المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَصَرَّحَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ أَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٧

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: فَصَرَّحَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ أَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ

فَصَرَّحَ - تَعَالَى - عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ أَنَّ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي سَلَكَتْهُمْ فِي سَقَرَ - أَيْ أَدْخَلَتْهُمُ النَّارَ - عَدَمُ الصَّلَاةِ، وَعَدَمُ إِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، وَعْدَّ ذَلِكَ مَعَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [69 \ - 32] ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [69 \ 33 - 36] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.

الْأَجْرُ جَزَاءُ الْعَمَلِ، وَجَزَاءُ عَمَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ الْجَزَاءُ (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ، فَالْمَمْنُونُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْهُ بِمَعْنَى قَطَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ

غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا

فَقَوْلُهُ: مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا، أَيْ مَا يُقْطَعُ. وَقَوْلُ ذِي الْأُصْبُعِ:

إِنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ

عَلَى الصَّدِيقِ وَلَا خَيْرِي بِمَمْنُونِ

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَجَرَهُمْ غَيْرُ مَمْنُونٍ - نَصَّ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آخِرِ سُورَةِ الِانْشِقَاقِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‌

‌[8

4 \ 25] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ التِّينِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [95 \ 6] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ هُودٍ: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] .

فَقَوْلُهُ: (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وَ (غَيْرَ مَمْنُونٍ) - مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.

وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ص» : إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] أَيْ مَا لَهُ مِنِ انْتِهَاءٍ وَلَا انْقِطَاعٍ. وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] .

ص: 11

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ بِهِ.

وَعَلَيْهِ ; فَالْمَنُّ فِي الْآيَةِ مِنْ جِنْسِ الْمَنِّ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى [2 \ 264] .

وَمَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى (غَيْرُ مَمْنُونٍ) غَيْرُ مَنْقُوصٍ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْمَمْنُونَ عَلَى الْمَنْقُوصِ، قَالُوا: وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

فَضْلُ الْجِيَادِ عَلَى الْخَيْلِ الْبِطَاءِ فَلَا

يُعْطَى بِذَلِكَ مَمْنونًا وَلَا نَزَقَا

فَقَوْلُهُ: مَمْنُونًا، أَيْ مَنْقُوصًا.

وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ لُغَةً، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ.

بَلْ مَعْنَاهَا هُوَ مَا قَدَّمْنَا. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.

الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.

وَتَتِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ حَاصِلَةٌ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ قَالَ: (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أَيْ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ.

ثُمَّ قَالَ: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 12] فَتَضُمُّ الْيَوْمَيْنِ إِلَى الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا - سِتَّةَ أَيَّامٍ.

وَهَذَا التَّفْسِيرُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْآيَةِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - صَرَّحَ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، كَقَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [25 \ 59] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي السَّجْدَةِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ [32 \ 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ق» : وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [50 \ 38] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ

ص: 12

[7 \ 54] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

فَلَوْ لَمْ يُفَسَّرْ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فِي تَتِمَّةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ - لَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ - تَعَالَى - خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ; لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ إِذَا فُسِّرَ بِأَنَّهَا أَرْبَعَةٌ كَامِلَةٌ ثُمَّ جُمِعَتْ مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَتْ فِيهِمَا الْأَرْضُ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 9]، وَالْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خُلِقَتْ فِيهِمَا السَّمَاوَاتُ الْمَذْكُورَيْنَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [41 \ 12]- لَكَانَ الْمَجْمُوعُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ.

وَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَالنُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّهَا سِتَّةُ أَيَّامٍ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ صِحَّةُ التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَصِحَّةُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى أَمْثَالِهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [16 \ 15]، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَبَارَكَ فِيهَا أَيْ أَكْثَرَ فِيهَا الْبَرَكَاتِ، وَالْبَرَكَةُ الْخَيْرُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا.

التَّقْدِيرُ وَالْخَلْقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.

وَالْأَقْوَاتُ جَمْعُ قُوتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْوَاتِ أَرْزَاقُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَمَعَايِشُهُمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَنَّ آيَةَ «فُصِّلَتْ» هَذِهِ، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ بِـ (ثُمَّ) قَوْلَهُ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ إِلَى قَوْلِهِ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ مَعَ بَعْضِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ السَّمَاءَ خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّازِعَاتِ» : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا [79 \ 27 - 30] .

فَقُلْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ - تَعَالَى -:

ص: 13

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [2 \ 29] ، الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، بِدَلِيلِ لَفْظَةِ (ثُمَّ) الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالِانْفِصَالِ.

وَكَذَلِكَ آيَةِ «حم السَّجْدَةِ» تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إِلَى أَنْ قَالَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ.

مَعَ أَنَّ آيَةَ «النَّازِعَاتِ» تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَحْوَ الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا.

اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما سُئِلَ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ آيَةِ «السَّجْدَةِ» وَآيَةِ «النَّازِعَاتِ» فَأَجَابَ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْأَرْضَ أَوَّلًا قَبْلَ السَّمَاءِ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعًا فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَجَعَلَ فِيهَا الرَّوَاسِيَ وَالْأَنْهَارَ وَغَيْرَ ذَلِكَ.

فَأَصْلُ خَلْقِ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوُهَا بِجِبَالِهَا وَأَشْجَارِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.

وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وَلَمْ يَقُلْ: خَلَقَهَا، ثُمَّ فَسَّرَ دَحْوَهُ إِيَّاهَا بِقَوْلِهِ: أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [79 \ 31] ، وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، مَفْهُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ مِنْ آيَةِ «الْبَقَرَةِ» هَذِهِ.

وَإِيضَاحُهُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بِأَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَدَحْوَهَا بِمَا فِيهَا بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مَخْلُوقٌ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ الْآيَةَ.

وَقَدْ مَكَثْتُ زَمَنًا طَوِيلًا أُفَكِّرُ فِي حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ حَتَّى هَدَانِي اللَّهُ إِلَيْهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَفَهِمْتُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ مَرْفُوعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ، كُلٌّ مِنْهُمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ.

ص: 14

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ - الْخَلْقُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ التَّقْدِيرُ، لَا الْخَلْقُ بِالْفِعْلِ، الَّذِي هُوَ الْإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّقْدِيرَ خَلْقًا. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ

وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْخَلْقِ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ - تَعَالَى - نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «فُصِّلَتْ» ; حَيْثُ قَالَ: وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ الْآيَةَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ وَهِيَ أَصْلٌ لِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ كُلَّ مَا فِيهَا كَأَنَّهُ خُلِقَ بِالْفِعْلِ لِوُجُودِ أَصْلِهِ فِعْلًا.

وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يُمْكِنُ بِهِ إِطْلَاقُ الْخَلْقِ عَلَى الْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا بِالْفِعْلِ - قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ الْآيَةَ [7 \ 11]، فَقَوْلُهُ: خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ أَيْ بِخَلْقِنَا وَتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُكُمْ.

وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَيْ مَعَ ذَلِكَ، فَلَفْظَةُ (بَعْدَ) بِمَعْنَى مَعَ.

وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ وَعَلَيْهِ ; فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ.

وَيُسْتَأْنَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ - وَبِهَا قَرَأَ مُجَاهِدٌ -: (وَالْأَرْضَ مَعَ ذَلِكَ دَحَاهَا) .

وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَوْجُهٍ ضَعِيفَةٍ ; لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.

مِنْهَا: أَنَّ (ثُمَّ) بِمَعْنَى الْوَاوِ.

وَمِنْهَا: أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [90 \ 17] .

ص: 15

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا.

الْمَصَابِيحُ: النُّجُومُ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَزْيِينِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالنُّجُومِ، قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا [6 \ 97] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَحِفْظًا قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الْآيَةَ [15 \ 17] .

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ.

قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ «ص» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [38 \ 4] .

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ. الصَّرْصَرُ: وَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ الصَّرْفِيِّ «فَعَفَلُ» ، وَفِي مَعْنَى الصَّرْصَرِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ.

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرِّيحَ الصَّرْصَرَ هِيَ الرِّيحُ الْعَاصِفَةُ الشَّدِيدَةُ الْهُبُوبِ الَّتِي يُسْمَعُ لِهُبُوبِهَا صَوْتٌ شَدِيدٌ، وَعَلَى هَذَا ; فَالصَّرْصَرُ مِنَ الصَّرَّةِ الَّتِي هِيَ الصَّيْحَةُ الْمُزْعِجَةُ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ أَيْ فِي صَيْحَةٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى صَرِيرُ الْبَابِ وَالْقَلَمِ، أَيْ صَوْتُهُمَا.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّرْصَرَ مِنَ الصَّرِّ الَّذِي هُوَ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ الْمُحْرِقُ، وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ الْآيَةَ [3 \ 117] ، أَيْ فِيهَا بَرْدٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ:

أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَرُّ

وَالرِّيحَ يَا وَاقِدُ رِيحٌ صِرُّ

عَلَّ يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُرُّ

إِنْ جَلَبَتْ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُرّ

ص: 16

فَقَوْلُهُ: رِيحٌ صِرٌّ، أَيْ بَارِدَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرْدِ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ، وَأَنَّ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ جَامِعَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَهِيَ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، بَارِدَةٌ شَدِيدةُ الْبَرْدِ.

وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ إِهْلَاكِهِ عَادًا بِهَذِهِ الرِّيحِ الصَّرْصَرِ، فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ النَّحِسَاتِ - أَيِ الْمَشْئُومَاتِ النَّكِدَاتِ; لِأَنَّ النَّحْسَ ضِدُّ السَّعْدِ، وَهُوَ الشُّؤْمُ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - فِي بَعْضِهَا عَدَدَ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي أَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ فِيهَا، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ [69 \ 6 - 8]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [51 \ 41 - 42]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [54 \ 19 - 20]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا الْآيَةَ [46 \ 24 - 25] .

وَهَذِهِ الرِّيحُ الصَّرْصَرُ هِيَ الْمُرَادُ بِصَاعِقَةِ عَادٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ الْآيَةَ [41 \ 13] .

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عُمَرَ (نَحْسَاتٍ) بِسُكُونِ الْحَاءِ; وَعَلَيْهِ فَالنَّحْسُ وَصْفٌ أَوْ مَصْدَرٌ، نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْوَصْفِ.

وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ (نَحِسَاتٍ) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.

قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَى النَّحِسَاتِ الْمَشْئُومَاتُ النَّكِدَاتُ.

وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: فِي يَوْمِ نَحْسٍ [54 \ 19] . قَالَ:

ص: 17

النَّحْسُ الْبَلَاءُ وَالشِّدَّةُ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ زُهَيْرَ بْنَ أَبِي سُلْمَى يَقُولُ:

سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ يَوْمٍ أَتَيْتُهُ

أَسَاعَةَ نَحْسٍ تَتَّقِي أَمْ بِأَسْعَدِ

وَتَفْسِيرُ النَّحْسِ بِالْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الشُّؤْمَ بَلَاءٌ وَشِدَّةٌ، وَمُقَابَلَةُ زُهَيْرٍ النَّحْسَ بِالْأَسْعَدِ فِي بَيْتِهِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ.

وَيَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهَا مِنْ آخَرِ شَوَّالٍ، وَأَنَّ أَوَّلَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَآخِرَهَا يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ يَوْمَ النَّحْسِ الْمُسْتَمِرِّ هُوَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرُ مِنَ الشَّهْرِ، أَوْ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ مُطْلَقًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ الْمُنْتَسِبِينَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنَ الْعَوَامِّ صَارُوا يَتَشَاءَمُونَ بِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى السَّفَرِ وَالتَّزَوُّجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِيهِ، ظَانِّينَ أَنَّهُ يَوْمُ نَحْسٍ وَشُؤْمٍ، وَأَنَّ نَحْسَهُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ - لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ; لِأَنَّ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ مُسْتَمِرٌّ عَلَى عَادٍ فَقَطِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، فَاتَّصَلَ لَهُمْ عَذَابُ الْبَرْزَخِ وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا، فَصَارَ ذَلِكَ الشُّؤْمُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهِمُ اسْتِمْرَارًا لَا انْقِطَاعَ لَهُ.

أَمَّا غَيْرُ عَادٍ فَلَيْسَ مُؤَاخَذًا بِذَنْبِ عَادٍ ; لِأَنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

وَقَدْ أَرَدْنَا هُنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اغْتَرَّ بِهَا مَنْ ظَنَّ اسْتِمْرَارَ نَحْسَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ; لِنُبَيِّنَ أَنَّهَا لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهَا.

قَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ قَالَ: يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ.

وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: اقْضِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. وَقَالَ: يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» .

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَالْحِجَامَةِ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» .ُُ

ص: 18

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَوْمُ نَحْسٍ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ» .

وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْأَيَّامِ، وَسُئِلَ عَنْ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ: يَوْمُ نَحْسٍ. قَالُوا كَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَغْرَقَ فِيهِ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، وَأَهْلَكَ عَادًا وَثَمُودَ» .

وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ فِي الْغَرَرِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْخَطِيبُ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «آخِرُ أَرْبِعَاءَ فِي الشَّهْرِ يَوْمُ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ» .

فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ وَأَمْثَالُهَا لَا تَدُلُّ عَلَى شُؤْمِ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ عَلَى مَنْ لَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَعْصِهِ; لِأَنَّ أَغْلَبَهَا ضَعِيفٌ، وَمَا صَحَّ مَعْنَاهُ مِنْهَا فَالْمُرَادُ بِنَحْسِهِ شُؤْمُهُ عَلَى أُولَئِكَ الْكَفَرَةِ الْعُصَاةِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ.

فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ إِنَّمَا مَنْشَؤُهُ وَسَبَبُهُ الْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي.

أَمَّا مَنْ كَانَ مُتَّقِيًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ فِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الْمَذْكُورِ - فَلَا نَحْسَ وَلَا شُؤْمَ فِيهِ عَلَيْهِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ النَّحْسَ وَالشُّؤْمَ وَالنَّكَدَ وَالْبَلَاءَ وَالشَّقَاءَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَعَدَمِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.

قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَدَيْنَاهُمْ الْمُرَادُ بِالْهُدَى فِيهِ هُدَى الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ وَالْإِرْشَادِ، لَا هُدَى التَّوْفِيقِ وَالِاصْطِفَاءِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - بَعْدَهُ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ هِدَايَةَ تَوْفِيقٍ لَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُهَا عَنِ الْهُدَى إِلَى الْعَمَى.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أَيِ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَآثَرُوهُ عَلَيْهِ، وَتَعَوَّضُوهُ مِنْهُ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ [9 \ 23] فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «التَّوْبَةِ» هَذِهِ:

ص: 19

إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِقَوْلِهِ هُنَا: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.

وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ - تَعَالَى -: الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [14 \ 3] .

فَلَفْظَةُ اسْتَحَبَّ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا مَا تَتَعَدَّى بِعَلَى; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى اخْتَارَ وَآثَرَ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى - أَنَّ الْعَمَى الْكُفْرُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَعْمَى فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ الْكَافِرُ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْهُدَى يَأْتِي فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَاهُ الْعَامِّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ - لَا يُنَافِي أَنَّ الْهُدَى قَدْ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ عَلَى الْهُدَى الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ التَّوْفِيقُ وَالِاصْطِفَاءُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] .

فَمِنْ إِطْلَاقِ الْقُرْآنِ الْهُدَى عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ هُنَا: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ أَيْ بَيَّنَّا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ وَأَمَرْنَاهُمْ بِسُلُوكِهَا، وَطُرُقِ الشَّرِّ وَنَهَيْنَاهُمْ عَنْ سُلُوكِهَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا صَالِحٍ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى أَيِ اخْتَارُوا الْكَفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ إِيضَاحِ الْحَقِّ لَهُمْ.

وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَامِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [76 \ 3] بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هُدَى تَوْفِيقٍ لَمَا قَالَ: وَإِمَّا كَفُورًا.

وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْخَاصِّ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [6 \ 90] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [47 \ 17] . وَقَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [18 \ 17] .

وَبِمَعْرِفَةِ هَذَيْنِ الْإِطْلَاقَيْنِ تَتَيَسَّرُ إِزَالَةُ إِشْكَالٍ قُرْآنِيٍّ وَهُوَ أَنَّهُ - تَعَالَى -: أَثْبَتَ الْهُدَى لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فِي آيَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [42 \ 52] وَنَفَاهُ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56] .

ص: 20

فَيُعْلَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْهُدَى الْمُثْبَتَ لَهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، الَّذِي هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ، حَتَّى تَرَكَهَا لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا هَالِكٌ.

وَالْهُدَى الْمَنْفِيُّ عَنْهُ فِي آيَةِ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [28 \ 56]- هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ بِيَدِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ الْآيَةَ [5 \ 41] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [16 \ 37] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ الْآيَةَ [2 \ 185]- لَا مُنَافَاةَ فِيهِ بَيْنَ عُمُومِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ لِأَنَّ الْهُدَى الْعَامَّ لِلنَّاسِ هُوَ الْهُدَى الْعَامُّ، وَالْهُدَى الْخَاصُّ بِالْمُتَّقِينَ هُوَ الْهُدَى الْخَاصُّ، كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ.

الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَأَخَذَتْهُمْ) سَبَبِيَّةٌ، أَيْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ أَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - عَبَّرَ عَنِ الْهَلَاكِ الَّذِي أَهْلَكَ بِهِ ثَمُودَ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَذَكَرَهُ هَنَا بَاسِمِ الصَّاعِقَةِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ، وَقَوْلِهِ: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [41 \ 31] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ أَيْضًا بِالصَّاعِقَةِ فِي سُورَةِ «الذَّارِيَاتِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ [51 \ 43 - 44] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالصَّيْحَةِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» فِي إِهْلَاكِهِ ثَمُودَ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ

ص: 21

[11 \ 67 - 68] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحِجْرِ» : وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [15 \ 82 - 83] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي الْقَمَرِ: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [54 \ 31] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْعَنْكَبُوتِ» وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يَعْنِي بِهِ ثَمُودَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ الْآيَةَ [29 \ 38] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالرَّجْفَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الْآيَةَ [7 \ 77 - 51] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالتَّدْمِيرِ فِي سُورَةِ «النَّمْلِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [27 \ 51] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالطَّاغِيَةِ فِي «الْحَاقَّةِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [69 \ 5] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالدَّمْدَمَةِ فِي «الشَّمْسِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [91 \ 14] .

وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْعَذَابِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [26 \ 157 - 158] .

وَمَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَاتِ كُلِّهَا رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً أَهْلَكَتْهُمْ، وَالصَّيْحَةُ الصَّوْتُ الْمُزْعِجُ الْمُهْلِكُ.

وَالصَّاعِقَةُ تُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الصَّوْتِ الْمُزْعِجِ الْمُهْلِكِ، وَعَلَى النَّارِ الْمُحْرِقَةِ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا، وَلِشِدَّةِ عِظَمِ الصَّيْحَةِ وَهَوْلِهَا مِنْ فَوْقِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِمْ، أَيْ تَحَرَّكَتْ حَرَكَةً قَوِيَّةً، فَاجْتَمَعَ فِيهَا أَنَّهَا صَيْحَةٌ وَصَاعِقَةٌ وَرَجْفَةٌ، وَكَوْنُ ذَلِكَ تَدْمِيرًا وَاضِحٌ. وَقِيلَ لَهَا طَاغِيَةٌ ; لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ مُجَاوَزَةٌ لِلْحَدِّ فِي الْقُوَّةِ وَشِدَّةِ الْإِهْلَاكِ.

وَالطُّغْيَانُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ الْآيَةَ [69 \ 11] أَيْ جَاوَزَ الْحُدُودَ الَّتِي يَبْلُغُهَا الْمَاءُ عَادَةً.

ص: 22

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّاغِيَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [69 \ 5] أَنَّهَا الصَّيْحَةُ الَّتِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [69 \ 6] .

خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاغِيَةَ مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِطُغْيَانِهِمْ، أَيْ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ، كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا [91 \ 11] .

وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّاغِيَةَ هِيَ أَشْقَاهُمُ الَّذِي انْبَعَثَ فَعَقَرَ النَّاقَةَ، وَأَنَّهُمْ أُهْلِكُوا بِسَبَبِ فِعْلِهِ، وَهُوَ عَقْرُهُ النَّاقَةَ، وَكُلُّ هَذَا خِلَافُ التَّحْقِيقِ.

وَالصَّوَابُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ [91 \ 14] فَإِنَّهُ لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ; لِأَنَّ مَعْنَى دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، أَيْ أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ وَأَلْبَسَهُمْ إِيَّاهُ، بِسَبَبِ ذَنْبِهِمْ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَعْنَى دَمْدَمَ: وَهُوَ مِنْ تَكْرِيرِ قَوْلِهِمْ: نَاقَةٌ مَدْمُومَةٌ، إِذَا أُلْبِسَهَا الشَّحْمُ.

وَأَمَّا إِطْلَاقُ الْعَذَابِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ «الشُّعَرَاءِ» فَوَاضِحٌ، فَاتَّضَحَ رُجُوعُ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ - مِنَ النَّعْتِ بِالْمَصْدَرِ ; لِأَنَّ الْهُونِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْهَوَانِ، وَالنَّعْتُ بِالْمَصْدَرِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا

فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا

وَهُوَ مُوَجَّهٌ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيِ الْعَذَابِ ذِي الْهُونِ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، فَكَأَنَّ الْعَذَابَ لِشِدَّةِ اتِّصَافِهِ بِالْهَوَانِ اللَّاحِقِ بِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ - صَارَ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْهَوَانِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.ُُ

ص: 23

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَالتَّوْكِيدِ فِي الْمَعْنَى ; لِقَوْلِهِ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا سَبَبٌ لِأَخْذِ الصَّاعِقَةِ إِيَّاهُمْ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ:(فَأَخَذَتْهُمْ) سَبَبِيَّةٌ، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ:(بِمَا كَانُوا) سَبَبِيَّةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ.

ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِالصَّاعِقَةِ، وَنَجَّى مِنْ ذَلِكَ الْإِهْلَاكِ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «هُودٍ» فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [11 \ 66]، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «النَّمْلِ» : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [27 \ 45] إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «ثَمُودَ» فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [27 \ 52 - 53] أَيْ وَهُمْ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ.

قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ.

قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ نَافِعٍ (يُحْشَرُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، (أَعْدَاءُ اللَّهِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ.

وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ، مِنَ السَّبْعَةِ (نَحْشُرُ أَعْدَاءَ اللَّهِ) بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَضَمِّ الشِّينِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، (أَعْدَاءَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، أَيْ وَاذْكُرْ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ أَيْ يُجْمَعُونَ إِلَى النَّارِ.

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ أَعْدَاءً، وَأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى النَّارِ - جَاءَ مَذْكُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ; فَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ لَهُ أَعْدَاءً، وَأَنَّ أَعْدَاءَهُ هُمْ أَعْدَاءُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جَزَاءَهُمُ النَّارُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [2 \ 98] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [8 \ 60] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ الْآيَةَ

ص: 24