المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فَإِنَّ الْتِجَاءَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصَ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٧

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: فَإِنَّ الْتِجَاءَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصَ

فَإِنَّ الْتِجَاءَ الْعَبْدِ إِلَى رَبِّهِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ خَصَائِصَ رُبُوبِيَّتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [10 \ 31] وَقَالَ تَعَالَى: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [29 \ 17] وَقَالَ تَعَالَى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ [42 \ 49] وَقَالَ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ [1‌

‌6

\ 72] وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [4 \ 32] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ» .

وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ بِالْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ وَقْتَ الْكَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ [8 \ 9] ، فَنَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِذَا أَصَابَهُمْ أَمْرٌ أَوْ كَرْبٌ الْتَجَئُوا إِلَى اللَّهِ وَأَخْلَصُوا لَهُ الدُّعَاءَ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ وَلَا نَبْتَدِعَ.

تَنْبِيهٌ

اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهِيَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرُبَاتِ فَيُخْلِصَ تَقَرُّبَهُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ اللَّهِ كَائِنًا مَا كَانَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ هَيْئَاتِ الْعِبَادَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسَلِّمِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى كَهَيْئَةِ الْمُصَلِّي، لِأَنَّ هَيْئَةَ الصَّلَاةِ دَاخِلَةٌ فِي جُمْلَتِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً لِلَّهِ، كَمَا كَانَ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ يُخْلِصُونَ الْعِبَادَاتِ وَهَيْئَاتِهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ.

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَقَدْ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ لِيَأْتِيَهُمْ بِصَدَقَاتِ أَمْوَالِهِمْ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ تَلَقَّوْهُ فَرَحًا بِهِ، فَخَافَ مِنْهُمْ وَظَنَّ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ، فَرَجَعَ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَعَمَ لَهُ أَنَّهُمْ مَنَعُوا الصَّدَقَةَ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَقَدِمَ وَفْدٌ مِنْهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ بِكَذِبِ الْوَلِيدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِ الْفَاسِقِ فِي خَبَرِهِ.

ص: 410

وَصَرَّحَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [24 \ 4] ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِهِ.

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ عَلَى أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ جَاءَ بِنَبَأٍ مُمْكِنٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَهَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ الْفَاسِقُ حَقٌّ أَوْ كَذِبٌ - فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ التَّثَبُّتُ.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا بَدَلٌ بِدَلِيلِ خِطَابِهِ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْجَائِيَ بِنَبَأٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِقٍ بَلْ عَدْلًا لَا يَلْزَمُ التَّبَيُّنُ فِي نَبَئِهِ عَلَى قِرَاءَةِ: فَتَبَيَّنُوا. وَلَا التَّثَبُّتُ عَلَى قِرَاءَةِ: فَتَثَبَّتُوا، وَهُوَ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَهِيَ مَرْدُودَةٌ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ النُّورِ الْمَذْكُورَةُ آنِفًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الْفِسْقِ وَأَنْوَاعِهِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.

وَقَوْلُهُ: أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا أَيْ لِئَلَّا تُصِيبُوا قَوْمًا، أَوْ كَرَاهَةَ أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ، أَيْ لِظَنِّكُمُ النَّبَأَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْفَاسِقُ حَقًّا فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ مِنْ إِصَابَتِكُمْ لِلْقَوْمِ الْمَذْكُورِينَ نَادِمِينَ لِظُهُورِ كَذِبِ الْفَاسِقِ فِيمَا أَنْبَأَ بِهِ عَنْهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَتَبَيَّنُوا فِي نَبَأِ الْوَلِيدِ عَنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ لَعَامَلُوهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ؟ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَنَدِمُوا.

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: فَتَبَيَّنُوا بِالْبَاءِ التَّحْتِيَّةِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ مُشَدَّدَةٌ ثُمَّ نُونٌ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ:«فَتَثَبَّتُوا» بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ تَحْتِيَّةٌ مُوَحَّدَةٌ مُشَدَّدَةٌ، ثُمَّ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ فَوْقِيَّةٌ.

وَالْأَوَّلُ مِنَ التَّبَيُّنِ، وَالثَّانِي مِنَ التَّثَبُّتِ.

وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالتَّأَنِّي وَعَدَمِ الْعَجَلَةِ حَتَّى تَظْهَرَ الْحَقِيقَةُ فِيمَا أَنْبَأَ بِهِ الْفَاسِقُ.

ص: 411

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ.

وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَكَرَّهَ إِلَيْهِمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مُصَرَّحٌ فِيهَا بِأَنَّهُ تَعَالَى يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [18 \ 17] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ [17 \ 97] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [7 \ 178] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [91 \ 7 - 8] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، نَرْجُو اللَّهَ الرَّحِيمَ الْكَرِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَأَلَّا يُضِلَّنَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.

هَذِهِ الْأُخُوَّةُ الَّتِي أَثْبَتَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ هِيَ أُخُوَّةُ الدِّينِ لَا النَّسَبِ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأُخُوَّةَ تَكُونُ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [33 \ 5] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] أَنَّ الْأُخُوَّةَ الدِّينِيَّةَ أَعْظَمُ وَأَقْوَى مِنَ الْأُخُوَّةِ النَّسَبِيَّةِ، وَبَيَّنَّا أَدِلَّةَ ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ إِعَادَتِهِ هُنَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ. قَوْلُهُ: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ أَيْ لَا يَسْتَخِفُّوا وَلَا يَسْتَهْزِئُوا بِهِمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: سَخِرَ مِنْهُ بِكَسْرِ الْخَاءِ، يَسْخَرُ بِفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْقِيَاسِ، إِذَا اسْتَهْزَأَ بِهِ وَاسْتَخَفَّ.

ص: 412

وَقَدْ نَهَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنِ السُّخْرِيَةِ مِنَ النَّاسِ، مُبَيِّنًا أَنَّ الْمَسْخُورَ مِنْهُ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ السَّاخِرِ.

وَمِنْ أَقْبَحِ الْقَبِيحِ اسْتِخْفَافُ الدَّنِيءِ الْأَرْذَلِ بِالْأَكْرَمِ الْأَفْضَلِ، وَاسْتِهْزَاؤُهُ بِهِ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ السُّخْرِيَةِ جَاءَ ذَمُّ فَاعِلِهِ وَعُقُوبَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [9 \ 79] .

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُتْرَفِينَ فِي الدُّنْيَا كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ ضِعَافِ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ أُولَئِكَ يَسْخَرُونَ مِنَ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [2 \ 212]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [83 \ 29 - 36] .

فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ رَأَى مُسْلِمًا فِي حَالَةٍ رَثَّةٍ تَظْهَرُ بِهَا عَلَيْهِ آثَارُ الْفَقْرِ وَالضَّعْفِ أَنْ يَسْخَرَ مِنْهُ؛ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ.

أَيْ لَا يَلْمِزْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] .

وَقَدْ أَوْعَدَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِينَ يَلْمِزُونَ النَّاسَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [104 \ 12] ، وَالْهُمَزَةُ كَثِيرُ الْهَمْزِ لِلنَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ كَثِيرُ اللَّمْزِ.

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْهَمْزُ يَكُونُ بِالْفِعْلِ كَالْغَمْزِ بِالْعَيْنِ احْتِقَارًا وَازْدِرَاءً، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْغَيْبَةُ.

وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [49 \ 12]، وَنَفَّرَ عَنْهُ غَايَةَ التَّنْفِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [49 \ 12] ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَبَاعَدَ كُلَّ التَّبَاعُدِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ.

ص: 413

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.

ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ النَّاسَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْمَذْكُورَيْنِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ الذَّكَرَ الَّذِي هُوَ آدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَقَدْ بَيَّنَ الْأَطْوَارَ الَّتِي مَرَّ بِهَا ذَلِكَ التُّرَابُ، كَصَيْرُورَتِهِ طِينًا لَازِبًا وَحَمَأً مَسْنُونًا وَصَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ.

وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَلَقَ تِلْكَ الْأُنْثَى الَّتِي هِيَ حَوَّاءُ مِنْ ذَلِكَ الذَّكَرِ الَّذِي هُوَ آدَمُ فَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [4 \ 1] وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [7 \ 189]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الزُّمَرِ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [39 \ 6] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ خَلَقَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ:

الْأَوَّلُ مِنْهَا: خَلَقَهُ لَا مِنْ أُنْثَى وَلَا مِنْ ذَكَرٍ وَهُوَ آدَمُ عليه السلام.

وَالثَّانِي: خَلَقَهُ مَنْ ذَكَرٍ بِدُونِ أُنْثَى وَهُوَ حَوَّاءُ.

وَالثَّالِثُ: خَلَقَهُ مِنْ أُنْثَى بِدُونِ ذَكَرٍ وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

الرَّابِعُ: خَلَقَهُ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَهُوَ سَائِرُ الْآدَمِيِّينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا.

مَسْأَلَةٌ

قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ الْأُولَى كَانَ وُجُودُهَا الْأَوَّلُ مُسْتَنِدًا إِلَى وُجُودِ الرَّجُلِ وَفَرْعًا عَنْهُ.

وَهَذَا أَمْرٌ كَوْنِيٌّ قَدَرِيٌّ مِنَ اللَّهِ، أَنْشَأَ الْمَرْأَةَ فِي إِيجَادِهَا الْأَوَّلِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ الْكَرِيمُ الْمُنَزَّلُ مِنَ اللَّهِ لِيُعْمَلَ بِهِ فِي أَرْضِهِ بِمُرَاعَاةِ هَذَا الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ فِي حَيَاةِ الْمَرْأَةِ فِي جَمِيعِ النَّوَاحِي.

فَجَعَلَ الرَّجُلَ قَائِمًا عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا مُسْتَنِدَةً إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى:

ص: 414

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ الْآيَةَ [4 \ 34] .

فَمُحَاوَلَةُ اسْتِوَاءِ الْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْحَيَاةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ؛ لِأَنَّ الْفَوَارِقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَوْنًا وَقَدَرًا أَوَّلًا، وَشَرْعًا مُنَزَّلًا ثَانِيًا - تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعًا بَاتًّا.

وَلِقُوَّةِ الْفَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهَ مِنَ النَّوْعَيْنِ بِالْآخَرِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَ هَذَا اللَّعْنِ هُوَ مُحَاوَلَةُ مَنْ أَرَادَ التَّشَبُّهَ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ، لِتَحْطِيمِ هَذِهِ الْفَوَارِقِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَطَّمَ.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ» .

وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ مَنْ لَعَنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَوْ كَانَتِ الْفَوَارِقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى يُمْكِنُ تَحْطِيمُهَا وَإِزَالَتُهَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ مَنْ أَرَادَ ذَلِكَ اللَّعْنَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَلِأَجْلِ تِلْكَ الْفَوَارِقِ الْعَظِيمَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَرَّقَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - بَيْنَهُمَا فِي الطَّلَاقِ، فَجَعَلَهُ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، وَفِي الْمِيرَاثِ، وَفِي نِسْبَةِ الْأَوْلَادِ إِلَيْهِ.

وَفِي تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ دُونَ الْأَزْوَاجِ: صَرَّحَ بِأَنَّ شَهَادَةَ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ الْآيَةَ [2 \ 282] ، فَاللَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمَا لَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَتِهِمَا، وَقَدْ صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ بِقِيَامِ الرَّجُلِ مَقَامَ امْرَأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [53 \ 21 - 22] ، أَيْ غَيْرُ عَادِلَةٍ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ النَّصِيبَيْنِ لِفَضْلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى.

وَلِذَلِكَ وَقَعَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ فِي مُشْكِلَةٍ لَمَّا وَلَدَتْ مَرْيَمَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهَا: فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى الْآيَةَ [3 \ 36] فَامْرَأَةُ عِمْرَانَ تَقُولُ: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى، وَهِيَ صَادِقَةٌ فِي ذَلِكَ بِلَا شَكٍّ.

ص: 415

وَالْكَفَرَةُ وَأَتْبَاعُهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى سَوَاءٌ.

وَلَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ فِي صِدْقِ هَذِهِ السَّالِبَةِ وَكَذِبِ هَذِهِ الْمُوجَبَةِ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ وَتَفْضِيلِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى فِي الْمِيرَاثِ وَتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ، وَكَوْنِ الْوَلَدِ يُنْسَبُ إِلَى الرَّجُلِ، وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [2 \ 228] ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَوَارِقَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الذُّكُورَةِ شَرَفًا وَكَمَالًا وَقُوَّةً طَبِيعِيَّةً خُلُقِيَّةً، وَكَوْنُ الْأُنُوثَةِ بِعَكْسِ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَّا أَنَّ الْعُقَلَاءَ جَمِيعًا مُطْبِقُونَ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ، وَأَنَّ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنَّ الْأُنْثَى مِنْ حِينِ نَشْأَتِهَا تُحَلَّى بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنْ حُلِيٍّ وَحُلَلٍ، وَذَلِكَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْجِبِلِّيِّ الْخَلْقِيِّ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

وَمَا الْحُلِيُّ إِلَّا زِينَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ

يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحُسْنُ قَصَّرَا

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْضَحَ هَذَا بِقَوْلِهِ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [43 \ 18] ، فَأَنْكَرَ عَلَى الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَعَ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ لَهُ تَعَالَى جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَضْعَفَهُمَا خِلْقَةً وَجِبِلَّةً وَهُوَ الْأُنْثَى.

وَلِذَلِكَ نَشَأَتْ فِي الْحِلْيَةِ مِنْ صِغَرِهَا، لِتَغْطِيَةِ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ وَجَبْرِهِ بِالزِّينَةِ، فَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ.

لِأَنَّ الْأُنْثَى لِضَعْفِهَا الْخَلْقِيِّ الطَّبِيعِيِّ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُبِينَ فِي الْخِصَامِ إِبَانَةَ الْفُحُولِ الذُّكُورِ، إِذَا اهْتُضِمَتْ وَظُلِمَتْ لِضَعْفِهَا الطَّبِيعِيِّ.

وَإِنْكَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ مَعَ ادِّعَائِهِمْ لَهُ الْوَلَدَ جَعَلُوا لَهُ أَنْقَصَ الْوَلَدَيْنِ وَأَضْعَفَهُمَا - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [37 \ 153 - 154]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [17 \ 40]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [39 \ 4] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

ص: 416

وَأَمَّا الذَّكَرُ فَإِنَّهُ لَا يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ، لِأَنَّ كَمَالَ ذُكُورَتِهِ وَشَرَفَهَا وَقُوَّتَهَا الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى التَّزَيُّنِ بِالْحِلْيَةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُنْثَى، لِكَمَالِهِ بِذُكُورَتِهِ وَنَقْصِهَا بِأُنُوثَتِهَا.

وَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِذَا تَعَاشَرَا الْمُعَاشَرَةَ الْبَشَرِيَّةَ الطَّبِيعِيَّةَ الَّتِي لَا بَقَاءَ لِلْبَشَرِ دُونَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ تَأَثُّرًا طَبَعِيًّا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا مَانِعًا لَهَا مِنْ مُزَاوَلَةِ الْأَعْمَالِ كَالْحَمْلِ وَالنِّفَاسِ وَمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الضَّعْفِ وَالْمَرَضِ وَالْأَلَمِ.

بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَثَّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَمَعَ هَذِهِ الْفَوَارِقِ لَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُسَاوَاتِهِمَا فِي جَمِيعِ الْمَيَادِينِ إِلَّا مُكَابِرٌ فِي الْمَحْسُوسِ، فَلَا يَدْعُو إِلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا إِلَّا مَنْ أعْمَى اللَّهُ بَصِيرَتَهُ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَرْنَا لَهُمَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ مَا يَكْفِي الْمُنْصِفَ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.

لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [49 \ 13] ، يَدُلُّ عَلَى اسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّ أَبَاهُمْ وَاحِدٌ وَأُمَّهُمْ وَاحِدَةٌ وَكَانَ فِي ذَلِكَ أَكْبَرُ زَاجِرٍ عَنِ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَتَطَاوُلِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ، بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَهُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَعَارَفُوا أَيْ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَمَيَّزُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لَا لِأَجْلِ أَنْ يَفْتَخِرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَتَطَاوَلَ عَلَيْهِ.

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ بَعْضِهِمْ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ وَأَكْرَمَ مِنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَنْسَابِ.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ [49 \ 13] ، فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْفَضْلَ وَالْكَرَمَ إِنَّمَا هُوَ بِتَقْوَى اللَّهِ لَا بِغَيْرِهِ مِنَ الِانْتِسَابِ إِلَى الْقَبَائِلِ، وَلَقَدْ صَدَقَ مَنْ قَالَ:

فَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ

وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبٍ

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ سَلْمَانَ رضي الله عنه كَانَ يَقُولُ:

ص: 417

أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ

إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمٍ

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ سَمَاوِيٌّ صَحِيحٌ، لَا نَظَرَ فِيهِ إِلَى الْأَلْوَانِ وَلَا إِلَى الْعَنَاصِرِ، وَلَا إِلَى الْجِهَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْوَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - وَطَاعَتُهُ، فَأَكْرَمُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ، وَلَا كَرَمَ وَلَا فَضْلَ لِغَيْرِ الْمُتَّقِي، وَلَوْ كَانَ رَفِيعَ النَّسَبِ.

وَالشُّعُوبُ جَمْعُ شَعْبٍ، وَهُوَ الطَّبَقَةُ الْأُولَى مِنَ الطَّبَقَاتِ السِّتِّ الَّتِي عَلَيْهَا الْعَرَبُ وَهِيَ: الشَّعْبُ، وَالْقَبِيلَةُ، وَالْعِمَارَةُ، وَالْبَطْنُ، وَالْفَخْذُ، وَالْفَصِيلَةُ.

فَالشَّعْبُ يَجْمَعُ الْقَبَائِلَ، وَالْقَبِيلَةُ تَجْمَعُ الْعَمَائِرَ، وَالْعِمَارَةُ تَجْمَعُ الْبُطُونَ، وَالْبَطْنُ يَجْمَعُ الْأَفْخَاذَ، وَالْفَخْذُ يَجْمَعُ الْفَصَائِلَ.

خُزَيْمَةُ شَعْبٌ، وَكِنَانَةُ قَبِيلَةٌ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَةٌ، وَقُصَيٌّ بَطْنٌ، وَهَاشِمٌ فَخْذٌ، وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ.

وَسُمِّيَتِ الشُّعُوبُ، لِأَنَّ الْقَبَائِلَ تَتَشَعَّبُ مِنْهَا. اهـ.

وَلَمْ يُذْكَرْ مِنْ هَذِهِ السِّتِّ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ثَلَاثٌ: الشُّعُوبُ، وَالْقَبَائِلُ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْفَصِيلَةُ فِي الْمَعَارِجِ فِي قَوْلِهِ: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [70 \ 13]، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُطْلِقُ بَعْضَ هَذِهِ السِّتِّ عَلَى بَعْضٍ كَإِطْلَاقِ الْبَطْنِ عَلَى الْقَبِيلَةِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَإِنَّ كِلَابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ

وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ

كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [2 \ 228] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.

ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابَ وَهُمْ أَهْلُ الْبَادِيَةِ مِنَ الْعَرَبِ

ص: 418

قَالُوا آمَنَّا، وَأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ وَثُبُوتِ الْإِسْلَامِ لَهُمْ.

وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ نَفْيَ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ وَالْإِسْلَامِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ - هُوَ اسْتِسْلَامُ الْقَلْبِ بِالِاعْتِقَادِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْجَوَارِحِ بِالْعَمَلِ، فَمُؤَدَّاهُمَا وَاحِدٌ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 35 - 36] .

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ وَجْهِ الْفِرَقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ نَفَى عَنْهُمُ الْإِيمَانَ دُونَ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَظْهَرُهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ مُسَمَّاهُ الشَّرْعِيُّ الصَّحِيحُ، وَالْإِسْلَامُ الْمُثْبَتُ لَهُمْ فِيهَا هُوَ الْإِسْلَامُ اللُّغَوِيُّ الَّذِي هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ بِالْجَوَارِحِ دُونَ الْقَلْبِ.

وَإِنَّمَا سَاغَ إِطْلَاقُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا عَلَى الْإِسْلَامِ مَعَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ الْكَرِيمَ جَاءَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ. وَأَنْ تُوكَلَ كُلُّ السَّرَائِرِ إِلَى اللَّهِ.

فَانْقِيَادُ الْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ بِالْعَمَلِ وَاللِّسَانِ بِالْإِقْرَارِ يُكْتَفَى بِهِ شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْطَوِيًا عَلَى الْكُفْرِ.

وَلِهَذَا سَاغَ إِرَادَةُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ; لِأَنَّ انْقِيَادَ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ فِي الظَّاهِرِ إِسْلَامٌ لُغَوِيٌّ مُكْتَفًى بِهِ شَرْعًا عَنِ التَّنْقِيبِ عَنِ الْقَلْبِ.

وَكُلُّ انْقِيَادٍ وَاسْتِسْلَامٍ وَإِذْعَانٍ يُسَمَّى إِسْلَامًا لُغَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْعَدَوِيِّ مُسْلِمِ الْجَاهِلِيَّةِ:

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ

لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالًا

دَحَاهَا فَلِمَا اسْتَوَتْ شَدَّهَا

جَمِيعًا وَأَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ

لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا

إِذَا هِيَ سِيقَتْ إِلَى بَلْدَةٍ

أَطَاعَتْ فَصَبَّتْ عَلَيْهَا سِجَالًا

ص: 419

وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أسْلَمَتْ

لَهُ الرِّيحُ تُصْرَفُ حَالًا فَحَالَا

فَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ: الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ، وَإِذَا حُمِلَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِهِ: وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا بِالْأَلْسِنَةِ وَالْجَوَارِحِ. فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فِي الظَّاهِرِ، وَهُمْ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تُؤْمِنُوا نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، لَا نَفْيُهُ مِنْ أصْلِهِ.

وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ غَيْرُ تَامٍّ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ.

وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ الْأَعْرَابَ الْمَذْكُورِينَ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ أَسْلَمُوا فِي الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ - جَلَّ وَعَلَا: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [49 \ 14] ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَمَا تَرَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يَدْخُلِ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ:

وَنَحْوُ لَا شَرِبْتُ أَوْ إِنْ شَرِبَا

وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا

فَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ: فِي مَعْنَى لَا دُخُولَ لِلْإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ.

وَالَّذِينَ قَالُوا بِالثَّانِي. قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ دُخُولِهِ نَفْيُ كَمَالِهِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ كَمَا تَرَى.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَتِ الْأَعْرَابُ: الْمُرَادُ بِهِ بَعْضُ الْأَعْرَابِ، وَقَدِ اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ، وَهُمْ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ [9 \ 98]، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَعْرَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 420

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [9 \ 99] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم. لَمَّا قَالَ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابُ: آمَنَّا، وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُكَذِّبَهُمْ فِي قَوْلِهِ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَقَوْلُهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ أَمَرَ نَبِيَّهُمْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْإِنْكَارِ: أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَذَلِكَ بِادِّعَائِكُمْ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَالِكُمْ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّكُمْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَعَالِمٌ بِكُلِّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَقْبِيحِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْكَذِبِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53 \ 32] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.

قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [11 \ 5] .

ص: 421