الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعْتِرَافِكَ بِخِلَافِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا تَقُولُهُ مَنْ أَنَّا وَآلِهَتَنَا فِي النَّارِ - لَيْسَ بِحَقٍّ أَيْضًا.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ أَيْ لُدٌّ، مُبَالِغُونَ فِي الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] أَيْ شَدِيدِي الْخُصُومَةِ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [2 \ 204] لِأَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ كَخَصِمَ - مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا الْآيَةَ - إِنَّمَا بَيَّنَتْهُ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا بِبَيَانِ سَبَبِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَتَّضِحُ مَعْنَاهَا بِبَيَانِ سَبَبِهَا.
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِأَصْنَامِهِمْ فِي دُخُولِ النَّارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَثَلَ يُفْهَمُ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ نُزُولُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - قَبْلَهَا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ; لِأَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا: إِنْ عِيسَى عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَآلِهَتِهِمْ، فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ.
وَقَدْ عَلِمْتَ بُطْلَانَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُمْ ضَرَبُوا عِيسَى مَثَلًا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّ عِيسَى قَدْ عُبِدَ، وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ أَنْ يُعْبَدَ كَمَا عُبِدَ عِيسَى، فَكَوْنُ سَبَبِ ذَلِكَ سَمَاعَهُمْ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [3 \
59]
. وَسَمَاعَهُمْ لِلْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ النَّازِلَةِ فِي شَأْنِ عِيسَى - يُوَضِّحُ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ.
وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي بَيَّنَتْ قَوْلَهُ: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا فَبَيَانُهَا لَهُ وَاضِحٌ عَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (هُوَ) عَائِدٌ إِلَى عِيسَى أَيْضًا، لَا إِلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
وَقَوْلُهُ هُنَا: عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنَ الْأَنْعَامِ الَّذِي أَنْعَمَ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ
عِيسَى، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي «الْمَائِدَةِ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [5 \ 110] . وَفِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَى قَوْلِهِ: وَمِنَ الصَّالِحِينَ [3 \ 45 - 46] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا.
التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِنَّهُ) رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى لَا إِلَى الْقُرْآنِ، وَلَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ - هُوَ أَنَّ نُزُولَ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَيًّا عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ، أَيْ عَلَامَةٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهَا ; لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا.
وَإِطْلَاقُ عِلْمِ السَّاعَةِ عَلَى نَفْسِ عِيسَى - جَارٍ عَلَى أَمْرَيْنِ، كِلَاهُمَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ نُزُولَ عِيسَى الْمَذْكُورَ لَمَّا كَانَ عَلَامَةً لِقُرْبِهَا، كَانَتْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ سَبَبًا لِعِلْمِ قُرْبِهَا، فَأُطْلِقَ فِي الْآيَةِ الْمُسَبَّبُ وَأُرِيدُ السَّبَبُ.
وَإِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ - أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [40 \ 13] . فَالرِّزْقُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَطَرِ، وَالْمَطَرُ سَبَبُهُ، فَأُطْلِقَ الْمُسَبَّبُ الَّذِي هُوَ الرِّزْقُ وَأُرِيدَ سَبَبُهُ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ، لِلْمُلَابَسَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَلَاغِيِّينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ مَا يُسَمُّونَهُ الْمَجَازَ الْمُرْسَلَ، وَأَنَّ الْمُلَابَسَةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مِنْ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُمْ.
وَالثَّانِي مِنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِلسَّاعَةِ، أَيْ وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ إِعْلَامِ النَّاسِ بِقُرْبِ مَجِيئِهَا، لِكَوْنِهِ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِ خَلَفًا عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
وَهَذَا الْأَخِيرُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَجَّهَ بِهِمَا عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ النَّعْتَ بِالْمَصْدَرِ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرَمٌ وَعَمْرٌو عَدْلٌ، أَيْ ذُو كَرَمٍ وَذُو عَدْلٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2] . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا
أَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [4 \ 159] أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَقْتَ نُزُولِ آيَةِ " النِّسَاءِ " هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ.
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:(قَبْلَ مَوْتِهِ) رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ، أَيْ إِلَّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ الْكِتَابِيِّ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ.
فَالْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى عِيسَى، يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ ; لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ تَنْسَجِمُ الضَّمَائِرُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -: وَمَا قَتَلُوهُ، أَيْ عِيسَى، وَمَا صَلَبُوهُ أَيْ عِيسَى، وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أَيْ عِيسَى، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ عِيسَى، لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أَيْ عِيسَى، مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَيْ عِيسَى، وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا أَيْ عِيسَى، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ
أَيْ عِيسَى، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [4 \ 159] أَيْ عِيسَى، قَبْلَ مَوْتِهِ أَيْ عِيسَى، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [4 \ 157 - 159] أَيْ يَكُونُ هُوَ - أَيْ عِيسَى - عَلَيْهِمْ شَهِيدًا.
فَهَذَا السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ الَّذِي تَرَى - ظَاهِرٌ ظُهُورًا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ:(قَبْلَ مَوْتِهِ) رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، فَمُفَسِّرُ الضَّمِيرِ مَلْفُوظٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [4 \ 157] .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَمُفَسِّرٌ الضَّمِيرِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ، تَقْدِيرُهُ: مَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ مَوْتِ أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّرِ.
وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ أَرْجَحَ وَأَوْلَى مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ عِيسَى حَيٌّ الْآنَ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا مُقْسِطًا. وَلَا يُنْكِرُ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الصَّحِيحَ وَنَسَبَهُ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ - مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - اهـ.
وَقَوْلُهُ: بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ - يَعْنِي السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ ; لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ " الزُّخْرُفِ " هَذِهِ مَا نَصُّهُ:
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى عليه السلام قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا ". اهـ مِنْهُ.
وَهُوَ صَادِقٌ فِي تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ - فَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الصَّحِيحَ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَلَا تَخْصِيصٍ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَكَادُ يَصْدُقُ إِلَّا مَعَ تَخْصِيصٍ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الَّتِي يَرْوُونَهَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ظَاهِرَةُ الْبُعْدِ وَالسُّقُوطِ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، فَلَا إِشْكَالَ وَلَا خَفَاءَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَا إِلَى تَخْصِيصٍ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَنْ فَاجَأَهُ الْمَوْتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ، وَالَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ غَافِلٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ فِي نَوْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَّا إِذَا ادَّعَى إِخْرَاجَهُمْ مِنْهُ بِمُخَصِّصٍ.
وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ.
وَمَا يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: إِنَّ رَأْسَهُ يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ بِعِيسَى، وَإِنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ يُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي - لَا يَخْفَى بَعْدُهُ وَسُقُوطُهُ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ الْبَتَّةَ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى.
وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، وَأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ " النِّسَاءِ " تُبَيِّنُ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ، وَيَعْتَقِدُونَ مِثْلَ مَا يَعْتَقِدُهُ ضُلَّالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [3 \ 55] . وَقَوْلِهِ: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [5 \ 117] .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فَإِنَّ دَلَالَتَهُ الْمَزْعُومَةَ عَلَى ذَلِكَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: مُتَوَفِّيكَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِ الشَّيْءِ كَامِلًا غَيْرَ نَاقِصٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَوَفَّى فُلَانٌ دِينَهُ يَتَوَفَّاهُ فَهُوَ مُتَوَفٍّ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ.
فَمَعْنَى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فِي الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، أَيْ حَائِزُكَ إِلَيَّ كَامِلًا بِرُوحِكَ وَجِسْمِكَ.
وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ خَصَّصَتِ التَّوَفِّيَ الْمَذْكُورَ بِقَبْضِ الرُّوحِ دُونَ الْجِسْمِ، وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا دَارَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بِهَا.
وَهَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْفُرُوعِ رُبَّمَا لَمْ يَعْتَمِدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.
وَإِلَى تَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ
…
إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقٌ الْعُرْفِيِّ
فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ
…
بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبَ
الْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ - وَإِنْ تَرَجَّحَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ - فَإِنَّ اللُّغَوِيَّةَ مُتَرَجِّحَةٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.
الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ الْعُرْفِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا اللُّغَوِيَّةُ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، بَلْ يُحْكَمُ بِاسْتِوَائِهِمَا وَمُعَادَلَةِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِمَا، فَيُحْكَمُ عَلَى اللَّفْظِ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِاحْتِمَالِ هَذِهِ وَاحْتِمَالِ تِلْكَ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَمَذْهَبُ النُّعْمَانِ عَكْسِ مَا مَضَى
…
وَالْقَوْلُ بِالْإِجْمَالِ فِيهِ مُرْتَضَى
وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَهُ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ أَصْلًا، كَمَا أَنَّ تَوَفِّي الْغَرِيمِ لِدَيْنِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِ دَيْنِهِ.
وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ [[الأول]] (*) : وَهُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَفِّي حِينَئِذٍ يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْمَوْتِ.
وَلَكِنْ سَتَرَى إِنْ - شَاءَ اللَّهُ - أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " - وَجْهَ عَدَمِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا، أَعْنِي قَوْلَهُ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فَقُلْنَا مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ قَدْ مَضَى، وَهُوَ مُتَوَفِّيهِ قَطْعًا يَوْمًا مَا، وَلَكِنْ لَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ قَدْ مَضَى.
وَأَمَّا عَطْفُهُ (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) عَلَى قَوْلِهِ: (مُتَوَفِّيكَ) فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْجَمْعَ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ.
وَقَدِ ادَّعَى السِّيرَافِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ إِجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَاهُ الْأَكْثَرُ لِلْمُحَقَّقَيْنِ، وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا، لِمَا قَالَهُ قُطْرُبُ وَالْفَرَّاءُ وَثَعْلَبُ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ وَهِشَامٌ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ السِّيرَافِيُّ ثُبُوتَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَقَالَ: لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِهِ.
وَقَالَ وَلِيُّ الدِّينِ: أَنْكَرَ أَصْحَابُنَا نِسْبَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الشَّافِعِيِّ.
حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " يَعْنِي الصَّفَا - لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ.
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوعة (دار الفكر)[[الثاني]] ، والتصويب من ط عالم الفوائد
وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مَا قَالَهُ الْفِهْرَيُّ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ.
وَهُوَ أَنَّهَا كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْمَعِيَّةَ، فَكَذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُمَا.
فَقَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ بِهَا مَعَ قَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَوَّلِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ الْآيَةَ [2 \ 158] بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا مُرَتَّبًا، كَقَوْلِ حَسَّانَ: هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ
عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [29 \ 15] . وَقَوْلِهِ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [75 \ 9] . وَلَكِنْ لَا تُحْمَلُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَا عَلَى الْمَعِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ أَيْ مُنِيمُكَ، (وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أَيْ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَفَاةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [6 \ 60]، وَقَوْلِهِ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [39 \ 42] ، وَعَزَى ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُتَوَفِّيَكَ، اسْمُ فَاعِلٍ؛ تَوَفَّاهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَوَفَّى فُلَانٌ دَيْنَهُ إِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ عَلَى هَذَا: قَابِضَكَ مِنْهُمْ إِلَيَّ حَيًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
وَأَمَّا الْجَمْعُ بِأَنَّهُ تَوَفَّاهُ سَاعَاتٍ أَوْ أَيَّامًا ثُمَّ أَحْيَاهُ - فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. اهـ. مِنْ دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُتَوَفِّيكَ عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا - مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا ثَلَاثَةً مِنْ غَيْرِ تَنْظِيمٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ مُتَوَفِّيكَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ مُتَوَفِّيكَ وَصْفٌ مُحْتَمِلٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْمَاضِي، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّوَفِّيَ قَدْ وَقَعَ وَمَضَى، بَلِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالْقُرْآنُ دَالَّانِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَوَفِّيَ نَوْمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ النُّوَّمَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوَفَاةُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّوْمِ وَالْمَوْتِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّوَفِّي، وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ.
فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا مِنْ كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ".
وَذَكَرْنَا الْأَوَّلَ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ ; لِنُبَيِّنَ مَذَاهِبَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي الْآيَةَ [5 \ 117]، فَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ عِيسَى مَاتَ مَنْفِيَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ عِيسَى يَقُولُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِخْبَارُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَوْتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْآنَ قَدْ مَاتَ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَفِّيَ رَفْعٍ وَقَبْضٍ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، لَا تَوَفِّيَ مَوْتٍ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِذَلِكَ التَّوَفِّي بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي الْآيَةَ [5 \ 117]- تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوَفِّي مَوْتٍ، لَقَالَ مَا دُمْتُ حَيًّا، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ; لَأَنَّ الَّذِي يُقَابَلُ بِالْمَوْتِ هُوَ الْحَيَاةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [19 \ 31] .
أَمَّا التَّوَفِّي الْمُقَابَلُ بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوَفِّي انْتِقَالٍ عَنْهُمْ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ قَصْدِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا: أَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَدْ مَاتَ، قَالُوا: إِنَّهُ لَا سَبَبَ لِذَلِكَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ نَفْيُ هَذَا السَّبَبِ
وَقَطْعُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ - تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ أَصْلًا، وَذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي زَعَمُوهُ، مَنْفِيٌّ يَقِينًا بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - قَالَ: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ [4 \ 157] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 157 - 158] .
وَضَمِيرُ رَفْعِهِ ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - مُسْتَنَدَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، بِأَنَّ اللَّهَ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَصَارَ مَنْ يَرَاهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى.
فَرَآهُ الْيَهُودُ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى فَاعْتَقَدُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّبَهِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى ; فَقَتَلُوهُ.
فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُمْ فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَلَكِنَّ الْعَلِيمَ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتُلُوهُ وَلَمْ يَصْلُبُوهُ.
فَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرِ عِيسَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى، كَمَا أَوْضَحَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 157 - 158] .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ عِيسَى حَيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّ نُزُولَهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ مُعْتَمَدَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ هُوَ إِلْقَاءُ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادُهُمُ الْكَاذِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى هُوَ عِيسَى.
وَقَدْ عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْوَحْيِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: مُتَوَفِّيكَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِهِ فِعْلًا.
وَقَدْ رَأَيْتَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَأَنَّهُ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِعْلًا.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ; لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ، فَالْمُقَرِّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْمِلَ لَا يُحْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، وَلَا مَعَانِيهِ، بَلْ يُطْلَبُ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْهُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.
وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ هُنَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ حَيٌّ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْمِ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَوَفِّي مَوْتٍ، فَالصِّيغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِعْلًا.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ بِتَقْدِيمِ الْعُرْفِيَّةِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْ إِرَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ اللُّغَوِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى إِرَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا، دُونَ الْعُرْفِيَّةِ.
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تُتَنَاسَ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ أُمِيتَتِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ إِجْمَاعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
أَجَمْعٌ إِنْ حَقِيقَةٌ تُمَاتُ
…
عَلَى التَّقَدُّمِ لَهُ الْإِثْبَاتُ
فَمَنْ حَلِفَ لَيَأْكُلَنَّ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، فَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَبَرُّ يَمِينَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ نَفْسِ النَّخْلَةِ، لَا مِنْ ثَمَرَتِهَا.
وَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَتِهَا لَا مِنْ نَفْسِ جِذْعِهَا.
وَالْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ هُنَا وَاجِبٌ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا أُمِيتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَا يَقْصِدُ عَاقِلٌ الْبَتَّةَ الْأَكْلَ مِنْ جِذْعِ النَّخْلَةِ.
أَمَّا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمُمَاتَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ تُسَمَّى حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَمَجَازًا لُغَوِيًّا، وَأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ تُسَمَّى عِنْدَهُمْ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، وَمَجَازًا عُرْفِيًّا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّا أَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَا مَجَازَ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ " مَنْعُ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمُنَزَّلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ ".
فَاتَّضَحَ مِمَّا ذَكَرْنَا كُلَّهُ أَنَّ آيَةَ " الزُّخْرُفِ " هَذِهِ تُبَيِّنُهَا آيَةُ " النِّسَاءِ " الْمَذْكُورَةُ، وَأَنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَأَنَّهُ يَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - هُنَا: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ عَلَامَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ مَجِيئِهَا ; لِأَنَّ وَقْتَ مَجِيئِهَا بِالْفِعْلِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا أَيْ لَا تَشُكُّنَّ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ ; فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ مِرَارًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا [22 \ 7] . وَقَوْلِهِ: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [42 \ 7] . وَقَوْلِهِ: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [6 \ 12] . وَقَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [3 \ 25] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
وَقَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ مِرَارًا كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا الْآيَةَ [35 \ 6] . وَقَوْلِهِ: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الْآيَةَ [18 \ 50] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.
قَوْلُهُ هُنَا: ظَلَمُوا أَيْ كَفَرُوا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَرْيَمَ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [19 \ 37] .
وَقَوْلُهُ: مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ هُنَا: مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِطْلَاقِ الظُّلْمِ عَلَى الْكُفْرِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [31 \ 13] . وَقَوْلِهِ: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [2 \ 254] . وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [10 \ 106] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -:
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أَيْ بِشِرْكٍ، كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
الِاسْتِفْهَامُ بِهَلْ هُنَا بِمَعْنَى النَّفْيِ، وَ (يَنْظُرُونَ) بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ، أَيْ مَا يَنْتَظِرُ الْكُفَّارُ إِلَّا السَّاعَةَ، أَيِ الْقِيَامَةَ، (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُبَاغِتَةً لَهُمْ، أَيْ مُفَاجِئَةً لَهُمْ، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) أَيْ بِمُفَاجَأَتِهَا فِي حَالِ غَفْلَتِهِمْ وَعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِمَجِيئِهَا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: أَنْ تَأْتِيَهُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ، وَكَوْنَ يَنْظُرُونَ بِمَعْنَى يَنْتَظِرُونَ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَإِنَّكُمَا إِنْ تُنْظِرَانِي سَاعَةً مِنَ
…
الدَّهْرِ تَنْفَعُنِي لَدَى أُمِّ جُنْدُبِ
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ السَّاعَةَ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَعْرَافِ» : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [7 \ 187] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْقِتَالِ» : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [47 \ 18] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً الْآيَةَ [36 \ 49 - 50] .
فَالْمُرَادُ بِالصَّيْحَةِ: الْقِيَامَةُ.
وَقَوْلُهُ: وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً الْآيَةَ - يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَأْتِيهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَعَدَمِ شُعُورٍ بِإِتْيَانِهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْضَ صِفَاتِ الَّذِينَ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْخَوْفُ وَالْحَزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; فَذَكَرَ مِنْهَا هُنَا الْإِيمَانَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ، وَذَكَرَ بَعْضًا مِنْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «يُونُسَ» : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [10 \ 62 - 63] .
وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقَامَةُ، وَقَوْلُهُمْ: رَبُّنَا اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي «فُصِّلَتْ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا [41] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْأَحْقَافِ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [46 \ 13] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْخَوْفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ.
وَالْحَزَنُ: الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ.
وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ.
وَإِطْلَاقُ الْخَوْفِ عَلَى الْغَمِّ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [2 \ 229] .
قَالَ مَعْنَاهُ: إِلَّا أَنْ يَعْلَمَا.
وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ الثَّقَفِيِّ:
إِذَا مِتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ
…
تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا
وَلَا تَدْفِنَنِّي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي
…
أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَلَّا أَذُوقَهَا
فَقَوْلُهُ: أَخَافُ، أَيْ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ لَا يَشْرَبُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ظَاهِرُهُ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
وَقَدْ دَلَّتْ بَعْضُ الْآيَاتِ عَلَى اتِّحَادِهِمَا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [51 \ 35 - 36] .
وَلَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى جَمِيعِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَمِنْ أَصَرَحِهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ» .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ: «وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» .
فَقَدْ سَمَّى صلى الله عليه وسلم «إِمَاطَةَ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» إِيمَانًا.
وَقَدْ أَطَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، فِي ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الَّتِي جَاءَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِتَسْمِيَتِهَا إِيمَانًا.
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ التَّامُّ وَالْإِسْلَامُ الشَّرْعِيُّ التَّامُّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ إِطْلَاقًا آخَرُ عَلَى خُصُوصِ رُكْنِهِ الْأَكْبَرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ.
وَالْقَلْبُ مُضْغَةٌ فِي الْجَسَدِ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، فَغَيْرُهُ تَابِعٌ لَهُ، وَعَلَى هَذَا تَحْصُلُ الْمُغَايَرَةُ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
فَالْإِيمَانُ، عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ اعْتِقَادٌ، وَالْإِسْلَامُ شَامِلٌ لِلْعَمَلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُغَايَرَتَهُ - تَعَالَى - بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [49 \ 14] .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هُنَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْإِسْلَامِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّ إِذْعَانَ الْجَوَارِحِ وَانْقِيَادَهَا دُونَ إِيمَانِ الْقَلْبِ - إِسْلَامٌ لُغَةً لَا شَرْعًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ، وَلَكِنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، يُرَادُ بِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ هَذَا نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ، لَا نَفْيُ أَصْلِهِ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَى هَذَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَلَمَّا يَدْخُلِ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهُوَ صِيغَةُ عُمُومٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَكَّدْ بِمَصْدَرٍ، وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ جِدًّا كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.
وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الصِّنَاعِيَّ يَنْحَلُّ عَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ، وَعَنْ مَصْدَرٍ وَزَمَنٍ وَنِسْبَةٍ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ، كَمَا حَرَّرُوهُ فِي مَبْحَثِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ، وَهُوَ أَصْوَبُ.
فَالْمَصْدَرُ كَامِنٌ فِي مَفْهُومِ الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ إِجْمَاعًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ لَمْ تَتَعَرَّفْ بِشَيْءٍ، فَيَئُولُ إِلَى مَعْنَى النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.
وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ إِلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، بِقَوْلِهِ:
وَنَحْوُ لَا شَرِبْتَ أَوْ وَإِنْ شَرِبَا
…
وَاتَّفَقُوا إِنْ مَصْدَرٌ قَدْ جَلَبَا
وَوَجْهُ إِهْمَالِ (لَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا خَوْفٌ [46 \ 13]- أَنَّ (لَا) الثَّانِيَةَ الَّتِي هِيَ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [46 \ 13] بَعْدَهَا مَعْرِفَةٌ، وَهِيَ الضَّمِيرُ، وَهِيَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَعَارِفِ، بَلْ فِي النَّكِرَاتِ، فَلَمَّا وَجَبَ إِهْمَالُ الثَّانِيَةِ أُهْمِلَتِ الْأُولَى لِيَنْسَجِمَ الْحَرْفَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ فِي إِهْمَالِهِمَا مَعًا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَأَزْوَاجُكُمْ فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ الْمُرَادَ بِأَزْوَاجِهِمْ نُظَرَاؤُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ فِي الطَّاعَةِ وَتَقْوَى اللَّهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ابْنُ كَثِيرٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَزْوَاجِهِمْ نِسَاؤُهُمْ فِي الْجَنَّةِ; لِأَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ أَبْلَغُ فِي التَّنَعُّمِ وَالتَّلَذُّذِ مِنَ الْأَوَّلِ.
وَلِذَا يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ إِكْرَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِكَوْنِهِمْ مَعَ نِسَائِهِمْ دُونَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، بِكَوْنِهِمْ مَعَ نُظَرَائِهِمْ وَأَشْبَاهِهِمْ فِي الطَّاعَةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 55] .
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالشَّغُلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ، هُوَ افْتِضَاضُ الْأَبْكَارِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [52 \ 20] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [56 \ 22 - 23] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ إِلَى قَوْلِهِ: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [55 \ 22 - 23] . وَقَالَ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [37 \ 48] .
وَقَالَ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [38 \ 52] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُفْرَدَ الْأَزْوَاجِ زَوْجٌ بِلَا هَاءٍ، وَأَنَّ الزَّوْجَةَ بِالتَّاءِ لُغَةٌ لَا لَحْنٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَحْنٌ مِنْ لَحْنِ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا أَصَلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي
…
كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَقَوْلُ الْحَمَاسِيِّ:
فَبَكَى بَنَاتِي شَجُوَهُنَّ وَزَوْجَتِي
…
وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي صَفِيَّةَ: «إِنَّهَا زَوْجَتِي» .
وَقَوْلُهُ: تُحْبَرُونَ أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُكْرَمُونَ بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَامِ وَأَتَمِّهَا.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ، وَجَمِيعُ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَنْعَامُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالتَّحَلِّي بِهِمَا، وَلُبْسُ الْحَرِيرِ، وَمِنْهُ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ، وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، أَيْ تَلْتَذُّ بِهِ الْأَعْيُنُ، أَيْ بِرُؤْيَتِهِ لِحُسْنِهِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ [2 \ 69] . وَأَسْنَدَ اللَّذَّةَ إِلَى الْعَيْنِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مُسْنَدَةٌ لِصَاحِبِ الْعَيْنِ، كَإِسْنَادِ الْكَذِبِ وَالْخَطِيئَةِ إِلَى النَّاصِيَةِ، وَهِيَ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرَّأْسِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ [96 \ 16] وَكَإِسْنَادِ الْخُشُوعِ وَالْعَمَلِ وَالنَّصَبِ إِلَى الْوُجُوهِ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ الْآيَةَ [88 \ 2 - 3] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَذِبَ وَالْخَطِيئَةَ مُسْنَدَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لِصَاحِبِ النَّاصِيَةِ، كَمَا أَنَّ الْخُشُوعَ وَالْعَمَلَ وَالنَّصَبَ مُسْنَدَاتٌ إِلَى أَصْحَابِ الْوُجُوهِ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا كُلُّ مُشْتَهًى، وَكُلُّ مُسْتَلِذٍّ - جَاءَ مَبْسُوطًا مُوَضَّحَةً أَنْوَاعُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَجَاءَ مُحَمَّدٌ أَيْضًا إِجْمَالًا شَامِلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ.
أَمَّا إِجْمَالُ ذَلِكَ فَفِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [32 \ 17] .
وَأَمَّا بَسْطُ ذَلِكَ وَتَفْصِيلُهُ فَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ النَّعِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ - الْمَشَارِبَ، وَالْمَآكِلَ وَالْمَنَاكِحَ، وَالْفُرُشَ وَالسُّرُرَ، وَالْأَوَانِيَ، وَأَنْوَاعَ الْحُلِيِّ وَالْمَلَابِسَ، وَالْخَدَمَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا الْمَآكِلُ فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [43 \ 73] . وَقَالَ: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [56 \ 32 - 33] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [56 \ 32 - 33] . وَقَالَ - تَعَالَى -: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا الْآيَةَ [2 \ 25] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
أَمَّا الْمَشَارِبُ، فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -: إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [76 \ 5 - 6] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا الْآيَةَ [76 \ 17 - 18] . وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 17 - 19] . وَقَالَ - تَعَالَى -: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [37 \ 45 - 47] . وَقَالَ - تَعَالَى -: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [47 \ 15] . وَقَالَ - تَعَالَى -: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [69 \ 24] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْمَلَابِسُ وَالْأَوَانِي وَالْحُلِيُّ، فَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» .
وَأَمَّا الْمَنَاكِحُ فَقَدْ قَدَّمَنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهَا قَرِيبًا، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ الْآيَةَ [2 \ 25] . وَيَكْفِي مَا قَدَّمْنَا مِنْ ذَلِكَ قَرِيبًا.
وَأَمَّا مَا يَتَّكِئُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْفُرُشِ وَالسُّرُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [55 \ 45] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [36 \ 56] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [56 \ 15 - 16] .
وَالسُّرُرُ الْمَوْضُونَةُ هِيَ الْمَنْسُوجَةُ بِقُضْبَانِ الذَّهَبِ.
وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [15 \ 47] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [88 \ 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ [55 \ 76] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا خَدَمُهُمْ فَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ الْآيَةَ [56 \ 17] . وَقَالَ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «الْإِنْسَانِ» فِي صِفَةِ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا [76 \ 19] وَذَكَرَ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَبْلَغِ صِيغَةٍ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا [76 \ 20] .
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنْوَاعِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ وَحُسْنِهَا وَكَمَالِهَا كَالظِّلَالِ وَالْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلْنَكْتَفِ مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [43 \ 71]- قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ ; لِأَنَّ خُلُودَهُمُ الْمَذْكُورَ لَا انْقِطَاعَ لَهُ الْبَتَّةَ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [11 \ 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [38 \ 54] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [16 \ 96] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [7 \ 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [19 \ 63] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [32 \ 17] .
وَبَيَّنَّا أَقْرَبَ أَوْجُهِ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ وَمَا بِمَعْنَاهَا مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ» . قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» .
وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي بَيَّنَتِ الْآيَاتُ كَوْنَهُ سَبَبَ دُخُولِ الْجَنَّةِ - هُوَ الْعَمَلُ الَّذِي تَقَبَّلَهُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ، وَأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي لَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَقَبَّلْهُ اللَّهُ.
وَاللَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [5 \ 27] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ.
اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَقْضِ لَامُ الدُّعَاءِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ سُؤَالُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لَهُمْ بِالْمَوْتِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا دُعَاءَ اللَّهِ بِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يُمِيتَهُمْ لَمَا نَادَوْا: يَا مَالِكُ، وَلَمَا خَاطَبُوهُ فِي قَوْلِهِمْ: رَبُّكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَطْلُبُونَ مِنْ خَزَنَةِ النَّارِ أَنْ يَدْعُوا اللَّهَ لَهُمْ لِيُخَفِّفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [40 \ 49] . وَقَوْلِهِ: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ أَيْ لِيُمِتْنَا، فَنَسْتَرِيحَ بِالْمَوْتِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [28 \ 15] أَيْ أَمَاتَهُ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُجَابُونَ
إِلَى الْمَوْتِ، بَلْ يَمْكُثُونَ فِي النَّارِ مُعَذَّبِينَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ.
وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا فَيَسْتَرِيحُوا بِالْمَوْتِ، وَلَا تُغْنِيَ هِيَ عَنْهُمْ، وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ عَذَابُهَا، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا.
أَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [20 \ 74] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [87 \ 11 - 13] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا الْآيَةَ [35 \ 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ الْآيَةَ [14 \ 17] .
وَأَمَّا كَوْنُ النَّارِ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ، فَقَدْ بَيَّنَهُ - تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [17 \ 97] . فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّ لِلنَّارِ خَبْوَةً نِهَائِيَّةً وَفَنَاءً - رُدَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَذَابِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ: وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [35 \ 36] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [16 \ 85] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [78 \ 30] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ الْآيَةَ [43 \ 75] . وَقَوْلِهِ: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [25 \ 65] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [25 \ 77] عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْأَخِيرَيْنِ.
وَأَمَّا كَوْنُهُمْ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْبَقَرَةِ» : كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [2 \ 167] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْمَائِدَةِ» : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [5 \ 37] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْحَجِّ» : كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [22 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «السَّجْدَةِ» : كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [32 \ 20] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي «الْجَاثِيَةِ» : فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [45 \ 35] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَوْضَحَنَا هَذَا الْمَبْحَثَ إِيضَاحًا شَافِيًا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ
الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [6 \ 128] . وَفِي سُورَةِ «النَّبَإِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [78 \ 23] وَسَنُوَضِّحُهُ أَيْضًا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّبَإِ» الْمَذْكُورَةِ، وَنُوَضِّحُ هُنَاكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - إِزَالَةَ إِشْكَالٍ يُورِدُهُ الْمُلْحِدُونَ عَلَى الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحُ هَذَا الْمَبْحَثِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الشُّورَى» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [42 \ 13] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [43 \ 9] وَأَكْثَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ الْآيَةَ [19 \ 79] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَمِمَّنِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِذَلِكَ الْوَلَدِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ عَلَى فَرْضِ أَنَّ لَهُ وَلَدًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ جَازِمِينَ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ.
وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ: إِنَّ لَفْظَةَ إِنْ فِي الْآيَةِ نَافِيَةٌ.
وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَافِيَةٌ فَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَقْرَبُهَا -: أَنَّ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ الْمُنَزِّهِينَ لَهُ
عَنِ الْوَلَدِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أَيِ الْآنِفَيْنِ الْمُسْتَنْكِفَيْنِ مِنْ ذَلِكَ، يَعْنِي الْقَوْلَ الْبَاطِلَ الْمُفْتَرَى عَلَى رَبِّنَا الَّذِي هُوَ ادِّعَاءُ الْوَلَدِ لَهُ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَبِدَ - بِكَسْرِ الْبَاءِ - يَعْبَدُ - بِفَتْحِهَا - فَهُوَ عَبِدٌ - بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ - عَلَى الْقِيَاسِ، وَعَابِدٌ أَيْضًا سَمَاعًا إِذَا اشْتَدَّتْ أَنَفَتُهُ وَاسْتِنْكَافُهُ وَغَضَبُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
أُولَئِكَ قَوْمِي إِنْ هَجَوْنِي هَجَوْتُهُمْ
…
وَأَعْبِدُ أَنْ أَهْجُوَ كُلَيْبًا بِدَارِمِ
فَقَوْلُهُ: وَأَعْبِدُ، يَعْنِي آنَفُ وَأَسْتَنْكِفُ.
وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الْآخَرِ: مَتَى مَا يَشَأْ ذُو الْوُدِّ يَصْرُمُ خَلِيلَهُ وَيَعْبَدُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ظَالِمًا
وَفِي قِصَّةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه الْمَشْهُورَةِ، أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ تَزَوَّجَتْ، فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ لِتُرْجَمَ، اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا قَبْلَ الْعَقْدِ لِوِلَادَتِهَا قَبْلَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنهما: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [46 \ 15] وَيَقُولُ - جَلَّ وَعَلَا -: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [31 \ 14] فَلَمْ يَبْقَ عَنِ الْفِصَالِ مِنَ الْمُدَّةِ إِلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
فَمَا عَبِدَ عُثْمَانُ رضي الله عنه أَنْ بَعَثَ إِلَيْهَا لِتُرَدَّ وَلَا تُرْجَمَ.
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَوَاللَّهِ:(مَا عَبِدَ عُثْمَانُ) أَيْ مَا أَنِفَ وَلَا اسْتَنْكَفَ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعْنَى فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ أَيِ الْجَاحِدِينَ النَّافِينَ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَلَدٌ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا -.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) نَافِيَةٌ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِهَا شَرْطِيَّةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ لَهُ مَعْنًى بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَإِنْ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ.
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنَّ إِنْ هِيَ النَّافِيَةُ لَا الشَّرْطِيَّةُ، وَقُلْنَا: إِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ فِي نَظَرِنَا - لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ جَرَيَانًا وَاضِحًا، لَا إِشْكَالَ فِيهِ، فَكَوْنُ (إِنْ كَانَ) بِمَعْنَى مَا كَانَ - كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً [36 \ 29] أَيْ مَا كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً.
فَقَوْلُكَ مَثَلًا مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الْخَاضِعِينَ لِلْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْوَلَدِ، أَوِ الْآنِفَيْنِ الْمُسْتَنْكِفَيْنِ مِنْ أَنْ يُوصَفَ رَبُّنَا بِمَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، أَوِ الْجَاحِدِينَ النَّافِينَ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّنَا وَلَدٌ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ جَارٍ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، دَالٌّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَنْزِيهًا تَامًّا عَنِ الْوَلَدِ، مِنْ غَيْرِ إِيهَامٍ الْبَتَّةَ لِخِلَافِ ذَلِكَ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ بِالْعِبَارَاتِ الَّتِي لَا إِيهَامَ فِيهَا - هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَةَ [18 \ 4] . وَفِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [19 \ 88 - 89] . وَالْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي ذَلِكَ تُبَيِّنُ أَنَّ (إِنْ) نَافِيَةٌ.
فَالنَّفْيُ الصَّرِيحُ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ - النَّفْيُ الصَّرِيحُ.
وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ ; فَكَوْنُ الْمُعَبَّرِ بِهِ فِي الْآيَةِ (مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ)[43 \ 81] بِصِيغَةِ النَّفْيِ الصَّرِيحِ - مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» : وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا الْآيَةَ [17 \ 111] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي أَوَّلِ «الْفُرْقَانِ» : وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ الْآيَةَ [25 \ 2] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ الْآيَةَ [23 \ 91] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [112 \ 3] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [37 \ 151 - 152] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ - جَزَاءٌ
لِذَلِكَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا نَظِيرَ لَهُ الْبَتَّةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا تُوجَدُ فِيهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ لَهُ مَعْنًى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِلَّا مَعْنًى مَحْذُورٌ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ بِحَالٍ، وَكِتَابُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعَانٍ مَحْذُورَةٍ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهَا.
وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ، وَقَوْلَهُ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ جَزَاءُ الشَّرْطِ - لَا مَعْنَى لِصِدْقِهِ الْبَتَّةَ إِلَّا بِصِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ.
وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ - مُنْصَبٌّ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ مُقَدَّمِهَا الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ، وَتَالِيهَا الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ، وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا هُوَ كَوْنُ الشَّرْطِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ تَكُونُ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ مَعَ كَذِبِ طَرَفَيْهَا مَعًا، أَوْ أَحَدِهِمَا لَوْ أُزِيلَتْ أَدَاةُ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، فَمِثَالُ كَذِبِهِمَا مَعًا مَعَ صِدْقِهَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّهَا لَوْ أُزِيلَتْ أَدَاةُ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ طَرَفَيْهَا قَضِيَّةً كَاذِبَةً بِلَا شَكٍّ، وَنَعْنِي بِأَدَاةِ الرَّبْطِ لَفْظَةَ (لَوْ) مِنَ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَاللَّامَ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي، فَإِنَّهُمَا لَوْ أُزِيلَا وَحُذِفَا صَارَ الطَّرَفُ الْأَوَّلُ: كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي مُنْتَهَى الْكَذِبِ، وَصَارَ الطَّرَفُ الثَّانِي فَسَدَتَا، أَيِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ كَمَا تَرَى.
فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ.
فَإِنْ كَانَ الرَّبْطُ صَحِيحًا فَهِيَ صَادِقَةٌ، وَلَوْ كُذِّبَ طَرَفَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ.
وَإِنْ كَانَ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا كَاذِبًا كَانَتْ كَاذِبَةً كَمَا لَوْ قُلْتَ: لَوْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا لَكَانَ حَجَرًا، فَكَذِبُ الرَّبْطِ بَيْنَهُمَا وَكَذِبُ الْقَضِيَّةِ بِسَبَبِهِ كِلَاهُمَا وَاضِحٌ.
وَأَمْثِلَةُ صِدْقِ الشَّرْطِيَّةِ مَعَ كَذِبِ طَرَفَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَكَقَوْلِكَ: لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا لَكَانَ جَمَادًا، وَلَوْ كَانَ الْفَرَسُ يَاقُوتًا لَكَانَ حَجَرًا، فَكُلُّ هَذِهِ الْقَضَايَا وَنَحْوُهَا صَادِقَةٌ مَعَ كَذِبِ طَرَفَيْهَا لَوْ أُزِيلَتْ أَدَاةُ الرَّبْطِ.
وَمِثَالُ صِدْقِهَا مَعَ كَذِبِ أَحَدِهِمَا قَوْلُكَ: لَوْ كَانَ زَيْدٌ فِي السَّمَاءِ مَا نَجَا مِنَ الْمَوْتِ ;
فَإِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ صَادِقَةٌ لِصِدْقِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، مَعَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ; لِأَنَّ عَدَمَ النَّجَاةِ مِنَ الْمَوْتِ صِدْقٌ، وَكَوْنُ زَيْدٍ فِي السَّمَاءِ كَذِبٌ، هَكَذَا مَثَّلَ بِهَذَا الْمِثَالِ الْبُنَانِيُّ، وَفِيهِ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ الَّتِي مَثَّلَ بِهَا اتِّفَاقِيَّةٌ لَا لُزُومِيَّةٌ، وَلَا دَخْلَ لِلِاتِّفَاقِيَّاتِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ.
وَالْمِثَالُ الصَّحِيحُ: لَوْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا لَكَانَ جِسْمًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ مُنْصَبٌّ عَلَى خُصُوصِ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَنَّ الْمُقَدَّمَ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ قَيْدٌ فِي ذَلِكَ.
وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ.
وَالتَّحْقِيقُ الْأَوَّلُ.
وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ الْبَتَّةَ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَدَارِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ.
فَإِذَا حَقَقْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ - عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا جُمْلَةُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ - لَا يَصِحُّ الرَّبْطُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا الْبَتَّةَ بِحَالٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَحْذُورٍ لَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِهِ بِحَالٍ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ: أَنَّ مَصَبَّ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ إِنَّمَا هُوَ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ، وَأَنَّ الْمُقَدَّمَ الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ قَيْدٌ فِي ذَلِكَ - فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ، بَلْ هُوَ كُفْرٌ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا -.
لِأَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَكُنْ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ، وَفَسَادُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الصَّحِيحُ أَنَّ مَدَارَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي الشَّرْطِيَّاتِ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيِ الشَّرْطِيَّةِ.
فَإِنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ جُمْلَةُ شَرْطٍ وَجَزَاءٍ - لَا يَصِحُّ الرَّبْطُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا الْبَتَّةَ أَيْضًا، إِلَّا عَلَى وَجْهٍ مَحْذُورٍ لَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ بِحَالٍ; لِأَنَّ كَوْنَ الْمَعْبُودِ ذَا وَلَدٍ، وَاسْتِحْقَاقَهُ هُوَ أَوْ وَلَدُهُ الْعِبَادَةَ، لَا يَصِحُّ الرَّبْطُ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى مَعْنَى، هُوَ كُفْرٌ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ بِحَالٍ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَزْعُومَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ - إِنَّمَا يُعَلَّقُ بِهِ مُحَالٌ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الرَّحْمَنِ ذَا وَلَدٍ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحَالَ لَا يُعَلَّقُ عَلَيْهِ إِلَّا الْمُحَالُ.
فَتَعْلِيقُ عِبَادَةِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ الدِّينِ عَلَى كَوْنِهِ ذَا وَلَدٍ - ظُهُورُ فَسَادِهِ كَمَا تَرَى، وَإِنَّمَا تَصْدُقُ الشَّرْطِيَّةُ فِي مِثْلِ هَذَا لَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُسْتَحِيلًا، فَادِّعَاءُ أَنَّ (إِنْ) فِي الْآيَةِ شَرْطِيَّةٌ مِثْلُ مَا لَوْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ لَكُنْتُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ لَهُ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ بِحَالٍ; لَأَنَّ وَاحِدًا مِنْ آلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ، فَالرَّبْطُ بَيْنَ طَرَفَيْهَا مِثْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لَا يَصِحُّ بِحَالٍ.
وَيَتَّضِحُ لَكَ ذَلِكَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْآيَةَ [23 \ 91] .
فَإِنَّ قَوْلَهُ: (إذًا) أَيْ لَوْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْآلِهَةِ لَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا خَلَقَ وَاسْتَقَلَّ بِهِ، وَغَالَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَمْ يَنْتَظِمْ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ نِظَامٌ، وَلَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [17 \ 42] عَلَى الصَّحِيحِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ.
وَمَعْنَى ابْتِغَائِهِمْ إِلَيْهِ - تَعَالَى - سَبِيلًا - هُوَ طَلَبُهُمْ طَرِيقًا إِلَى مُغَالَبَتِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُلُوكِ مَعَ بَعْضِهِمْ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْطَ إِنْ عُلِّقَ بِهِ مُسْتَحِيلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ الرَّبْطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْجَزَاءُ مُسْتَحِيلًا أَيْضًا ; لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُسْتَحِيلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ بِهِ إِلَّا الْجَزَاءُ الْمُسْتَحِيلُ.
أَمَّا كَوْنُ الشَّرْطِ مُسْتَحِيلًا وَالْجَزَاءُ هُوَ أَسَاسُ الدِّينِ وَعِمَادُ الْأَمْرِ - فَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ.
وَمَنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا شَكَّ فِي غَلَطِهِ.
وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ شَرْطِيَّةٍ صَدَقَتْ مَعَ بُطْلَانِ مُقَدَّمِهَا الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ، وَصِحَّةِ تَالِيهَا
الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ - لَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِهَا لِهَذِهِ الْآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَنَّ مَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ مِنْ صِحَّةِ التَّمْثِيلِ لَهَا بِذَلِكَ غَلَطٌ فَاحِشٌ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَرْطِيَّةٍ كَاذِبَةِ الشَّرْطِ صَادِقَةِ الْجَزَاءِ عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ - لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ ذَلِكَ فِيهَا أَحَدَ أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا الْبَتَّةَ.
وَكِلَاهُمَا يَكُونُ الصِّدْقُ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَمْرٍ خَاصٍّ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ مِثْلِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، بَلْ هُوَ مُنَاقِضٌ لِمَعْنَى الْآيَةِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ بِوُجُودِ أَحَدِ الْمُتَنَاقِضَيْنَ عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ ضَرُورِيُّ الْبُطْلَانِ، وَنَعْنِي بِأَوَّلِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَوْنَ الشَّرْطِيَّةِ اتِّفَاقِيَّةً لَا لُزُومِيَّةً أَصْلًا.
وَبِالثَّانِي مِنْهُمَا كَوْنَ الصِّدْقِ الْمَذْكُورِ مِنْ أَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّدْقَ مِنْ أَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْكَذِبِ لِعَدَمِ اضْطِرَادِهِ; لِأَنَّهُ يَصْدُقُ فِي مَادَّةٍ، وَيَكْذِبُ فِي أُخْرَى.
وَالْمُعْتَبَرُ إِنَّمَا هُوَ الصِّدْقُ اللَّازِمُ الْمُضْطَرِدُ، الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَادَّةِ بِحَالٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ شَرْطُهَا مُحَالٌ لَا يَضْطَرِدُ صِدْقُهَا إِلَّا إِذَا كَانَ جَزَاؤُهَا مُحَالًا خَاصَّةً.
فَإِنْ وُجِدَتْ قَضِيَّةٌ بَاطِلَةُ الشَّرْطِ صَحِيحَةُ الْجَزَاءِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ، لِكَوْنِهَا اتِّفَاقِيَّةً، أَوْ لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ فَقَطْ.
فَمِثَالُ وُقُوعِ ذَلِكَ لِكَوْنِهَا اتِّفَاقِيَّةً قَوْلُكُ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْمَوْتِ.
فَالشَّرْطُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ فِي السَّمَاءِ بَاطِلٌ، وَالْجَزَاءُ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ لَمْ يَنْجُ مِنَ الْمَوْتِ صَحِيحٌ.
وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةِ اتِّفَاقِيَّةً.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاتِّفَاقِيَّةَ لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَصْلًا، فَلَا يَقْتَضِي ثُبُوتُ أَحَدِهِمَا وَلَا نَفْيُهُ ثُبُوتَ الْآخَرِ وَلَا نَفْيَهُ، فَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا فِي الْمَعْنَى أَصْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ فَقَطْ.
فَكَوْنُ زَيْدٍ فِي السَّمَاءِ لَا عَلَاقَةَ لَهُ بِعَدَمِ نَجَاتِهِ مِنَ الْمَوْتِ أَصْلًا، وَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنِهِمَا إِلَّا فِي اللَّفْظِ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاطِقًا فَالْفَرَسُ صَاهِلٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّرْطِيَّةِ اللُّزُومِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ الِاتِّفَاقِيَّةِ فِي سُورَةِ
«الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [18 \ 57] فَرَاجِعْهُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهَا شَرْطِيَّةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهَا لَا عَلَاقَةَ بَيْنَ طَرَفَيْهَا أَصْلًا.
وَمِثَالُ وُقُوعِ ذَلِكَ لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ فَقَطْ - مَا مَثَّلَ بِهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، مَعَ عَدَمِ انْتِبَاهِهِ لِشِدَّةِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَبَيْنَ مَا مَثَّلَ لَهَا بِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: إِنَّ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ بَاطِلٌ، وَالْجَزَاءَ الَّذِي هُوَ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ صَحِيحٌ.
مَثَّلَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ، يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا شَرْطٌ بَاطِلٌ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَكَوْنُ الْإِنْسَانِ حَجَرًا، وَكَوْنُ الرَّحْمَنِ ذَا وَلَدٍ - كِلَاهُمَا شَرْطٌ بَاطِلٌ.
فَلَمَّا صَحَّ الْجَزَاءُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ - دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عَلَى الشَّرْطِ الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ.
وَهَذَا غَلَطٌ فَاحِشٌ جِدًّا، وَتَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ غَايَةَ الْمُنَافَاةِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُرَتَّبَ عَلَى الشَّرْطِ الْبَاطِلِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ حَجَرًا فَهُوَ جِسْمٌ - إِنَّمَا صَدَقَ لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ، لَا لِمَعْنًى اقْتَضَاهُ الرَّبْطُ الْبَتَّةَ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ النِّسْبَةَ بَيْنَ الْجِسْمِ وَالْحَجَرِ، وَالنِّسْبَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْجِسْمِ - هِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْمُطْلَقُ فِي كِلَيْهِمَا.
فَالْجِسْمُ أَعَمُّ مُطْلَقًا مِنَ الْحَجَرِ، وَالْحَجَرُ أَخَصُّ مُطْلَقًا مِنَ الْجِسْمِ، كَمَا أَنَّ الْجِسْمَ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا عُمُومًا مُطْلَقًا، وَالْإِنْسَانَ أَخَصُّ مِنَ الْجِسْمِ أَيْضًا خُصُوصًا مُطْلَقًا ; فَالْجِسْمُ جِنْسٌ قَرِيبٌ لِلْحَجَرِ، وَجِنْسٌ بَعِيدٌ لِلْإِنْسَانِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: جِنْسٌ مُتَوَسِّطٌ لَهُ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ فِي التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ: الْجِسْمُ إِمَّا نَامٍ؛ أَيْ يَكْبُرُ تَدْرِيجًا أَوْ غَيْرُ نَامٍ، فَغَيْرُ النَّامِي كَالْحَجَرِ مَثَلًا، ثُمَّ تُقَسِّمُ النَّامِي تَقْسِيمًا ثَانِيًا، فَتَقُولُ:
النَّامِي إِمَّا حَسَّاسٌ أَوْ غَيْرُ حَسَّاسٍ، فَغَيْرُ الْحَسَّاسِ مِنْهُ كَالنَّبَاتِ.
ثُمَّ تُقَسِّمُ الْحَسَّاسَ تَقْسِيمًا ثَالِثًا، فَتَقُولُ: الْحَسَّاسُ إِمَّا نَاطِقٌ أَوْ غَيْرُ نَاطِقٍ، وَالنَّاطِقُ مِنْهُ هُوَ الْإِنْسَانُ.
فَاتَّضَحَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَجَرِ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْجِسْمِ، وَالْحُكْمُ بِالْأَعَمِّ عَلَى الْأَخَصِّ صَادِقٌ فِي الْإِيجَابِ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا تَفْصِيلٍ.
فَقَوْلُكَ: الْإِنْسَانُ جِسْمٌ صَادِقٌ فِي كُلِّ تَرْكِيبٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُكَذَّبَ بِوَجْهٍ، وَذَلِكَ لِلْمُلَابَسَةِ الْخَاصَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ كَوْنِ الْجِسْمِ جِنْسًا لِلْإِنْسَانِ، وَكَوْنِ الْإِنْسَانِ فَرْدًا مِنْ أَفْرَادِ أَنْوَاعِ الْجِسْمِ، فَلِأَجْلِ خُصُوصِ هَذِهِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَهُمَا - كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ جِسْمٌ صَادِقًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءً كَانَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ غَيْرَ مُعَلَّقٍ عَلَى شَيْءٍ، أَوْ كَانَ مُعَلَّقًا عَلَى بَاطِلٍ أَوْ حَقٍّ.
فَالِاسْتِدْلَالُ: يَصْدُقُ هَذَا الْمِثَالُ عَلَى صِدْقِ الرَّبْطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ بُطْلَانُهُ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ عَاقِلٍ يَقُولُهُ; لِأَنَّ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ إِنَّمَا صَدَقَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْمَلُهُ مُسَمَّى الْجِسْمِ.
أَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَالنِّسْبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ هِيَ تَبَايُنُ الْمُقَابَلَةِ ; لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَبَيْنَ وَالِدٍ أَوْ وَلَدٍ هِيَ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُسَاوِي نَقِيضِهِ ; لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ أَوْ يُولَدُ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْبُودًا بِحَقٍّ بِحَالٍ.
وَإِيضَاحُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: الْإِنْسَانُ جِسْمٌ - لَقُلْتَ الْحَقَّ، وَلَوْ قُلْتَ: الْمَوْلُودُ لَهُ مَعْبُودٌ، أَوِ الْمَوْلُودُ مَعْبُودٌ - قُلْتَ الْبَاطِلَ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ الْبَوَاحُ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا إِجْمَاعُ جَمِيعِ النُّظَّارِ عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَتْ إِحْدَى مُقَدِّمَتَيِ الدَّلِيلِ بَاطِلَةً، وَكَانَتِ النَّتِيجَةُ صَحِيحَةً - أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَجْلِ خُصُوصِ الْمَادَّةِ فَقَطْ، وَأَنَّ ذَلِكَ الصِّدْقَ لَا عِبْرَةَ بِهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَذِبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ إِلَّا الصِّدْقُ اللَّازِمُ الْمُضْطَرِدُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
فَلَوْ قُلْتَ مَثَلًا: كُلُّ إِنْسَانٍ حَجْرٌ، وَكُلُّ حَجْرٍ جِسْمٌ ; لَأُنْتِجَ مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ كُلُّ
إِنْسَانٍ جِسْمٌ، وَهَذِهِ النَّتِيجَةُ فِي غَايَةِ الصِّدْقِ كَمَا تَرَى.
مَعَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الصُّغْرَى مِنَ الدَّلِيلِ الَّتِي هِيَ قَوْلُكَ: كُلُّ إِنْسَانٍ حَجَرٌ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ كَمَا تَرَى.
وَإِنَّمَا صَدَقَتِ النَّتِيجَةُ لِخُصُوصِ الْمَادَّةِ كَمَا أَوْضَحْنَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ كَاذِبَةً ; لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَازِمُ الدَّلِيلِ، وَالْحَقُّ لَا يَكُونُ لَازِمًا لِلْبَاطِلِ، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلِخُصُوصِ الْمَادَّةِ كَمَا أَوْضَحْنَا.
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ لَا يَلْزَمُ، وَتَطَّرِدُ صِحَّةُ رَبْطِهِ، إِلَّا بِجَزَاءٍ بَاطِلٍ مِثْلِهِ.
وَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [10 \ 94] كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ - فَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ شَاسِعٌ، فَظَنُّ اسْتِوَائِهَا فِي الْمَعْنَى بَاطِلٌ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ الْآيَةَ، مَعْنَاهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ، لَا إِبْهَامَ فِيهِ ; لِأَنَّا أَوْضَحْنَا سَابِقًا أَنَّ مَدَارَ صِدْقِ الشَّرْطِيَّةِ عَلَى صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَزَائِهَا، فَهِيَ صَادِقَةٌ وَلَوْ كَذَبَ طَرَفَاهَا عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.
فَرَبْطُ قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ بِقَوْلِهِ: فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ - رَبْطٌ صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ الشَّاكَّ فِي الْأَمْرِ شَأْنُهُ أَنْ يَسْأَلَ الْعَالِمَ بِهِ عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهِيَ قَضِيَّةٌ صَادِقَةٌ، مَعَ أَنَّ شَرْطَهَا وَجَزَاءَهَا كِلَاهُمَا بَاطِلٌ بِانْفِرَادِهِ، فَهِيَ كَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] فَهِيَ شَرْطِيَّةٌ صَادِقَةٌ لِصِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الطَّرَفَانِ بَاطِلَيْنِ عِنْدَ إِزَالَةِ الرَّبْطِ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ - لَا تُمْكِنُ صِحَّةُ الرَّبْطِ بَيْنَ شَرْطِهَا وَجَزَائِهَا الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الرَّبْطَ بَيْنَ الْمَعْبُودِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا لَا يَصِحُّ بِحَالٍ.
وَلِذَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَشُكُّ، وَلَا أَسْأَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ» فَنَفَى الطَّرَفَيْنِ
مَعَ أَنَّ الرَّبْطَ صَحِيحٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفِيَ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَلَا غَيْرُهُ الطَّرَفَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَلَا يَقُولُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَا أَعْبُدُهُ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَالرَّبْطُ بَيْنَ الشَّكِّ وَسُؤَالِ الشَّاكِّ لِلْعَالِمِ أَمْرٌ صَحِيحٌ، بِخِلَافِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَكَوْنِ الْمَعْبُودِ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا، فَلَا يَصِحُّ.
فَاتَّضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ، وَحَدِيثُ:«لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ» . رَوَاهُ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ مُرْسَلًا.
وَبِنَحْوِهِ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ.
وَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَسْتَغْرِبُهُ كُلُّ مَنْ رَآهُ ; لِقُبْحِهِ وَشَنَاعَتِهِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْكُفَّارِ فِي مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْهُمْ يَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ، وَهَذَا مَعَ عَدَمِ فَهْمِهِ لِمَا يَقُولُ وَتَنَاقُضِ كَلَامِهِ.
وَسَنَذْكُرُ هُنَا كَلَامَهُ الْقَبِيحَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى شَنَاعَةِ غَلَطِهِ الدِّينِيِّ وَاللُّغَوِيِّ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ مَا نَصُّهُ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ وَصَحَّ ذَلِكَ وَثَبَتَ بِبُرْهَانٍ صَحِيحٍ تُورِدُونَهُ وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ تُدْلُونَ بِهَا، (فَأَنَا أَوَّلُ) مَنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، كَمَا يُعَظِّمُ الرَّجُلُ وَلَدَ الْمَلِكِ لِتَعْظِيمِ أَبِيهِ.
وَهَذَا كَلَامٌ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّمْثِيلِ لِغَرَضٍ، وَهُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ وَالْإِطْنَابِ فِيهِ، وَأَلَّا يُتْرَكَ لِلنَّاطِقِ بِهِ شُبْهَةٌ إِلَّا مُضْمَحِلَّةٌ، مَعَ التَّرْجَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ الْقِدَمِ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِبَادَةَ بِكَيْنُونَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مُحَالٌ فِي نَفْسِهَا، فَكَانَ الْمُعَلَّقُ بِهَا مُحَالًا مِثْلَهَا، فَهُوَ فِي صُورَةِ إِثْبَاتِ الْكَيْنُونَةِ وَالْعِبَادَةِ، وَفِي مَعْنَى نَفْيِهِمَا عَلَى أَبْلَغِ الْوُجُوهِ وَأَقْوَاهَا.
وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلِيُّ لِلْمُجَبِّرِ: إِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ عَذَابًا سَرْمَدًا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ شَيْطَانٌ، وَلَيْسَ بِإِلَهٍ.
فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَمَا وُضِعَ لَهُ أُسْلُوبُهُ وَنَظْمُهُ نَفْيُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلْكُفْرِ، وَتَنْزِيهُهُ عَنْ ذَلِكَ وَتَقْدِيسُهُ، وَلَكِنْ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِيهِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى سَمَاحَةِ الْمَذْهَبِ وَضَلَالَةِ الذَّاهِبِ إِلَيْهِ، وَالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ بِإِحَالَتِهِ وَالْإِفْصَاحِ عَنْ
نَفْسِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهُ، وَغَايَةِ النِّفَارِ وَالِاشْمِئْزَازِ مِنِ ارْتِكَابِهِ.
وَنَحْوُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رحمه الله لِلْحَجَّاجِ حِينَ قَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى -: لَوْ عَرَفْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكُ.
وَقَدْ تَمَحَّلَ النَّاسُ بِمَا أَخْرَجُوهُ بِهِ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ الشَّرِيفِ الْمَلِيءِ بِالنُّكَتِ وَالْفَوَائِدِ، الْمُسْتَقِلِّ بِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبْلَغِ وُجُوهِهِ، فَقِيلَ:(إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) فِي زَعْمِكُمْ (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) الْمُوَحِّدِينَ لِلَّهِ الْمُكَذِّبِينَ قَوْلَكُمْ لِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ. اهـ
الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ.
وَفِي كَلَامِهِ هَذَا مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَشِدَّةِ الْجَرَاءَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّخَبُّطِ وَالتَّنَاقُضِ فِي الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ - مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ.
وَلَا أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ تَأَمَّلَهُ.
وَسَنُبَيِّنُ لَكَ مَا يَتَّضِحُ بِهِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهُ أَوَّلًا قَالَ: (إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ) وَضَّحَ ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ صَحِيحٍ تُورِدُونَهُ وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ تُدْلُونَ بِهَا (فَأَنَا أَوَّلُ) مَنْ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْوَلَدَ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَى طَاعَتِهِ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، كَمَا يُعَظِّمُ الرَّجُلُ وَلَدَ الْمَلِكِ لِتَعْظِيمِ أَبِيهِ.
فَكَلَامُهُ هَذَا لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ عَلَى عَاقِلٍ ; لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، وَقِيَامِ الْبُرْهَانِ الصَّحِيحِ وَالْحُجَّةِ الْوَاضِحَةِ عَلَى أَنَّهُ لَهُ وَلَدٌ - فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ بِحَالٍ، وَلَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِأَبِيهِ ; لِأَنَّ أَبَاهُ مِثْلُهُ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، وَالْكُفْرُ بِعِبَادَةِ كُلِّ وَالِدٍ وَكُلِّ مَوْلُودٍ شَرْطٌ فِي إِيمَانِ كُلِّ مُوَحِّدٍ، فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحًا.
أَمَّا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا الْبَتَّةَ.
وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ فِي لُغَةٍ مِنْ لُغَاتِ الْعَجَمِ ; فَالرَّبْطُ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَهَذَا الْجَزَاءِ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ.
فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ بِوَجْهٍ ; لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الْمُحَالِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحَالًا مِثْلَهُ.
وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَلَامِهِ كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثَالٍ فِي الْآيَةِ خَارِجًا عَنْهَا اضْطُرَّ إِلَى أَنْ لَا يُعَلِّقَ عَلَى الْمُحَالِ فِي زَعْمِهِ إِلَّا مُحَالًا.
فَضَرْبُهُ لِلْآيَةِ الْمَثَلَ بِقِصَّةِ ابْنِ جُبَيْرٍ مَعَ الْحَجَّاجِ - دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَعَلَى تَنَاقُضِهِ وَتَخَبُّطِهِ.
فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: إِنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَأُبَدِّلَنَّكَ بِالدُّنْيَا نَارًا تَلَظَّى.
قَالَ سَعِيدٌ لِلْحَجَّاجِ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ مَا عَبَدْتُ إِلَهًا غَيْرَكَ.
فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَّقَ الْمُحَالَ عَلَى الْمُحَالِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ لِلْمَعْنَى الَّذِي مَثَّلَ لَهُ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ لَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَكُنْتُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ.
فَقَوْلُهُ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ فِي مَعْنَى قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، فَنِسْبَةُ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ إِلَيْهِ مَعْنَاهُمَا فِي الِاسْتِحَالَةِ وَادِّعَاءِ النَّقْصِ وَاحِدٌ.
فَلَوْ كَانَ سَعِيدٌ يَفْهَمُ الْآيَةَ كَفَهْمِكَ الْبَاطِلِ لَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ ذَلِكَ إِلَيْكَ لَكُنْتُ أَوَّلَ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ.
وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقُلْ هَذَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي كَلَامِهِ الْقَبِيحِ الْبَشِعِ الشَّنِيعِ الَّذِي يَتَقَاصَرُ عَنِ التَّلَفُّظِ بِهِ كُلُّ كَافِرٍ.
فَقَدِ اضْطُرَّ فِيهِ أَيْضًا إِلَى أَلَّا يُعَلِّقَ عَلَى الْمُحَالِ فِي زَعْمِهِ إِلَّا مُحَالًا شَنِيعًا ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: وَنَظِيرُهُ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلِيُّ لِلْمُجَبِّرِ: إِنْ كَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ، وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ عَذَابًا سَرْمَدًا، فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقُولُ هُوَ شَيْطَانٌ، وَلَيْسَ بِإِلَهٍ.
فَانْظُرْ قَوْلَ هَذَا الضَّالِّ فِي ضَرْبِهِ الْمَثَلَ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِ الضَّالِّ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْعَدْلِيَّ: إِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ. . . إِلَخْ.
فَخَلْقُ اللَّهِ لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ وَتَعْذِيبُهُ الْكُفَّارَ عَلَى كُفْرِهِمْ - مُسْتَحِيلٌ عِنْدَهُ كَاسْتِحَالَةِ نِسْبَةِ الْوَلَدِ لِلَّهِ، وَهَذَا الْمُسْتَحِيلُ فِي زَعْمِهِ الْبَاطِلِ، إِنَّمَا عَلَّقَ عَلَيْهِ أَفْظَعَ أَنْوَاعِ الْمُسْتَحِيلِ
وَهُوَ زَعْمُهُ الْخَبِيثُ أَنَّ اللَّهَ إِنْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ فِي الْقُلُوبِ وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ - فَهُوَ شَيْطَانٌ لَا إِلَهٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا -.
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ فَظَاعَةَ جَهْلِ هَذَا الْإِنْسَانِ بِاللَّهِ، وَشِدَّةَ تَنَاقُضِهِ فِي الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ لِلْآيَةِ.
لِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ: إِنْ كَانَ اللَّهُ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَمُعَذِّبًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى «إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ» فِي أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِمَا مُسْتَحِيلٌ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ فِي اللَّهِ إِنَّهُ شَيْطَانٌ لَا إِلَهٌ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا -.
كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ.
فَاللَّازِمُ لِكَلَامِهِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ كَانَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لَهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِادِّعَاءَ عَلَى اللَّهِ أَنَّهُ شَيْطَانٌ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ.
وَقَدْ أَعْرَضْتُ عَنِ الْإِطَالَةِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ كَلَامِهِ وَشَدَّةِ ضَلَالِهِ وَتَنَاقُضِهِ ; لِشَنَاعَتِهِ وَوُضُوحِ بُطْلَانِهِ، فَهِيَ عِبَارَاتٌ مُزَخْرَفَةٌ، وَشَقْشَقَةٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهَا، وَهِيَ تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ بِالْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ لِلْآيَةِ، وَالتَّنَاقُضَ الْوَاضِحَ، وَكَمْ مِنْ كَلَامٍ مَلِيءٍ بِزُخْرُفِ الْقَوْلِ، وَهُوَ عَقِيمٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ كَمَا قِيلَ: وَإِنِّي وَإِنِّي ثُمَّ إِنِّي وَإِنَّنِي إِذَا انْقَطَعَتْ نَعْلِي جَعَلْتُ لَهَا شِسْعًا فَظَلَّ يُعْمِلُ أَيَّامًا رَوِيَّتَهُ وَشَبَّهَ الْمَاءَ بَعْدَ الْجَهْدِ بِالْمَاءِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْقَدَرِ وَخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، قَدَّمْنَا مِنْهُ جُمَلًا كَافِيَةً فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [43 \ 20] . وَلَا يَخْفَى تَصْرِيحُ الْقُرْآنِ بِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [13 \ 16] . وَقَالَ - تَعَالَى -: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [25 \ 2] . وَقَالَ: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [35 \ 2] . وَقَالَ - تَعَالَى -: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [54 \ 49] .
فَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ جَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ يَقْتَضِي أَنَّ لِلَّهِ شَيْطَانٌ - سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عُلُوًّا كَبِيرًا -.
وَجَزَى الزَّمَخْشَرِيَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
الْأَمْرُ الرَّابِعُ: هُوَ دَلَالَةُ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْرِضَ الْمُسْتَحِيلَ لِيُبَيِّنَ الْحَقَّ بِفَرْضِهِ - عَلَّقَهُ أَوَّلًا بِالْأَدَاةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُودِهِ، وَهِيَ لَفْظَةُ (لَوْ) ، وَلَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ إِلَّا مُحَالًا مِثْلَهُ، كَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [39 \ 4] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا الْآيَةَ [21 \ 17] .
وَأَمَّا تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِأَدَاةٍ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِهِ كَلَفْظَةِ (إِنْ) مَعَ كَوْنِ الْجَزَاءِ غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ - فَلَيْسَ مَعْهُودًا فِي الْقُرْآنِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا - الْمُحَاوَرَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ أَسَانِيدُهَا غَيْرَ قَائِمَةٍ، فَإِنَّ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيَّ صَحِيحٌ.
وَهِيَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ يَقُولُ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ.
فَقَالَ النَّضْرُ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ صَدَقَنِي؟
فَقَالَ الْوَلِيدُ: لَا، مَا صَدَقَكَ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، أَيِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُنَزِّهِينَ لَهُ عَنِ الْوَلَدِ. فَمُحَاوَرَةُ هَذَيْنِ الْكَافِرَيْنِ، الْعَالِمَيْنِ بِالْعَرَبِيَّةِ مُطَابِقَةٌ لِمَا قَرَّرْنَا.
لِأَنَّ النَّضْرَ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّ (إِنْ) شَرْطِيَّةٌ مُطَابِقٌ لِمَا يَعْتَقِدُهُ الْكُفَّارُ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مَعْنًى مَحْذُورٌ وَأَنَّ الْوَلِيدَ قَالَ: إِنَّ (إنْ) نَافِيَةٌ، وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مُخَالَفَةُ الْكُفَّارِ وَتَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْوَلَدِ.
وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا يَتَّضِحُ أَنَّ (إِنْ) فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَافِيَةٌ.
وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ (إِنْ) نَافِيَةٌ - يَلْزَمُهُ إِيهَامُ الْمَحْذُورِ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ.
قَالُوا: لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلَّهِ وَلَدٌ ; فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ إِلَّا فِي الْمَاضِي، فَلِلْكُفَّارِ أَنْ يَقُولُوا: إِذًا صَدَقْتَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَاضِي وَلَدٌ. وَلَكِنَّ الْوَلَدَ طَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا صَاهَرَ الْجِنَّ، وَوَلَدَتْ لَهُ بَنَاتَهُ الَّتِي هِيَ الْمَلَائِكَةُ.
وَإِنَّ هَذَا الْمَحْذُورَ يَمْنَعُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَى النَّفْيِ لَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّتِهِ ; لِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الْإِيهَامَ لَا أَثَرَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَثَرٌ لَمَا كَانَ اللَّهُ يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِلَفْظَةِ (كَانَ) الدَّالَّةِ عَلَى خُصُوصِ الزَّمَنِ الْمَاضِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [4 \ 158] . وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [4 \ 17] . وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [4 \ 96] . وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [33 \ 27] . إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [4 \ 34] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يَصْعُبُ حَصْرُهَا.
فَإِنَّ مَعْنَى كُلِّ تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّهُ كَانَ وَلَمْ يَزَلْ.
فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ ذَلِكَ الَّذِي زَعَمُوهُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: صَدَقْتَ، مَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ لَهُ - لَقَالُوا مِثْلَهُ فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا.
كَأَنْ يَقُولُوا: كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [4 \ 11] فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ عَدَمُ ذَلِكَ. وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَنَحْوِهَا.
وأَيْضًا فَإِنَّ الْمَحْذُورَ الَّذِي زَعَمُوهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِطْلَاقِ نَفْيِ الْكَوْنِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [19 \ 64] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا [18 \ 51] . وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [28 \ 59] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْ أَوْضَحِهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ الْآيَةَ [23 \ 91] .
وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ نَفْيِ الْقُرْآنِ لِلْوَلَدِ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [23 \ 91]
فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَقُولُوا يَوْمًا مَا: صَدَقْتَ، مَا اتَّخَذَهُ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ.
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [17 \ 111] . وَقَوْلِهِ: لَمْ يَلِدْ [112 \ 3] ; لِأَنَّ (لَمْ) تَنْقُلِ الْمُضَارِعَ إِلَى مَعْنَى الْمَاضِي.
وَالْكُفَّارُ لَمْ يَقُولُوا يَوْمًا: صَدَقْتَ، لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ اتِّخَاذُهُ، وَلَمْ يَقُولُوا: لَمْ يَلِدْ فِي الْمَاضِي، وَلَكِنَّهُ وَلَدَ أَخِيرًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْوَلَدِ لَا فِي الْمَاضِي وَلَا فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الِاسْتِقْبَالِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوِلَادَةَ الْمَزْعُومَةَ حَدَثٌ مُتَحَدِّدٌ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا زَعَمُوهُ مِنْ إِيهَامِ الْمَحْذُورِ فِي كَوْنِ (إِنْ) فِي الْآيَةِ نَافِيَةً - لَا أَسَاسَ لَهُ وَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ كَوْنِهَا شَرْطِيَّةً لَيْسَ لَهَا مَعْنًى فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، إِلَّا الْمَعْنَى الْمَحْذُورُ الَّذِي لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِحَالٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّذِي يَقْتَضِي إِمْكَانَ صِحَّةِ الرَّبْطِ بَيْنَ طَرَفَيْهَا عَلَى أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ لَا شَكَّ فِي غَلَطِهِ فِيهِ.
وَأَمَّا إِبْطَالُهُ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي زَعْمِكُمْ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لَهُ وَالْمُكَذِّبِينَ لَكُمْ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ إِبْطَالٌ صَحِيحٌ، وَكَلَامُهُ فِيهِ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَالدِّقَّةِ، وَهُوَ يَقْتَضِي إِبْطَالَهُ بِنَفْسِهِ، لِجَمِيعِ مَا كَانَ يُقَرِّرُهُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَ مَعْنَى (إِنْ) فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ النَّفْيُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا مَحْذُورَ وَلَا إِيهَامَ، وَأَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ تَشْهَدُ لَهُ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الْمُطَابِقَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا كَوْنُ مَعْنَى الْآيَةِ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ فَلَا يَصِحُّ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ مَحْذُورٍ فِي اللُّغَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ نَظِيرٌ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَى فِي التَّعْلِيقِ بِإِنْ وَالتَّعْلِيقِ بِلَوْ.
لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِـ (لَوْ) يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرْطِ، وَعَدَمُ الشَّرْطِ اسْتَلْزَمَ عَدَمَ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ (إِنْ) .
فَالتَّعْلِيقُ بِهَا يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي وُجُودِ الشَّرْطِ بِلَا نِزَاعٍ.
وَمَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَّعْلِيقِ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ أَوِ الْعِلْمِ بِنَفْيِهِ، فَلِأَسْبَابٍ أُخَرَ، وَأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ (لَوْ) تَقْتَضِي عَدَمَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَأَنَّ (إِنْ) تَقْتَضِي الشَّكَّ فِيهِ - لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْآيَةَ [10 \ 94] . كَمَا أَشَرْنَا لَهُ قَرِيبًا.
لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أُمَّتِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [17 \ 22]- دَلَالَةَ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَةَ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ مِنَ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ، وَلَا يُرَادُ هُوَ صلى الله عليه وسلم الْبَتَّةَ بِذَلِكَ الْخِطَابِ.
وَقَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الْآيَةَ [17 \ 23] . فَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ لَا هُوَ نَفْسُهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَرِّعُ لَهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَوْ مَعْنَى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَيْ إِنْ يَبْلُغْ عِنْدَكَ الْكِبَرَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالِدَاكَ أَوْ أَحَدُهُمَا، فَلَا تَقُلْ لَهُمَا: أُفٍّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَهُوَ حَمْلٌ، وَأَمَّهُ مَاتَتْ وَهُوَ فِي صِبَاهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: إِنْ يَبْلُغِ الْكِبَرَ عِنْدَكَ هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُمَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِأَزْمَانٍ.
وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ مِنْ أُمَّتِهِ الَّذِي يُمْكِنُ إِدْرَاكُ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ عِنْدَهُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَوْرَدْنَا شَاهِدًا لِذَلِكَ؛ رَجَزَ سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ الْفَزَارِيِّ فِي قَوْلِهِ:
يَا أُخْتَ خَيْرِ الْبَدْوِ وَالْحِضَارَهْ
…
كَيْفَ تَرَيْنَ فِي فَتَى فَزَارَهْ
أَصْبَحَ يَهْوَى حُرَّةً مِعْطَارَهْ
…
إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَهْ
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقِصَّةَ هُنَاكَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا الْآيَةَ [17 \ 23] لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ مِنْ أُمَّتِهِ صلى الله عليه وسلم لَا لَهُ هُوَ نَفْسُهُ - بَاطِلٌ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - بَعْدَهُ فِي سِيَاقِ الْآيَاتِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْآيَةَ [17 \ 39] .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْآيَةَ [10 \ 94] لَا يُنْقَضُ بِهَا الضَّابِطُ الَّذِي ذَكَرْنَا ; لِأَنَّهَا كَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [17 \ 22] . لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] . فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [10 \ 94] . وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [33 \ 48] . وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [76 \ 24] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى لِيُشَرِّعَ لِأُمَّتِهِ عَلَى لِسَانِهِ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ اطِّرَادَ الضَّابِطِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي لَفْظَةِ لَوْ، وَلَفْظَةِ إِنْ، وَأَنَّهُ لَا يُنْتَقَضُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ وَلَا غَرَرَ وَلَا إِيهَامَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى لَفْظَةِ سُبْحَانَ، وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَإِعْرَابَ لَفْظَةِ سُبْحَانَ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» .
وَلَمَّا قَالَ - تَعَالَى -: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ - نَزَّهَ نَفْسَهُ تَنْزِيهًا تَامًّا عَمَّا يَصِفُونَهُ بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَيْهِ، مُبَيِّنًا أَنَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ - جَدِيرٌ بِالتَّنْزِيهِ عَنِ الْوَلَدِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وَصْفَ الْكُفَّارِ لَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ مُعْلِمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ - جَاءَ مِثْلُهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [23 \ 91 - 92] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [17 \ 42 - 43] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [21 \ 22] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [4 \ 171] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ الْآيَةَ [15 \ 3] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 3] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.
قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [6 \ 59] .
وَفِي «الْأَعْرَافِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [7 \ 178] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ الْآيَةَ [2 \ 48] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ.
قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ «بَنِي» إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [17 \ 9] .
قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَالْكِسَائِيُّ -:(وَقِيلَهُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّ الْهَاءِ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ:(وَقِيلِهِ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْهَاءِ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِعْرَابُهُ بِأَنَّهُ عَطْفُ مَحَلٍّ عَلَى (السَّاعَةِ) لِأَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [43 \ 85]- مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ.
فَلَفْظُ السَّاعَةِ مَجْرُورٌ لَفْظًا بِالْإِضَافَةِ، مَنْصُوبٌ مَحَلًّا بِالْمَفْعُولِيَّةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ فِي تَابِعِهِ النَّصْبُ نَظَرًا إِلَى الْمَحَلِّ، وَالْخَفْضُ نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَجُرَّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ رَاعَى فِي الِاتِّبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ
وَقَالَ فِي نَظِيرِهِ فِي الْوَصْفِ: وَاخْفِضْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ كَمُبْتَغِي جَاهٍ وَمَالًا مَنْ نَهَضْ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى سِرَّهُمْ [43 \ 80] .
وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [43 \ 80] . وَقِيلِهِ يَارَبِّ الْآيَةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ.
أَيْ، وَقَالَ: قِيلَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ، إِلَّا أَنَّ الْقَافَ لَمَّا كُسِرَتْ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ يَاءً لِمُجَانِسَةِ الْكَسْرَةِ.
قَالُوا: وَنَظِيرُ هَذَا الْإِعْرَابِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ
: تَمْشِي الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَيْلَهُمُ
…
إِنَّكَ يَا بْنَ أَبِي سَلْمَى لَمَقْتُولُ
أَيْ وَيَقُولُونَ قَيْلَهُمْ.