهَارَتِهِمْ فِيهَا عَلَى كَثْرَتِهَا، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مَعَ عَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، فَظَنُّوا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا مُتَخَلِّفٌ وَلَيْسَ عَلَى الْحَقِّ، وَهَذَا جَهْلٌ فَاحِشٌ، وَغَلَطٌ فَادِحٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ، وَتَخْفِيفٌ لِشَأْنِهَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِأَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ مَا أَعْلَمَهُ، وَمَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَحْسَنَ تَعْلِيمَهُ.

فَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَقَدْ نَفَى عَنْهُمْ جَلَّ وَعَلَا اسْمَ الْعَلَمِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا عَمَّنْ خَلَقَهُمْ، فَأَبْرَزُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَرَزَقَهُمْ، وَسَوْفَ يُمِيتُهُمْ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ، ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا شَيْئًا عَنْ مَصِيرِهِمُ الْأَخِيرِ الَّذِي يُقِيمُونَ فِيهِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً فِي عَذَابٍ فَظِيعٍ دَائِمٍ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ جَمِيعِ هَذَا فَلَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ جِنْسِ مَنْ يَعْلَمُ ; كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ لَمَّا نَفَى عَنْهُمْ جَلَّ وَعَلَا اسْمَ الْعَلَمِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، أَثْبَتَ لَهُمْ نَوْعًا مِنَ الْعِلْمِ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ.

وَعَابَ ذَلِكَ النَّوْعَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْعِلْمِ، بِعَيْبَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّتُهُ وَضِيقُ مَجَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعِلْمُ الْمَقْصُورُ عَلَى ظَاهِرٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَضِيقِ الْمَجَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا، وَالْعِلْمِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَبِمَا يُقَرِّبُ عَبْدَهُ مِنْهُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ، وَمَا يَخْلُدُ فِي النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَالْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.

وَالثَّانِي مِنْهُمَا: هُوَ دِنَاءَهُ هَدَفِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ نُبْلِ غَايَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَهِيَ سَرِيعَةُ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالَ، وَيَكْفِيكَ مِنْ تَحْقِيرِ هَذَا الْعِلْمِ الدُّنْيَوِيِّ أَنَّ أَجْوَدَ

ص: 166

أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا، أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَا يَعْلَمُونَ، فَهَذَا الْعِلْمُ كَلَا عِلْمٍ لِحَقَارَتِهِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ مِنَ النُّكْتَةِ أَنَّهُ أَبْدَلَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ لِيُعَلِّمَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ، وَبَيْنَ وُجُودِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ الدُّنْيَا.

وَقَوْلُهُ: ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُفِيدُ أَنَّ لِلدُّنْيَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَظَاهِرُهَا مَا يَعْرِفُهُ الْجُهَّالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَخَارِفِهَا، وَالتَّنَعُّمِ بِمَلَاذِّهَا وَبَاطِنِهَا، وَحَقِّيَّتُهَا أَنَّهَا مَجَازٌ إِلَى الْآخِرَةِ، يُتَزَوَّدُ مِنْهَا إِلَيْهَا بِالطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي تَنْكِيرِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا ظَاهِرًا وَاحِدًا مِنْ ظَوَاهِرِهَا. وَهُمْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَغَافِلُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ هُمْ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، وَغَافِلُونَ خَبَرُ الْأُولَى، وَأَيَّةً كَانَتْ فَذِكْرُهَا مُنَادٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْدِنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ، وَمَقَرُّهَا، وَمَحَلُّهَا وَأَنَّهَا مِنْهُمْ تَنْبُعُ وَإِلَيْهِمْ تَرْجِعُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» .

وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِي تَنْكِيرِ قَوْلِهِ: ظَاهِرًا تَقْلِيلٌ لِمَعْلُومِهِمْ، وَتَقْلِيلُهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ النَّفْيِ، حَتَّى يُطَابِقَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ، اهـ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [19 \ 78] ، وَهَذِهِ الْعُلُومُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي بَيَّنَّا حَقَارَتَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا غَفَلَ عَنْهُ أَصْحَابُهَا الْكُفَّارُ، إِذَا تَعَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ تَعْلِيمِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا ; لِأَنَّهَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَإِصْلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا عَيْبَ فِيهَا إِذَنْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [8 \ 60] ، فَالْعَمَلُ فِي إِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعْيًا فِي مَرْضَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْكُفَّارِ الْغَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ كَمَا تَرَى، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ.

ص: 167

لَمَّا بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ غَافِلُونَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ غَفْلَتَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ، مَعَ شِدَّةِ وُضُوحِ أَدِلَّتِهَا بِقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ، وَالتَّفَكُّرُ: التَّأَمُّلُ وَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، وَأَصْلُهُ إِعْمَالُ الْفِكْرِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ يَقُولُونَ: الْفِكْرُ فِي الِاصْطِلَاحِ حَرَكَةُ النَّفْسِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَأَمَّا حَرَكَتُهَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ تَخْيِيلٌ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : فِي أَنْفُسِهِمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَلَمْ يُحْدِثُوا التَّفَكُّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: فِي قُلُوبِهِمُ الْفَارِغَةِ مِنَ الْفِكْرِ، وَالْفِكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِحَالِ الْمُتَفَكِّرِينَ ; كَقَوْلِكَ: اعْتَقَدَهُ فِي قَلْبِكَ وَأَضْمِرْهُ فِي نَفْسِكَ وَأَنْ يَكُونَ صِلَةً لِلتَّفَكُّرِ كَقَوْلِكَ: تَفَكَّرَ فِي الْأَمْرِ أَجَالَ فِيهِ فِكْرَهُ، وَمَا خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، مَعْنَاهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فَيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَيَعْلَمُوا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: مَا خَلَقَهَا بَاطِلًا وَعَبَثًا بِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَلَا لِتَبْقَى خَالِدَةً، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا مَقْرُونَةً بِالْحَقِّ، مَصْحُوبَةً بِالْحِكْمَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَجَلٍ مُسَمًّى لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، وَوَقْتُ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.

أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [23 \ 115] ، كَيْفَ سَمَّى تَرْكَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ عَبَثًا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِثِيَابِ السَّفَرِ، وَاشْتَرَى الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ وَلِجَامِهِ، تُرِيدُ: اشْتَرَاهُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى: مَا خَلَقَهَا إِلَّا وَهِيَ مُتَلَبِّسَةٌ بِالْحَقِّ مُقْتَرِنَةٌ بِهِ.

فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا جُعِلَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ صِلَةٌ لِلتَّفَكُّرِ فَمَا مَعْنَاهُ؟ .

قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمْ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِأَحْوَالِهَا مِنْهُمْ بِأَحْوَالِ مَا عَدَاهَا، فَتَدَبَّرُوا مَا أَوْدَعَهَا اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّدْبِيرِ دُونَ الْإِهْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ انْتِهَاءٍ إِلَى وَقْتٍ يُجَازِيهَا فِيهِ الْحَكَمُ الَّذِي دَبَّرَ أَمْرَهَا عَلَى الْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَعَلَى الْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، حَتَّى يَعْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْخَلَائِقِ كَذَلِكَ أَمْرُهَا جَارٍ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ

ص: 168

لَهَا مِنَ الِانْتِهَاءِ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالْمُرَادُ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» ، فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ خَلْقَهُ تَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا، بَلْ مَا خَلَقَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلَقَهُمَا عَبَثًا لَكَانَ ذَلِكَ الْعَبَثُ بَاطِلًا وَلَعِبًا، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ مَا خَلَقَهُمَا وَخَلَقَ جَمِيعَ مَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِيهِمَا الْخَلَائِقَ، وَيُكَلِّفُهُمْ فَيَأْمُرُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ، وَيَعِدُهُمْ وَيُوعِدُهُمْ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ الْمُسَمَّى لِذَلِكَ بَعَثَ الْخَلَائِقَ، وَجَازَاهُمْ فَيُظْهِرُ فِي الْمُؤْمِنِينَ صِفَاتِ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَتَظْهَرُ فِي الْكَافِرِينَ صِفَاتُ عَظْمَتِهِ، وَشَدَّةُ بَطْشِهِ، وَعِظَمُ نَكَالِهِ، وَشَدَّةُ عَدْلِهِ وَإِنْصَافُهُ، دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [44 \ 38 - 40]، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الْآيَةَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ.

فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [53 \ 31] .

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا بَاطِلًا لَا لِحِكْمَةٍ الْكُفَّارُ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ الْكَاذِبِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] ، وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْعَثِ الْخَلَائِقَ وَيُجَازِهِمْ، لَكَانَ خَلْقُهُ لَهُمْ أَوَّلًا عَبَثًا، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَبَثِ سبحانه وتعالى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [23 \ 115 - 116] .

فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ

ص: 169

بَاعِثُهُمْ، وَمُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ هَذَا، فَكَانُوا غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ، كَافِرِينَ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: وَمَا بَيْنَهُمَا، أَيْ: مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَدْخُلُ فِيهِ السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْهَوَاءُ الَّذِي لَا غِنَى لِلْحَيَوَانِ عَنِ اسْتِنْشَاقِهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [15 \ 76] . وَفِي «الْمَائِدَةِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [5 \ 32] . وَفِي «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [1 \ 83] . وَفِي «الْإِسْرَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ الْآيَةَ [17 \ 17] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الرُّومِ» هَذِهِ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [30 \ 9]، جَاءَ مُوَضِّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [40 \ 82] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ.

قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: كَانَ عَاقِبَةُ، بِضَمِّ التَّاءِ اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا السُّوءَى. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ، بِفَتْحِ التَّاءِ خَبَرُ كَانَ قُدِّمَ عَلَى اسْمِهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» : وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسَّطَ الْخَبَرُ أَجِزْ. . . . . . . .

وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَـ السُّوءَى اسْمُ كَانَ، وَإِنَّمَا جُرِّدَ الْفِعْلُ مِنَ التَّاءِ مَعَ أَنَّ السُّوءَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَمْرَيْنِ:

ص: 170

الْأَوَّلُ: أَنَّ تَأْنِيثَهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ.

وَالثَّانِي: الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ فَوَجْهُ تَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ التَّاءِ هُوَ كَوْنُ تَأْنِيثِ الْعَاقِبَةِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ فَقَطْ.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ: كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُسِيئِينَ السُّوءَى، وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَسْوَءِ، بِمَعْنَى: الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ سُوءًى، أَيْ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ الْعُقُوبَاتِ، أَيْ: أَكْثَرُهَا سُوءًى وَهِيَ النَّارُ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا.

وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ التَّاءِ، فَالْمَعْنَى: كَانَتِ السُّوءَى عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا، وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ كَذَّبُوا، أَيْ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ أَسْوَأَ الْعُقُوبَاتِ لِأَجْلِ أَنْ كَذَّبُوا.

وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُوَضِّحُ أَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ قَدْ يُؤَدِّي شُؤْمُهُ إِلَى شَقَاءِ صَاحِبِهِ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [61 \ 5]، وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [2 \ 10]، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [4 \ 155] .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [17 \ 46] . وَفِي «الْأَعْرَافِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [7 \ 101] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مَنْصُوبٌ بِـ أَسَاءُوا، أَيِ: اقْتَرَفُوا الْجَرِيمَةَ السُّوءَى خِلَافُ الصَّوَابِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ كَذَّبُوا تَفْسِيرِيَّةٌ، فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْبَقَرَةِ» ، وَ «النَّحْلِ» ، وَ «الْحَجِّ» ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ.

ص: 171