الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ الْآيَةَ [35 \ 40] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَحْقَافِ» : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [46 \ 4] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الرُّومِ» : أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [30 \ 35] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [37 \ 156 - 157] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [27 \ 64] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» وَ «لُقْمَانَ» : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ [22 \ 8] وَ [31 \ 20] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَنْعَامِ» : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [6 \ 148] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ الْآيَةَ
[23
\ 44] .
وَفِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا [6 \ 123] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [43 \ 24] .
قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: (قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْمَعْنَى: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: أَتَقْتَدُونَ بِآبَائِكُمْ فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى، أَيْ بِدِينٍ أَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ هُنَا لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ ; لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا شَيْءَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْهِدَايَةِ أَصْلًا.
وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَحَفْصٍ فَالْمَعْنَى: قَالَ هُوَ: أَيْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ مِرَارًا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَسْفِيهِ رَأْيِ الْكُفَّارِ وَبَيَانِ شِدَّةِ ضَلَالِهِمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ آبَاءَهُمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [2 \ 170] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمَائِدَةِ» : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [5 \ 104] .
وَأَوْضَحَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «لُقْمَانَ» أَنَّ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الشَّيْطَانِ يَدْعُوهُمْ بِسُلُوكِهَا إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 21] . كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [37 \ 69 - 70] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [21 \ 51 - 54] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّهُ بَرَاءٌ، أَيْ بَرِيءٌ، مِنْ جَمِيعِ مَعْبُودَاتِهِمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ يَعْنِي أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ، إِلَّا الْمَعْبُودَ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ، فَهُوَ وَحْدَهُ مَعْبُودُهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ الْآيَةَ [26 \ 57 - 78] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 78 - 79] .
وَزَادَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ «الْمُمْتَحَنَةِ» بَرَاءَتَهُ أَيْضًا مِنَ الْعَابِدِينَ، وَعَدَاوَتَهُ لَهُمْ، وَبُغْضَهُ لَهُمْ فِي اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [60 \ 4] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [26 \ 78] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [37 \ 99] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ [6 \ 77] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي أَيْ خَلَقَنِي - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا الْخَالِقُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا -.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [2 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ [26 \ 184] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [13 \ 16] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ [16 \ 17] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [7 \ 191] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الْآيَةَ [25 \ 2 - 3] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.
الضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي (جَعَلَهَا) عَلَى التَّحْقِيقِ رَاجِعٌ إِلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [43 \ 26 - 27] . لِأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ، فَمَعْنَى النَّفْيِ مِنْهَا هُوَ الْبَرَاءَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرَ اللَّهِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ.
وَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْنَى صَيَّرَ إِبْرَاهِيمَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ (بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) أَيْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَهَا إِبْرَاهِيمُ بَاقِيَةً فِيهِمْ، لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَصَّيْتُهُ لِأَوْلَادِهِ بِذَلِكَ، وَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ الْوَصِيَّةَ بِذَلِكَ عَنْهُ، فَيُوصِي بِهِ السَّلَفُ مِنْهُمُ الْخَلْفَ، كَمَا أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ الْآيَةَ [2 \ 130 - 132]
وَالْأَمْرُ الثَّانِي هُوَ سُؤَالُهُ رَبَّهُ - تَعَالَى - لِذُرِّيَّتِهِ الْإِيمَانَ وَالصَّلَاحَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [2 \ 124] . أَيْ وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْضًا أَئِمَّةً، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْهُ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [14 \ 40] . وَقَوْلِهِ عَنْهُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [14 \ 35] . وَقَوْلِهِ عَنْهُ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ إِلَى قَوْلِهِ: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [2 \ 129] .
وَقَدْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِي بَعْثِ الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ» .
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [29 \ 27] . وَقَالَ عَنْهُ وَعَنْ نُوحٍ فِي سُورَةِ «الْحَدِيدِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ الْآيَةَ [57 \ 26] .
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا إِشْكَالَ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُجِبْ دَعْوَةَ إِبْرَاهِيمَ فِي جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِي جَمِيعِ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم مِنْ عَقِبِهِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَقَدْ كَذَّبُوهُ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: إِنَّهُ سَاحِرٌ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَآبَاءَهُمْ، حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ عَقِبِ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الْكَلِمَةَ الْمَذْكُورَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» :
قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [2 \ 124] . أَيِ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الصَّافَّاتِ» : وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [37 \ 113] .
فَالْمُحْسِنُ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي الْكَلِمَةُ بَاقِيَةٌ فِيهِ، وَالظَّالِمُ لِنَفَسِهِ الْمُبِينُ مِنْهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «النِّسَاءِ» : فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي «الْحَدِيدِ» أَنَّ غَيْرَ الْمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [57 \ 26] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أَيْ جَعَلَ الْكَلِمَةَ بَاقِيَةً فِيهِمْ; لَعَلَّ الزَّائِغَيْنِ الضَّالَّيْنِ مِنْهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ بِإِرْشَادِ الْمُؤْمِنِينَ الِمُهْتَدِينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْحَقَّ مَا دَامَ قَائِمًا فِي جُمْلَتِهِمْ فَرُجُوعُ الزَّائِغَيْنِ عَنْهُ إِلَيْهِ مَرْجُوٌّ مَأْمُولٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
وَالرَّجَاءُ الْمَذْكُورُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَنِي آدَمَ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنْ يَصِيرُ إِلَى الْهُدَى، وَمَنْ يَصِيرُ إِلَى الضَّلَالِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
وَالْمَعْنَى (فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) ، أَيْ قَالَ لَهُمْ، يَتُوبُونَ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. اهـ مِنْهُ.
وَإِيضَاحُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) لِأَجْلِ أَنْ يَرْجِعُوا عَنِ الْكُفْرِ إِلَى الْحَقِّ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عَلَى هَذَا رَاجِعٌ إِلَى أَبِيهِ وَقَوْمِهِ.
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ ضَلَّ مِنْ عَقِبِهِ ; لِأَنَّ الضَّالِّينَ مِنْهُمْ دَاخِلُونَ فِي لَفْظِ الْعَقِبِ.
فَرُجُوعُ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الْعَقِبِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
مَسْأَلَةٌ
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَعْنَى الْعَقِبِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِهَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ [14 \ 35] .
وَقَالَ عَنْهُ فِي بَعْضِهَا: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [14 \ 40] . وَفِي بَعْضِهَا: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [14 \ 37] . وَفِي بَعْضِهَا قَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [29 \ 27] . وَفِي بَعْضِهَا: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ.
فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَنِينَ وَالذُّرِّيَّةِ وَالْعَقِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ وَقْفًا أَوْ تَصَدَّقَ صَدَقَةً عَلَى بَنِيهِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ أَوْ عَقِبِهِ - أَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ وَاحِدٌ.
وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ وَاسْمِ الْبَنِينَ.
وَإِذَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعَقِبَ بِمَعْنَاهُمَا - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْعَقِبِ أَيْضًا، فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ [6 \ 84 - 85] . وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الذَّرِّيَّةِ ; لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدُ بِنْتٍ، إِذْ لَا أَبَ لَهُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى دُخُولِ وَلَدِ الْبِنْتِ فِي اسْمِ الْبَنِينَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [4 \ 23] . لِأَنَّ لَفْظَ الْبَنَاتِ فِي الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ - شَامِلٌ لِبَنَاتِ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَحِيحٌ فِي اسْتِوَاءِ بَنَاتِ بَنِيهِنَّ وَبَنَاتِ بَنَاتِهِنَّ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ دُخُولَ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالْبَنِينَ وَالْعَقِبِ، هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ.
وَكَلَامُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ مَعْرُوفٌ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ، وَلَمْ نَبْسُطْ عَلَى ذَلِكَ الْكَلَامَ هُنَا ; لِأَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا مَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَطْ.
أَمَّا لَفْظُ الْوَلَدِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ.
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ الْآيَةَ [4 \ 11] . فَإِنَّ قَوْلَهُ: (فِي أَوْلَادِكُمْ) لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ قُرْآنِيٌّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي اسْمِ الْوَلَدِ.
وَإِنْ كَانَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَقِبَ وَالْوَلَدَ سَوَاءٌ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
أَمَّا لَفْظُ النَّسْلِ فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ شُمُولُهُ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [32 \ 6 - 8]- ظَاهِرٌ فِي أَنَّ لَفْظَةَ النَّسْلِ فِي الْآيَةِ شَامِلَةٌ لِأَوْلَادِ الْبَنَاتِ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هِيَ أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا ذَكَرْنَا خَمْسَةً مِنْهَا وَهِيَ: الذُّرِّيَّةُ وَالْبَنُونَ وَالْعَقِبُ وَالْوَلَدُ وَالنَّسْلُ. وَذَكَرْنَا أَنَّ أَرْبَعَةً مِنْهَا يَدُلُّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهَا يَدْخُلُ فِيهَا أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَوَاحِدٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ الْوَلَدُ.
وَأَمَّا السِّتَّةُ الْبَاقِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ: الْآلُ وَالْأَهْلُ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَالْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ وَالْقَوْمُ وَالْمَوَالِي، وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مُضْطَرِبٌ.
وَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ تَحْدِيدٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ مَا يَدْخُلُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمَا يَخْرُجُ عَنْهُ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، إِلَّا لَفْظَيْنِ مِنْهَا وَهُمَا الْقَرَابَةُ وَالْعَشِيرَةُ.
أَمَّا الْقَرَابَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ أَعْطَى مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي
الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ» ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [8 \ 41] . كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْفَالِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْخُمُسِ هَذِهِ.
وَأَمَّا الْعَشِيرَةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [26 \ 214]- صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي:«يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ» لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ تَحْدِيدُ الْعَشِيرَةِ الْأَقْرَبِينَ بِجَمِيعِ بَنِي فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ، وَهُوَ الْجَدُّ الْعَاشِرُ لَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ» أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، الْحَدِيثَ، وَقُرَيْشٌ هُمْ أَوْلَادُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ. وَقِيلَ: أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
تَنْبِيهٌ
[فَإِنْ قِيلَ] : ذَكَرْتُمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي لَفْظِ الْبَنِينَ، وَالشَّاعِرُ يَقُولُ فِي خِلَافِ ذَلِكَ:
بَنُونَا بَنُوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا
…
بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ يَذْكُرُونَ الْبَيْتَ الْمَذْكُورَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيمِ لَهُ، قَالُوا: وَمِمَّا يُوَضِّحُ صِدْقَهُ أَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً لِأَهْلِ أُمَّهَاتِهِمْ، وَكَثِيرًا مَا يَتْبَعُ الْوَلَدُ أَبَاهُ وَعُصْبَتَهُ فِي عَدَاوَةِ أَخْوَالِهِ وَبُغْضِهِمْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
[فَالْجَوَابُ] أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَهُ جِهَتَانِ، فَمَعْنَى لَفْظِ الِابْنِ لَهُ جِهَةٌ خَاصَّةٌ هِيَ مَعْنَى كَوْنِهِ خُلِقَ مِنْ مَاءِ هَذَا الرَّجُلِ عَلَى وَجْهٍ يَلْحَقُ فِيهِ نَسَبُهُ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَنْفِيٌّ عَنْ وَالِدِ أُمِّهِ، فَلَا يُقَالُ لَهُ: ابْنٌ - بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَثَابِتٌ لِأَبِيهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْ مَائِهِ، وَلَهُ جِهَةٌ أُخْرَى هِيَ كَوْنُهُ خَارِجًا فِي الْجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ، سَوَاءً كَانَ بِالْمُبَاشِرَةِ، أَوْ بِوَاسِطَةِ ابْنِهِ أَوْ بِنْتِهِ وَإِنْ سَفُلَ، فَالْبُنُوَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتَةٌ لِوَلَدِ الْبِنْتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي عَنَاهُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ فِي الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما:«وَإِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» الْحَدِيثَ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ [4 \ 23] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [4 \ 23] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:ُُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ
وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ الْآيَةَ [33 \ 55] .
فَلَفْظُ الْبَنَاتِ وَالْأَبْنَاءِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَوْلَادِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَإِنْ سَفُلُوا، وَإِنَّمَا شَمِلَهُمْ مِنَ الْجِهَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالِاعْتِبَارِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الِابْنِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّخْصِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ بِوَاسِطَةِ بَنَاتِهِ.
وَأَمَّا الْبَيْتُ الْمَذْكُورُ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَةُ الْأُولَى وَالِاعْتِبَارُ الْأَوَّلُ.
فَإِنَّ بَنِي الْبَنَاتِ لَيْسُوا أَبْنَاءً لِآبَاءِ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَائِهِمْ، وَإِنَّمَا خُلِقُوا مِنْ مَاءِ رِجَالٍ آخَرِينَ، رُبَّمَا كَانُوا أَبَاعِدَ، وَرُبَّمَا كَانُوا أَعْدَاءً.
فَصَحَّ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَفْيُ الْبُنُوَّةِ عَنِ ابْنِ الْبِنْتِ.
وَصَحَّ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ إِثْبَاتُ الْبُنُوَّةِ لَهُ، وَلَا تَنَاقُضَ مَعَ انْفِكَاكِ الْجِهَةِ.
وَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ وَأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى إِحْدَاهُمَا تَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ لِابْنِ الْبِنْتِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْأُخْرَى تَنْتَفِي عَنْهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» ، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ [4 \ 23] . وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ يَنْزِلُ عَلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [33 \ 40]- يَتَنَزَّلُ عَلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَتِلْكَ الْجِهَةُ هِيَ الَّتِي يَعْنِي الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ
وَيَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا أَنَّ قَبَائِلَ الْعَرَبِ قَدْ تَكُونُ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ وَمُقَاتَلَاتٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الْقِتَالُ بَيْنَ أَعْمَامِ الرَّجُلِ وَأَخْوَالِهِ، فَيَكُونُ مَعَ عُصْبَتِهِ دَائِمًا عَلَى أَخْوَالِهِ، كَمَا فِي الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي أَخْوَالِهِ فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً دُونَ مُعَامَلَتِهِمْ لِأَبْنَائِهِمْ.
كَمَا أَوْضَحَ ذَلِكَ غَسَّانُ بْنُ وَعْلَةَ فِي شِعْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ:
إِذَا كُنْتَ فِي سَعْدٍ وَأُمُّكَ مِنْهُمُ شَطِيرًا
…
فَلَا يَغْرُرْكَ خَالُكَ مِنْ سَعْدُُِ
فَإِنَّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مُصْغِي إِنَاؤُهُ
…
إِذَا لَمْ يُزَاحِمْ خَالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ
فَقَوْلُهُ: مُصْغِي إِنَاؤُهُ مِنَ الْإِصْغَاءِ وَهُوَ الْإِمَالَةُ ; لِأَنَّ الْإِنَاءَ إِذَا أُمِيلَ وَلَمْ يُتْرَكْ مُعْتَدِلًا لَمْ يَتَّسِعْ إِلَّا لِلْقَلِيلِ، فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نَقْصِ نَصِيبِهِ فِيهِمْ وَقِلَّتِهِ.
وَعَلَى الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ يَتَنَزَّلُ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ.
فَمَنْ رَأَى مِنْهُمْ أَنَّهُ أَبٌ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، فَقَدْ رَاعَى فِي الْجَدِّ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ.
وَمَنْ رَأَى مِنْهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبٍ وَأَنَّهُ لَا يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ، فَقَدْ لَاحَظَ الْجِهَةَ الْأُخْرَى.
وَلَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ هُنَا فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ أَحَدَ عَشَرَ لَفْظًا خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَجِدْ نُصُوصًا مِنَ الْوَحْيِ تُحَدِّدُ شَيْئًا مِنْهَا تَحْدِيدًا دَقِيقًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَ الْقَوْمِ مِنْهَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ.
وَأَنَّ الْإِنَاثَ قَدْ يَدْخُلْنَ فِيهِ بِحُكْمِ التَّبَعِ إِذَا اقْتَرَنَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ الْآيَةَ [49 \ 11] . فَعَطْفُهُ النِّسَاءَ عَلَى الْقَوْمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِنَّ فِي لَفْظِ الْقَوْمِ.
وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي
…
أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وَأَمَّا دُخُولُ النِّسَاءِ فِي الْقَوْمِ بِحُكْمِ التَّبَعِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ - فَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي مَلِكَةِ سَبَإٍ: وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ [27 \ 43] .
وَأَمَّا الْمَوَالِي فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ سَبَبٌ يُوَالِي وَيَوَالَى بِهِ.
وَلِذَا أَطْلَقَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُ بِالطَّاعَةِ وَيُوَالِيهِمْ بِالْجَزَاءِ.
وَنَفَى وِلَايَةَ الطَّاعَةِ عَنِ الْكَافِرِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [47 \ 11] .ُُ
وَأَثْبَتَ لَهُ عَلَيْهِمْ وِلَايَةَ الْمُلْكِ وَالْقَهْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [10] . كَمَا أَثْبَتَ لَهُمْ وِلَايَةَ النَّارِ فِي قَوْلِهِ: مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ الْآيَةَ [57 \ 15] .
وَأَطْلَقَ - تَعَالَى - اسْمَ الْمَوَالِي عَلَى الْعُصَبَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [4 \ 33] .
وَأَطْلَقَ اسْمَ الْمَوْلَى عَلَى الْأَقَارِبِ وَنَحْوِهِمْ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا [44 \ 41] .
وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْمَوَالِي عَلَى الْعَصَبَةِ وَابْنِ الْعَمِّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: مَهْلًا بَنِي عَمِّنَا مَهْلًا مَوَالِينَا لَا تُظْهِرَنَّ لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونًا
وَقَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
وَأَعْلَمُ عِلْمًا لَيْسَ بِالظَّنِّ أَنَّهُ
…
إِذَا ذَلَّ مَوْلَى الْمَرْءِ فَهُوَ ذَلِيلٌ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا وَقْفٌ، أَوْ صَدَقَةٌ عَلَى قَوْمِي، أَوْ مَوَالِيَّ - أَنَّهُ إِنْ كَانَ هُنَاكَ عُرْفٌ خَاصٌّ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عُرْفٌ فَلَا نَعْلَمُ نَصًّا مِنْ كِتَابِ وَلَا سُنَّةٍ يُحَدِّدُ ذَلِكَ تَحْدِيدًا دَقِيقًا.
وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ مَعْرُوفٌ فِي مَحَالِّهِ.
وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
(وَقَالُوا) أَيْ قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ: (لَوْلَا) أَيْ هَلَّا (نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) أَيْ مِنْ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، وَهُمَا مَكَّةُ وَالطَّائِفُ (عَظِيمٍ) يَعْنُونَ بِعِظَمِهِ كَثْرَةَ مَالِهِ وَعِظَمَ جَاهِهِ، وَعُلُوَّ مَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ، وَعَظِيمُ مَكَّةَ الَّذِي يُرِيدُونَ هُوَ الْوَلِيدُ بْنُُُ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَفِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ يَجْتَمِعُ نَسَبُهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيلَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
وَعَظِيمُ الطَّائِفِ هُوَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَقِيلَ: حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: هُوَ كِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا أَوَّلًا أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسْولًا مِنَ الْبَشَرِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا.
ثُمَّ لَمَّا سَمِعُوا الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَى الْبَشَرِ رَسُولًا إِلَّا مِنَ الْبَشَرِ تَنَازَلُوا عَنِ اقْتِرَاحِهِمْ إِرْسَالَ رُسُلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَى اقْتِرَاحٍ آخَرَ، وَهُوَ اقْتِرَاحُ تَنْزِيلِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَهَذَا الِاقْتِرَاحُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةِ عُقُولِهِمْ ; حَيْثُ يَجْعَلُونَ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ فِي الدُّنْيَا مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ النُّبُوَّةِ وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ.
وَلِذَا زَعَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَيْسَ أَهْلًا لِإِنْزَالِ هَذَا الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، لِقِلَّةِ مَالِهِ، وَأَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَحَقُّ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شِدَّةَ جَهْلِهِمْ، وَسَخَافَةَ عُقُولِهِمْ، بِقَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ. وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ النُّبُوَّةُ وَإِنْزَالُ الْوَحْيِ.
وَإِطْلَاقُ الرَّحْمَةِ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَدِّدٌ فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الدُّخَانِ» : إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [44 \ 5 - 6] . وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْقَصَصِ» : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [28 \ 86] . وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْأَنْبِيَاءِ» : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] .
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ وَالْعِلْمِ عَلَى النُّبُوَّةِ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا الْآيَةَ [18 \ 65] .
وَقَدَّمْنَا مَعَانِيَ إِطْلَاقِ الرَّحْمَةِ فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا الْآيَةَ [35 \ 2] .
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ يَعْنِي أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ أَمْرَ مَعَايِشِهِمْ وَحُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ تَوَلَّى هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - قِسْمَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقِيرًا، وَهَذَا رَفِيعًا وَهَذَا وَضِيعًا، وَهَذَا خَادِمًا وَهَذَا مَخْدُومًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ حُظُوظَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُحَكِّمْهُمْ فِيهَا، بَلْ كَانَ - تَعَالَى - هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِيهَا بِمَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، فَكَيْفَ يُفَوِّضُ إِلَيْهِمْ أَمْرَ إِنْزَالِ الْوَحْيِ حَتَّى يَتَحَكَّمُوا فِيمَنْ يَنْزِلُ إِلَيْهِ الْوَحْيُ؟
فَهَذَا مِمَّا لَا يُعْقَلُ وَلَا يَظُنُّهُ إِلَّا غَبِيٌّ جَاهِلٌ كَالْكُفَّارِ الْمَذْكُورِينَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [43 \ 32] التَّحْقِيقُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ مِنَ التَّسْخِيرِ.
وَمَعْنَى تَسْخِيرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ - خِدْمَةُ بَعْضِهِمُ الْبَعْضَ، وَعَمَلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ ; لِأَنَّ نِظَامَ الْعَالَمِ فِي الدُّنْيَا يَتَوَقَّفُ قِيَامُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ حِكْمَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَنْ يَجْعَلَ هَذَا فَقِيرًا مَعَ كَوْنِهِ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَى الْعَمَلِ، وَيَجْعَلَ هَذَا ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ - تَعَالَى - يُهَيِّئُ لَهُ دَرَاهِمَ يُؤَجِّرُ بِهَا ذَلِكَ الْفَقِيرَ الْقَوِيَّ، فَيَنْتَفِعُ الْقَوِيُّ بِدَرَاهِمِ الضَّعِيفِ، وَالضَّعِيفُ بِعَمَلِ الْقَوِيِّ ; فَتَنْتَظِمُ الْمَعِيشَةُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَكَذَا.
وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ كُلُّهَا مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أَمَّا زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أَنْقَصُ شَرَفًا وَقَدْرًا مِنْ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي «ص» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي الْآيَةَ [38 \ 8] .
فَقَوْلُ كُفَّارِ مَكَّةَ: أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا مَعْنَاهُ إِنْكَارُهُمْ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِإِنْزَالِ الْوَحْيِ مِنْ بَيْنِهِمْ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْوَحْي مِنْهُ، لِكَثْرَةِ مَالِهِ وَجَاهِهِ وَشَرَفِهِ فِيهِمْ.
وَقَدْ قَالَ قَوْمُ صَالِحٍ مِثْلَ ذَلِكَ لِصَالِحٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [54 \ 25] .
فَقُلُوبُ الْكُفَّارِ مُتَشَابِهَةٌ، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ مُتَشَابِهَةً.
كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [2 \ 118] . وَقَالَ - تَعَالَى -: أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [51 \ 53] .
وَأَمَّا اقْتِرَاحُهُمْ إِنْزَالَ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْضَوْنَ خُصُوصِيَّتَهُ بِذَلِكَ دُونَهُمْ - فَقَدْ ذَكَرَهُ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [6 \ 124] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي «الْمُدَّثِّرِ» : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [74 \ 52] . أَيْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ صُحُفٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ، كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ.
وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ.
وَأَمَّا إِنْكَارُهُ - تَعَالَى - اقْتِرَاحُ إِنْزَالِ الْوَحْيِ عَلَى غَيْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الْإِنْكَارِ الْمُتَضَمِّنَةُ مَعَ الْإِنْكَارِ لِتَجِهِيلِهِمْ وَتَسْفِيهِ عُقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ - فَقَدْ أَشَارَ - تَعَالَى - إِلَيْهِ مَعَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي «الْأَنْعَامِ» ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا قَالَ: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [6 \ 124] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَإِنْكَارًا لِمَقَالَتِهِمْ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [6 \ 124] .
ثُمَّ أَوعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ [6 \ 124] .
وَأَمَّا كَوْنُهُ - تَعَالَى - هُوَ الَّذِي تَوَلَّى قِسْمَةَ مَعِيشَتِهِمْ بَيْنَهُمْ - فَقَدْ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [16 \ 71] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [17 \ 21] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [39 \ 52] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
[42 \ 27] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [4 \ 135] .
وَقَدْ أَوْضَحَ - تَعَالَى - حِكْمَةَ هَذَا التَّفَاضُلِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ - بِقَوْلِهِ هُنَا: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، يَعْنِي أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالِاهْتِدَاءَ بِهُدَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَنَالُهُ الْمُهْتَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُهُ النَّاسُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حُطَامِهَا.
وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [10 \ 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «آلِ عِمْرَانَ» : وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [3 \ 157] .
مَسْأَلَةٌ
دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [16 \ 71] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ - عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا وَلَا تَحْوِيلَهَا، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا [35 \ 43] .
وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ - إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ، وَنَزْعِ مِلْكِهِمُ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ - أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.
مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ، لِيَتَمَتَّعُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا، تَحْتَ سِتَارِ كَثِيرٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقَّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ.
فَالطَّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا - هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ وَهَذَا غَنِيَ، وَقَدْ نَهَى - جَلَّ وَعَلَا - عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ، بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [4 \ 135] .
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ.
قَوْلُهُ: (لِبُيُوتِهِمْ) فِي الْمَوْضِعَيْنِ، قَرَأَهُ وَرْشٌ وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ - بِضَمِّ الْبَاءِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ: لِبُيُوتِهِمْ بِكَسْرِ الْبَاءِ لِمُجَانِسَةِ الْكَسْرَةِ لِلْيَاءِ.
وَقَوْلُهُ: (سُقُفًا) قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ - سُقُفًا بِضَمَّتَيْنِ عَلَى الْجَمْعِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَإِسْكَانِ الْقَافِ عَلَى الْإِفْرَادِ الْمُرَادِ بِهِ الْجَمْعُ.
وَقَوْلُهُ: وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ ذَكْوَانَ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ هِشَامٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَالْكِسَائِيِّ: لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ (لَمَا) .
وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ: لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنْ (لَمَّا) .
وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا بَيَّنَ حَقَارَةَ الدُّنْيَا وَعِظَمَ شَأْنِ الْآخِرَةِ فِي قَوْلِهِ: وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [43 \ 32]- أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَيَانِ شِدَّةِ حَقَارَتِهَا، وَأَنَّهُ جَعَلَهَا مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَجَعَلَ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنَ النَّعِيمِ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ، وَبَيَّنَ حِكْمَتَهُ فِي اشْتِرَاكِ الْمُؤْمِنِ مَعَ الْكَافِرِ فِي نَعِيمِ الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً أَيْ لَوْلَا كَرَاهَتُنَا لِكَوْنِ جَمِيعِ النَّاسِ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقَةً عَلَى الْكُفْرِ، لَأَعْطَيْنَا زَخَارِفَ الدُّنْيَا كُلَّهَا لِلْكُفَّارِ.
وَلَكِنَّنَا لِعِلْمِنَا بِشِدَّةِ مَيْلِ الْقُلُوبِ إِلَى زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحُبِّهَا لَهَا، لَوْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْكُفَّارِ لَحَمَلَتِ الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا جَمِيعَ النَّاسِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا، فَجَعَلْنَا فِي كُلٍّ مِنَ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ غَنِيًّا وَفَقِيرًا، وَأَشْرَكْنَا بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
ثُمَّ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - اخْتِصَاصَ نَعِيمِ الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ، أَيْ خَالِصَةٌ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [7 \ 32] .
فَقَوْلُهُ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَيْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَالِصَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ خَاصَّةٌ بِهِمْ دُونَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; إِذْ لَا نَصِيبَ لِلْكُفَّارِ الْبَتَّةَ فِي طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ.
فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاكِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فِي مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ الْمَذْكُورُ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الِامْتِنَاعِ لِلْوُجُودِ الَّذِي هُوَ (لَوْلَا) فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً.
وَخُصُوصُ طَيِّبَاتِ الْآخِرَةِ بِالْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي آيَةِ «الْأَعْرَافِ» بِقَوْلِهِ: خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [7 \ 32]- هُوَ الَّذِي أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [43 \ 35] .
وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ فِي الْجُمْلَةِ فِي لَفْظِ الْمُتَّقِينَ ; لِأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ اتَّقَى الشِّرْكَ بِاللَّهِ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَنَّهُ - تَعَالَى - يُعْطِي الْكُفَّارَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا - دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ [2 \ 126] . وَقَوْلِهِ: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [31 \ 24] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [10 \ 23] . وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [10 \ 69 - 70] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ إِنْعَامَهُ عَلَى الْكَافِرِينَ لَيْسَ لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ لِلِاسْتِدْرَاجِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44 - 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [6 \ 44 - 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 95] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [19 \ 75] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [22 \ 44] .
وَدَعْوَى الْكُفَّارِ أَنَّ اللَّهَ مَا أَعْطَاهُمُ الْمَالَ وَنَعِيمَ الدُّنْيَا إِلَّا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْبَعْثُ حَقًّا أَعْطَاهُمْ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ - قَدْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [34 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ [7 \ 48] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [111 \ 2] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 11] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [6 \ 94] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [18 \ 36] .
وَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَقَوْلُهُ: جَعَلْنَا أَيْ صَيَّرْنَا، وَقَوْلُهُ: لِبُيُوتِهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مَعَ إِعَادَةِ الْعَامِلِ مِنْ قَوْلِهِ: لِمَنْ يَكْفُرُ وَعَلَى قِرَاءَةِ سُقُفًا بِضَمَّتَيْنِ، فَهُوَ جَمْعُ سَقْفٍ، وَسَقْفُ الْبَيْتِ مَعْرُوفٌ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ سَقْفًا بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْقَافِ: فَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْحَجِّ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [22 \ 5]- أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا كَانَ اسْمَ جِنْسٍ. يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَمِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَمَعَارِجَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَمْعُ مِعْرَجٍ، بِلَا أَلْفٍ بَعْدِ الرَّاءِ.
وَالْمِعْرَجُ وَالْمِعْرَاجُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْآلَةُ الَّتِي يُعْرَجُ بِهَا أَيْ يُصْعَدُ بِهَا إِلَى الْعُلُوِّ.
وَقَوْلُهُ: (يَظْهَرُونَ)، أَيْ يَصْعَدُونَ وَيَرْتَفِعُونَ حَتَّى يَصِيرُوا عَلَى ظُهُورِ الْبُيُوتِ. وَمِنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [18 \ 97] .
وَالسُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَالِاتِّكَاءُ مَعْرُوفٌ.
وَالْأَبْوَابُ جَمْعُ بَابٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ، وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ الْمَعَارِجَ الَّتِي هِيَ الْمَصَاعِدُ وَالْأَبْوَابُ وَالسُّرُرُ - كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنَّهُ يَرَى اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ: زُخْرُفًا - مَفْعُولٌ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ زُخْرُفًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بَعْضُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَبَعْضُهُ مِنْ زُخْرُفٍ، أَيْ ذَهَبٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ إِعْرَابَ قَوْلِهِ: وُزُخْرُفًا - عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ فِضَّةٍ، وَمِنْ زُخْرُفٍ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَانْتَصَبَ زُخْرُفًا.
وَأَكْثَرُ عُلَمَاءِ النَّحْوِ عَلَى أَنَّ النَّصْبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ لَيْسَ مُطَّرِدًا وَلَا قِيَاسِيًّا، وَمَا سُمِعَ مِنْهُ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
وَعَلَيْهِ دَرَجَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ نَقْلًا. . . إِلَخْ.
وَعَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ وَهُوَ الْأَخْفَشُ الصَّغِيرُ يَرَى اطِّرَادَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أُمِنَ فِيهِ اللَّبْسُ، كَمَا أَشَارَ فِي الْكَافِيَةِ بِقَوْلِهِ:
وَابْنُ سُلَيْمَانَ اطِّرَادَهُ رَأَى
…
إِنْ لَمْ يُخَفْ لَبْسٌ كَمِنْ زَيْدٍ نَأَى
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [43 \ 35] عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ مِنْ (لَمَا) ، فَـ (إِنْ) هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ (إِنِ) الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَ (إِنِ) النَّافِيَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَخُفِّفَتْ إِنْ فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وَ (مَا) مَزِيدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَابْنِ عَامِرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ هِشَامٍ (لَمَّا) بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ فَـ (إِنْ) نَافِيَةٌ، وَ (لَمَّا) حَرْفُ إِثْبَاتٍ بِمَعْنَى إِلَّا.
وَالْمَعْنَى: وَمَا كُلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ تَشْدِيدَ مِيمِ (لَمَّا) عَلَى بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ «الطَّارِقِ» إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ [86 \ 4]- لُغَةُ بَنِي هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ.ُُ
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ الْآيَةَ [41 \ 25] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي «الصَّافَّاتِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [37 \ 33] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [27 \ 80] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ يَتَمَسَّكَ بِهَدْيِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ طَرِيقٍ وَاضِحٍ لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي تَضْمَّنَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ - قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
أَمَّا أَمْرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - فَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [18 \ 27] .
وَأَمَّا إِخْبَارُهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَمِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْضَحَ ذَلِكَ فِيهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [45 \ 18] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [42 \ 52 - 53] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [23 \ 73 - 74] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [22 \ 67] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [27 \ 79] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَآيَةُ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذَا الْقُرْآنِ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ جَاءُوا بِإِخْلَاصِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ، الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ كَلِمَةُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [16 \ 36] .
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [21 \ 25] . وَذَلِكَ التَّوْحِيدُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَأْمُرُ بِهِ كُلُّ نَبِيِّ أُمَّتَهُ.
قَالَ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 50] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 61] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [11 \ 61] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الْآيَةَ [7 \ 85] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» وَسُورَةِ «طه» .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا نَوْعَ الْعَذَابِ الَّذِي أَخَذَهُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ [7 \ 132 - 133] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ الْآيَةَ [7 \ 130] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ.
مَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ - أَوْضَحَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» بِقَوْلِهِ: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ.
وَالرِّجْزُ الْمَذْكُورُ فِي «الْأَعْرَافِ» هُوَ بِعَيْنِهِ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي آيَةِ «الزُّخْرُفِ» هَذِهِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَكَادُ يُبِينُ.
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي «طه» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ مُوسَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي الْآيَةَ [20 \ 27] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا الْآيَةَ [25 \ 7] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ.
(آسَفُونَا) مَعْنَاهُ أَغْضَبُونَا وَأَسْخَطُونَا، وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْأَسَفِ الْغَضَبَ - يَدُلُّ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْأَسَفِ عَلَى أَشَدِّ الْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [7 \ 150] عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ (يَصُدُّونَ) بِضَمِّ الصَّادِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (يَصِدُّونَ) بِكَسْرِ الصَّادِ.
فَعَلَى قِرَاءَةِ الْكَسْرِ فَمَعْنَى (يَصِدُّونَ) يَضِجُّونَ وَيَصِيحُونَ، وَقِيلَ: يَضْحَكُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، كَيَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ، وَيَعْكُفُونَ وَيَعْكِفُونَ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الضَّمِّ فَهُوَ مِنَ الصُّدُودِ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ:(ضُرِبَ) قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبْعَرَى السَّهْمِيُّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ.
أَيْ وَلَمَّا ضَرَبَ ابْنُ الزِّبَعْرَى الْمَذْكُورُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَاجَأَكَ قَوْمُكَ بِالضَّجِيجِ وَالصِّيَاحِ وَالضَّحِكِ، فَرَحًا مِنْهُمْ وَزَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى خَصْمُكَ، أَوْ فَاجَأَكَ صُدُودُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمَثَلِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَةَ (مِنْ) هُنَا سَبَبِيَّةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَذْكُرُونَ أَنَّ مِنْ مَعَانِي (مِنْ) السَّبَبِيَّةَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [71 \ 25] . أَيْ بِسَبَبِ خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَالِفِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ: أُقْسِمَ بِاللَّهِ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ.
وَإِيضَاحُ مَعْنَى ضَرَبَ ابْنُ الزِّبَعْرَى عِيسَى مَثَلًا - أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [21 \ 98] قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ، وَإِنَّنَا وَأَصْنَامَنَا جَمِيعًا فِي النَّارِ، وَهَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَدْ عَبَدَهُ النَّصَارَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ مَرْيَمَ مَعَ النَّصَارَى الَّذِينَ عَبَدُوهُ فِي النَّارِ فَقَدْ رَضِينَا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ وَآلِهَتُنَا مَعَهُ.
وَقَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ ; لِأَنَّ عُزَيْرًا عَبَدَهُ الْيَهُودُ، وَالْمَلَائِكَةَ عَبَدَهُمْ بَعْضُ الْعَرَبِ.
فَاتَّضَحَ أَنَّ ضَرْبَهُ عِيسَى مَثَلًا، يَعْنِي أَنَّهُ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَالَهُ، مِنْ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ وَعَابِدِهِ فِي النَّارِ، يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِيسَى مَثَلًا لِأَصْنَامِهِمْ، فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ فِي النَّارِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُثْنِي عَلَى عِيسَى الثَّنَاءَ الْجَمِيلَ، وَيُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ.
فَزَعَمَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا اقْتَضَى مُسَاوَاةَ الْأَصْنَامِ مَعَ عِيسَى فِي دُخُولِ
النَّارِ مَعَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَعْتَرِفُ بِأَنَّ عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّارِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ كَلَامِهِ عِنْدَهُ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الْآيَةَ [21 \ 101 - 103] . وَأَنْزَلَ اللَّهُ أَيْضًا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ.
وَقِيلَ: إِنَّ (جَدَلًا) حَالٌ، وَإِتْيَانُ الْمَصْدَرِ الْمُنَكَّرِ حَالًا كَثِيرٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَوْجِيهَهُ مِرَارًا.
وَالْمُرَادُ بِالْجَدَلِ هُنَا الْخُصُومَةُ بِالْبَاطِلِ لِقَصْدِ الْغَلَبَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ قَصَدُوا الْجَدَلَ بِشَيْءٍ يَعْلَمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ، أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَذَرَّعُوا بِهَا إِلَى الْجَدَلِ لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ عَلَى مَا زَعَمُوهُ، وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ مَعَانِي الْكَلِمَاتِ.
وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ إِنَّمَا عَبَّرَ اللَّهُ فِيهَا بِلَفْظَةِ «مَا» الَّتِي هِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْعَرَبِيِّ لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ [21 \ 98] وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ تَعْبُدُونَ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ عِيسَى وَلَا عُزَيْرًا وَلَا الْمَلَائِكَةَ، كَمَا أَوْضَحَ - تَعَالَى - أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى الْآيَةَ [21 \ 101] .
وَإِذَا كَانُوا يَعْلَمُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ عِيسَى بِمُقْتَضَى لِسَانِهِمُ الْعَرَبِيِّ، الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ - تَحَقَّقْنَا أَنَّهُمْ مَا ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا إِلَّا لِأَجْلِ الْجَدَلِ وَالْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ.
وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا مَعَ أَنَّ ضَارِبَ الْمَثَلِ وَاحِدٌ وَهُوَ ابْنُ الزِّبَعْرَى - يَرْجِعُ إِلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادُ فِعْلِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ مِنَ الْقَبِيلَةِ إِلَى جَمِيعِ
الْقَبِيلَةِ، وَمِنْ أَصْرَحِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ
…
نَبَا بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ
فَإِنَّهُ نَسَبَ الضَّرْبَ إِلَى جَمِيعِ بَنِي عَبْسٍ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنَّ السَّيْفَ فِي يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ وَرْقَاءُ بْنُ زُهَيْرٍ، وَالشَّاعِرُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إِلَى قَتْلِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ لِزُهَيْرِ بْنِ جُذَيْمَةَ الْعَبْسِيِّ، وَأَنَّ وَرَقَّاءَ بْنَ زُهَيْرٍ ضَرَبَ بِسَيْفِ بَنِي عَبْسٍ رَأْسَ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيِّ، الَّذِي قَتَلَ أَبَاهُ وَنَبَا عَنْهُ، أَيْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي رَأْسِهِ، فَإِنَّ مَعْنَى: نَبَا السَّيْفُ - ارْتَفَعَ عَنِ الضَّرِيبَةِ وَلَمْ يَقْطَعْ.
وَالشَّاعِرُ يَهْجُو بَنِي عَبْسٍ بِذَلِكَ.
وَالْحُرُوبُ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَتْلُ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ الْمُرِّيِّ لِخَالِدٍ الْمَذْكُورِ، كُلُّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ جَمِيعَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ صَوَّبُوا ضَرْبَ ابْنِ الزِّبَعْرَى عِيسَى مَثَلًا، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ، وَوَافَقُوهُ عَلَيْهِ، فَصَارُوا كَالْمُتَمَالِئِينَ عَلَيْهِ.
وَبِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ جَمَعَ الْمُفَسِّرُونَ بَيْنَ صِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [7 \ 77] وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] وَبَيْنَ صِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [54 \ 29] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) هُوَ عَامَّةُ قُرَيْشٍ.
وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا سَمِعُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ عِيسَى، وَسَمِعُوا قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \ 59]- قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا تُرِيدُ بِذِكْرِ عِيسَى إِلَّا أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا عَبَدَ النَّصَارَى عِيسَى.
وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِبَادَةِ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، زَاعِمِينَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا عُبِدَ عِيسَى.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا، أَيْ مَا ضَرَبُوا لَكَ هَذَاُُ
الْمَثَلَ إِلَّا لِأَجْلِ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ لَا تَرْضَى أَنْ تُعْبَدَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [3 \ 64] .
وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَدَنِيِّ النَّازِلِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَمَعْنَاهُ يُكَرِّرُهُ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَثِيرًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [3 \ 80] .
وَلَا شَكَّ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مُتَيَقِّنُونَ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ الَّتِي أَقَامَهَا صلى الله عليه وسلم فِي مَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ، وَهِيَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً - أَنَّهُ لَا يَدْعُو إِلَّا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
فَادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعْبُدُوهُ افْتِرَاءٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ فِي ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟
التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، لَا إِلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمُرَادُهُمْ بِالِاسْتِفْهَامِ تَفْضِيلُ مَعْبُودَاتِهِمْ عَلَى عِيسَى.
قِيلَ: لِأَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ الْمَلَائِكَةَ آلِهَةً، وَالْمَلَائِكَةُ أَفْضَلُ عِنْدِهِمْ مِنْ عِيسَى.
وَعَلَى هَذَا فَمُرَادُهُمْ أَنَّ عِيسَى عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِهِ فِي النَّارِ، وَمَعْبُودَاتُنَا خَيْرٌ مِنْ عِيسَى، فَكَيْفَ تَزْعُمُ أَنَّهُمْ فِي النَّارِ؟
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَرَادُوا تَفْضِيلَ عِيسَى عَلَى آلِهَتِهِمْ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: عِيسَى خَيْرٌ مِنْ آلِهَتِنَا، أَيْ فِي زَعْمِكَ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ بِمُقْتَضَى عُمُومِ مَا تَتْلُوهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [21 \ 98] .
وَعِيسَى عَبَدَهُ النَّصَارَى مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَدَلَالَةُ قَوْلِكِ عَلَى أَنَّ عِيسَى فِي النَّارِ، مَعَ