المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‌ ‌[7 0 \ 8 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٧

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‌ ‌[7 0 \ 8

يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‌

‌[7

0 \ 8 - 9] ، وَأَصْلُ الْعِهْنِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الصُّوفِ لِأَنَّهُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ خَاصَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ:

كَأَنَّ فَتَاةَ الْعِهْنِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ

نَزَلْنَ بِهِ حَبَّ الْفَنَّا لَمْ يُحْطَمِ

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجِبَالُ مِنْهَا جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَمُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، فَإِذَا بُسِّتْ وَفُتِّتَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَطُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ أَشْبَهَتِ الْعِهْنَ إِذَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ فِي الْهَوَا، وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ كَيْنُونَتِهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا لِأَنَّ الْهَبَاءَ هُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْكُوَّةِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا قَابَلَتْهَا:

مُنْبَثًّا أَيْ مُتَفَرِّقًا، وَوَصْفُهَا بِالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ أَنْسَبُ لِكَوْنِ الْبَسِّ بِمَعْنَى التَّفْتِيتِ وَالطَّحْنِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أَيْ سُيِّرَتْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِبَسِّهَا سَوْقُهَا وَتَسْيِيرُهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: بَسَسْتُ الْإِبِلَ أَبُسُّهَا، بِضَمِّ الْبَاءِ وَأَبْسَسْتُهَا أَبُسُّهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، لُغَتَانِ بِمَعْنَى سُقْتُهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ:«يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ يَبُسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» .

وَهَذَا الْوَجْهُ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ الْآيَةَ [18 \ 47]، وَقَوْلِهِ: وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [52 \ 10] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [27 \ 88] .

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا نُزِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَقُلِعَتْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ رَاجِعٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْإِيضَاحِ التَّامِّ لِأَحْوَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْوَارِهَا، بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ «طه» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [20 \ 105] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [78 \ 20] ، وَالْهَبَاءُ إِذَا انْبَثَّ أَيْ تَفَرَّقَ وَاضْمَحَلَّ وَصَارَ لَا شَيْءَ، وَالسَّرَابُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً.

ص: 512

أَيْ صِرْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ كَانَ بِمَعْنَى صَارَ، وَمِنْهُ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [2 \ 35] ، أَيْ فَتَصِيرَا مِنَ الظَّالِمِينَ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا

قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا

وَقَوْلُهُ: أَزْوَاجًا: أَيْ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ بِقَوْلِهِ: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56 \ 8 - 12] ، أَمَّا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ [56 \ 27 - 28]، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ الْآيَاتِ [56 \ 41 - 42] .

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيلَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِمْ آدَمَ، كَمَا رَآهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.

وَقِيلَ: سُمُّوا أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَأَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ لِأَنَّهُمْ مَيَامِينُ، أَيْ مُبَارَكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَالْيُمْنُ الْبَرَكَةُ.

وَسُمِّيَ الْآخَرُونَ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ.

وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشِّمَالَ شُؤْمًا، كَمَا تُسَمِّي الْيَمِينَ يُمْنًا، وَمِنْ هُنَا قِيلَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: فَعَصَوُا اللَّهَ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ، وَالْمَشَائِيمُ ضِدُّ الْمَيَامِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً

وَلَا نَاعِبٍ إِلَّا بِبَيْنٍ غُرَابُهَا

وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [56 \ 10 - 11] ، وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ وَجَزَاؤُهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ هِيَ

ص: 513

وَجَزَاؤُهَا أَيْضًا فِي آخِرِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [56 \ 88 - 94] .

وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ.

وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْضَ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَشْأَمَةِ فِي الْبَلَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [90 \ 18 - 20] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَقَوْلُهُ: مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، اسْتِفْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ فِي السَّعَادَةِ، وَشَأْنِ هَؤُلَاءِ فِي الشَّقَاوَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَهُ، وَهُوَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فِي الْأَوَّلِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ فِي الثَّانِي.

وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ [69 \ 1 - 2] ، الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ [101 \ 1 - 2] ، وَالرَّابِطُ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِفْهَامُ تَعْجَبٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُقَابَلِهِ تَكْرِيرَ لَفْظِ السَّابِقِينَ.

وَالْأَظْهَرُ فِي إِعْرَابِهِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْرِيرِهِمُ اللَّفْظَ وَقَصْدِهِمُ الْإِخْبَارَ بِالثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ خَبَرُهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

لِلَّهِ دَرِّي مَا أَجَنَّ صَدْرِي

فَقَوْلُهُ: وَشِعْرِي شِعْرِي، يَعْنِي: شِعْرِي هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ خَبَرُهُ، وَانْتَهَى إِلَيْكَ وَصْفُهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ.

وَقَوْلُهُ: ثُلَّةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ هُمْ ثُلَّةٌ، وَالثُّلَّةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ،

ص: 514

وَأَصْلُهَا الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ وَهِيَ الثَّلُّ، وَهُوَ الْكَسْرُ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثُّلَّةُ مِنَ الثَّلِّ، وَهُوَ الْكَسْرُ، كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ مِنَ الْأَمِّ وَهُوَ الشَّبَحُ، كَأَنَّهَا جَمَاعَةٌ كُسِّرَتْ مِنَ النَّاسِ، وَقُطِّعَتْ مِنْهُمْ. اهـ. مِنْهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الثُّلَّةَ تَشْمَلُ الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَجَاءَتْ إِلَيْهِمْ ثُلَّةٌ خِنْدَفِيَّةٌ

بِجَيْشٍ كَتَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ مُزْبِدِ

لِأَنَّ قَوْلَهُ: تَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ: يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ هَذَا الْجَيْشِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالثُّلَّةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الثُّلَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الْآخِرِينَ الْمَذْكُورِينَ هُنَا، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الثُّلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [56 \ 39 - 40]، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ مَعَهُمُ الْقُرُونَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَالَّذِينَ قَالُوا: هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالُوا: إِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَهُمْ مَنْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَالْمُرَادُ بِالْآخِرِينَ فِيهِمَا هُوَ هَذِهِ الْأُمَّةُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْآخِرِينَ فِيهِمَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي السَّابِقِينَ خَاصَّةً، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ خَاصَّةً.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، الَّتِي هِيَ شُمُولُ الْآيَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَكَوْنُ قَلِيلٍ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ السَّابِقِينَ، وَكَوْنُ ثُلَّةٍ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ وَاضِحٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ.

أَمَّا شُمُولُ الْآيَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ السُّورَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ إِلَى قَوْلِهِ: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَخُصُّ أُمَّةً دُونَ أُمَّةٍ، وَأَنَّ

ص: 515

الْجَمِيعَ مُسْتَوُونَ فِي الْأَهْوَالِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.

فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً [56 \ 7] عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَظَهَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَعَلَى هَذَا فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَكْثَرُ مِنَ السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ عَبَّرَ فِي السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَعَبَّرَ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.

وَلَا غَرَابَةَ فِي هَذَا، لِأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا أَنْبِيَاءُ كَثِيرَةٌ وَرُسُلٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ سَابِقِيهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحْدَهَا.

أَمَّا أَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، لِأَنَّ الثُّلَّةَ تَتَنَاوَلُ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ الْكَثِيرَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّهُمَا كِلَيْهِمَا كَثِيرٌ.

وَلِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ - لَا يُنَافِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.

فَأَمَّا كَونُ قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ دَلَّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ فِي خُصُوصِ السَّابِقِينَ، فَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [56 \ 10 - 12]، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ.

وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِ: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [56 \ 36 - 40] ، وَالْمَعْنَى هُمْ - أَيْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ - ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ.

ص: 516

السُّرُرُ جَمْعُ سَرِيرٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ سُرُرَهُمْ مَرْفُوعَةٌ فِي قَوْلِهِ فِي الْغَاشِيَةِ: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [18 \ 13]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَوْضُونَةٍ مَنْسُوجَةٍ بِالذَّهَبِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ مُشَبَّكَةٍ بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَكُلُّ نَسْجٍ أُحْكِمَ وَدَخَلَ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ وَضَنًا، وَتُسَمِّي الْمَنْسُوجَ بِهِ مَوْضُونًا وَوَضِينًا، وَمِنْهُ الدِّرْعُ الْمَوْضُونَةُ إِذَا أُحْكِمَ نَسْجُهَا وَدَخَلَ بَعْضُ حَلْقَاتِهَا فِي بَعْضٍ.

وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

وَمِنْ نَسْجِ دَاوُدَ مَوْضُونَةٌ

تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عِيرًا فَعِيرَا

وَقَوْلُهُ أَيْضًا:

وَبَيْضَاءَ كَالنِّهْيِ مَوْضُونَةٍ

لَهَا قَوْنَسٌ فَوْقَ جَيْبِ الْبُدُنِ

وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الْبِطَانِ الَّذِي يُنْسَجُ مِنَ السُّيُورِ، مَعَ إِدْخَالِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ - وَضِينًا.

وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

إِلَيْكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا

مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا

مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا

وَهَذِهِ السُّرُرُ الْمُزَيَّنَةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَرَائِكِ فِي قَوْلِهِ: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ [18 \ 31]، وَقَوْلِهِ: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 56] . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَّكِئِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى سُرُرٍ وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَقَرُّوا عَلَى سُرُرٍ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا.

وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، أَيْ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، كُلُّهُمْ يُقَابِلُ الْآخَرَ بِوَجْهِهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجْرِ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [15 \ 47] وَقَوْلِهِ فِي الصَّافَّاتِ: أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [37 \ 41 - 44] .

ص: 517

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [52 \ 24] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ [52 \ 23]، وَفِي الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [5 \ 90] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 22] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ الْآيَةَ [2 \ 25]، وَفِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا.

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [19 \ 62] ، وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِهِ شَرْعًا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ.

أَمَّا قَوْلُهُ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [4 \ 57]، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ

ص: 518

فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ [47 \ 15]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [15 \ 45]، وَقَوْلِهِ: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ الْآيَةَ [7 \ 50] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَالْمَسْكُوبُ اسْمُ مَفْعُولٍ، سَكَبَ الْمَاءَ وَنَحْوَهُ إِذَا صَبَّهُ بِكَثْرَةٍ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ، وَأَنَّ الْمَاءَ يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَيْنَمَا كَانُوا كَيْفَ شَاءُوا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [76 \ 6]، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ: فَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [52 \ 22] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.

الضَّمِيرُ فِي أَنْشَأْنَاهُنَّ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَذْكُورٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ.

فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَذْكُورٍ، قَالَ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرُشِ النِّسَاءُ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَرْأَةَ لِبَاسًا وَإِزَارًا وَفِرَاشًا وَنَعْلًا. وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: مَرْفُوعَةٍ رَفْعُ الْمَنْزِلَةِ وَالْمَكَانَةِ.

وَمِنْ قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، قَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى نِسَاءٍ لَمْ يُذْكَرْنَ، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْفُرُشِ دَلَّ عَلَيْهِنَّ ; لِأَنَّهُنَّ يَتَّكِئْنَ عَلَيْهَا مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِهِنَّ الْحُورُ الْعِينُ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ هُوَ الِاخْتِرَاعُ وَالِابْتِدَاعُ.

وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِنَّ بَنَاتُ آدَمَ الَّتِي كُنَّ فِي الدُّنْيَا عَجَائِزَ شُمْطًا رُمْصًا، وَجَاءَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَعْنَى أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً أَيْ خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا جَدِيدًا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَيْ فَصَيَّرْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، وَهُوَ جَمْعُ بِكْرٍ، وَهُوَ ضِدُّ الثَّيِّبِ.

وَقَوْلُهُ: عُرُبًا قَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ عُرُبًا

ص: 519

بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَشُعْبَةُ «عُرْبًا» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ جَمْعُ عَرُوبٍ، وَهِيَ الْمُتَحَبِّبَةُ إِلَى زَوْجِهَا الْحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَهُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيَدٍ:

وَفِي الْخِبَاءِ عَرُوبٌ غَيْرُ فَاحِشَةٍ

رَيَّا الرَّوَادِفِ يَعْشَى دُونَهَا الْبَصَرُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَتْرَابًا جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَالتِّرْبُ اللِّدَةُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تِرْبَ الْإِنْسَانِ مَا وُلِدَ مَعَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ شَابَّةٌ وَعَجُوزٌ، وَلَكِنَّهُنَّ كُلَّهُنَّ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الشَّبَابِ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّهُنَّ يَنْشَأْنَ مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ عَلَى قَدْرِ بَنَاتِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَوْنُ الْأَتْرَابِ بِمَعْنَى الْمُسْتَوِيَاتِ فِي السِّنِّ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:

أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى

بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبَ أَتْرَابِ

وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ.

أَمَّا كَوْنُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْكَارًا، فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [55 \ 56، 74]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ نَصٌّ فِي عَدَمِ زَوَالِ بَكَارَتِهِنَّ، وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ عُرُبًا أَيْ مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الصَّافَّاتِ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ قَاصِرَاتُ الْعُيُونِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِنَّ لَهُمْ وَاقْتِنَاعِهِنَّ بِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا مُتَحَبِّبَةٌ إِلَيْهِ حَسَنَةُ التَّبَعُّلِ مَعَهُ.

وَقَوْلُهُ فِي «ص» : وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [38 \ 52]، وَقَوْلُهُ فِي الرَّحْمَنِ: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [55 \ 56] ،

ص: 520

وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ أَتْرَابًا فَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ «ص» هَذِهِ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ، وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [78 \ 31 - 33] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَيْ: أَنْشَأْنَاهُنَّ وَصَيَّرْنَاهُنَّ أَبْكَارًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ.

قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْضَحْنَا مَعْنَى السَّمُومِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [52 \ 27] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ النَّارِ وَظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [4 \ 57]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ النَّارِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [56 \ 43 - 44]، وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [77: 30 - 31] .

وَقَوْلُهُ: مِنْ يَحْمُومٍ أَيْ مِنْ دُخَانٍ أَسْوَدَ شَدِيدِ السَّوَادِ، وَوَزْنُ الْيَحْمُومِ يَفْعُولُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ، وَقِيلَ: مِنَ الْحَمِّ، وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ لِاحْتِرَاقِهِ بِالنَّارِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا الْآيَةَ [52 \ 26 - 27] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ.

لَمَّا ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مَا أَعَدَّ لِأَصْحَابِ الشِّمَالِ مِنَ الْعَذَابِ؛ بَيَّنَ بَعْضَ أَسْبَابِهِ، فَذَكَرَ مِنْهَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا مُتْرَفِينَ أَيْ مُتَنَعِّمِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِتْرَافَ وَالتَّنَعُّمَ وَالسُّرُورَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أسْبَابِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ مُعْرِضٌ عَنِ اللَّهِ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَلَا بِرُسُلِهِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:

ص: 521

فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [84 \ 11 - 13] ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الطُّورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا.

وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ إِنْكَارِ الْبَعْثِ سَبَبًا لِدُخُولِ النَّارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ؛ بَيَّنَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [13 \ 5] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا [25 \ 11] . وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ إِنْكَارِهِمْ بَعَثَ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ فِي قَوْلِهِ: أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ [56 \ 48]، وَأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ يَبْعَثُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [56 \ 49 - 50]- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَبَيَّنَّا فِيهِ أَنَّ الْبَعْثَ الَّذِي أَنْكَرُوا سَيَتَحَقَّقُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ أَذِلَّاءَ صَاغِرِينَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ: وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ [37 \ 15 - 19] .

وَقَوْلُهُ: أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ، قَرَأَهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ، غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ وَقَالُونَ عَنْ نَافِعٍ: أَوَآبَاؤُنَا بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ وَالْعَطْفِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَهَا أَدَاةُ عَطْفٍ كَالْوَاوِ وَالْفَاءِ وَثُمَّ، نَحْوَ: أَوَآبَاؤُنَا أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى [7 \ 97]، أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ [10 \ 51]- أَنَّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ لِعُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُفَسِّرِينَ: الْأَوَّلَ مِنْهُمَا أَنَّ أَدَاةَ الْعَطْفِ عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُصَدَّرَةِ بِالِاسْتِفْهَامِ عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُتَأَخِّرَةٌ رُتْبَةً عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَكِنَّهَا قُدِّمَتْ عَلَيْهِ لَفْظًا لَا مَعْنًى لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِفْهَامِ التَّصْدِيرُ بِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحِلِّهِ.

وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَاضِحٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا بَعْثَهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ الَّتِي هِيَ الْهَمْزَةُ، وَعَطَفُوا عَلَى ذَلِكَ بِالْوَاوِ إِنْكَارَهُمْ بَعْثَ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ الَّتِي هِيَ

ص: 522

الْهَمْزَةُ الْمُقَدَّمَةُ عَنْ مَحِلِّهَا لَفْظًا لَا رُتْبَةً، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ الْأَقْدَمِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ وَابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ، وَهُوَ الَّذِي صِرْنَا نَمِيلُ إِلَيْهِ أَخِيرًا بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ، وَأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِجُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَالْجُمْلَةُ الْمُصَدَّرَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْمَحْذُوفَةِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ الَّذِي بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ مِنْ كَشَّافِهِ، وَرُبَّمَا مَالَ إِلَى غَيْرِهِ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالتَّقْدِيرُ: أَمَبْعُوثُونَ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟

وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: «آبَاؤُنَا» مَعْطُوفٌ عَلَى وَاوِ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: لَمَبْعُوثُونَ، وَأَنَّهُ سَاغَ الْعَطْفُ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلٍ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيدٍ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ لِأَجْلِ الْفَصْلِ بِالْهَمْزَةِ - لَا يَصِحُّ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ وَابْنُ هِشَامٍ وَغَيْرُهُمَا.

وَهَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ فِي قَوْلِهِ:

وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ وَعَطْفُكَ الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ يَصِحْ وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ قَالُونُ وَابْنُ عَامِرٍ «أَوْ آبَاؤُنَا» بِسُكُونِ الْوَاوِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي عَلَى قِرَاءَتِهِمَا «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ:«آبَاؤُنَا» ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَنْصُوبِ الَّذِي هُوَ اسْمُ «إِنَّ» ، لِأَنَّ عَطْفَ الْمَرْفُوعِ عَلَى مَنْصُوبِ «إِنَّ» بَعْدَ ذِكْرِ خَبَرِهَا جَائِزٌ بِلَا نِزَاعٍ، لِأَنَّ اسْمَهَا وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَأَصْلُهُ الرَّفْعُ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ فِي الْأَصْلِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:

وَجَائِزٌ رَفْعُكَ مَعْطُوفًا عَلَى مَنْصُوبِ إِنَّ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ «أَوْ» بِمَعْنَى الْوَاوِ، لِأَنَّ إِتْيَانَهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [775 - 6 \] ; لِأَنَّ الذِّكْرَ الْمُلْقَى لِلْعُذْرِ، وَالنُّذْرِ مَعًا لَا لِأَحَدِهِمَا، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا أَتَتْ لِلذِّكْرِ إِعْذَارًا وَإِنْذَارًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] ، أَيْ وَلَا كَفُورًا، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:

قَوْمٌ إِذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَيْتَهُمْ مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ

ص: 523

فَالْمَعْنَى مَا بَيْنَ الْمُلْجِمِ مُهْرِهِ وَسَافِعٍ: أَيْ آخِذٍ بِنَاصِيَتِهِ لِيُلْجِمَهُ، وَقَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:

قَالَتْ أَلَا لَيْتَ مَا هَذَا الْحَمَامُ لَنَا

إِلَى حَمَامَتِنَا أَوْ نِصْفُهُ فَقَدِ

فَحَسَبُوهُ فَأَلْفَوْهُ كَمَا زَعَمَتْ

سِتًّا وَسِتِّينَ لَمْ تَنْقُصْ وَلَمْ تَزِدِ

فَقَوْلُهُ: أَوْ نِصْفُهُ بِمَعْنَى وَنِصْفُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ مَعْنَى الْبَيْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، لِأَنَّ مُرَادَهَا أَنَّهَا تَمَنَّتْ أَنْ يَكُونَ الْحَمَامُ الْمَارُّ بِهَا هُوَ وَنِصْفُهُ مَعَهُ لَهَا مَعَ حَمَامَتِهَا الَّتِي مَعَهَا، لِيَكُونَ الْجَمِيعُ مِائَةَ حَمَامَةٍ، فَوَجَدُوهُ سِتًّا وَسِتِّينَ، وَنِصْفُهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ فَيَكُونُ الْمَجْمُوعُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ، وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ:

لَيْتَ الْحَمَامَ لِيَّهْ

إِلَى حَمَامَتِيَّهْ

وَنِصْفُهُ قَدِيَّهْ

تَمَّ الْحَمَامُ مِايَّهْ

وَقَوْلُ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ:

قَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ

لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَجْمَعَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ عَلَى إِثَبَاتِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَئِذَا مِتْنَا وَأَثْبَتَهَا أَيْضًا عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ:«إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» ، بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَكْسُورَةٍ عَلَى الْخَبَرِ، كَمَا عَقَدَهُ صَاحِبُ الدُّرَرِ اللَّوَامِعِ فِي أَصْلِ مَقْرَأِ الْإِمَامِ نَافِعٍ بِقَوْلِهِ:

فَصْلٌ وَاسْتِفْهَامٌ إِنْ تَكَرَّرَا

فَصَيِّرِ الثَّانِيَ مِنْهُ خَبَرَا

وَاعْكِسْهُ فِي النَّمْلِ وَفَوْقَ الرُّومِ

. . . . . . . . . . . . إِلَخْ

وَالْقِرَاءَاتُ فِي الْهَمْزَتَيْنِ فِي أَئِذَا وَأَئِنَّا مَعْرُوفَةٌ، فَنَافِعٌ يُسَهِّلُ الْهَمْزَةَ الثَّانِيَةَ بَيْنَ بَيْنَ، وَرِوَايَةُ قَالُونَ عَنْهُ هِيَ إِدْخَالُ أَلْفٍ بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى الْمُحَقَّقَةِ وَالثَّانِيَةِ الْمُسَهَّلَةِ.

وَرِوَايَةُ قَالُونَ هَذِهِ عَنْ نَافِعٍ بِالتَّسْهِيلِ وَالْإِدْخَالِ مُطَابِقَةٌ لِقِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، فَأَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ عَنْ نَافِعٍ يُسَهِّلَانِ وَيُدْخِلَانِ، وَرِوَايَةُ وَرْشٍ عَنْ نَافِعٍ هِيَ تَسْهِيلُ الْأَخِيرَةِ مِنْهُمَا بَيْنَ بَيْنَ مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ أَلِفٍ. وَهَذِهِ هِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَوَرْشٍ، فَابْنُ كَثِيرٍ وَوَرْشٌ يُسَهِّلَانِ وَلَا يُدْخِلَانِ.

ص: 524

وَقَرَأَ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا أَلِفُ الْإِدْخَالِ.

وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِتَحْقِيقِ الْهَمْزَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلْفِ الْإِدْخَالِ، هَذِهِ هِيَ الْقِرَاءَاتُ الصَّحِيحَةُ فِي مِثْلِ أَئِذَا وَأَئِنَّا وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.

تَنْبِيهٌ:

اعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ مَا جَرَى فِي الْأَقْطَارِ الْإِفْرِيقِيَّةِ مِنْ إِبْدَالِ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذِهِ الْهَمْزَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ هَاءً خَالِصَةً مِنْ أَشْنَعِ الْمُنْكَرِ وَأَعْظَمِ الْبَاطِلِ، وَهُوَ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَلَا يُعْذَرُ فِيهِ إِلَّا الْجَاهِلُ الَّذِي لَا يَدْرِي، الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْهَاءِ الْخَالِصَةِ صَحِيحَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا لِأَنَّ إِبْدَالَ الْهَمْزَةِ فِيمَا ذُكِرَ هَاءً خَالِصَةً لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ بِهِ جِبْرِيلُ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ صَحَابِيٍّ وَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَالتَّجَرُّؤُ عَلَى اللَّهِ بِزِيَادَةِ حَرْفٍ فِي كِتَابِهِ، وَهُوَ هَذِهِ الْهَاءُ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ بِهَا الْمَلَكُ مِنَ السَّمَاءِ الْبَتَّةَ، هُوَ كَمَا تَرَى. وَكَوْنُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ سُمِعَ فِيهَا إِبْدَالُ الْهَمْزَةِ هَاءً لَا يُسَوِّغُ التَّجَرُّؤَ عَلَى اللَّهِ بِإِدْخَالِ حَرْفٍ فِي كِتَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ بِإِدْخَالِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ.

وَدَعْوَى أَنَّ الْعَمَلَ جَرَى بِالْقِرَاءَةِ بِالْهَاءِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ جَرَيَانَ الْعَمَلِ بِالْبَاطِلِ بَاطِلٌ، وَلَا أُسْوَةَ فِي الْبَاطِلِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْأُسْوَةُ فِي الْحَقِّ، وَالْقِرَاءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ مَرْوِيَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِتْنَا، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «مُتْنَا» بِضَمِّ الْمِيمِ وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ مِتْنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مُسَوِّغَ كَسْرِ الْمِيمِ لُغَةً فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا [19 \ 23] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ.

لَمَّا أَنْكَرَ الْكُفَّارُ بَعْثَهُمْ وَآبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ

ص: 525