المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [88 \ 12] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٧

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [88 \ 12] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [88 \ 12] ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى مِنْ صِفَاتِ خَمْرِ الْجَنَّةِ أَنَّهَا لَا تُسْكِرُ شَارِبَهَا، وَلَا تُسَبِّبُ لَهُ الصُّدَاعَ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [56 \ 19]، وَقَوْلِهِ: لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [37 \ 47] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَاتِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [5 \ 90] . الْآيَةَ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: غَيْرِ آسِنٍ أَيْ غَيْرُ مُتَغَيِّرِ اللَّوْنِ وَلَا الطَّعْمِ. وَالْآسِنُ وَالْآجِنُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:

وَمَنْهَلٌ آجِنٌ قَفْرٌ مَحَاضِرُهُ

تَذْرُو الرِّيَاحُ عَلَى جُمَّاتِهِ الْبَعَرَا

وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:

وَمَنْهَلٌ فِيهِ الْغُرَابُ مَيِّتُ

كَأَنَّهُ مِنَ الْأُجُونِ زَيِّتُ

سَقَيْتُ مِنْهَا الْقَوْمَ وَاسْتَقَيْتُ

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعَلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ: غَيْرِ آسِنٍ كَقَوْلِهِ: مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.

قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الثِّمَارَ الَّتِي يُرْزَقُهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْجَوْدَةِ وَالْحُسْنِ وَالْكَمَالِ، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ رَدِيءٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [2 \ 25] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ.

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ [22 \ 19] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [47 \‌

‌ 18]

.

ص: 254

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [43 \ 66] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ.

التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، يَتَذَكَّرُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يَنْفَعُهُمْ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، فَقَوْلُهُ: ذِكْرَاهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ فَأَنَّى لَهُمْ أَيْ كَيْفَ تَنْفَعُهُمْ ذِكْرَاهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِاللَّهِ، وَقَدْ فَاتَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ الْإِيمَانُ.

وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي جَاءَتْهُمْ عَائِدٌ إِلَى السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ الْقِيَامَةُ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُؤْمِنُونَ، وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [34 \ 52]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [86 \ 23] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [7 \ 53] .

فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ أَنَّى لَهُمْ نَفْعُ ذِكْرَاهُمْ.

وَالذِّكْرَى اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ الْحَامِلِ عَلَى الْإِيمَانِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.

ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ إِذَا أَنْزَلَ سُورَةً مُحْكَمَةً، أَيْ مُتْقَنَةَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي، وَاضِحَةَ الدَّلَالَةِ، لَا نَسْخَ فِيهَا وَذَكَرَ فِيهَا وُجُوبَ قِتَالِ الْكُفَّارِ، تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ، كَوْنُ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَيْ شَكٌّ وَنِفَاقٌ، يَنْظُرُونَ كَنَظَرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، لِأَنَّ نَظَرَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ تَدُورُ فِيهِ عَيْنُهُ وَيَزِيغُ بَصَرُهُ.

ص: 255

وَهَذَا إِنَّمَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ بَأْسِ الْكَفَّارِ الْمَأْمُورِ بِقِتَالِهِمْ.

وَقَدْ صَرَّحَ - جَلَّ وَعَلَا - بِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْخَوْفِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [33 \ 19] .

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، إِذَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةً فِيهَا الْأَمْرُ بِالْجِهَادِ، اسْتَأْذَنُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، وَذَمَّهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [9 \ 86] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا.

الْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ لِلْإِنْكَارِ، وَالْفَاءُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَيُعْرِضُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ; كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَحَذْفُ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا «أَمْ» فِيهِ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، فَقَدْ أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِعْرَاضَهُمْ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ الَّتِي هِيَ الْهَمْزَةُ، وَبَيَّنَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهَا أَقْفَالٌ لَا تَنْفَتِحُ لِخَيْرٍ، وَلَا لِفَهْمِ قُرْآنٍ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِ اللَّهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [4 \ 82]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ [23 \ 68]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] .

وَقَدْ ذَمَّ - جَلَّ وَعَلَا - الْمُعْرِضَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [18 \ 57]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [32 \ 22] .

ص: 256

وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِتَدَبُّرِ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَيْ تَصَفُّحِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهَا، غَيْرُ مُتَدَبِّرٍ لَهَا فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَاتِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُ فَهْمًا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى التَّدَبُّرِ، وَقَدْ شَكَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَبِّهِ مِنْ هَجْرِ قَوْمِهِ هَذَا الْقُرْآنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [25 - 30] .

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمَهُ وَتَعَلُّمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ، أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ.

وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِذَلِكَ هُمْ خَيْرُ النَّاسِ. كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» وَقَالَ تَعَالَى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [3 \ 79] .

فَإِعْرَاضُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ عَنِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَتَفَهُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الْمُبِيِّنَةِ لَهُ، مَنْ أَعْظَمِ الْمُنَاكِرِ وَأَشْنَعِهَا، وَإِنْ ظَنَّ فَاعِلُوهُ أَنَّهُمْ عَلَى هُدًى.

وَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَنْعِ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم اكْتِفَاءً عَنْهُمَا بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ، وَانْتِفَاءِ الْحَاجَةِ إِلَى تَعَلُّمِهِمَا ; لِوُجُودِ مَا يَكْفِي عَنْهُمَا مِنْ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ - مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ.

وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَمُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.

ص: 257

فَمُرْتَكِبُهُ مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَصْحَابِ رَسُولِهِ جَمِيعًا وَلِلْأَئِمَّةِ رحمهم الله، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ تَدَبُّرَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَفَهُّمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ خَاصَّةً، وَإِنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِشُرُوطِهِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَهُمُ الَّتِي لَمْ يَسْتَنِدِ اشْتِرَاطُ كَثِيرٍ مِنْهَا إِلَى دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَلَا أَثَرٍ عَنِ الصَّحَابَةِ - قَوْلٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ أَصْلًا.

بَلِ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، عَلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّفَهُّمِ، وَإِدْرَاكِ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُهُمَا، وَالْعَمَلُ بِمَا عَلِمَ مِنْهُمَا.

أَمَّا الْعَمَلُ بِهِمَا مَعَ الْجَهْلِ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْهُمَا فَمَمْنُوعٌ إِجْمَاعًا.

وَأَمَّا مَا عَلِمَهُ مِنْهُمَا عِلْمًا صَحِيحًا نَاشِئًا عَنْ تَعَلُّمٍ صَحِيحٍ. فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وَلَوْ آيَةً وَاحِدَةً أَوْ حَدِيثًا وَاحِدًا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الذَّمَّ وَالْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يَتَدَبَّرُ كِتَابَ اللَّهِ - عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ الْأَوَّلِينَ بِهِ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ هُمُ الْمُنَافِقُونَ وَالْكُفَّارُ، لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مُسْتَكْمِلًا لِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، بَلْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا أَصْلًا. فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْتَفَعَ بِالْعَمَلِ بِهِ وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِ إِلَّا الْمُجْتَهِدُونَ بِالْإِصْلَاحِ الْأُصُولِيِّ لَمَا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَفَّارُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عَدَمَ الِاهْتِدَاءِ بِهُدَاهُ، وَلَمَا أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ بِهِ حَتَّى يُحَصِّلُوا شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُقَرَّرَةَ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ، كَمَا تَرَى.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِنَ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ، وَإِذًا فَدُخُولُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَطْعِيٌّ، وَلَوْ كَانَ لَا يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ بِهَدْيِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمَا أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ عَدَمَ تَدَبُّرِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَعَدَمَ عَمَلِهِمْ بِهِ.

وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْوَاقِعَ خِلَافُ ذَلِكَ قَطْعًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ لَا تُشْتَرَطُ إِلَّا

ص: 258

فِيمَا فِيهِ مَجَالٌ لِلِاجْتِهَادِ. وَالْأُمُورُ الْمَنْصُوصَةُ فِي نُصُوصٍ صَحِيحَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا لِأَحَدٍ، حَتَّى تُشْتَرَطَ فِيهَا شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الِاتِّبَاعُ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرُهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ تَبَعًا لِلْقَرَافِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فَالْعَمَلُ مِنْهُ بِمَعْنَى النَّصِّ مِمَّا يُحْظَلُ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ بِحَالٍ لِمُعَارَضَتِهِ لِآيَاتٍ وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى دَلِيلٍ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَيْضًا أَنَّ عُمُومَاتِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حَثِّ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي» وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» الْحَدِيثَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى.

فَتَخْصِيصُ جَمِيعِ تِلْكَ النُّصُوصِ بِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَتَحْرِيمُ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ تَحْرِيمًا بَاتًّا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُ تِلْكَ النُّصُوصِ بِآرَاءِ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُقِرِّينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُقَلِّدَ الصِّرْفَ، لَا يَجُوزُ عَدُّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحِهِ لِبَيْتِهِ الْمَذْكُورِ

ص: 259

آنِفًا مَا نَصُّهُ: يَعْنِي أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ يُحْظَلُ لَهُ، أَيْ يُمْنَعُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَعْنَى نَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَإِنْ صَحَّ سَنَدُهَا لِاحْتِمَالِ عَوَارِضِهِ مِنْ نَسْخٍ وَتَقْيِيدٍ، وَتَخْصِيصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَوَارِضِ الَّتِي لَا يَضْبُطُهَا إِلَّا الْمُجْتَهِدُ، فَلَا يُخَلِّصُهُ مِنَ اللَّهِ إِلَّا تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ، قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَلَا لِلْقَرَافِيُّ الَّذِي تَبِعَهُ فِي مَنْعِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، إِلَّا مُطْلَقَ احْتِمَالِ الْعَوَارِضِ، الَّتِي تَعْرِضُ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْ نَسْخٍ أَوْ تَخْصِيصٍ أَوْ تَقْيِيدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ مِنَ النَّسْخِ حَتَّى يَثْبُتَ وُرُودُ النَّاسِخِ، وَالْعَامُّ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ حَتَّى يَثْبُتَ وُرُودُ الْمُخَصِّصِ، وَالْمُطْلَقُ ظَاهِرٌ فِي الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَثْبُتَ وُرُودُ الْمُقَيِّدِ، وَالنَّصُّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ حَتَّى يَثْبُتَ النُّسَخُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَالظَّاهِرُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عُمُومًا كَانَ أَوْ إِطْلَاقًا أَوْ غَيْرَهُمَا حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ صَارِفٌ عَنْهُ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ.

وَأَوَّلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ حَتَّى يُبْحَثَ عَنِ الْمُخَصَّصِ فَلَا يُوجَدُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ - أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ، وَتَبِعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى حَكَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ حِكَايَةً لَا أَسَاسَ لَهَا.

وَقَدْ أَوْضَحَ ابْنُ الْقَاسِمِ الْعَبَّادِيُّ فِي الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ غَلَطَهُمْ فِي ذَلِكَ، فِي كَلَامِهِ عَلَى شَرْحِ الْمَحَلِّ لِقَوْلِ ابْنِ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ، وَيُتَمَسَّكُ بِالْعَامِّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَكَذَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، خِلَافًا لِابْنِ سُرَيْجٍ اهـ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ مِنْ عُمُومٍ وَإِطْلَاقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، مِنْ مُخَصِّصٍ أَوْ مُقَيِّدٍ، لَا لِمُجَرَّدِ مُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.

ص: 260

فَادِّعَاءُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، أَنَّهُ يَجِبُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ حَتَّى يُبْحَثَ عَنِ الْمُخَصِّصِ وَالْمُقَيِّدِ مَثَلًا - خِلَافُ التَّحْقِيقِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَعَلَّمَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَوْ بَعْضَ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَعْمَلَ بِهَا، تَعَلَّمَ ذَلِكَ النَّصَّ الْعَامَّ أَوِ الْمُطْلَقَ، وَتَعَلَّمَ مَعَهُ مُخَصِّصَهُ وَمُقَيِّدَهُ إِنْ كَانَ مُخَصَّصًا أَوْ مُقَيَّدًا، وَتَعَلَّمَ نَاسِخَهُ إِنْ كَانَ مَنْسُوخًا، وَتَعَلُّمُ ذَلِكَ سَهْلٌ جِدًّا، بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِهِ، وَمُرَاجَعَةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ الْمُعْتَدِّ بِهَا فِي ذَلِكَ، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَتَعَلَّمُ أَحَدُهُمْ آيَةً فَيَعْمَلُ بِهَا، وَحَدِيثًا فَيَعْمَلُ بِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ حَتَّى يُحَصِّلَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ، وَرُبَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ بِمَا عَلِمَ فَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، كَمَا يُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [2 \ 282]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [8 \ 29] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَرْقَانَ هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الَّذِي يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ الْآيَةَ [57 \ 28] .

وَهَذِهِ التَّقْوَى الَّتِي دَلَّتِ الْآيَاتُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُعَلِّمُ صَاحِبَهَا بِسَبَبِهَا مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ، لَا تَزِيدُ عَلَى عَمَلِهِ بِمَا عَلِمَ، مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ فَهِيَ عَمَلٌ بِبَعْضِ مَا عَلِمَ زَادَهُ اللَّهُ بِهِ عِلْمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.

فَالْقَوْلُ بِمَنْعِ الْعَمَلِ بِمَا عَلِمَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَتَّى يُحَصِّلَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ، هُوَ عَيْنُ السَّعْيِ فِي حِرْمَانِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الانْتِفَاعِ بِنُورِ الْقُرْآنِ، حَتَّى يُحَصِّلُوا شَرْطًا مَفْقُودًا فِي اعْتِقَادِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ. وَادِّعَاءُ مِثْلِ هَذَا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ - هُوَ كَمَا تَرَى.

ص: 261

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ:

يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَخَافُ الْعَرْضَ عَلَى رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْ يَتَأَمَّلَ فِيهِ لِيَرَى لِنَفَسِهِ الْمَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعُظْمَى، وَالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، الَّتِي عَمَّتْ جُلَّ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَعْمُورَةِ.

وَهِيَ ادِّعَاءُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، اسْتِغْنَاءً تَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مِنْ عِبَادَاتٍ وَمُعَامَلَاتٍ، وَحُدُودٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ.

وَبِنَاءُ هَذَا عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مَعْدُومُونَ عَدَمًا كُلِّيًّا، لَا وُجُودَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، يُمْنَعُ الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهُ مَنْعًا بَاتًّا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيُسْتَغْنَى عَنْهُمَا بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ.

وَزَادَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا مَنْعَ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهُ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ.

فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي رَحِمَكَ اللَّهُ: كَيْفَ يَسُوغُ لِمُسْلِمٍ، أَنْ يَقُولَ بِمَنْعِ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَدَمِ وُجُوبِ تَعَلُّمِهِمَا وَالْعَمَلِ بِهِمَا اسْتِغْنَاءً عَنْهُمَا بِكَلَامِ رِجَالٍ غَيْرِ مَعْصُومِينَ وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمْ يُخْطِئُونَ.

فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، لَا حَاجَةَ إِلَى تَعَلُّمِهِمَا، وَأَنَّهُمَا يُغْنِي غَيْرُهُمَا، فَهَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَمُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ.

وَإِنْ كَانَ قَصْدَهُمْ أَنَّ تَعَلُّمَهُمَا صَعْبٌ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا زَعْمٌ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ تَعَلُّمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَيْسَرُ مِنْ تَعَلُّمِ مَسَائِلِ الْآرَاءِ وَالِاجْتِهَادِ الْمُنْتَشِرَةِ، مَعَ كَوْنِهَا فِي غَايَةِ التَّعْقِيدِ

ص: 262

وَالْكَثْرَةِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [54 \ 17 - 22 - 32 - 40]، وَيَقُولُ تَعَالَى فِي الدُّخَانِ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [44 \ 58]، وَيَقُولُ فِي مَرْيَمَ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [19 \ 97] .

فَهُوَ كِتَابٌ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [29 \ 49]، وَيَقُولُ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 52] .

فَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يَتَبَاعَدُ عَنْ هُدَاهُ يُحَاوِلُ التَّبَاعُدَ عَنْ هُدَى اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَرْضِهِ، لِيُسْتَضَاءَ بِهِ، فَيُعْلَمَ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحَسَنُ مِنَ الْقَبِيحِ، وَالنَّافِعُ مِنَ الضَّارِّ، وَالرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [4 \ 174] .

وَقَالَ تَعَالَى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [5 \ 15]، وَقَالَ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [42 \ 52]، وَقَالَ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا [64 \ 8]، وَقَالَ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [7 \ 157] .

فَإِذَا عَلِمْتَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، هُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ، وَيُهْتَدَى بِهُدَاهُ فِي أَرْضِهِ، فَكَيْفَ تَرْضَى لِبَصِيرَتِكَ أَنْ تَعْمَى عَنِ النُّورِ.

فَلَا تَكُنْ خُفَّاشِيَّ الْبَصِيرَةِ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ:

خَفَافِيشٌ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ

وَوَافَقَهَا قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ

مِثْلُ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى

نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ

ص: 263

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [2 \ 20] ، أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [13 \ 19] .

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتُهُ عَنِ النُّورِ تَخَبَّطَ فِي الظَّلَامِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا، فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُنْصِفُ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْكَ الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بِالْوَسَائِلِ النَّافِعَةِ الْمُنْتِجَةِ، وَالْعَمَلُ بِكُلِّ مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا عِلْمًا صَحِيحًا.

وَلْتَعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّمَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَيْسَرُ مِنْهُ بِكَثِيرٍ فِي الْقُرُونِ الْأَوْلَى، لِسُهُولَةِ مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ، مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَعَامٍّ وَخَاصٍّ، وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، وَمُجْمَلٍ وَمُبَيَّنٍ وَأَحْوَالِ الرِّجَالِ، مِنْ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ ضَبَطَ وَأَتْقَنَ وَدَوَّنَ، فَالْجَمِيعُ سَهَّلَ التَّنَاوُلَ الْيَوْمَ.

فَكُلُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَدْ عُلِمَ مَا جَاءَ فِيهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَكِبَارِ الْمُفَسِّرِينَ.

وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم حُفِظَتْ وَدُوِّنَتْ، وَعُلِمَتْ أَحْوَالُ مُتُونِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَمَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا مِنَ الْعِلَلِ وَالضَّعْفِ.

فَجَمِيعُ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا فِي الِاجْتِهَادِ يَسْهُلُ تَحْصِيلُهَا جِدًّا عَلَى كُلِّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا وَعِلْمًا.

وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ تَسْهُلُ مَعْرِفَتُهُ الْيَوْمَ عَلَى كُلِّ نَاظِرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا وَوَفَّقَهُ لِتَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.

وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ الْمُنْصِفُ، أَنَّ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَعَلَى النَّبِيِّ وَسُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ، مَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الصَّاوِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْجَلَالَيْنِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَآلِ عِمْرَانَ وَاغْتَرَّ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ خَلْقٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْمُتَسَمِّينَ بِاسْمِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ; لِكَوْنِهِمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ.

ص: 264

فَقَدْ قَالَ الصَّاوِيُّ أَحْمَدُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [18 \ 23] بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْأَقْوَالَ فِي انْفِصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِزَمَانٍ - مَا نَصُّهُ: وَعَامَّةُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَإِنَّ شَرْطَ حَلِّ الْأَيْمَانِ بِالْمَشِيئَةِ أَنْ تَتَّصِلَ، وَأَنْ يُقْصَدَ بِهَا حَلُّ الْيَمِينِ، وَلَا يَضُرَّ الْفَصْلُ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ عُطَاسٍ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَا عَدَا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَلَوْ وَافَقَ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْآيَةَ، فَالْخَارِجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ لِلْكُفْرِ ; لِأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَانْظُرْ يَا أَخِي - رَحِمَكَ اللَّهُ - مَا أَشْنَعَ هَذَا الْكَلَامَ وَمَا أَبْطَلَهُ، وَمَا أَجْرَأَ قَائِلَهُ عَلَى اللَّهِ وَكِتَابِهِ، وَعَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ مُخَالِفَةً لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَنْفُسِهِمْ، كَمَا سَنَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَالَّذِي يَنْصُرُهُ هُوَ الضَّالُّ الْمُضِلِّ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَشْنَعِ

ص: 265

الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ، وَقَائِلُهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ انْتِهَاكًا لِحُرْمَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.

وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنِ الظَّاهِرِ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ لَا يَصْدُرُ الْبَتَّةَ عَنْ عَالِمٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ لِجَهْلِهِ بِهِمَا يَعْتَقِدُ ظَاهِرَهُمَا كُفْرًا، وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَاهِرَهُمَا بَعِيدٌ مِمَّا ظَنَّهُ أَشَدُّ مِنْ بَعْدِ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ: أَنَّ آيَةَ الْكَهْفِ هَذِهِ الَّتِي ظَنَّ الصَّاوِيُّ أَنَّ ظَاهِرَهَا حَلَّ الْأَيْمَانِ بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ: وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَسَاسَ لَهُ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ بَعِيدٌ مِمَّا ظَنَّ، بَلِ الظَّنُّ الَّذِي ظَنَّهُ وَالزَّعْمُ الَّذِي زَعَمَهُ لَا تُشِيرُ الْآيَةُ إِلَيْهِ أَصْلًا، وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهِ لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَلَا التَّضَمُّنِ وَلَا الِالْتِزَامِ، فَضْلًا عَلَى أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ.

وَسَبَبُ نُزُولِهَا يَزِيدُ ذَلِكَ إِيضَاحًا ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ سَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ، وَأَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ لَهُمْ: سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا، وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَعَاتَبَهُ رَبُّهُ بِعَدَمِ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ تَعْلِيقِهِ بِمَشِيئَتِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ.

ثُمَّ عَلَّمَهُ اللَّهُ فِي الْآيَةِ الْأَدَبَ مَعَهُ، فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23 - 24] .

ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [18 \ 24] ، يَعْنِي إِنْ قُلْتَ سَأَفْعَلُ كَذَا غَدًا، ثُمَّ نَسِيتَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ تَذَكَّرْتَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاذْكُرْ رَبَّكَ، أَيْ قُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ لِتَتَدَارَكَ بِذَلِكَ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ الَّذِي فَاتَكَ عِنْدَ وَقْتِهِ، بِسَبَبِ النِّسْيَانِ، وَتَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.

ص: 266

وَالتَّعْلِيقُ بِهَذِهِ الْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ الصَّحِيحُ لَا يُخَالِفُ مَذْهَبًا مِنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ فِي مُرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَا يُنْقَلُ عَنْهُ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا أَوْضَحَهُ كَبِيرُ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ رحمه الله.

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْكَهْفِ هَذِهِ. فَيَا أَتْبَاعَ الصَّاوِيِّ الْمُقَلِّدِينَ لَهُ تَقْلِيدًا أَعْمَى عَلَى جَهَالَةٍ عَمْيَاءَ، أَيْنَ دَلَّ ظَاهِرُ آيَةِ الْكَهْفِ هَذِهِ عَلَى الْيَمِينِ بِاللَّهِ، أَوْ بِالطَّلَاقِ، أَوْ بِالْعِتْقِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَيْمَانِ؟

هَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَلَفَ لَمَّا قَالَ لِلْكُفَّارِ: سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا؟

وَهَلْ قَالَ اللَّهُ: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي حَالِفٌ سَأَفْعَلُ ذَلِكَ غَدًا؟

وَمِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ بِالْيَمِينِ، حَتَّى قُلْتُمْ: إِنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ هُوَ حَلُّ الْأَيْمَانِ بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهَا، وَبَنَيْتُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟

وَمِمَّا يَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا إِيضَاحًا مَا قَالَهُ الصَّاوِيُّ أَيْضًا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [3 \ 7]، فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى كَلَامِ الْجَلَالِ مَا نَصُّهُ: زَيْغٌ أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ، قَوْلُهُ: بِوُقُوعِهِمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسِ، أَيْ كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اهـ.

فَانْظُرْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - مَا أَشْنَعَ هَذَا الْكَلَامَ، وَمَا أَبْطَلَهُ، وَمَا أَجْرَأَ قَائِلَهُ عَلَى انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ وَسُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا أَدَلَّهُ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَدْرِي مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ. فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا قَالَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ هُوَ ظَاهِرُ كِتَابِ اللَّهِ، وَلِذَا جَعَلَ مِثْلَهُمْ مَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ، فَأَخَذَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ.

وَذَكَرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَجْهَ ادِّعَاءِ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَفَرَ، مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَنَّ ادِّعَاءَهُمْ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ كَفَّرَهُمْ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمُ ادِّعَاءٌ صَحِيحٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ.

ص: 267

وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا: قِيلَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَلَسْتَ تَقُولُ: إِنَّ عِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالُوا: حَسْبُنَا، أَيْ كَفَانَا ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.

فَاتَّضَحَ أَنَّ الصَّاوِيَّ يَعْتَقِدُ أَنَّ ادِّعَاءَ نَصَارَى نَجْرَانَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [4 \ 171] ، هُوَ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ ادِّعَاءٌ صَحِيحٌ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ.

وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ، فَالْآيَةٌ لَا يُفْهَمُ مَنْ ظَاهِرِهَا الْبَتَّةَ، بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا بِدَلَالَةٍ مِنَ الدَّلَالَاتِ، أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، وَادِّعَاءُ نَصَارَى نَجْرَانَ ذَلِكَ كَذِبٌ بَحْتٌ.

فَقَوْلُ الصَّاوِيِّ كَنَصَارَى نَجْرَانَ، وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَ بِظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا ادَّعَاهُ وَفْدُ نَجْرَانَ مِنْ كَوْنِ عِيسَى ابْنَ اللَّهِ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ، حَاشَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكُفْرُ الْبَوَاحُ ظَاهِرَهُ، بَلْ هُوَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ، وَقَوْلُهُ: وَرُوحٌ مِنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [45 \ 13] ، أَيْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِيسَى وَمِنْ تَسْخِيرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَبْدَؤُهُ وَمَنْشَؤُهُ - جَلَّ وَعَلَا.

فَلَفْظَةُ «مِنْ» فِي الْآيَتَيْنِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا لِمَا زَعَمَهُ الصَّاوِيُّ وَحَكَاهُ عَنْ نَصَارَى نَجْرَانَ.

وَقَدِ اتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ لَا يَعْلَمُونَ مَا هِيَ الظَّوَاهِرُ، وَأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ شَيْئًا ظَاهِرَ النَّصِّ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ النَّصَّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرَهُ.

فَبَنَوْا بَاطِلًا عَلَى بَاطِلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ إِلَّا الْبَاطِلُ.

وَلَوْ تَصَوَّرُوا مَعَانِيَ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقُولُوا مَا قَالُوا.

فَتَصَوُّرُ الصَّاوِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ الْكَهْفِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ حَلُّ الْأَيْمَانِ، بِالتَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ

ص: 268

الْمُتَأَخِّرِ زَمَنُهَا عَنِ الْيَمِينِ، وَبِنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ مُخَالَفَةَ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ الْآيَةَ لَا تُشِيرُ أَصْلًا إِلَى مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ ظَاهِرُهَا.

وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُهُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا زَعَمَهُ نَصَارَى نَجْرَانَ، مِنْ أَنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ فَإِنَّهُ كُلُّهُ بَاطِلٌ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا زَعَمَ - ظَاهِرَ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ.

وَقَوْلُ الصَّاوِيِّ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَصُولُ الْكُفْرِ، قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهِ مِنْ عِنْدِهِ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ.

وَمَنْ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ أَصُولُ الْكُفْرِ؟

سَمُّوهُمْ لَنَا، وَبَيِّنُوا لَنَا مَنْ هُمْ؟

وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَقُولُهُ عَالِمٌ، وَلَا مُتَعَلِّمٌ ; لِأَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هِيَ نُورُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ لِيُسْتَضَاءَ بِهِ فِي أَرْضِهِ وَتُقَامَ بِهِ حُدُودُهُ، وَتُنَفَّذَ بِهِ أَوَامِرُهُ، وَيُنْصَفَ بِهِ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي أَرْضِهِ.

وَالنُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ الَّتِي لَا احْتِمَالَ فِيهَا قَلِيلَةٌ جِدًّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ مِنْهَا إِلَّا أَمْثِلَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [2 \ 196] .

وَالْغَالِبُ الَّذِي هُوَ الْأَكْثَرُ هُوَ كَوْنُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَوَاهِرُ.

وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ صَارِفٌ عَنْهُ إِلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْأُصُولِ.

فَتَنْفِيرُ النَّاسِ وَإِبْعَادُهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِهِمَا مِنْ

ص: 269

أُصُولِ الْكُفْرِ هُوَ مِنْ أَشْنَعِ الْبَاطِلِ وَأَعْظَمِهِ كَمَا تَرَى.

وَأُصُولُ الْكُفْرِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَحْذَرَ مِنْهَا كُلَّ الْحَذَرِ، وَيَتَبَاعَدَ مِنْهَا كُلَّ التَّبَاعُدِ وَيَتَجَنَّبَ أَسْبَابَهَا كُلَّ الِاجْتِنَابِ فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وُجُوبُ التَّبَاعُدِ مِنَ الْأَخْذِ بِظَوَاهِرَ الْوَحْيِ.

وَهَذَا كَمَا تَرَى، وَبِمَا ذَكَرْنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الضَّلَالِ ادِّعَاءَ أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ قَبِيحَةٍ، لَيْسَتْ بِلَائِقَةٍ.

وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بُعْدُهَا وَبَرَاءَتُهَا مِنْ ذَلِكَ.

وَسَبَبُ تِلْكَ الدَّعْوَى الشَّنِيعَةِ عَلَى ظَوَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَةِ مُدَّعِيهَا.

وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ الْعُظْمَى، وَالطَّامَّةِ الْكُبْرَى، زَعَمَ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ فَهْمٌ، أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا غَيْرُ لَائِقَةٍ بِاللَّهِ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا الْمُتَبَادِرَةَ مِنْهَا هُوَ تَشْبِيهُ صِفَاتِ اللَّهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ، وَعَقَدَ ذَلِكَ الْمُقْرِئُ فِي إِضَاءَتِهِ فِي قَوْلِهِ:

وَالنَّصُّ إِنْ أَوْهَمَ غَيْرَ اللَّائِقِ بِاللَّهِ كَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلَائِقِ فَاصْرِفْهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعَا وَاقْطَعْ عَنِ الْمُمْتَنِعِ الْأَطْمَاعَا وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةُ مَنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحَادِيثِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَالْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا الْمُتَبَادِرَةِ مِنْهَا، لِكُلِّ مُسْلِمٍ رَاجِعَ عَقْلَهُ، هِيَ مُخَالَفَةُ صِفَاتِ اللَّهِ لِصِفَاتِ خَلْقِهِ. وَلَا بُدَّ أَنْ نَتَسَاءَلَ هُنَا، فَنَقُولُ:

أَلَيْسَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مُخَالَفَةَ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ؟

وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: بَلَى.

وَهَلْ تَشَابَهَتْ صِفَاتُ اللَّهِ مَعَ صِفَاتِ خَلْقِهِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى صِفَتِهِ

ص: 270

تَعَالَى ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ تَشْبِيهُهُ بِصِفَةِ الْخَلْقِ؟

وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ: لَا.

فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنَّ لَفْظًا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَثَلًا دَالًّا عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ أَثْنَى بِهَا تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ مُشَابَهَتَهُ لِصِفَةِ الْخَلْقِ؟ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.

فَالْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ مُتَخَالِفَانِ كُلَّ التَّخَالُفِ وَصِفَاتُهُمَا مُتَخَالِفَةٌ كُلَّ التَّخَالُفِ.

فَبِأَيِّ وَجْهٍ يُعْقَلُ دُخُولُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ؟ أَوْ دُخُولُ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ كَمَالِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ؟

فَكُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَائِقًا بِالْخَالِقِ مُنَزَّهًا عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ.

وَكَذَلِكَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ صِفَةُ الْخَالِقِ.

فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ لَفْظِ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَخْلُوقِ، هُوَ كَوْنُهَا جَارِحَةً هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [5 \ 38] .

وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْيَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلْخَالِقِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، لَائِقَةٌ بِاللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - ثَابِتَةٌ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.

وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - عِظَمَ هَذِهِ الصِّفَةِ وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَالْقُدْرَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [39 \ 67] .

ص: 271

وَبَيِّنَ أَنَّهَا صِفَةُ تَأْثِيرٍ كَالْقُدْرَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، فَتَصْرِيحُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ خَلَقَ نَبِيَّهُ آدَمَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ صِفَاتُ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ كَمَا تَرَى.

وَلَا يَصِحُّ هُنَا تَأْوِيلُ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ الْبَتَّةَ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَثْنِيَةُ الْقُدْرَةِ.

وَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِ الْمُسْلِمِ الْمَرَاجِعِ عَقْلَهُ دُخُولُ الْجَارِحَةِ الَّتِي هِيَ عَظْمٌ وَلَحْمٌ وَدَمٌ فِي مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

فَاعْلَمْ أَيُّهَا الْمُدَّعِي أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْيَدِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالَهَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهَا التَّشْبِيهُ بِجَارِحَةِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ صَرْفُهَا عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ الْخَبِيثِ، وَلَمْ تَكْتَفِ بِهَذَا حَتَّى ادَّعَيْتَ الْإِجْمَاعَ عَلَى صَرْفِهَا عَنْ ظَاهِرِهَا - أَنَّ قَوْلَكَ هَذَا كُلَّهُ افْتِرَاءٌ عَظِيمٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَأَنَّكَ بِسَبَبِهِ كُنْتَ أَعْظَمَ الْمُشَبِّهِينَ وَالْمُجَسِّمِينَ، وَقَدْ جَرَّكَ شُؤْمُ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى وَرْطَةِ التَّعْطِيلِ، فَنَفَيْتَ الْوَصْفَ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ لِنَفْسِهِ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَوَّلْتَهُ بِمَعْنًى آخَرَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِكَ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.

وَمَاذَا عَلَيْكَ لَوْ صَدَقْتَ اللَّهَ، وَآمَنْتَ بِمَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ، وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا تَعْطِيلٍ؟

وَبِأَيِّ مُوجِبٍ سَوَّغْتَ لِذِهْنِكَ أَنْ يَخْطُرَ فِيهِ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ عِنْدَ ذِكْرِ صِفَةِ الْخَالِقِ؟

هَلْ تَلْتَبِسُ صِفَةُ الْخَالِقِ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ عَنْ أَحَدٍ حَتَّى يَفْهَمَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْخَالِقِ؟

فَاخْشَ اللَّهَ يَا إِنْسَانُ، وَاحْذَرْ مِنَ التَّقَوُّلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَآمِنْ بِمَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفِ اللَّائِقِ بِهِ وَالْوَصْفِ غَيْرِ اللَّائِقِ بِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ إِنْسَانٌ فَيَتَحَكَّمَ فِي ذَلِكَ فَيَقُولَ: هَذَا الَّذِي وَصَفْتَ بِهِ

ص: 272

نَفْسَكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِكَ، وَأَنَا أَنْفِيهِ عَنْكَ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنْكَ، وَلَا مِنْ رَسُولِكَ، وَآتِيكَ بَدَلَهُ بِالْوَصْفِ اللَّائِقِ بِكَ.

فَالْيَدُ مَثَلًا الَّتِي وَصَفْتَ بِهَا نَفْسَكَ لَا تَلِيقُ بِكَ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّشْبِيهِ بِالْجَارِحَةِ، وَأَنَا أَنْفِيهَا عَنْكَ نَفْيًا بَاتًّا، وَأُبْدِلُهَا لَكَ بِوَصْفٍ لَائِقٍ بِكَ، وَهُوَ النِّعْمَةُ أَوِ الْقُدْرَةُ مَثَلًا أَوِ الْجُودُ.

سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ.

فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ بَعْضَ الْجَاحِدِينَ لِصِفَاتِ اللَّهِ الْمُئَوِّلِينَ لَهَا بِمَعَانٍ لَمْ تَرِدْ عَنِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ رَسُولِهِ يُؤْمِنُونَ فِيهَا بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ.

فَيُقِرُّونَ بِأَنَّ الصِّفَاتِ السَّبْعَ الَّتِي تُشْتَقُّ مِنْهَا أَوْصَافٌ ثَابِتَةٌ لِلَّهِ مَعَ التَّنْزِيهِ، وَنَعْنِي بِهَا الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعِلْمَ وَالْحَيَاةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ ; لِأَنَّهَا يُشْتَقُّ مِنْهَا قَادِرٌ حَيٌّ عَلِيمٌ إِلَخْ، وَكَذَلِكَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمُلْكِ وَالْجَلَالِ مَثَلًا ; لِأَنَّهَا يُشْتَقُّ مِنْهَا الْعَظِيمُ الْمُتَكَبِّرُ وَالْجَلِيلُ وَالْمَلِكُ، وَهَكَذَا يَجْحَدُونَ كُلَّ صِفَةٍ ثَبَتَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُشْتَقَّ مِنْهَا غَيْرُهَا كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ بَيْنَ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهَا لَهُ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.

وَلَمْ يَرِدْ عَنِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الْإِذْنُ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِ صِفَاتِهِ وَجَحْدِ بَعْضِهَا وَتَأْوِيلِهِ ; لِأَنَّهَا لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا.

وَهَلْ يَتَصَوَّرُ عَاقِلٌ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الِاشْتِقَاقِ مُسَوِّغًا لَجَحْدِ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ؟

وَلَا شَكَّ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ رَاجَعَ عَقْلَهُ، أَنَّ عَدَمَ الِاشْتِقَاقِ لَا يُرَدُّ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ فِيمَا أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا كَلَامُ رَسُولِهِ فِيمَا وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ.

وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْإِيمَانِ إِيجَابًا حَتْمًا كُلِّيًّا هُوَ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَهَذَا السَّبَبُ هُوَ الَّذِي عَلِمَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ الْمُوجِبُ لِلْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ، سَوَاءٌ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ

ص: 273

بِعِلْمِهِ كَالْمُتَشَابِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3 \ 7] .

فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [2 \ 284] مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِالْجَمِيعِ ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.

أَمَّا الَّذِي يُفَرِّقُ بَيْنَهُ، وَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، بِأَنَّ هَذَا يُشْتَقُّ مِنْهُ، وَهَذَا لَا يُشْتَقُّ مِنْهُ فَقَدْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ.

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُتَشَابِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ يُشْتَقُّ مِنْهُ أَوْ لَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله سُئِلَ كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ.

وَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ مَثَلًا وَنَحْوَهُمَا لَيْسَتْ كَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، بِدَعْوَى أَنَّ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ مَثَلًا ظَهَرَتْ آثَارُهُمَا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا كَصِفَةِ الْيَدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يَقُولُهُ هُوَ وَأَبُوهُ وَجَدُّهُ مِنْ آثَارِ صِفَةِ الْيَدِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ آدَمَ.

وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لِلَّذِينِ مَاتُوا عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ تَشْبِيهَ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ تَنْزِيهَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ.

فَقَصْدُهُمْ حَسَنٌ، وَلَكِنَّ طَرِيقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ سَيِّئَةٌ.

وَإِنَّمَا نَشَأَ لَهُمْ ذَلِكَ السُّوءُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ ظَنُّوا لَفْظَ الصِّفَةِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ يَدُلُّ ظَاهِرُهُ عَلَى مُشَابَهَةِ صِفَةِ الْخَلْقِ فَنَفَوُا الصِّفَةَ الَّتِي ظَنُّوا أَنَّهَا لَا تَلِيقُ قَصْدًا مِنْهُمْ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ، وَأَوَّلُوهَا بِمَعْنًى آخَرَ يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ فِي ظَنِّهِمْ فَهُمْ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقًا وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ خَطَأَهُمْ، وَأَنْ يَكُونُوا دَاخِلِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 274

وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [33 \ 5] .

وَخَطَؤُهُمُ الْمَذْكُورُ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَوْ وَفَّقَهُمُ اللَّهُ لِتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ مِنَ التَّشْبِيهِ أَوَّلًا، وَجَزَمُوا بِأَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ الْخَالِقِ هُوَ التَّنْزِيهُ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ، لَسَلِمُوا مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَالِمٌ كُلَّ الْعِلْمِ، بِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ، مِمَّا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، وَلَوْ كَانَ يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ ظَاهِرَهُ لَا يَلِيقُ ; لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ، لَبَادَرَ كُلَّ الْمُبَادَرَةِ إِلَى بَيَانِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْعَقَائِدِ، وَلَا سِيَّمَا فِيمَا ظَاهِرُهُ الْكُفْرُ وَالتَّشْبِيهُ.

فَسُكُوتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيَانِ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا زَعَمَهُ الْمُئَوِّلُونَ لَا أَسَاسَ لَهُ كَمَا تَرَى.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ نَزَلَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مَثَلًا، إِلَّا كَيْفِيَّةَ الْمَعَانِي الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهَا كَالْجَارِحَةِ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَعَانِي الْيَدِ الْمَعْرُوفَةِ فِي اللُّغَةِ، فَبَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مُلَائِمَةً لِمَا ذَكَرْتُمْ.

فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْرِكُ كَيْفِيَّاتِ صِفَاتِ اللَّهِ مِنْ لُغَتِهَا، لِشِدَّةِ مُنَافَاةِ صِفَةِ اللَّهِ لِصِفَةِ الْخَلْقِ.

وَالْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ عُقُولُهُمْ كَيْفِيَّاتٍ إِلَّا لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، فَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ كَيْفِيَّةً لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، إِلَّا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةَ فِي حَاسَّةِ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ، أَمَّا سَمْعٌ لَا يَقُومُ بِأُذُنٍ، وَبَصَرٌ لَا يَقُومُ بِحَدَقَةٍ، فَهَذَا لَا يَعْرِفُونَ لَهُ كَيْفِيَّةً الْبَتَّةَ.

فَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَبَيْنَ الْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ، فَالَّذِي تَعْرِفُ كَيْفِيَّتَهُ الْعَرَبُ مِنْ لُغَتِهَا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ الْمُشَاهَدُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ.

ص: 275

وَأَمَّا الَّذِي اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ كَيْفِيَّةً، وَلَا حَدًّا لِمُخَالَفَةِ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَصْلَ الْمَعْنَى، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رحمه الله: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدَعَةٌ.

كَمَا يَعْرِفُونَ مِنْ لُغَتِهِمْ أَنَّ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالرَّازِقِ وَالْمَرْزُوقِ، وَالْمُحْيِي وَالْمُحْيَا، وَالْمُمِيتِ وَالْمَمَاتِ - فَوَارِقَ عِظْيَمَةً لَا حَدَّ لَهَا تَسْتَلْزِمُ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ، بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ لِمَنْ قَالَ: بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةً لِلْيَدِ مُلَائِمَةً لِمَا ذَكَرْتُمْ، مِنْ كَوْنِهَا صِفَةَ كَمَالٍ وَجَلَالٍ، مُنَزَّهَةً عَنْ مُشَابَهَةِ جَارِحَةِ الْمَخْلُوقِ.

هَلْ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْيَدِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: لَا. فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ.

قُلْنَا: مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الصِّفَاتِ تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ.

فَالذَّاتُ وَالصِّفَاتُ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.

فَكَمَا أَنَّ ذَاتَهُ - جَلَّ وَعَلَا - تُخَالِفُ جَمِيعَ الذَّوَاتِ، فَإِنَّ صِفَاتِهِ تُخَالِفُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّفَاتِ تَخْتَلِفُ وَتَتَبَايَنُ بِاخْتِلَافِ مَوْصُوفَاتِهَا.

أَلَّا تَرَى مَثَلًا أَنَّ لَفْظَةَ رَأْسٍ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ؟

إِنْ أَضَفْتَهَا إِلَى الْإِنْسَانِ، فَقُلْتَ: رَأَسُ الْإِنْسَانِ، وَإِلَى الْوَادِي، فَقُلْتَ: رَأَسُ الْوَادِي، وَإِلَى الْمَالِ، فَقُلْتَ: رَأْسُ الْمَالِ، وَإِلَى الْجَبَلِ، فَقُلْتَ: رَأَسُ الْجَبَلِ.

فَإِنَّ كَلِمَةَ الرَّأْسِ اخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا، وَتَبَايَنَتْ تَبَايُنًا شَدِيدًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ إِضَافَتِهَا، مَعَ أَنَّهَا فِي مَخْلُوقَاتٍ حَقِيرَةٍ.

ص: 276

فَمَا بَالُكَ بِمَا أُضِيفَ مِنَ الصِّفَاتِ إِلَى اللَّهِ، وَمَا أُضِيفَ مِنْهَا إِلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ يَتَبَايَنُ كَتَبَايُنِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، كَمَا لَا يَخْفَى.

فَاتَّضَحَ بِمَا ذُكِرَ أَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِ الْمُقْرِئِ فِي إِضَاءَتِهِ:

وَالنَّصُّ إِنْ أَوْهَمَ غَيْرَ اللَّائِقِ

شَرْطٌ مَفْقُودٌ قَطْعًا ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْوَحْيِ الْوَارِدَةَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ لَا تَدُلُّ ظَوَاهِرُهَا الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِخَلْقِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ.

فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُرَاجِعُونَ عُقُولَهُمْ، لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى ذِهْنِ الْمُسْلِمِ هُوَ مُخَالَفَةُ اللَّهِ لِخَلْقِهِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11]، وَقَوْلِهِ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [112 \ 4] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:

فَاصْرِفْهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا

إِجْمَاعٌ مَفْقُودٌ أَصْلًا، وَلَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطٍ مَفْقُودٍ لَا وُجُودَ لَهُ الْبَتَّةَ.

فَالْإِجْمَاعُ الْمَعْدُومُ الْمَزْعُومُ لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ تَابِعِيهِمْ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْمَعْرُوفِينَ.

وَإِنَّمَا لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ ظَوَاهِرَ نُصُوصِ الْوَحْيِ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ خَلْقِهِ، وَهَذَا الظَّاهِرُ الَّذِي هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ لَا دَاعِيَ لِصَرْفِهَا عَنْهُ كَمَا تَرَى.

وَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ قُلْنَا فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: إِنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى مَوْصُوفٌ

ص: 277

بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا ; لِأَنَّا نَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَكٌّ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا، لَا تَدُلُّ الْبَتَّةَ إِلَّا عَلَى التَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ وَاتِّصَافِهِ تَعَالَى بِالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ.

وَإِثْبَاتُ التَّنْزِيهِ وَالْكَمَالِ وَالْجَلَالِ لِلَّهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا - لَا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ.

وَمِمَّا يَدْعُو إِلَى التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْحَقِيقَةِ، وَنَفْيِ الْمَجَازِ، كَثْرَةُ الْجَاهِلِينَ الزَّاعِمِينَ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مَجَازَاتٌ.

وَجَعَلُوا ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى نَفْيِهَا ; لِأَنَّ الْمَجَازَ يَجُوزُ نَفْيُهُ، وَالْحَقِيقَةُ لَا يَجُوزُ نَفْيُهَا.

فَقَالُوا مَثَلًا: الْيَدُ مَجَازٌ يُرَادُ بِهِ الْقُدْرَةُ وَالنِّعْمَةُ أَوِ الْجُودُ، فَنَفَوْا صِفَةَ الْيَدِ، لِأَنَّهَا مَجَازٌ.

وَقَالُوا: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مَجَازٌ فَنَفَوُا الِاسْتِوَاءَ ; لِأَنَّهُ مَجَازٌ.

وَقَالُوا: مَعْنَى «اسْتَوَى» اسْتَوْلَى، وَشَبَّهُوا اسْتِيلَاءَهُ بِاسْتِيلَاءِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ.

وَلَوْ تَدَبَّرُوا كِتَابَ اللَّهِ لِمَنَعَهُمْ ذَلِكَ مِنْ تَبْدِيلِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، وَتَبْدِيلِ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ أَوِ النِّعْمَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [2 \ 59] ، وَيَقُولُ فِي الْأَعْرَافِ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ [7 \ 162] ، فَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ هُوَ قَوْلُهُ «حِطَّةٌ» وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ بِمَعْنَى الْوَضْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ دُعَاؤُنَا وَمَسْأَلَتُنَا لَكَ حِطَّةٌ لِذُنُوبِنَا، أَيْ حَطٌّ وَوَضْعٌ لَهَا عَنَّا فَهِيَ بِمَعْنَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِهِمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَنْ زَادُوا نُونًا فَقَالُوا: حِنْطَةٌ، وَهِيَ الْقَمْحُ.

وَأَهْلُ التَّأْوِيلِ قِيلَ لَهُمْ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، فَزَادُوا لَامًا، فَقَالُوا: اسْتَوْلَى.

ص: 278

وَهَذِهِ اللَّامُ الَّتِي زَادُوهَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالنُّونِ الَّتِي زَادَهَا الْيَهُودُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ. وَيَقُولُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي مَنْعِ تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ بَدَّلَ اسْتَوَى بِاسْتَوْلَى مَثَلًا لَمْ يَتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

فِعْلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَ التَّبْدِيلَ وَيَخَافَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، الَّذِي خَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ عَصَى اللَّهَ فَبَدَّلَ قُرْآنًا بِغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

وَالْيَهُودُ لَمْ يُنْكِرُوا أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ: هُوَ لَفْظُ حِطَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ حَرَّفُوهُ بِالزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ.

وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَمْ يُنْكِرُوا أَنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ هِيَ اسْتَوَى، وَلَكِنْ حَرَّفُوهَا وَقَالُوا فِي مَعْنَاهَا: اسْتَوْلَى وَإِنَّمَا أَبْدَلُوهَا بِهَا ; لِأَنَّهَا أَصْلَحُ فِي زَعْمِهِمْ مِنْ لَفْظِ كَلِمَةِ الْقُرْآنِ، لِأَنَّ كَلِمَةَ الْقُرْآنِ تُوهِمُ غَيْرَ اللَّائِقِ، وَكَلِمَةُ اسْتَوْلَى فِي زَعْمِهِمْ هِيَ الْمُنَزِّهَةُ اللَّائِقَةُ بِاللَّهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ تَشْبِيهٌ أَشْنَعُ مِنْ تَشْبِيهِ اسْتِيلَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمَزْعُومِ، بِاسْتِيلَاءِ بِشْرٍ عَلَى الْعِرَاقِ.

وَهَلْ كَانَ أَحَدٌ يُغَالِبُ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ حَتَّى غَلَبَهُ عَلَى الْعَرْشِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ؟

وَهَلْ يُوجَدُ شَيْءٌ إِلَّا وَاللَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهِ، فَاللَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.

وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى اسْتَوَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ الْعَرْشِ؟

فَافْهَمْ.

ص: 279

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ الْمُئَوِّلَ زَعَمَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يُوهِمُ غَيْرَ اللَّائِقِ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ مُشَابَهَةَ اسْتِوَاءِ الْخَلْقِ، وَجَاءَ بَدَلَهُ بِالِاسْتِيلَاءِ، لِأَنَّهُ هُوَ اللَّائِقُ بِهِ فِي زَعْمِهِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ.

لِأَنَّ تَشْبِيهَ اسْتِيلَاءِ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ بِاسْتِيلَاءِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى الْعِرَاقِ هُوَ أَفْظَعُ أَنْوَاعِ التَّشْبِيهِ، وَلَيْسَ بِلَائِقٍ قَطْعًا، إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ الِاسْتِيلَاءَ الْمَزْعُومَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ اسْتِيلَاءِ الْخَلْقِ، مَعَ أَنَّهُ ضَرَبَ لَهُ الْمَثَلَ بِاسْتِيلَاءِ بِشَرٍ عَلَى الْعِرَاقِ وَاللَّهُ يَقُولُ: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 74] .

وَنَحْنُ نَقُولُ: أَيُّهَا الْمُئَوِّلُ هَذَا التَّأْوِيلَ، نَحْنُ نَسْأَلُكَ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَنْزِيهِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ أَعْنِي لَفْظَ اسْتَوَى الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْمَلَكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُرْآنًا يُتْلَى، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَفَرَ.

وَلَفْظَةُ اسْتَوْلَى الَّتِي جَاءَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.

فَأَيُّ الْكَلِمَتَيْنِ أَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ فِي رَأْيِكَ. الْأَحَقُّ بِالتَّنْزِيهِ كَلِمَةُ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ عَلَى رَسُولِهِ، أَمْ كَلِمَتُكُمُ الَّتِي جِئْتُمْ بِهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِكُمْ، مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ أَصْلًا؟

وَنَحْنُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، عَنْ هَذَا السُّؤَالِ إِنْ كُنْتَ لَا تَعْرِفُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.

وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ صِفَةٍ يُشْتَقُّ مِنْهَا وَصْفٌ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْحَيَاةِ.

وَبَيْنَ صِفَةٍ لَا يُشْتَقُّ مِنْهَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ.

وَأَنَّ تَأْوِيلَ الصِّفَاتِ كَتَأْوِيلِ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ.

هُوَ مُعْتَقَدُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله.

وَهُوَ مُعْتَقَدُ عَامَّةِ السَّلَفِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ.

فَمَنِ ادَّعَى عَلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ يُئَوِّلُ صِفَةً مِنَ الصِّفَاتِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَالِاسْتِوَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدِ افْتَرَى عَلَيْهِ افْتِرَاءً عَظِيمًا.

ص: 280

بَلِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنِ الِاعْتِزَالِ، (كَالْمُوجَزِ) ، (وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ) ، (وَالْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ) أَنَّ مُعْتَقَدَهُ الَّذِي يَدِينُ اللَّهَ بِهِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ غَيْرٍ كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.

وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَأْوِيلُهُ، وَلَا الْقَوْلُ بِالْمَجَازِ فِيهِ.

وَأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ.

وَهُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ إِمَامٍ فِي مَذْهَبِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَهُ اللَّهُ إِلَى الْحَقِّ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ نُصُوصِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله لِتَعْلَمَ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ.

قَالَ رحمه الله (فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ) الَّذِي قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ آخِرُ كِتَابٍ صَنَّفَهُ، مَا نَصُّهُ:

فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ وَالرَّافِضَةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمُ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ، وَدِيَانَتَكُمُ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ، قِيلَ لَهُ:

قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا، التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا عز وجل وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ.

وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ، وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَفَعَ دَرَجَتَهُ وَأَجْزَلَ مَثُوبَتَهُ قَائِلُونَ، وَلِمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ.

لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ بِهِ الْحَقَّ وَرَفَعَ بِهِ الضَّلَالَ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمِنْهَاجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ، وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إِمَامٍ مُقَدَّمٍ وَخَلِيلٍ مُعَظَّمٍ مُفَخَّمٍ، وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.

وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا: أَنَّا نُقِرُّ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا نَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.

وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَرْدٌ صَمَدٌ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنَّ

ص: 281

مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حُقٌّ، وَالسَّاعَةُ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5]، وَأَنَّ لَهُ وَجْهًا كَمَا قَالَ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [55 \ 27]، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75]، وَكَمَا قَالَ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [5 \ 64]، وَأَنَّ لَهُ عَيْنَانِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [54 \ 14] . انْتَهَى مَحَلٌّ الْغَرَضُ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَفْتَرِي عَلَى الْأَشْعَرِيِّ - أَنَّهُ مِنَ الْمُئَوِّلِينَ الْمُدَّعِينَ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ - كَاذِبٌ عَلَيْهِ كَذِبًا شَنِيعًا.

وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ أَيْضًا فِي إِثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى مَا نَصُّهُ:

إِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ؟ قِيلَ لَهُ: نَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عز وجل مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [35 \ 10]، وَقَدْ قَالَ: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [4 \ 158]، وَقَالَ عز وجل: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [32 \ 5]، وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [40 \ 36] .

فَكَذَّبَ فِرْعَوْنُ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عليه السلام فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ اللَّهَ عز وجل فَوْقَ السَّمَاوَاتِ) . وَقَالَ عز وجل: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ.

فَالسَّمَاوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَرْشُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ قَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ، فَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَاوَاتِ. هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ الْمَذْكُورِ.

وَقَدْ أَطَالَ رحمه الله فِي الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ، وَصِفَةِ الْعُلُوِّ لِلَّهِ - جَلَّ وَعَلَا.

وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مَا نَصُّهُ:

ص: 282

وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى أَنَّهُ اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ، وَأَنَّ اللَّهَ عز وجل فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْقُدْرَةِ.

وَلَوْ كَانَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوهُ كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ، وَعَلَى كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ.

فَلَوْ كَانَ اللَّهُ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ وَهُوَ عز وجل مُسْتَوْلٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا لَكَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الْأَرْضِ وَعَلَى السَّمَاءِ وَعَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَشْيَاءِ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا.

وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقُولَ:

إِنَّ اللَّهَ عز وجل مُسْتَوٍ عَلَى الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.

وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اسْتِوَاءً يَخْتَصُّ الْعَرْشَ دُونَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا.

وَزَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْحَرُورِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل فِي كُلِّ مَكَانٍ فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُ فِي بَطْنِ مَرْيَمَ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْأَخْلِيَةِ.

وَهَذَا خِلَافُ الدِّينِ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ. اهـ.

هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله فِي آخِرِ مُصَنَّفَاتِهِ، وَهُوَ كِتَابُ الْإِبَانَةِ عَنْ أُصُولِ الدِّيَانَةِ.

وَتَرَاهُ صَرَّحَ رحمه الله بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْحَرُورِيَّةِ لَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَقَامَ الْبَرَاهِينَ الْوَاضِحَةَ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ.

فَلْيَعْلَمْ مُئَوِّلُو الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ أَنَّ سَلَفَهُ فِي ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْحَرُورِيَّةُ، لَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله وَلَا أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الْآيَةَ [6 \ 3] أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ: إِنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ - قَوْلٌ بَاطِلٌ.

ص: 283

لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَمْكِنَةِ الْمَوْجُودَةِ أَحْقَرُ وَأَقَلُّ وَأَصْغَرُ، مِنْ أَنْ يَسَعَ شَيْءٌ مِنْهَا خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ.

فَانْظُرْ إِيضَاحَ ذَلِكَ فِي الْأَنْعَامِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَلَةِ، مِنْ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِنْ صِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْجِهَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ وَالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ، وَتَأْوِيلُهَا بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَانِي كُلُّهُ بَاطِلٌ.

وَسَبَبُهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمُدَّعِي لُزُومِ الْجِهَةِ لِظَوَاهِرِ نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ. وَاسْتِلْزَامُ ذَلِكَ لِلنَّقْصِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ يُقَالُ لَهُ:

مَا مُرَادُكَ بِالْجِهَةِ؟

إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَكَانًا مَوْجُودًا انْحَصَرَ فِيهِ اللَّهُ، فَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ الْعَدَمَ الْمَحْضَ.

فَالْعَدَمُ عِبَارَةٌ عَنْ لَا شَيْءٍ.

فَمَيِّزْ أَوَّلًا بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ، وَبَيْنَ لَا شَيْءٍ.

وَقَدْ قَالَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ أَيْضًا مَا نَصُّهُ:

فَإِنْ سُئِلْنَا: أَتَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ يَدَيْنِ؟ قِيلَ: نَقُولُ ذَلِكَ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عز وجل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [48 \ 10]، وَقَوْلُهُ عز وجل: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] .

وَأَطَالَ رحمه الله الْكَلَامَ فِي ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَةِ الْيَدَيْنِ لِلَّهِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ مَا نَصُّهُ:

وَيُقَالُ لَهُمْ: لِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل عَنَى بِقَوْلِهِ: يَدَيَّ يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ.

فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّ الْيَدَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً.

ص: 284

قِيلَ لَهُمْ: وَلِمَ قَضَيْتُمْ أَنَّ الْيَدَ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً؟

فَإِنَّ رُجُوعَنَا إِلَى شَاهِدِنَا، وَإِلَى مَا نَجِدُهُ فِيمَا بَيْنَنَا مِنَ الْخَلْقِ؟

فَقَالُوا: الْيَدُ إِذَا لَمْ تَكُنْ نِعْمَةً فِي الشَّاهِدِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا جَارِحَةً.

قِيلَ لَهُمْ: إِنْ عَمِلْتُمْ عَلَى الشَّاهِدِ وَقَضَيْتُمْ بِهِ عَلَى اللَّهِ عز وجل فَكَذَلِكَ لَمْ نَجِدْ حَيًّا مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا جِسْمًا لَحْمًا وَدَمًا، فَاقْضُوا بِذَلِكَ عَلَى اللَّهِ عز وجل.

وَإِلَّا فَأَنْتُمْ لِقَوْلِكُمْ مُتَأَوِّلُونَ وَلِاعْتِلَالِكُمْ نَاقِضُونَ.

وَإِنْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا لَا كَالْأَحْيَاءِ مِنَّا.

فَلِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْيَدَانِ اللَّتَانِ أَخْبَرَ اللَّهُ عز وجل عَنْهُمَا، يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ، وَلَا جَارِحَتَيْنِ، وَلَا كَالْأَيْدِي؟

وَكَذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ:

لَمْ تَجِدُوا مُدَبِّرًا حَكِيمًا إِلَّا إِنْسَانًا، ثُمَّ أَثْبَتُّمْ أَنَّ لِلدُّنْيَا مُدَبِّرًا حَكِيمًا، لَيْسَ كَالْإِنْسَانِ، وَخَالَفْتُمُ الشَّاهِدَ وَنَقَضْتُمُ اعْتِلَالَكُمْ.

فَلَا تَمْنَعُوا مِنْ إِثْبَاتِ يَدَيْنِ لَيْسَتَا نِعْمَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الشَّاهِدِ انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رحمه الله يَعْتَقِدُ أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْكَرَهَا الْمُئَوِّلُونَ كَصِفَةِ الْيَدِ، مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ وَنَحْوِهَا، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ الْبَتَّةَ بَيْنَ صِفَةِ الْيَدِ وَصِفَةِ الْحَيَاةِ فَمَا اتَّصَفَ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْخَلْقُ مِنْهُ.

وَاللَّازِمُ لِمَنْ شَبَّهَ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ وَنَزَّهَ فِي بَعْضِهَا أَنْ يُشْبِّهَ فِي جَمِيعِهَا أَوْ يُنَزِّهَ فِي جَمِيعِهَا، كَمَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ.

أَمَّا ادِّعَاءُ ظُهُورِ التَّشْبِيهِ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، فَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ خَلْقِهِ.

وَمِنْ جُمْلَةِ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ مَا نَصُّهُ:

ص: 285

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [36 \ 71]، وَقَوْلُهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] عَلَى الْمَجَازِ؟ .

قِيلَ لَهُ: حُكْمُ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَا يَخْرُجُ الشَّيْءُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى الْمَجَازِ إِلَّا لِحُجَّةٍ.

أَلَا تَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْكَلَامِ الْعُمُومَ، فَإِذَا وَرَدَ بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، فَلَيْسَ هُوَ عَلَى حَقِيقَةِ الظَّاهِرِ؟

وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ عَنِ الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ؟

كَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ ظَاهِرِ الْيَدَيْنِ إِلَى مَا ادَّعَاهُ خُصُومُنَا إِلَّا بِحُجَّةٍ.

وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِمُدَّعٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، فَهُوَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا ظَاهَرُهُ الْخُصُوصُ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.

وَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا لِمُدَّعِيهِ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ لَمْ يَجُزْ لَكُمْ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ أَنَّهُ مَجَازٌ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.

بَلْ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ إِثْبَاتُ يَدَيْنِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرَ نِعْمَتَيْنِ إِذَا كَانَتِ النِّعْمَتَانِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: فَعَلْتُ بِيَدِيَّ وَهُوَ يَعْنِي النِّعْمَتَيْنِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَفِيهِ تَصْرِيحُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله، بِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ كَصِفَةِ الْيَدِ ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَأَنَّ الْمُدَّعِينَ أَنَّهَا مَجَازٌ هُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ كَمَا تَرَى.

وَإِنَّمَا قَالَ رحمه الله: إِنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ اللَّهِ هُوَ مُخَالَفَةُ صِفَةِ الْخَلْقِ، وَتَنْزِيهُهَا عَنْ مُشَابَهَتِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ كُلِّهِمْ.

فَإِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ وَنَفْيُ الْمَجَازِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ مُسْلِمٍ طَاهِرِ الْقَلْبِ مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ إِلَّا أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.

ص: 286

فَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَفْيِ الصِّفَةِ وَتَأْوِيلِهَا بِمَعْنًى لَا أَصْلَ لَهُ.

تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ

فَإِنْ قِيلَ: دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [5 \ 64]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الْآيَةَ [39 \ 67] .

وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ الْأَيْدِي مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [36 \ 71] ، فَلِمَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ آيَةِ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ عَلَى آيَةِ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صِيَغَ الْجُمُوعِ تَأْتِي لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إِرَادَةُ التَّعْظِيمِ فَقَطْ، فَلَا يَدْخُلُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ تَعَدُّدٌ أَصْلًا، لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ الْمُرَادَ بِهَا التَّعْظِيمُ - إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ.

وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يَكْثُرُ فِيهِ جِدًّا إِطْلَاقُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَلَى نَفْسِهِ صِيغَةَ الْجَمْعِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَدُّدًا وَلَا أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.

فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا وَفِي قَوْلِهِ: نَحْنُ وَفِي قَوْلِهِ: نَزَّلْنَا وَقَوْلِهِ: لَحَافِظُونَ لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ مَعَهُ مُنَزِّلًا لِلذِّكْرِ، وَحَافِظًا لَهُ غَيْرَهُ تَعَالَى.

بَلْ هُوَ وَحْدَهُ الْمُنَزِّلُ لَهُ وَالْحَافِظُ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 58 - 59]، وَقَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69]، وَقَوْلُهُ: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 72] ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا. وَفِي قَوْلِهِ: خَلَقْنَا وَفِي قَوْلِهِ: عَمِلَتْ أَيْدِينَا إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، وَلَا يُرَادُ بِهَا التَّعَدُّدُ أَصْلًا.

ص: 287

وَإِذَا كَانَ يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، لَا التَّعَدُّدُ؛ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِهَا مُعَارِضَةُ قَوْلِهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى صِفَةِ الْيَدَيْنِ. وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: أَيْدِينَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ.

وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ فَيَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْظِيمِ وَاحِدٌ حُكِمَ بِذَلِكَ، كَالْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ.

وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ حُكِمَ بِهِ.

فَقَوْلُهُ مَثَلًا: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] ، قَامَ فِيهِ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ أَنَّهُ حَافِظٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 59] ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69] ، أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 72] ، فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ وَاحِدٌ، وَمُنْزِلٌ وَاحِدٌ، وَمُنْشِئٌ وَاحِدٌ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [36 \ 71]، فَقَدْ دَلَّ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.

وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: لَحَافِظُونَ [15 \ 9]، وَقَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [56 \ 59]، وَقَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69]، وَقَوْلِهِ: أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [56 \ 72]، وَقَوْلِهِ: خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [36 \ 71] ، لَا يُرَادُ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ فَقَطْ.

وَقَدْ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي الْمَعْنَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالًا خَاصًّا، بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا تُقْصَدُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّعْمَةُ وَلَا الْجَارِحَةُ وَلَا الْقُدْرَةُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَى أَمَامٍ.

وَاللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ لَفْظَةُ الْيَدَيْنِ الَّتِي أُضِيفَتْ إِلَيْهَا لَفْظَةُ «بَيْنَ» خَاصَّةً، أَعْنِي لَفْظَةَ «بَيْنَ يَدَيْهِ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَمَامُهُ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعْنَى الْجَارِحَةِ وَلَا النِّعْمَةِ وَلَا الْقُدْرَةِ، وَلَا أَيَّ صِفَةٍ كَائِنَةٍ مَا كَانَتْ.

ص: 288

وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَمَامٌ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [34 \ 31] ، أَيْ وَلَا بِالَّذِي كَانَ أَمَامَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ مِنَ الْكُتُبِ.

وَكَقَوْلِهِ: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ [5 \ 46] ، أَيْ مُصَدِّقًا لِمَا كَانَ أَمَامَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.

وَكَقَوْلِهِ: فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [41 \ 25] ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» مَا أَمَامَهُمْ.

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [7 \ 57] ، أَيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أَمَامَ رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَطَرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ بِنِعْمَتَيْنِ وَلَا قُدْرَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ. وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَهَذَا أُسْلُوبٌ خَاصٌّ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ. بِلَفْظٍ خَاصٍّ مَشْهُورٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجَارِحَةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَلَا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَافْهَمْ.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ «مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ» الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالْمُئَوِّلِينَ وَالنَّافِينَ لِصِفَاتِ اللَّهِ أَوْ بَعْضِهَا مَا نَصُّهُ:

جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.

وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَى عَرْشِهِ، كَمَا قَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5]، وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75]، وَكَمَا قَالَ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [5 \ 64] . إِلَى أَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ هَذَا بَعْدَ أَنْ سَرَدَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - مَا نَصُّهُ:

فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ وَيَرَوْنَهُ، وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ، وَإِلَيْهِ

ص: 289

نَذْهَبُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بِاللَّهِ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيُثْبِتُهُ لِلَّهِ، بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ:

وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا قَالَ عز وجل: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ، بَلْ نَقُولُ: اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ. ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ رحمه الله فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ: وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَتَرَاهُ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ، بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا قَوْلُهُ هُوَ، وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.

وَزَادَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْحَرُورِيَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا.

وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنِ الِاعْتِزَالِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] .

وَاعْلَمْ أَنَّ أَئِمَّةَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ رَجَعُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَاقِبَةِ ; لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا، لَا تَلِيقُ بِاللَّهِ لِظُهُورِهَا وَتَبَادُرِهَا فِي مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.

ثُمَّ نَفْيِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ الْمَشْئُومَةِ، ثُمَّ تَأْوِيلِهَا بِأَشْيَاءَ أُخَرَ، دُونَ مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.

وَكُلُّ مَذْهَبٍ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالْعَاقِلِ الْمُفَكِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ.

ص: 290

وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ صَادِرٌ عَنْ خَبِيرٍ بِاللَّهِ، وَبِصِفَاتِهِ عَالِمٌ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [25 \ 59] .

فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا، بَعْدَ قَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ، تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّحْمَنَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ خَبِيرٌ بِالرَّحْمَنِ وَبِصِفَاتِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ اللَّائِقُ مِنَ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ اللَّائِقِ.

فَالَّذِي نَبَّأَنَا بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ هُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [35 \ 14] .

وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ - غَيْرُ خَبِيرٍ، نَعَمْ وَاللَّهِ هُوَ غَيْرُ خَبِيرٍ.

وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمَشْهُورِينَ رَجَعُوا كُلُّهُمْ عَنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ.

أَمَّا كَبِيرُهُمُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بِالصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَيَمْنَعُ تَأْوِيلَهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَيَقُولُ فِيهَا بِمِثْلِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ كَلَامِهِ.

قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ:

بَابٌ فِي أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ لِلَّهِ عز وجل وَجْهًا وَيَدَيْنِ؟ قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [55 \ 27] .

وَقَوْلُهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ.

فَإِنْ قَالُوا: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللُّغَةِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، كَمَا يُقَالُ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدٌ بَيْضَاءُ. يُرَادُ بِهِ نِعْمَةٌ.

ص: 291

وَكَمَا يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ فِي يَدِ فُلَانٍ وَتَحْتَ يَدِ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِي مُلْكِهِ.

وَيُقَالُ: رَجُلٌ أَيْدٍ إِذَا كَانَ قَادِرًا.

وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا [36 \ 71]، يُرِيدُ عَمِلْنَا بِقُدْرَتِنَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يَعْنِي بِقُدْرَتِي أَوْ نِعْمَتِي.

يُقَالُ لَهُمْ هَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: بِيَدَيَّ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ يَدَيْنِ هُمَا صِفَةٌ لَهُ.

فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِمَا الْقُدْرَةُ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَتَانِ.

وَأَنْتُمْ لَا تَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْبَارِّي سُبْحَانَهُ قُدْرَةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتُوا لَهُ قُدْرَتَيْنِ؟

وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَالنَّافِينَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَالَى قُدْرَتَانِ فَبَطَلَ مَا قُلْتُمْ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِنِعْمَتَيْنِ ; لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَعَلَى غَيْرِهِ لَا تُحْصَى.

وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رَفَعْتُ الشَّيْءَ بِيَدَيَّ أَوْ وَضَعْتُهُ بِيَدَيَّ أَوْ تَوَلَّيْتُهُ بِيَدَيَّ وَهُوَ يَعْنِي نِعْمَتَهُ.

وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدَانِ يَعْنِي نِعْمَتَيْنِ.

وَإِنَّمَا يُقَالُ لِي عِنْدَهُ يَدَانِ بَيْضَاوَانِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ: يَدٌ - لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ.

وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذَلِكَ إِبْلِيسُ، وَعَنْ أَنْ يَقُولَ: وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلِيَّ يَقْتَضِي أَنْ أَسْجُدَ لَهُ، وَأَنَا أَيْضًا بِيَدِكَ خَلَقْتَنِي الَّتِي هِيَ قُدْرَتُكَ وَبِنِعْمَتِكَ خَلَقْتَنِي؟

وَفِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ آدَمَ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ - دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ.

ص: 292

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً؟ إِذْ كُنْتُمْ لَمْ تَعْقِلُوا يَدَ صِفَةٍ وَوَجْهَ صِفَةٍ لَا جَارِحَةً.

يُقَالُ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجِبُ إِذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ.

وَكَمَا لَا يَجِبُ مَتَى كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا، لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمَ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إِلَّا كَذَلِكَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَرَى أَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ، وَصِفَةَ الْيَدِ، وَصِفَةَ الْعِلْمِ، وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ كُلَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي، وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا، وَجَمِيعُ صِفَاتِ اللَّهِ مُخَالَفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ خَلْقِهِ.

وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ:

فَإِنْ قَالُوا: فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟

قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5]، وَقَالَ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [35 \ 10]، وَقَالَ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ.

وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَكَانَ فِي جَوْفِ الْإِنْسَانِ وَفَمِهِ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْأَمَاكِنِ إِذْ خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُ، وَيَنْقُصَ بِنُقْصَانِهَا إِذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ.

وَلَصَحَّ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ إِلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى وَرَاءِ ظُهُورِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَشَمَائِلِنَا.

وَهَذَا مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ رحمه الله: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ

مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ

لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقَهْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا قَاهِرًا عَزِيزًا مُقْتَدِرًا.

وَقَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [25 \ 59] ، يَقْتَضِي اسْتِفْتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَيُبْطِلُ مَا قَالُوهُ.

ص: 293

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَفَصِّلُوا لِي صِفَاتَ ذَاتِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، لِأَعْرِفَ ذَلِكَ.

قِيلَ لَهُ: صِفَاتُ ذَاتِهِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا.

وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْإِرَادَةُ وَالْبَقَاءُ وَالْوَجْهُ وَالْعَيْنَانِ وَالْيَدَانِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَقَدْ نَقَلْنَاهُ مِنْ نُسْخَةٍ هِيَ أَجْوَدُ نُسْخَةٍ مَوْجُودَةٍ لِكِتَابِ التَّمْهِيدِ لِلْبَاقِلَانِيِّ الْمَذْكُورِ.

وَتَرَى تَصْرِيحَهُ فِيهَا بِأَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ، أَبَا الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيَّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَرَّرَ التَّأْوِيلَ وَانْتَصَرَ لَهُ فِي كِتَابِهِ الْإِرْشَادِ.

وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ الْعَقِيدَةُ النِّظَامِيَّةُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا:

اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَامْتَنَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ فَحْوَاهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مُوجَبِ مَا تُبْرِزُهُ أَفْهَامُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ مِنْهَا.

فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا، وَالْتِزَامَ هَذَا الْمَنْهَجِ فِي آيِ الْكِتَابِ، وَفِيمَا صَحَّ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ.

وَالَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا وَنَدِينُ لِلَّهِ بِهِ عَقَدًا - اتِّبَاعُ سَلَفِ الْأُمَّةِ، فَالْأَوْلَى الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعَ، وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ.

وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُشْتَغِلُونَ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ.

وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جُهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدَ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا.

ص: 294

فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوِّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.

فَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ التَّأْوِيلِ كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ بِحَقٍّ.

فَعَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ.

وَمِمَّا اسْتُحْسِنَ مِنْ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5]، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.

فَلْتُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ وَقَوْلَهُ: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [38 \ 75] ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [55 \ 27]، وَقَوْلَهُ: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [54 \ 14] ، وَمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ عليه السلام كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى. انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ رُجُوعَ الْجُوَيْنِيِّ فِيهَا إِلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.

وَكَذَلِكَ أَبُو حَامِدِ الْغَزَالِيِّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ.

وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: إِلْجَامُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ - هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ، أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْبُرْهَانَ الْكُلِّيَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ وَحْدَهُ يَنْكَشِفُ بِتَسْلِيمِ أَرْبَعَةِ أُصُولٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ.

ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.

الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ بَلَّغَ كُلَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحِ الْعِبَادِ فِي مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا.

ص: 295

الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَحْرَاهُمْ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهِ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ.

وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فِي طُولِ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ أَعْمَارِهِمْ مَا دَعَوُا الْخَلْقَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الدِّينِ أَوْ عِلْمِ الدِّينِ لَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَدَعَوْا إِلَيْهِ أَوْلَادَهُمْ وَأَهْلَهُمْ.

ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ نَعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْحَقَّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابَ مَا رَأَوْهُ.

انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْغَزَالِيِّ هَذَا لِأَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ - اسْتِدْلَالٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَوُضُوحِ وَجْهِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ سَائِغًا أَوْ لَازِمًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَلِقَالَ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَابَعُوهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ إِلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعَلَى صَدْرِهِ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ رحمه الله.

وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ أَعْظَمَ أَئِمَّةِ التَّأْوِيلِ - رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ هِيَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ.

وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابَهُ: أَقْسَامُ اللَّذَّاتِ: لَقَدِ اخْتَبَرْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَلَمْ أَجِدْهَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَلَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ، أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [20 \ 5] ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [35 \ 10]، وَفِي النَّفْيِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [42 \ 11] ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [19 \ 65] ، وَمُنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. اهـ.

وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَبْيَاتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:

نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ

وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ

وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا

وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا

سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلٌ وَقَالُ

ص: 296

إِلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ.

وَكَذَلِكَ غَالِبُ أَكَابِرِ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِمْ أَمْرُهُمْ إِلَى الْحَيْرَةِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا كَانُوا يُقَرِّرُونَ.

وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْفَلْسَفَةِ أَنَّهُ قَالَ:

وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟

وَذَكَرُوا عَنِ الشِّهْرِسْتَانِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارَعًا سِنَّ نَادِمٍ وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

فَيَا أَيُّهَا الْمُعَاصِرُونَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِدَعْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا خَبِيثٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّشْبِيهَ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ نَفْيُهَا وَتَأْوِيلُهَا بِمَعَانٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَقُلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ.

فَمَنْ هُوَ سَلَفُكُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الْمُخَالِفَةِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ؟

إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ، وَأَنَّهُ سَلَفُكُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْكُمْ وَمِنْ دَعْوَاكُمْ.

وَهُوَ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ، كَمَا أَوْضَحْنَا كَلَامَهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْمَقَالَاتِ.

وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسَاطِينَ الْقَوْلِ بِالتَّأْوِيلِ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ اتِّبَاعُ مَذْهَبِ السَّلَفِ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرْنَا.

فَنُوصِيكُمْ وَأَنْفُسَنَا بِتَقْوَى اللَّهِ، وَأَلَّا تُجَادِلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاكُمْ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [40 \ 56] .

ص: 297

وَيَقُولُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [31 \ 20 - 21] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الِاجْتِهَادِ.

اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّا قَدَّمْنَا بُطْلَانَ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ بِمَنْعِ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا، وَأَنَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ مَا هُوَ صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ الْكَرِيمِ، وَبَسَطْنَا أَدِلَّةَ ذَلِكَ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [21 \ 78] .

وَبَيَّنَّا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 \ 36] ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَغَرَضُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَانْتِفَاعَ مُتَدَبِّرِهِ بِالْعَمَلِ بِمَا عَلِمَ مِنْهُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحْصِيلِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ بِشُرُوطِهِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ.

اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِمَنْعِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُطْلَقًا إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ، يَقُولُونَ: إِنَّ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ هِيَ كَوْنُ الْمُجْتَهِدِ بَالِغًا، عَاقِلًا شَدِيدَ الْفَهْمِ.

طَبْعًا عَارِفًا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، الَّذِي هُوَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، حَتَّى يَرِدُ نَقْلٌ صَارِفٌ عَنْهُ.

عَارِفًا بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَبِالنَّحْوِ مِنْ صَرْفٍ وَبَلَاغَةٍ مَعَ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعُرْفِيَّةِ.

وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْ فَنِّ الْمَنْطِقِ كَشَرَائِطِ الْحُدُودِ، وَالرُّسُومِ، وَشَرَائِطِ الْبُرْهَانِ.

عَارِفًا بِالْأُصُولِ، عَارِفًا بِأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

ص: 298

وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُمْ حِفْظُ النُّصُوصِ، بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمْ عِلْمُهُ بِمَدَارِكِهَا فِي الْمُصْحَفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ.

عَارِفًا بِمَوَاقِعَ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ.

عَارِفًا بِشُرُوطِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْآحَادِ وَالصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ.

عَارِفًا بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ.

عَارِفًا بِأَسْبَابِ النُّزُولِ.

عَارِفًا بِأَحْوَالِ الصَّحَابَةِ، وَأَحْوَالِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ، اخْتَلَفُوا فِي شَرْطِ عَدَمِ إِنْكَارِهِ لِلْقِيَاسِ. اهـ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي اشْتِرَاطِهِمْ لِهَذِهِ الشُّرُوطِ لَيْسَ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ يُصَرِّحُ بِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ كُلَّهَا لَا يَصِحُّ دُونَهَا عَمَلٌ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجْمَاعًا دَالًّا عَلَى ذَلِكَ.

وَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فِي ظَنِّهِمْ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُشْتَرَطُ لَهُ إِلَّا شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِحُكْمِ مَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْهُمَا.

وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ شَرْطٌ زَائِدٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحُكْمِهِ الْبَتَّةَ.

وَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ.

وَمُرَادُ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ بِجَمِيعِ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطُوهَا هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ.

لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْوَحْيِ لَمَّا كَانَ هُوَ مَنَاطَ الْعَمَلِ بِهِ أَرَادُوا أَنْ يُحَقِّقُوا هَذَا الْمَنَاطَ، أَيْ يُبَيِّنُوا الطُّرُقَ الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا حُصُولُ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْعَمَلِ.

فَاشْتَرَطُوا جَمِيعَ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ دُونَهَا.

وَهَذَا الظَّنُّ فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ فَهْمٌ إِذَا أَرَادَ الْعَمَلَ بِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَلَا

ص: 299

يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَعْنَاهُ وَيَبْحَثَ عَنْهُ، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مُخَصَّصٌ أَوْ مُقَيَّدٌ حَتَّى يَعْلَمَ ذَلِكَ فَيَعْمَلَ بِهِ.

وَسُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هَلْ لِهَذَا النَّصِّ نَاسِخٌ أَوْ مُخَصِّصٌ أَوْ مُقَيِّدٌ مَثَلًا. وَإِخْبَارُهُمْ بِذَلِكَ لَيْسَ مَنْ نَوْعِ التَّقْلِيدِ، بَلْ هُوَ مَنْ نَوْعِ الِاتِّبَاعِ.

وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهَ الْفَرْقَ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ فِي مَسْأَلَةِ التَّقْلِيدِ الْآتِيَةِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَارِدَةٌ بِإِلْزَامِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّخْصِيصُ بِمَنْ حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمَذْكُورَةَ. وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهَا لِنُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِتَحْصِيلِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [7 \ 3] ، وَالْمُرَادُ بِـ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هُوَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الْمُبَيِّنَةُ لَهُ لَا آرَاءُ الرِّجَالِ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [4 \ 61] .

فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَنَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَصَدَّ عَنْ ذَلِكَ - أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.

وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4 \ 59] ، وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ.

وَتَعْلِيقُهُ الْإِيمَانَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ عَلَى رَدِّ التَّنَازُعِ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يَرُدُّ التَّنَازُعَ إِلَى غَيْرِهِمَا لَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [39 \ 55] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، وَالسُّنَّةُ

ص: 300

مُبَيِّنَةٌ لَهُ، وَقَدْ هَدَّدَ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [39 \ 18] ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ أَحْسَنُ مِنْ آرَاءِ الرِّجَالِ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [59 \ 7]، وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ فِيهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَقْوَالَ الرِّجَالِ تَكْفِي عَنْهَا.

وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [33 \ 21]، وَالْأُسْوَةُ: الِاقْتِدَاءُ، فَيَلْزَمُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَجْعَلَ قُدْوَتَهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [4 \ 65] ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [28 \ 50] .

وَالِاسْتِجَابَةُ لَهُ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاتِهِ هِيَ الرُّجُوعُ إِلَى سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لِكِتَابِ اللَّهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَتَّبِعُ شَيْئًا إِلَّا الْوَحْيَ، وَأَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.

قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [6 \ 50] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَحْقَافِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [46 \ 9] .

ص: 301

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ الْآيَةَ [21 \ 45] ، فَحَصَرَ الْإِنْذَارَ فِي الْوَحْيِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي الْآيَةَ [34 \ 50] ، فَبَيَّنَ أَنَّ الِاهْتِدَاءَ إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ.

وَإِذَا عَلِمْتَ مِنْهَا أَنَّ طَرِيقَهُ صلى الله عليه وسلم هِيَ اتِّبَاعُ الْوَحْيِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [4 \ 80]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [3 \ 31] .

وَلَمْ يَضْمَنِ اللَّهُ لِأَحَدٍ أَلَّا يَكُونَ ضَالًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا لِمُتَّبِعِي الْوَحْيِ وَحْدَهُ.

قَالَ تَعَالَى فِي طه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [20 \ 123] ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَةُ طه هَذِهِ عَلَى انْتِفَاءِ الضَّلَالِ وَالشَّقَاوَةِ عَنْ مُتَّبِعِي الْوَحْيِ.

وَدَلَّتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ عَلَى انْتِفَاءِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [2 \ 38] .

وَلَا شَكَّ أَنَّ انْتِفَاءَ الضَّلَالِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْ مُتَّبِعِي الْوَحْيِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ، لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَنْ يُقَلِّدُ عَالِمًا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ، لَا يَدْرِي أَصَوَابٌ مَا قَلَّدَهُ فِيهِ أَمْ خَطَأٌ. فِي حَالِ كَوْنِهِ مُعْرِضًا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ آرَاءَ الْعَالِمَ الَّذِي قَلَّدَهُ، كَافِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ، عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى لُزُومِ اتِّبَاعِ الْوَحْيِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، لَا تَكَادُ تُحْصَى، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَكَادُ تُحْصَى ; لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةُ اللَّهِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [59 \ 7] ،

ص: 302

وَقَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [3 \ 132] .

وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [3 \ 32] .

وَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [4 \ 69] .

وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [33 \ 71] .

وَقَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [4 \ 80] .

وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [4 \ 59] .

وَقَالَ تَعَالَى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [4 \ 13 - 14] .

وَقَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [5 \ 92] .

وَقَالَ تَعَالَى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [8 \ 1] .

وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [24 \ 54] .

وَقَالَ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [24 \ 56] .

وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [47 \ 33] .

ص: 303

وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [24 \ 51 - 52] .

وَقَالَ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [33 \ 21] .

وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [9 \ 71] .

وَلَا شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ، مَحْصُورَةٌ فِي الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

فَنُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى لُزُومٍ تُدَبُّرِ الْوَحْيِ، وَتَفَهُّمِهِ وَتَعْلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَتَخْصِيصُ تِلْكَ النُّصُوصِ كُلِّهَا، بِدَعْوَى أَنَّ تَدَبُّرَ الْوَحْيِ وَتَفَهُّمَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ: لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَّا لِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ الْجَامِعِينَ لِشُرُوطِ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ - يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ.

بَلْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ تَدَبُّرِ الْوَحْيِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَالْعَمَلِ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مِنْهُ، عِلْمًا صَحِيحًا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ يَتَدَاخَلُ بَعْضُ الْكَلَامِ فِيهَا، مَعَ بَعْضِ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَهُمَا شِبْهُ الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي التَّقْلِيدِ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا وَأَقْسَامِهِ وَبَيَانِ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ

اعْلَمْ أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي اللُّغَةِ: هُوَ جَعْلُ الْقِلَادَةِ فِي الْعُنُقِ.

وَتَقْلِيدُ الْوُلَاةِ هُوَ جَعْلُ الْوِلَايَاتِ قَلَائِدَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَقِيطٍ الْإِيَادِيِّ:

وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ رَحْبَ

الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُضْطَلِعَا

وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: فَهُوَ الْأَخْذُ بِمَذْهَبِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ مُعَرَّفَةِ دَلِيلِهِ.

وَالْمُرَادُ بِالْمَذْهَبِ هُوَ مَا يَصِحُّ فِيهِ الِاجْتِهَادُ خَاصَّةً.

ص: 304

وَلَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ الْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةً ثَابِتَةً، سَالِمًا مِنَ الْمُعَارِضِ ; لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، لَا تَسُوغُ مُخَالَفَتُهُمَا الْبَتَّةَ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ فَيَجِبُ التَّفَطُّنُ ; لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي فِيهِ التَّقْلِيدُ يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ الْوَحْيِ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارِضِ.

قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ: مُخْتَصَرًا عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مَا نَصُّهُ:

(وَالْمَذْهَبُ لُغَةً: الطَّرِيقُ وَمَكَانُ الذَّهَابِ، ثُمَّ صَارَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ إِمَامٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَقَوْلُهُ: مِنَ الْأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَذْهَبِ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَوَاقِعَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ السَّالِمَةِ مِنَ الْمُعَارِضِ.

وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا خِلَافَ فِيهِ ; لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ إِذَا أَقَامَ بِاجْتِهَادِهِ دَلِيلًا، مُخَالِفًا لِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَنَّ دَلِيلَهُ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ.

وَأَنَّهُ يَرُدُّ بِالْقَادِحِ الْمُسَمَّى فِي الْأُصُولِ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ.

وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ الَّذِي هُوَ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ لِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مِنَ الْقَوَادِحِ الَّتِي لَا نِزَاعَ فِي إِبْطَالِ الدَّلِيلِ بِهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي الْقَوَادِحِ:

وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادًا

لِاعْتِبَارِ كُلِّ مَنْ وَعَى وَبِمَا ذَكَرْنَا

تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا اجْتِهَادَ أَصْلًا وَلَا تَقْلِيدَ أَصْلًا فِي شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ.

وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَجَازَ التَّقْلِيدَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ نُصُوصِ الْوَحْيِ، كَمَا ذَكَرْنَا عَنِ الصَّاوِيِّ وَأَضْرَابِهِ.

وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُقَلِّدِينَ لِلْمَذَاهِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَأَزْمَانٍ قَبْلَهُ.

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَنَعَ التَّقْلِيدَ مُطْلَقًا، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّوْكَانِيُّ فِي الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي أَدِلَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ.

ص: 305

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ التَّقْلِيدَ مِنْهُ مَا هُوَ جَائِزٌ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَمِنْهُ مَا خَالَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمُفَضَّلَةِ.

وَسَنَذْكُرُ كُلَّ الْأَقْسَامِ هُنَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ بَيَانِ الْأَدِلَّةِ.

أَمَّا التَّقْلِيدُ الْجَائِزُ الَّذِي لَا يَكَادُ يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ تَقْلِيدُ الْعَامِّيِّ عَالِمًا أَهْلًا لَلْفُتْيَا فِي نَازِلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّقْلِيدِ كَانَ شَائِعًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا خِلَافَ فِيهِ.

فَقَدْ كَانَ الْعَامِّيُّ يَسْأَلُ مَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ حُكْمِ النَّازِلَةِ تَنْزِلُ بِهِ، فَيُفْتِيهِ فَيَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ.

وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أُخْرَى لَمْ يَرْتَبِطْ بِالصَّحَابِيِّ الَّذِي أَفْتَاهُ أَوَّلًا بَلْ يَسْأَلُ عَنْهَا مَنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَعْمَلُ بِفُتْيَاهُ.

قَالَ صَاحِبُ نَشْرِ الْبُنُودِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ:

رُجُوعُهُ لِغَيْرِهِ فِي آخَرِ يَجُوزُ

لِلْإِجْمَاعِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ مَا نَصُّهُ

: يَعْنِي أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجُوزُ لَهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي اسْتَفْتَاهُ أَوَّلًا فِي حُكْمٍ آخَرَ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لِلْعَامِّيِّ السُّؤَالُ لِكُلِّ عَالِمٍ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَهَا حُكْمُ نَفْسِهَا.

فَكَمَا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْأَوَّلُ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى. قَالَهُ الْحَطَّابُ شَارِحُ مُخْتَصَرِ الْخَلِيلِ.

قَالَ الْقَرَافِيُّ: انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ.

وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَفْتَى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَقَلَّدَهُمَا فَلَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَغَيْرَهُمَا، وَيَعْمَلَ بِقَوْلِهِمْ بِغَيْرِ نَكِيرٍ.

فَمَنِ ادَّعَى رَفْعَ هَذَيْنِ الْإِجْمَاعَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَمَا ذَكَرَهُ مِنِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعَيْنِ صَحِيحٌ كَمَا لَا يَخْفَى، فَالْأَقْوَالُ الْمُخَالِفَةُ لَهُمَا مِنْ مُتَأَخِّرِي الْأُصُولِيِّينَ كُلِّهَا - مُخَالِفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ.

ص: 306

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّ تَقْلِيدَ الْعَامِّيِّ الْمَذْكُورِ لِلْعَالَمِ وَعَمَلِهِ بِفُتْيَاهُ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَشْرُوعٌ مُجْمَعٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ.

وَأَمَّا مَا لَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ بِجَائِزٍ بِلَا خِلَافٍ، فَهُوَ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ، مُجْتَهِدًا آخَرَ يَرَى خِلَافَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحُكْمُ بِاجْتِهَادِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ الْمُخَالِفَ لِرَأْيِهِ.

وَأَمَّا نَوْعُ التَّقْلِيدِ الَّذِي خَالَفَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، فَهُوَ تَقْلِيدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ، مِنْ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.

فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ التَّقْلِيدِ، لَمْ يَرِدْ بِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ.

وَهُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رحمهم الله، فَلَمْ يُقِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِالْجُمُودِ عَلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ دُونَ غَيْرِهِ، مِنْ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.

فَتَقْلِيدُ الْعَالِمِ الْمُعَيَّنِ مِنْ بِدَعِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ، وَمَنْ يَدَّعِي خِلَافَ ذَلِكَ، فَلْيُعَيِّنْ لَنَا رَجُلًا وَاحِدًا مِنَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، الْتَزَمَ مَذْهَبَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَنْ يَسْتَطِيعَ ذَلِكَ أَبَدًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْبَتَّةَ.

وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فَسَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ وَحُجَجِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَمُنَاقَشَتِهَا، وَبَعْدَ إِيضَاحِ ذَلِكَ كُلِّهِ نُبَيِّنُ مَا يَظْهَرُ لَنَا بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ جَامِعِ بَيَانِ الْعَلَمِ وَفَضْلِهِ وَمَا يَنْبَغِي فِي رِوَايَتِهِ وَحَمْلِهِ، مَا نَصُّهُ:

بَابُ فَسَادِ التَّقْلِيدِ وَنَفْيِهِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ: قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تبارك وتعالى التَّقْلِيدَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [9 \ 31] .

ص: 307

وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِ، قَالُوا:«لَمْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ فَاتَّبَعُوهُمْ» .

وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي عُنُقِي الصَّلِيبُ، فَقَالَ لِي:«يَا عَدِيُّ: أَلْقِ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ: قَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّا لَمْ نَتَّخِذْهُمْ أَرْبَابًا. قَالَ: بَلَى، أَلَيْسَ يُحِلُّونَ لَكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَتُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْكُمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فَتُحَرِّمُونَهُ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: تِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» .

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ فِي قَوْلِهِ عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ أَمَرُوهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا أَطَاعُوهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ، فَجَعَلُوا حَلَالَ اللَّهِ حَرَامَهُ، وَحَرَامَهُ حَلَالَهُ فَأَطَاعُوهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ.

قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِحُذَيْفَةَ فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمُ الْحَرَامَ فَيُحِلُّونَهُ، وَيَحْرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ فَيُحَرِّمُونَهُ.

وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [43 \ 23 - 24] .

فَمَنَعَهُمُ الِاقْتِدَاءُ بِآبَائِهِمْ مِنْ قَبُولِ الِاهْتِدَاءِ، فَقَالُوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [43 \ 24] .

وَفِي هَؤُلَاءِ وَمِثْلِهِمْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [8 \ 22] .

وَقَالَ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [2 \ 166 - 167] .

ص: 308

وَقَالَ عز وجل عَائِبًا لِأَهْلِ الْكُفْرِ وَذَامًّا لَهُمْ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [21 \ 52 - 53] .

وَقَالَ: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ [33 \ 67] .

وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ مِنْ ذَمِّ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ.

وَقَدِ احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي إِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ كُفْرُ أُولَئِكَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا ; لِأَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ مِنْ جِهَةِ كُفْرِ أَحَدِهِمَا وَإِيمَانِ الْآخَرِ.

وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ التَّقْلِيدَيْنِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لِلْمُقَلِّدِ، كَمَا لَوْ قَلَّدَ رَجُلٌ فَكَفَرَ وَقَلَّدَ آخَرُ فَأَذْنَبَ، وَقَلَّدَ آخَرُ فِي مَسْأَلَةِ دُنْيَاهُ فَأَخْطَأَ وَجْهَهَا، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مَلُومًا عَلَى التَّقْلِيدِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْآثَامُ فِيهِ.

وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [9 \ 115] ، وَقَدْ ثَبَتَ الِاحْتِجَاجُ بِمَا قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ هَذَا، وَفِي ثُبُوتِهِ إِبْطَالُ التَّقْلِيدِ أَيْضًا.

فَإِذَا بَطَلَ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَجَبَ التَّسْلِيمُ لِلْأُصُولِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُمَا بِدَلِيلٍ جَامِعٍ بَيْنَ ذَلِكَ.

أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ، قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ» .

وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ» . هَذَا لَفْظُ أَبِي عُمَرَ فِي جَامِعِهِ.

وَكَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورُ فِي الْإِسْنَادِ ضَعِيفٌ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ مَقْبُولٌ، وَلَكِنَّ الْمَتْنَيْنِ الْمَرْوِيَّيْنِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ كِلَاهُمَا لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ صَحِيحٌ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ

ص: 309

الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عَالَمٍ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ.

ثُمَّ ذَكَرَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الْحُسْنِ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ فِيمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةَ الْعَالِمِ، وَجِدَالَ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَأَعْلَامِ الطَّرِيقِ.

ثُمَّ أَخْرَجَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي مَجْلِسِهِ كُلَّ يَوْمٍ، قَلَّمَا يُخْطِئُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ:«اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ، إِنَّ وَرَاءَكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَقْرَأَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ فَيُوشِكُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، فَمَا أَظُنُّ أَنْ يَتْبَعُونِي حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ» إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ رحمه الله مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ مِنْ أَخْوَفِ الْمَخَاوِفِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ.

وَإِنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ يُقَلِّدُ الْعَالِمَ تَقْلِيدًا أَعْمَى يُقَلِّدُهُ فِيمَا زَلَّ فِيهِ فَيَتَقَوَّلُ عَلَى اللَّهِ أَنَّ تِلْكَ الزَّلَّةَ الَّتِي قَلَّدَ فِيهَا الْعَالِمَ مِنْ دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ هُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ.

وَمُرَادُنَا أَيْضًا بِإِيرَادِ الْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ.

ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ مَا نَصُّهُ: وَشَبَّهَ الْحُكَمَاءُ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِانْكِسَارِ السَّفِينَةِ، لِأَنَّهَا إِذَا غَرِقَتْ غَرِقَ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ.

وَإِذَا صَحَّ وَثَبَتَ أَنَّ الْعَالِمَ يَزِلُّ وَيُخْطِئُ، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ وَيَدِينَ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ وَجْهَهُ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى، ثُمَّ سَاقَ السَّنَدَ إِلَى أَنْ قَالَ: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا تَغْدُ إِمَّعَةً فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ.

ثُمَّ سَاقَ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِهِمُ الْإِمَّعَةَ، وَمَعْنَى الْإِمَّعَةِ مَعْرُوفٌ.

قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي صَحَاحِهِ: يُقَالُ الْإِمَّعُ وَالْإِمَّعَةُ أَيْضًا لِلَّذِي يَكُونُ لِضَعْفِ رَأْيِهِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً. انْتَهَى مِنْهُ.

ص: 310

وَلِقَدْ أَصَابَ مَنْ قَالَ:

شَمِّرْ وَكُنْ فِي أُمُورِ الدِّينِ مُجْتَهِدًا

وَلَا تَكُنْ مِثْلَ عِيرٍ قِيدَ فَانْقَادَا

وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي تَفْسِيرِ الْإِمَّعَةِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَدْعُو الْإِمَّعَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي يُدْعَى إِلَى الطَّعَامِ فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ، قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ذَلِكَ ثُمَّ تَمْضِي الْأَتْبَاعُ.

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ النَّخَعِيِّ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، يُسْتَغْنَى عَنِ الْإِسْنَادِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَهُمْ: يَا كُمَيْلُ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوَعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رِعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.

وَفِيهِ: أُفٌّ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا يُصَيِّرُهُ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إِنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ، وَإِنَّ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ لَا يَعْرِفَ دِينَهُ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ غَيْرَهُ تَقْلِيدًا أَعْمَى يَدْخُلُ فِيمَا ذَكَرَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي عَنْ دِينِ اللَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ الْفُلَانِيَّ عَمِلَ بِهَذَا.

فَعِلْمُهُ مَحْصُورٌ فِي أَنَّ مَنْ يُقَلِّدُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ ذَهَبَ إِلَى كَذَا وَلَا يَدْرِي أَمُصِيبٌ هُوَ فِيهِ أَمْ مُخْطِئٌ.

وَمِثْلُ هَذَا لَمْ يَسْتَضِئْ بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَأْ إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ لِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى مَتْبُوعِهِ، وَعَدَمِ مَيْزِهِ هُوَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:

أَلَّا لَا يُقَلِّدَنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا إِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشَّرِّ.

ص: 311

وَقَالَ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا رحمه الله: وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَنَّهُ قَالَ: «تَذْهَبُ الْعُلَمَاءُ ثُمَّ تَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا يُسْأَلُونَ فَيُفْتُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ» .

وَهَذَا كُلُّهُ نَفْيٌ لِلتَّقْلِيدِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ لِمَنْ فَهِمَهُ وَهُدًى لِرُشْدِهِ.

ثُمَّ ذَكَرَ رحمه الله آثَارًا نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُعْتَمِرِ: لَا فَرْقَ بَيْنَ بَهِيمَةٍ تُقَادُ وَإِنْسَانٍ يُقَلِّدُ.

وَهَذَا كُلُّهُ لِغَيْرِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْعَامَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ تَقْلِيدِ عُلَمَائِهَا عِنْدَ النَّازِلَةِ تَنْزِلُ بِهَا ; لِأَنَّهَا لَا تَتَبَيَّنُ مَوْقِعَ الْحُجَّةِ، وَلَا تَصِلُ لِعَدَمِ الْفَهْمِ إِلَى عِلْمِ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعِلْمَ دَرَجَاتٌ لَا سَبِيلَ مِنْهَا إِلَى أَعْلَاهَا إِلَّا بِنَيْلِ أَسْفَلِهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْعَامَّةِ وَبَيْنَ طَلَبِ الْحُجَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَمْ تَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ عَلَيْهَا تَقْلِيدُ عُلَمَائِهَا، وَأَنَّهُمُ الْمُرَادُّونَ بِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] .

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَثِقُ بِمَيْزِهِ فِي الْقِبْلَةِ إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ.

فَكَذَلِكَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا بَصَرَ بِمَعْنًى مَا يَدِينُ بِهِ لَا بُدَّ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعَامَّةَ لَا يَجُوزُ لَهَا الْفُتْيَا.

وَذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِجَهْلِهَا بِالْمَعَانِي الَّتِي مِنْهَا يَجُوزُ التَّحْرِيمُ وَالتَّحْلِيلُ، وَالْقَوْلُ فِي الْعِلْمِ.

ثُمَّ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنِ اسْتَشَارَ أَخَاهُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا مِنْ غَيْرِ ثَبْتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهَا عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ» .

ثُمَّ ذَكَرَ بِسَنَدِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا وَهُوَ يَعْمَى عَنْهَا كَانَ إِثْمُهَا عَلَيْهِ اهـ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَلِّدَ أَعْمَى عَمَّا يُفْتَى بِهِ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهِ مَحْصُورٌ فِي أَنَّ فُلَانًا قَالَهُ مَعَ

ص: 312

عِلْمِهِ بِأَنَّ فُلَانًا لَيْسَ بِمَعْصُومٍ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ.

ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ رحمه الله: وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ حَدُّ الْعِلْمِ التَّبْيِينُ وَإِدْرَاكُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، فَمَنْ بَانَ لَهُ الشَّيْءُ فَقَدْ عَلِمَهُ.

قَالُوا: وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالَ رحمه الله: وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ الْبَصْرِيُّ الْمَالِكِيُّ: التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالِاتِّبَاعُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: كُلُّ مَنِ اتَّبَعْتَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْكَ قَبُولُهُ لِدَلِيلٌ يُوجِبُ عَلَيْكُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ الدَّلِيلُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا نَصُّهُ: وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ فِي فَسَادِ التَّقْلِيدِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ الْإِكْثَارِ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي كَلَامِهِ عَنِ التَّقْلِيدِ مَا نَصَّهُ: وَقَدِ احْتَجَّ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ النَّظَرِ عَلَى مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ بِحُجَجٍ نَظَرِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ.

فَأَحْسِنُ مَا رَأَيْتُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُزْنِيِّ رحمه الله، وَأَنَا أُورِدُهُ قَالَ: يُقَالُ لِمَنْ حَكَمَ بِالتَّقْلِيدِ هَلْ لَكَ مِنْ حُجَّةٍ فِيمَا حَكَمْتَ بِهِ؟

فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ ; لِأَنَّ الْحُجَّةَ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا التَّقْلِيدَ.

وَإِنْ قَالَ: حَكَمْتُ بِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.

قِيلَ لَهُ: فَلِمَ أَرَقْتَ الدِّمَاءَ، وَأَبَحْتَ الْفُرُوجَ وَأَتْلَفْتَ الْأَمْوَالَ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ؟

قَالَ اللَّهُ عز وجل: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [10 \ 68] ، أَيْ مِنْ حُجَّةٍ بِهَذَا؟

فَإِنْ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَصَبْتُ وَإِنْ لَمْ أَعْرِفِ الْحُجَّةَ، لِأَنِّي قَلَّدْتُ كَبِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيَّ.

قِيلَ لَهُ: إِذَا جَازَ تَقْلِيدُ مُعَلِّمِكَ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْكَ، فَتَقْلِيدُ مُعَلِّمِ

ص: 313

مُعَلِّمِكَ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى مُعَلِّمِكَ: كَمَا لَمْ يَقُلْ مُعَلِّمُكَ إِلَّا بِحُجَّةٍ خَفِيَتْ عَلَيْكَ.

فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، تَرَكَ تَقْلِيدَ مُعَلِّمِهِ إِلَى تَقْلِيدِ مُعَلَّمِ مُعَلِّمِهِ.

وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ أَعَلَى حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ نَقَضَ قَوْلَهُ.

وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَصْغَرُ، وَأَقَلُّ عِلْمًا؟

وَلَا تُجَوِّزُ تَقْلِيدَ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ عِلْمًا، وَهَذَا تَنَاقُضٌ؟

فَإِنْ قَالَ: لِأَنَّ مُعَلِّمِي وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَ فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِهِ، فَهُوَ أَبْصَرُ بِمَا أَخَذَ وَأَعْلَمُ بِمَا تَرَكَ.

قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ مَنْ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمِكَ، فَقَدْ جَمَعَ عِلْمَ مُعَلِّمِكَ وَعَلَمَ مَنْ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِهِ فَيَلْزَمُكَ تَقْلِيدُهُ وَتَرْكُ تَقْلِيدِ مُعَلِّمِكَ، وَكَذَلِكَ أَنْتَ أَوْلَى أَنْ تَقَلِّدَ نَفْسَكَ مِنْ مُعَلِّمِكَ. لِأَنَّكَ جَمَعْتَ عِلْمَ مُعَلِّمِكَ وَعَلَمَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إِلَى عِلْمِكَ.

فَإِنْ قَلَّدَ قَوْلَهُ جَعَلَ الْأَصْغَرَ وَمَنْ يُحَدِّثُ مِنْ صِغَارِ الْعُلَمَاءِ، أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم.

وَكَذَلِكَ الصَّاحِبُ عِنْدَهُ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ التَّابِعِ وَالتَّابِعِ مِنْ دُونِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ. وَالْأَعْلَى لِلْأَدْنَى أَبَدًا.

وَكَفَى بِقَوْلٍ يَئُولُ إِلَى هَذَا تَنَاقُضًا وَفَسَادًا اهـ.

ثُمَّ قَالَ أَبُو عُمَرَ رحمه الله بَعْدَ هَذَا مَا نَصُّهُ: يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِالتَّقْلِيدِ: لِمَ قُلْتَ بِهِ، وَخَالَفْتَ السَّلَفَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا؟

فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَا عِلْمَ لِي بِتَأْوِيلِهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ أُحْصِهَا، وَالَّذِي قَلَّدْتُهُ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ فَقَلَّدْتُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي.

قِيلَ لَهُ: أَمَّا الْعُلَمَاءُ، إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ أَوْ حِكَايَةٍ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ الْحَقُّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا قَلَّدْتَ فِيهِ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَمَا حُجَّتُكَ فِي تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ.

ص: 314

وَكُلُّهُمْ عَالِمٌ، وَالْعَالِمُ الَّذِي رَغِبْتَ عَنْ قَوْلِهِ أَعْلَمُ مِنَ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَى مَذْهَبِهِ.

فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُهُ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ صَوَابٌ.

قِيلَ لَهُ: عَلِمْتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ؟

فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ. أَبْطَلَ التَّقْلِيدَ وَطُولِبَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.

وَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُهُ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ مِنِّي.

قِيلَ لَهُ: فَقَلِّدْ كُلَّ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَإِنَّكَ تَجِدُ مِنْ ذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا، وَلَا تَخُصَّ مَنْ قَلَّدْتَهُ إِذْ عِلَّتُكَ فِيهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْكَ.

فَإِنْ قَالَ: قَلَّدْتُهُ ; لِأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ.

قِيلَ لَهُ: فَإِنَّهُ إِذًا أَعْلَمُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَكَفَى بِقَوْلٍ مِثْلِ هَذَا قُبْحًا.

فَإِنْ قَالَ: أَنَا أُقَلِّدُ بَعْضَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ لَهُ: فَمَا حُجَّتُكَ فِي تَرْكِ مَنْ لَمْ تُقَلِّدْ مِنْهُمْ، وَلَعَلَّ مَنْ تَرَكْتَ قَوْلَهُ مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَخَذْتَ بِقَوْلِهِ؟

عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ لِفَضْلِ قَائِلِهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ مُزَيْنٍ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ يُتَّبَعُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عز وجل: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [39 \ 18] . فَإِنْ قَالَ قِصَرِي وَقِلَّةُ عِلْمِي يَحْمِلُنِي عَلَى التَّقْلِيدِ.

قِيلَ لَهُ: أَمَّا مَنْ قَلَّدَ فِيمَا يَنْزِلُ مِنَ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ عَالِمًا يَتَّفِقُ لَهُ عَلَى عِلْمِهِ، فَيَصْدُرُ فِي ذَلِكَ عَمَّا يُخْبِرُهُ فَمَعْذُورٌ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَأَدَّى مَا لَزِمَهُ فِيمَا نَزَلَ بِهِ لِجَهْلِهِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ عَالِمٍ فِيمَا جَهِلَهُ، لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَكْفُوفَ يُقَلِّدُ مَنْ يَثِقُ بِخَبَرِهِ فِي الْقِبْلَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.

وَلَكِنْ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ، هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفُتْيَا فِي شَرَائِعِ دِينِ اللَّهِ؟ فَيَحْمِلُ غَيْرَهُ عَلَى إِبَاحَةِ الْفُرُوجِ، وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَاسْتِرْقَاقِ الرِّقَابِ، وَإِزَالَةِ الْأَمْلَاكِ وَيُصَيِّرُهَا إِلَى غَيْرِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدَيْهِ بِقَوْلٍ لَا يَعْرِفُ صِحَّتَهُ، وَلَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟

ص: 315

وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّ قَائِلَهُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَأَنَّ مُخَالِفَهُ فِي ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ الْمُصِيبَ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ، فَإِنَ أَجَازَ الْفَتْوَى لِمَنْ جَهِلَ الْأَصْلَ وَالْمَعْنَى لِحِفْظِهِ الْفُرُوعَ، لَزِمَهُ أَنْ يُجِيزَهُ لِلْعَامَّةِ.

وَكَفَى بِهَذَا جَهْلًا وَرَدًّا لِلْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [7 \ 36]، وَقَالَ: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 28] .

وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَيَتَيَقَّنْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. انْتَهَى كُلُّهُ مِنْ جَامِعِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله.

وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ جَمِيعِ حُجَجِ الْمُقَلِّدِينَ مُنْحَصِرٌ فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ مُمْتَثِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] .

فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ أَنْ يُسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا، وَقَدْ أَرْشَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَا يَعْلَمُ إِلَى سُؤَالِ مَنْ يَعْلَمُ، فَقَالَ فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الشَّجَّةِ:«أَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا، إِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِيِّ السُّؤَالُ» .

وَقَالَ أَبُو الْعَسِيفِ: الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةٍ مُسْتَأْجَرَةٍ: «وَإِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ مَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ» :

وَهَذَا عَالِمُ الْأَرْضِ عُمَرُ قَدْ قَلَّدَ أَبَا بَكْرٍ.

فَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقْضِي فِيهَا فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ: هُوَ مَا دُونُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّنِي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ.

وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ.

وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْرُوقٍ: كَانَ سِتَّةٌ مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُفْتُونَ النَّاسَ: ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو مُوسَى.

وَكَانَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ يَدَعُونَ قَوْلَهُمْ لِقَوْلِ ثَلَاثَةٍ.

ص: 316

كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ، وَكَانَ أَبُو مُوسَى يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَكَانَ زَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ.

وَقَالَ جُنْدُبٌ: مَا كُنْتُ أَدَعُ قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا» فِي شَأْنِ الصَّلَاةِ حَيْثُ أَخَّرَ فَصَلَّى مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ.

قَالَ الْمُقَلِّدَةُ: وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ وَهُمُ الْعُلَمَاءُ أَوِ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ، وَطَاعَتُهُمْ تَقْلِيدُهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا التَّقْلِيدُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ طَاعَةٌ تَخْتَصُّ بِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [9 \ 100] .

وَتَقْلِيدُهُمُ اتِّبَاعٌ لَهُمْ فَفَاعِلُهُ مِمَّنْ رضي الله عنهم، وَيَكْفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» .

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» .

وَقَالَ: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعَدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ» .

وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى شُرَيْحٍ: أَنِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ.

ص: 317

وَقَدْ مَنَعَ عُمَرُ عَنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ.

وَأَلْزَمَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَتَبِعُوهُ أَيْضًا.

وَاحْتَلَمَ مَرَّةً، فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِكَ، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتُهَا صَارَتْ سُنَّةً.

وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ.

وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ لَهُمْ قَطْعًا ; إِذْ قَوْلُهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [9 \ 122] ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولَ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا تَقْلِيدٌ مِنْهُمْ لِلْعُلَمَاءِ.

وَصَحَّ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، فَقَالَ: أَمَّا الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُهُ خَلِيلًا» فَإِنَّهُ أَنْزَلَهُ أَبًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْلِيدِهِ لَهُ.

وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُ.

وَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ، وَالْخَارِصِ وَالْقَاسِمِ وَالْمُقَوِّمِ لِلْمُتْلَفَاتِ، وَغَيْرِهَا وَالْحَاكِمِينَ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ.

وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْمُتَرْجِمِ وَالرَّسُولِ وَالْمُعَرِّفِ وَالْمُعَدِّلِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِوَاحِدٍ، وَذَلِكَ تَقْلِيدٌ مَحْضٌ لِهَؤُلَاءِ.

وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ شِرَاءِ اللُّحْمَانِ، وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا، مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنْ أَسْبَابِ حِلِّهَا، وَتَحْرِيمِهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا.

وَلَوْ كُلِّفَ النَّاسُ كُلُّهُمُ الِاجْتِهَادَ وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فُضَلَاءَ لَضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَتَعَطَّلَتِ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عُلَمَاءَ مُجْتَهِدِينَ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ شَرْعًا، وَالْقَدَرُ قَدْ مَنَعَ مِنْ وُقُوعِهِ.

ص: 318

وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجِ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي يَهْدِينَ إِلَيْهِ زَوْجَتَهُ، وَجَوَازِ وَطْئِهَا تَقْلِيدًا لَهُنَّ فِي كَوْنِهَا هِيَ زَوْجَتُهُ.

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَعْمَى يُقَلِّدُ فِي الْقِبْلَةِ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَمَا يَصِحُّ بِهِ الِاقْتِدَاءُ، وَعَلَى تَقْلِيدِ الزَّوْجَةِ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّ حَيْضَهَا قَدِ انْقَطَعَ فَيُبَاحُ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا بِالتَّقْلِيدِ.

وَيُبَاحُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهَا بِالتَّقْلِيدِ لَهَا فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَعَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ النَّاسِ لِلْمُؤَذِّنِينَ فِي دُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاجْتِهَادُ وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ.

وَقَدْ قَالَتِ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ لِعُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ: أَرْضَعْتُكَ وَأَرْضَعْتُ امْرَأَتَكَ، فَأَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا، وَتَقْلِيدِهَا فِيمَا أَخْبَرَتْهُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ، فَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ الَّذِي قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ وَأَنْتَ تَرَى تَحْرِيمَهُ فَلَا تَنْهَهُ.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ لِلْعَالِمِ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِالتَّقْلِيدِ، فَقَالَ: فِي الضَّبْعِ بَعِيرٌ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُمْرَ.

وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنَ الْعُيُوبِ، قُلْتُهُ تَقْلِيدًا لِعُثْمَانَ.

وَقَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجِدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ إِنَّهُ يُقَاسِمُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْتُ بِقَوْلِ زِيدٍ. وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الْفَرَائِضِ.

قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ الْجَدِيدِ: قُلْتُهُ تَقْلِيدًا الْعَطَاءَ.

وَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ لَيْسَ مَعَهُ فِيهَا إِلَّا تَقْلِيدُ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ التَّابِعَيْنِ فِيهَا.

وَهَذَا مَالِكٌ لَا يَخْرُجُ عَنْ عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيُصَرِّحُ فِي مُوَطَّئِهِ بِأَنَّهُ أَدْرَكَ الْعَمَلَ عَلَى هَذَا، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا.

ص: 319

وَيَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَفْعَلُهُ، وَلَوْ جَمَعَنَا ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ لَطَالَ.

وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّحَابَةِ: رَأْيُهُمْ لَنَا خَيْرٌ مِنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا، وَنَحْنُ نَقُولُ وَنُصَدِّقُ أَنَّ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ وَالْأَئِمَّةِ مَعَهُ لَنَا خَيْرٌ مَنْ رَأْيِنَا لِأَنْفُسِنَا.

وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي فِطَرِ الْعِبَادِ تَقْلِيدَ الْمُتَعَلِّمِينَ لِلْأُسْتَاذِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ، وَلَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ إِلَّا بِهَذَا، وَذَلِكَ عَامٌّ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ.

وَقَدْ فَاوَتَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ قُوَى الْأَذْهَانِ، كَمَا فَاوَتَ بَيْنَ الْأَبْدَانِ، فَلَا يَحْسُنُ فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنْ يَفْرِضَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ بِدَلِيلِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ مُعَارِضِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا.

وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَسَاوَتْ أَقْدَامُ الْخَلَائِقِ فِي كَوْنِهِمْ عُلَمَاءَ، بَلْ جَعَلَ سبحانه وتعالى هَذَا عَالِمًا، وَهَذَا مُتَعَلِّمًا وَهَذَا مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْمُومِ مَعَ الْإِمَامِ وَالتَّابِعِ مَعَ الْمَتْبُوعِ، وَأَيْنَ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْجَاهِلِ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلْعَالِمِ مُؤْتَمًّا بِهِ مُقَلِّدًا لَهُ يَسِيرُ بِسَيْرِهِ وَيَنْزِلُ بِنُزُولِهِ.

وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالنَّوَازِلَ كُلَّ وَقْتٍ نَازِلَةٌ بِالْخَلْقِ، فَهَلْ فَرْضٌ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ عَيْنٌ أَنْ يَأْخُذَ حُكْمَ نَازِلَةٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ بِشُرُوطِهَا وَلَوَازِمِهَا؟

وَهَلْ ذَلِكَ فِي إِمْكَانِ أَحَدٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا؟

وَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَحُوا الْبِلَادَ، وَكَانَ الْحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ يَسْأَلُهُمْ فَيُفْتُونَهُ.

وَلَا يَقُولُونَ لَهُ عَلَيْكَ أَنْ تَطْلُبَ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ الْفَتْوَى بِالدَّلِيلِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنِ أَحَدٍ مِنْهُمُ الْبَتَّةَ.

وَهَلِ التَّقْلِيدُ إِلَّا مِنْ لَوَازِمِ التَّكْلِيفِ وَلَوَازِمِ الْوُجُودِ؟ فَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ.

وَالْمُنْكِرُونَ لَهُ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ وَلَا بُدَّ. وَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا.

وَنَقُولُ لِمَنِ احْتَجَّ عَلَى إِبْطَالِهِ: كُلُّ حُجَّةٍ أَثَرِيَّةٍ ذَكَرْتَهَا فَأَنْتَ مُقَلِّدٌ لِحَمَلَتِهَا وَرُوَاتِهَا إِذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى صِدْقِهِمْ، فَلَيْسَ بِيَدِكَ إِلَّا تَقْلِيدُ الرَّاوِي.

ص: 320

وَلَيْسَ بِيَدِ الْحَاكِمِ إِلَّا تَقْلِيدُ الشَّاهِدِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ بِيَدِ الْعَامِّيِّ إِلَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكَ تَقْلِيدَ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ، وَمَنَعَنَا مِنْ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ، وَهَذَا سَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا رَوَاهُ، وَهَذَا عَقَلَ بِقَلْبِهِ مَا سَمِعَهُ فَأَدَّى هَذَا مَسْمُوعَهُ، وَأَدَّى هَذَا مَعْقُولَهُ.

وَفَرَضَ عَلَى هَذَا تَأْدِيَةَ مَا سَمِعَهُ، وَعَلَى هَذَا تَأْدِيَةَ مَا عَقَلَهُ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَنْزِلَتَهُمَا الْقَبُولَ مِنْهُمَا.

ثُمَّ يُقَالُ لِلْمَانِعِينَ مِنَ التَّقْلِيدِ: أَنْتُمْ مَنَعْتُمُوهُ خَشْيَةَ وُقُوعِ الْمُقَلِّدِ فِي الْخَطَأِ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدُهُ مُخْطِئًا فِي فَتْوَاهُ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ النَّظَرَ وَالِاسْتِدْلَالَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَوَابَهُ فِي تَقْلِيدِهِ لِلْعَالِمِ أَقْرَبُ مِنْ صَوَابِهِ فِي اجْتِهَادِهِ هُوَ لِنَفْسِهِ.

وَهَذَا كَمَنْ أَرَادَ شِرَاءَ سِلْعَةٍ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا قَلَّدَ عَالِمًا بِتِلْكَ السِّلْعَةِ خَبِيرًا بِهَا أَمِينًا نَاصِحًا كَانَ صَوَابُهُ وَحُصُولُ غَرَضِهِ أَقْرَبَ مِنِ اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ اهـ.

هَذَا هُوَ غَايَةُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَهُ مِنْ وَاحِدٍ وَثَمَانِينَ وَجْهًا.

وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا مُخْتَصَرَةً مِنْ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ تَكْفِي الْمُنْصِفَ، وَتَزِيدُ الْمَسْأَلَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِيضَاحًا وَإِقْنَاعًا.

قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ بَعْدَ ذِكْرِهِ حُجَجَ الْمُقَلِّدِينَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا مَا نَصُّهُ: قَالَ أَصْحَابُ الْحُجَّةِ: عَجَبًا لَكُمْ مُعَاشِرَ الْمُقَلِّدِينَ، الشَّاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ شَهَادَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ أَهْلِهِ، وَلَا مَعْدُودِينَ فِي زُمْرَةِ أَهْلِهِ، كَيْفَ أَبْطَلْتُمْ مَذْهَبَكُمْ، بِنَفْسِ دَلِيلِكُمْ، فَمَا لِلْمُقَلِّدِ وَمَا لِلِاسْتِدْلَالِ؟ وَأَيْنَ مَنْصِبُ الْمُقَلِّدِ مِنْ مَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ؟

وَهَلْ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ إِلَّا ثِيَابًا اسْتَعَرْتُمُوهَا، مِنْ صَاحِبِ الْحُجَّةِ فَتَجَمَّلْتُمْ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَكُنْتُمْ فِي ذَلِكَ مُتَشَبِّهِينَ بِمَا لَمْ تُعْطَوْهُ، نَاطِقِينَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا شَهِدْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ لَمْ تُؤْتَوْهُ، وَذَلِكَ ثَوْبُ زُورٍ لَبِسْتُمُوهُ، وَمَنْصِبٌ لَسْتُمْ مِنَ أَهْلِهِ غَصَبْتُمُوهُ.

فَأَخْبِرُونَا: هَلْ صِرْتُمْ إِلَى التَّقْلِيدِ لِدَلِيلٍ قَادَكُمْ إِلَيْهِ، وَبُرْهَانٍ دَلَّكُمْ عَلَيْهِ، فَنَزَلْتُمْ بِهِ مِنَ

ص: 321

الِاسْتِدْلَالِ أَقْرَبَ مَنْزِلٍ، وَكُنْتُمْ بِهِ عَنِ التَّقْلِيدِ بِمَعْزِلٍ، أَمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَهُ اتِّفَاقًا، وَتَخْمِينًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.

وَلَيْسَ إِلَى خُرُوجِكُمْ عَنِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْقَسَمَيْنِ سَبِيلٌ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَهُوَ بِفَسَادِ مَذْهَبِ التَّقْلِيدِ حَاكِمٌ، وَالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِ الْحُجَّةِ مِنْهُ لَازِمٌ.

وَنَحْنُ إِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِلِسَانِ الْحُجَّةِ، قُلْتُمْ لَسْنَا مِنَ أَهْلِ هَذِهِ السَّبِيلِ، وَإِنْ خَاطَبْنَاكُمْ بِحُكْمِ التَّقْلِيدِ، فَلَا مَعْنَى لِمَا أَقَمْتُمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ.

وَالْعَجَبُ أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ، وَكُلَّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى حَقٍّ، حَاشَا فِرْقَةِ التَّقْلِيدِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ ذَلِكَ، وَلَوِ ادَّعَوْهُ لَكَانُوا مُبْطِلِينَ، فَإِنَّهُمْ شَاهِدُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا تِلْكَ الْأَقْوَالَ لِدَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَيْهَا، وَبُرْهَانٍ دَلَّهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا سَبِيلُهُمْ مَحْضُ التَّقْلِيدِ، وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلَا الْحَالِيَّ مِنَ الْعَاطِلِ.

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ نَهَوْهُمْ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فَعَصَوْهُمْ وَخَالَفُوهُمْ، وَقَالُوا نَحْنُ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ دَانُوا بِخِلَافِهِمْ فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى الْحُجَّةِ وَنَهَوْا عَنِ التَّقْلِيدِ وَأَوْصَوْهُمْ إِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ أَنْ يَتْرُكُوا أَقْوَالَهُمْ وَيَتْبَعُوهُ، فَخَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.

وَقَالُوا: نَحْنُ مِنَ أَتْبَاعِهِمْ، تِلْكَ أَمَانِيهِمْ، وَمَا أَتْبَاعُهُمْ إِلَّا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاقْتَفَى آثَارَهُمْ فِي أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ.

وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ فِي كُتُبِهِمْ بِبُطْلَانِ التَّقْلِيدِ، وَتَحْرِيمِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَلَوِ اشْتَرَطَ الْإِمَامُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يَصِحَّ شَرْطُهُ وَلَا تَوْلِيَتُهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ التَّوْلِيَةَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ.

وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِفْتَاءُ بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.

وَالْمُقَلِّدُ لَا عِلْمَ لَهُ بِصِحَّةِ الْقَوْلِ وَفَسَادِهِ إِذْ طَرِيقُ ذَلِكَ مَسْدُودَةٌ عَلَيْهِ.

ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَتْبُوعِهِ لَا يُفَارِقُ قَوْلَهُ، وَيَتْرُكُ لَهُ كُلَّ مَا خَالَفَهُ

ص: 322

مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ قَوْلِ صَاحِبٍ، أَوْ قَوْلِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْ مَتْبُوعِهِ أَوْ نَظِيرِهِ، وَهَذَا مِنَ أَعْجَبِ الْعَجَبِ.

وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، رَجُلٌ وَاحِدٌ اتَّخَذَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَلِّدُهُ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، فَلَمْ يُسْقِطْ مِنْهَا شَيْئًا وَأَسْقَطَ أَقْوَالَ غَيْرِهِ، فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهَا شَيْئًا.

وَنَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ، أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ، وَلَا تَابِعِي التَّابِعِينَ.

فَلْيُكَذِّبْنَا الْمُقَلِّدُونَ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ، سَلَكَ سَبِيلَهُمُ الْوَخِيمَةَ فِي الْقُرُونِ الْفَضِيلَةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَإِنَّمَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْمَذْمُومِ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم فَالْمُقَلِّدُونَ لِمَتْبُوعِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا قَالُوهُ، يُبِيحُونَ بِهِ الْفُرُوجَ، وَالدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ، وَيُحَرِّمُونَهَا وَلَا يَدْرُونَ أَذَلِكَ صَوَابٌ أَمْ خَطَأٌ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَلَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ مَوْقِفٌ شَدِيدٌ يَعْلَمُ فِيهِ مَنْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَيْءٍ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُقَلِّدُونَ: تَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْوَحْيِ إِلَّا بِخُصُوصِ الْمُجْتَهِدِينَ فَلِمَ سَوَّغْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى التَّقْلِيدِ بِآيَةِ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] ، وَآيَةِ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ الْآيَةَ [9 \ 122] .

هَلْ رَجَعْتُمْ عَنْ قَوْلِكُمْ بِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْوَحْيِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، أَوِ ارْتَكَبْتُمْ مَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ حَرَّمَ مِنِ اسْتِدْلَالِكُمْ بِالْقُرْآنِ مَعَ شِدَّةِ بُعْدِكُمْ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ؟

وَفِي هَذَا رَدُّ إِجْمَالِيٌّ لِجَمِيعِ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ عَلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ.

ثُمَّ يُقَالُ: أَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا فِي زَعْمِكُمْ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، الَّتِي سَنَّ لَكُمُ الصَّاوِيُّ وَأَمْثَالُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ.

فَلِمَ تَجَرَّأْتُمْ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ وَسَوَّغْتُمْ لِأَنْفُسِكُمُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْقُرْآنِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِينَ.

وَسَنُذَكِّرُ رَدَّ اسْتِدْلَالِ الْمُقَلِّدِينَ تَفْصِيلًا، بِإِيجَازٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

ص: 323

أَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِآيَةِ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [16 \ 43] ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. فَإِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ مِنِ الْتِزَامِ جَمِيعِ أَقْوَالِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَتَرْكِ جَمِيعِ مَا سِوَاهَا.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلُ الْوَحْيِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَعُلَمَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ لِيُفْتُوهُمْ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي هُوَ الْوَحْيُ.

وَمَنْ سَأَلَ عَنِ الْوَحْيِ وَأُعْلِمَ بِهِ وَبُيِّنَ لَهُ كَانَ عَمَلُهُ بِهِ اتِّبَاعًا لِلْوَحْيِ لَا تَقْلِيدًا، وَاتِّبَاعُ الْوَحْيِ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ.

وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى نَوْعِ تَقْلِيدٍ فِي الْجُمْلَةِ، فَهِيَ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى التَّقْلِيدِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَقْلِيدُ الْعَامِّيِّ الَّذِي تَنْزِلُ بِهِ النَّازِلَةُ عَالِمًا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَمَلُهُ بِمَا أَفْتَاهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْهُ لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ ذَلِكَ الْعَالِمُ، وَلَا تَرْكُهُ لِجَمِيعِ مَا يَقُولُهُ غَيْرُهُ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الرَّجُلِ الَّذِي أَصَابَتْهُ شَجَّةٌ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ: هَلْ يَعْلَمُونَ لَهُ رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَرَى لَكُ رُخْصَةً وَأَنْتُ قَادِرٌ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَّا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِيِّ السُّؤَالُ» .

فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ أَيْضًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا عَلَى الْمُقَلِّدِينَ لَا لَهُمْ.

قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ فِي بَيَانِ وَجْهِ ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا أَرْشَدَ الْمُسْتَفْتِينَ، كَصَاحِبِ الشَّجَّةِ بِالسُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَسُنَّتِهِ فَقَالَ: قَتَلُوهُ قَتْلَهُمُ اللَّهُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ حِينَ أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ الْإِفْتَاءِ بِالتَّقْلِيدِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ عِلْمًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ.

فَإِنَّمَا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَاعِلِهِ، فَهُوَ حَرَامٌ وَذَلِكَ أَحَدُ أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ، فَمَا احْتَجَّ بِهِ الْمُقَلِّدُونَ هُوَ مِنَ أَكْبَرِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ.

وَكَذَلِكَ سُؤَالُ أَبِي الْعَسِيفِ الَّذِي زَنَى بِامْرَأَةٍ مُسْتَأْجَرَةٍ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَخْبَرُوهُ

ص: 324

بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِكْرِ الزَّانِي أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، فَلَمْ يَكُنْ سُؤَالُهُمْ عَنْ رَأْيِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْكَلَالَةِ: إِنِّي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ مِنْهُ لَهُ. فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَيْضًا.

وَخِلَافُ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما أَشْهَرُ مِنَ أَنْ يُذْكَرَ.

كَمَا خَالَفَهُ فِي سَبْيِ أَهْلِ الرِّدَّةِ فَسَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَخَالَفَهُ عُمَرُ.

وَبَلَغَ خِلَافُهُ إِلَى أَنْ رَدَّهُنَّ حَرَائِرَ إِلَى أَهْلِهِنَّ إِلَّا لِمَنْ وَلَدَتْ لِسَيِّدِهَا مِنْهُنَّ، وَنَقَضَ حُكْمَهُ، وَمِنْ جُمْلَتِهِنَّ خَوْلَةُ الْحَنَفِيَّةُ أَمُّ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ.

وَخَالَفَهُ فِي أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَقَسَمَهَا أَبُو بَكْرٍ وَوَقَفَهَا عُمَرُ.

وَخَالَفَهُ فِي الْمُفَاضَلَةِ فِي الْعَطَاءِ، فَرَأَى أَبُو بَكْرٍ التَّسْوِيَةَ، وَرَأَى عُمْرُ الْمُفَاضَلَةَ.

وَخَالَفَهُ فِي الِاسْتِخْلَافِ، فَاسْتَخْلَفَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ أَحَدًا إِيثَارًا لِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم.

وَخَالَفَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، مَعَ أَنَّ خِلَافَ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي اسْتَحْيَا مِنْهُ عُمَرُ هُوَ خِلَافُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ مِنْهُ بَرِيءٌ - هُوَ مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ فَاسْتَحْيَا عُمَرُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِرَافِهِ بِجَوَازِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَلَامُهُ كُلُّهُ صَوَابًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ الْخَطَأُ.

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَقَرَّ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ بِشَيْءٍ، وَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهَا، قَالَهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ.

وَمِنَ الْعَجَبِ اسْتِدْلَالُ الْمُقَلِّدِينَ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ، بِاسْتِحْيَاءِ عُمَرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحْيُوا مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَجَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَمُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُوَافِقُ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِمْ.

وَكَمَا أَوْضَحَهُ الصَّاوِيُّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي قَدَّمْنَا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [18 \ 23 - 24] .

ص: 325

فَقَدْ قَدَّمْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ، وَلَوْ وَافَقَ الصَّحَابَةَ، وَالْحَدِيثَ الصَّحِيحَ وَالْآيَةَ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ ; لِأَنَّ الْأَخْذَ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ.

فَمَنْ هَذَا مَذْهَبُهُ وَدِينُهُ كَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِاسْتِحْيَاءِ عُمَرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ؟

بَلْ كَيْفَ يَسْتَدِلُّ بِنَصٍّ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ، أَوْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟

مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةٌ رَاشِدٌ أَمَرَ النَّبِيُّ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» الْحَدِيثَ، فَلَيْسَ الِاقْتِدَاءُ بِالْخُلَفَاءِ كَالِاقْتِدَاءِ بِغَيْرِهِمْ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ بِقَوْلِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، فَيَكْفِي فِي رَدِّهِ مَا قَدَّمْنَا قَرِيبًا، مِنْ مُخَالَفَةِ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ، مَعَ الْقِصَّةِ الَّتِي قَالَ لَهُ فِيهَا: رَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ، رَدَّ فِيهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ بَعْضَ مَا قَالَهُ.

وَأَيَّدَ الصَّحَابَةُ مَا قَالَ عُمْرُ فِي رَدِّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما.

لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ فِي وَفْدِ بُزَاخَةَ مِنَ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ حِينَ قَدِمُوا عَلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلُونَهُ الصُّلْحَ، فَخَيَّرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ.

فَقَالُوا: هَذِهِ الْمُجْلِيَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْمُخْزِيَةُ؟

قَالَ: تُنْزَعُ مِنْكُمُ الْحَلْقَةُ وَالْكُرَاعُ، وَنَغْنَمُ مَا أَصَبْنَا لَكُمْ وَتَرُدُّونَ لَنَا مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا؟ وَتُدَوَّنُ لَنَا قَتْلَانَا إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.

وَفِيهِ: فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا سَنُشِيرُ عَلَيْكَ، أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْحَرْبِ الْمُجْلِيَةِ وَالسِّلْمِ الْمُخْزِيَةِ فَنِعْمَ مَا ذَكَرْتَ، وَمَا ذَكَرْتَ مِنْ أَنْ نَغْنَمَ مَا أَصَبْنَا مِنْكُمْ، وَتَرُدُّونَ مَا أَصَبْتُمْ مِنَّا، فَنِعْمَ مَا ذَكَرْتَ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ أَنْ تُدَوَّنَ قَتْلَانَا وَتَكُونَ قَتْلَاكُمْ فِي النَّارِ، فَإِنَّ قَتْلَانَا قَدْ قَاتَلَتْ فَقُتِلَتْ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، أُجُورُهَا عَلَى اللَّهِ، لَيْسَ لَهَا دِيَاتٌ.

فَتَتَابَعَ الْقَوْمُ عَلَى مَا قَالَ عُمْرُ رضي الله عنه.

فَهَذِهِ الْقِصَّةُ الثَّابِتَةُ: هِيَ الَّتِي فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا: وَرَأْيُنَا لِرَأْيِكَ تَبَعٌ.

ص: 326

وَأَنْتَ تَرَى عُمْرَ رضي الله عنه لَمْ يُقَلِّدْ فِيهَا أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه، إِلَّا فِيمَا يَعْتَقِدُ صَوَابَهُ.

فَإِنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ صَوَابٌ قَالَ لَهُ فِيهِ: نِعْمَ مَا ذَكَرْتَ.

وَمَا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَوَابٍ رَدَّهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ بِدَفْعِ دِيَاتِ الشُّهَدَاءِ ; لِأَنَّ عُمَرَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّهِيدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا دِيَةَ لَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [9 \ 111] .

وَذَلِكَ يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم لَا يَعْدِلُونَ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ.

وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِتَقْلِيدِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِعُمْرَ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَلَوْ وَافَقَ عُمَرَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ مُوَافَقَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِبَعْضٍ، لِاتِّفَاقِ رَأْيِهِمْ لَا لِتَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.

وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ عُمَرَ رضي الله عنهما فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ ; لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ نَصِيبِ وَلَدِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُطَبِّقُ فِي رُكُوعِهِ إِلَى أَنْ مَاتَ، وَعُمَرُ كَانَ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ: هِيَ يَمِينٌ، وَعُمْرُ يَقُولُ: إِنَّهُ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُحَرِّمُ النِّكَاحَ بَيْنَ الزَّانِيَيْنِ وَعُمَرُ يُتَوِّبُهُمَا، وَيُنْكِحُ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ.

وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقَهَا، وَعُمْرُ يُرَى عَدَمَ ذَلِكَ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

مَعَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: إِنَّهُ أَعْلَمُ الصَّحَابَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُ بِهِ لَرَحَلَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْهُ قَوْلَهُ: كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تَكُنِ إِمَّعَةً.

فَلَيْسَ ابْنُ مَسْعُودٍ مَنِ أَهْلِ التَّقْلِيدِ، مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِتَقْلِيدِ ابْنِ مَسْعُودٍ

ص: 327

لِعُمْرَ، لَا يُقَلِّدُونَ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَلَا عُمَرَ وَلَا غَيْرَهُمَا مِنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَا يَأْخُذُونَ بُقُولِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَإِنَّمَا يُفَضِّلُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَقْلِيدَ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ رحمهم الله.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهَ كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عُمَرَ.

وَأَبُو مُوسَى كَانَ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ عَلَيٍّ.

وَزَيْدٌ يَدَعُ قَوْلَهُ لِقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعَّبٍ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْمَذْكُورِينَ رضي الله عنهم لَا يَدَعُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدَعُ قَوْلَ عُمَرَ، إِذَا ظَهَرَتْ لَهُ السُّنَّةُ.

وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِأَنَّ مُعَاذًا رضي الله عنه صَلَّى مَسْبُوقًا فَصَلَّى مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلًا، ثُمَّ قَضَى مَا فَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يُصَلُّونَ مَا فَاتَهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ يَدْخُلُونَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْبَاقِي.

وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي ذَلِكَ: «إِنَّ مُعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ سُنَّةً، فَكَذَلِكَ فَافْعَلُوا» ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً إِلَّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا لَا يَخْفَى.

فَلَا حُجَّةَ قَطْعًا فِي قَوْلِ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْجُودٌ.

وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالِهِمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [4 \ 59] .

قَائِلِينَ إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ الْعُلَمَاءَ، وَأَنَّ طَاعَتَهُمُ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْآيَةِ هِيَ تَقْلِيدُهُمْ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ طَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ إِجْمَاعًا فِيمَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، وَلَا طَاعَةَ لَهُمْ إِلَّا فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم.

ص: 328

وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْأَمْرِ: مَا يَشْمَلُ الْأُمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ ; لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، وَالْأُمَرَاءُ مُنَفِّذُونَ، وَلَا تَجُوزُ طَاعَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا فِيمَا أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ; لِأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ أُولُو الْأَمْرِ لَا يَخْلُو مِنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَطَاعَةُ أُولِي الْأَمْرِ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَحْصُلَ فِيهِ نِزَاعٌ، هَلْ هُوَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ لَا؟

وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَجُوزُ الطَّاعَةُ الْعَمْيَاءُ لِأُولِي الْأَمْرِ وَلَا التَّقْلِيدُ الْأَعْمَى كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ.

لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [4 \ 59]، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [4 \ 59] ، فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي رَدِّ كُلِّ نِزَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

وَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [2 - 30] بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ» .

وَحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ فِي السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي النَّارِ:«لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» .

وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [60 \ 12] .

وَلَا يَخْفَى أَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ الْمَأْمُورَ بِهَا فِي الْآيَةِ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَهْيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.

ص: 329

وَالْمُقَلِّدُونَ مُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا نَهْيَهُ، وَلَا أَمْرَ رَسُولِهِ وَلَا نَهْيَهُ.

وَغَايَةُ مَا يَدَّعُونَ عِلْمَهُ هُوَ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ قَالَ كَذَا، مَعَ عَجْزِهِمْ عَنِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا هُوَ خَطَأٌ وَمَا هُوَ صَوَابٌ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ قَوْلِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ مَا أَلْحَقَهُ أَتْبَاعُهُ بَعْدَهُ مِمَّا قَاسُوهُ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ هِيَ اقْتِفَاءُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّظَرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَعَلَى كُلِّ رَأْيٍ كَائِنًا مَا كَانَ.

فَمَنْ قَلَّدَهُمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى وَتَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِأَقْوَالِهِمْ، فَهُوَ الْمُخَالِفُ لَهُمُ الْمُتَبَاعِدُ عَنْ طَاعَتِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [9 \ 100]، قَائِلِينَ: إِنَّ تَقْلِيدَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ اتِّبَاعِهِمْ بِإِحْسَانٍ، فَمُقَلِّدُهُمْ مِمَّنْ رضي الله عنه بِنَصِّ الْآيَةِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ هُمُ الَّذِينَ سَارُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَكُنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُقَلِّدُ رَجُلًا وَيَتْرُكُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لِقَوْلِهِ.

فَالْمُقَلِّدُونَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى لَيْسُوا مِمَّنِ اتَّبَعُوهُمُ الْبَتَّةَ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ مُخَالَفَةً لَهُمْ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ مَثَلًا ابْنُ وَهْبٍ وَنُظَرَاؤُهُ، مِمَّنْ يَعْرِضُونَ أَقْوَالَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَأْخُذُونَ مِنْهَا مَا وَافَقَهُمَا دُونَ غَيْرِهِ.

وَأَتْبَعُ النَّاسِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ، لِأَجْلِ الدَّلِيلِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.

وَأَتْبَعُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ لَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْأَثْرَمُ، لِتَقْدِيمِهِمُ الدَّلِيلَ عَلَى قَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ، وَهَكَذَا.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ، بِحَدِيثِ:«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا.

ص: 330

اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، فَجَمِيعُ طُرُقِهِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ قَائِمٌ، قَالَ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ:

رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ، وَمِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.

وَمِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ الْجُرَيِّ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا.

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ ; أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُضَرِّحٍ حَدَّثَهُمْ: ثِنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبٍ الصَّمُوتُ قَالَ: قَالَ لَنَا الْبَزَّارُ: وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى مِنْهُ.

وَضَعْفُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَعْرُوفٌ عَنِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهِ يَمْنَعُونَ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ، وَيُحَرِّمُونَ الِاهْتِدَاءَ بِتِلْكَ النُّجُومِ.

وَهُوَ تَنَاقُضٌ عَجِيبٌ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا نَفْسَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ عَلَى مَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْحَدِيثُ، وَهُوَ تَقْدِيمُهُمْ تَقْلِيدَ أَئِمَّتِهِمْ عَلَى تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ.

مَعَ أَنَّ قِيَاسَهُمْ عَلَى الصَّحَابَةِ لَا يَصِحُّ لِعِظَمِ الْفَارِقِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ سُقُوطَ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا ذَكَرُوا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ:«مَنْ كَانَ مُسْتَنًا مِنْكُمْ فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ» .

وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [2 \ 44] .

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي» .

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بِعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ ; لِأَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْرُونَةٌ بِسُنَّتِهِ لَيْسَ فِيهَا الْبَتَّةَ تَقْلِيدٌ أَعْمَى، وَلَا الْتِزَامُ قَوْلِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ.

ص: 331

بَلْ سُنَّتُهُمْ هِيَ اتِّبَاعُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْدِيمُهُمَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّهُمْ هُمْ أَتْبَعُ النَّاسِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَشَدُّهُمْ حِرْصًا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ.

فَالَّذِي يُقَدِّمُ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِحَدِيثِ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ، هُوَ كَمَا تَرَى.

وَأَقْوَالُ الْخُلَفَاءِ رضي الله عنهم وَأَفْعَالُهُمْ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ مُدَوَّنَةٌ إِلَى الْآنِ لَيْسَ فِيهَا تَقْلِيدٌ أَعْمَى، وَلَا جُمُودٌ عَلَى قَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.

وَإِنَّمَا هِيَ عَمَلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَمُشَاوَرَةٌ لِأَصْحَابِهِ فِيمَا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ وَاسْتِنْبَاطِ مَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَأَتْقَنِهَا، وَأَقْرَبِهَا لِرِضَا اللَّهِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي طَاعَتِهِ.

وَكَانُوا إِذَا بَلَغَهُمْ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجَعُوا إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِمْ.

فَقَدْ رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رضي الله عنه إِلَى قَوْلِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ لِلْجَدَّةِ السُّدْسَ.

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَرَى أَنَّهَا لَا مِيرَاثَ لَهَا، وَقَدْ قَالَ لَهَا لِمَا جَاءَتْهُ:«لَا أَرَى لَكِ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا أَعْلَمُ لَكِ شَيْئًا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .

وَقَدْ رَجَعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ فِيهَا غُرَّةَ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ.

وَرَجَعَ عُمَرُ أَيْضًا إِلَى حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.

وَرَجَعَ عُمَرُ أَيْضًا إِلَى قَوْلِ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا.

وَرَجَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى حَدِيثِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ أُخْتِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِالسُّكْنَى فِي الْبَيْتِ الَّذِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.

وَكَانَ عُثْمَانُ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْتِي بِوُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.

ص: 332

وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنَ أَنْ تُحْصَى، وَفِي ذَلِكَ بَيَانٌ وَاضِحٌ، لِأَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ هِيَ الْمُتَابَعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَقْدِيمُ سُنَّتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَعَلَيْنَا جَمِيعًا أَنْ نَعْمَلَ بِمِثْلِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لِنَكُونَ مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتِهِمْ.

أَمَّا الْمُقَلِّدُ الْمُعْرِضُ عَنْ سُنَّتِهِمْ، وَعَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مُفَضِّلًا عَلَى ذَلِكَ تَقْلِيدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ أَوِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَحْمَدَ رحمهم الله، فَمَا كَانَ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِحَدِيثِ:«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِمُقْتَضَى تَقْلِيدِهِ بِأَنَّهُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْعَمَلِ بِحَدِيثِ «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» الْحَدِيثَ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمْرَ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ: أَنِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا لَهُمْ ; لِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ الْعَمَلِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، وَخَيْرُهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَوْ كَانَ الْمُقَلِّدُونَ يَمْتَثِلُونَ هَذَا، لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا يَمْنَعُونَ الْعَمَلَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْعَمَلَ بِفَتَاوَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَيُوجِبُونَ الْجُمُودَ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدُوهُ وَالْتَزَمُوا بِمَذْهَبِهِ.

وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ، فَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه مَنَعَ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ.

وَأَلْزَمَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُتَابَعَةَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِبَعْضٍ إِنَّمَا هِيَ لِاتِّفَاقِهِمْ فِيمَا رَأَوْهُ، لَا لِأَنَّ بَعْضَهُمْ مُقَلِّدٌ بَعْضًا تَقْلِيدًا أَعْمَى.

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ ذَلِكَ بِمَا يَكْفِي.

مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذَا يَمْنَعُونَ تَقْلِيدَ عُمَرَ، وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، فَمِنْ عَجَائِبِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِمَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَمْنُوعٌ.

ص: 333

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَالَ لِعُمْرَ لَمَّا احْتَلَمَ: خُذْ ثَوْبًا غَيْرَ ثَوْبِكَ، فَقَالَ: لَوْ فَعَلْتُ صَارَتْ سُنَّةً. فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَافَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا فَيَعْتَقِدَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ سُنَّةً، فَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَحْذُورِ.

مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ يَرَى مَنْعَ تَقْلِيدِ عُمَرَ رضي الله عنه.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا ذَكَرُوهُ عَنْ أُبَيٍّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ فَاعْمَلْ بِهِ، وَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا لَا لَهُمْ.

لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَا اسْتَبَانَ لَكَ فَاعْمَلْ بِهِ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَا اسْتَبَانَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ.

وَهَذَا نَقِيضُ مَا عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ، فَهُمْ دَائِمًا يَسْتَدِلُّونَ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِمَا يُنَاقِضُهُ.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ بِقَوْلِهِ: فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ، أَيْ فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ.

فَمُرَادُهُ بِمَا اشْتَبَهَ الْمُتَشَابِهُ، وَمُرَادُهُ بِعَالِمِهِ: اللَّهُ.

فَهُوَ يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [3 \ 7] .

فَالَّذِينَ قَالُوا «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا» فَقَدْ وَكَلُوا مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ إِلَى عَالِمِهِ وَهُوَ اللَّهُ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ أُبَيٍّ بِقَوْلِهِ: فَكِلْهُ إِلَى عَالِمِهِ أَيْ فَكِلْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ مِنْ كَلَامِ أُبَيٍّ.

وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا لِلْمُقَلِّدِينَ ; لِأَنَّ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ فَوَكَلَهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ، فَقَدْ أَصَابَ.

وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِعْرَاضُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بَلْ هُوَ عَمَلٌ بِالْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [17 \ 36] .

ص: 334

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُفْتُونَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَوْجُودٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُفْتُونَهُمْ فِي حَالَةِ وُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ إِلَّا بِمَا عَلَّمَهُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَمَنْ أَفْتَى مِنْهُمْ وَغَلِطَ فِي فَتْوَاهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتْوَاهُ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَابِقَةً لِلْحَقِّ، وَرَدَّهَا عَلَيْهِ كَإِنْكَارِهِ عَلَى أَبِي السَّنَابِلِ بْنِ بِعَكَكَ قَوْلَهُ لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ لَمَّا مَاتَ زَوْجُهَا وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ:«إِنَّهَا لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ» .

وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَبُو السَّنَابِلِ عَلَى مَا أَفْتَى بِهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [2 \ 234] .

وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتْوَاهُ مُبَيِّنًا أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [2 \ 234] مُخَصَّصٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [65 \ 4] .

وَكَإِنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الَّذِينَ أَفْتَوْا صَاحِبَ الشَّجَّةِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا لَهُ رُخْصَةً وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا قِصَّتَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِمْ:«قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ» الْحَدِيثَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمُ اسْتَنَدُوا فِي فَتْوَاهُمْ لِمَا فَهِمُوهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [4 \ 43]، وَغَفَلُوا عَنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى [4 \ 43] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [9 \ 122] ، قَائِلِينَ إِنَّ الْآيَةَ أَوْجَبَتْ قَبُولَ إِنْذَارِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ لَهُمْ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْإِنْذَارَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ لَا يَكُونُ بِرَأْيٍّ.

وَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْوَحْيِ خَاصَّةً، وَقَدْ حَصَرَ تَعَالَى الْإِنْذَارَ فِي الْوَحْيِ بِأَدَاةِ الْحَصْرِ الَّتِي هِيَ «إِنَّمَا» فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [21 \ 45] .

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِنْذَارَ لَا يَقُومُ إِلَّا بِالْحُجَّةِ فَمَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، لَمْ يَكُنْ قَدْ أُنْذِرَ، كَمَا

ص: 335

أَنَّ النَّذِيرَ مَنْ أَقَامَ الْحُجَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ فَلَيْسَ بِنَذِيرٍ.

فَمَا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْإِنْذَارَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ: وَلِيُنْذِرُوا، وَالتَّحْذِيرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلِهِ: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلَا اجْتِهَادٍ.

وَإِنَّمَا هُوَ إِنْذَارٌ بِالْوَحْيِ مِمَّنْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَصَارَ يُنْذِرُ بِمَا عَلِمَهُ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ [9 \ 122]، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أَيْ بِمَا تَفَقَّهُوا فِيهِ مِنَ الدِّينِ.

وَلَيْسَ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ إِلَّا عِلْمَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ لَا دَلِيلَ فِيهَا الْبَتَّةَ لِطَائِفَةِ التَّقْلِيدِ، الَّذِينَ يُوجِبُونَ تَقْلِيدَ إِمَامٍ بِعَيْنِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَدَّ مِنَ أَقْوَالِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذَ مِنَ أَقْوَالِ غَيْرِهِ شَيْءٌ.

وَنَجْعَلُ أَقْوَالَهُ عِيَارًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَمَا وَافَقَ أَقْوَالَهُ مِنْهُمَا قُبِلَ وَمَا لَمْ يُوَافِقْهَا مِنْهُمَا رُدَّ.

وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّقْلِيدِ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ، وَعَدَمِ جَوَازِهِ.

فَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْمُقَلِّدِينَ بِهَا عَلَى تَقْلِيدِهِمُ اسْتِدْلَالٌ بِشَيْءٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مَمْنُوعٌ بَاتًّا، لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِقُرْآنٍ.

وَأَمَّا قَبُولُ إِنْذَارِهِمْ فَهُوَ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْلِيدِهِ لِأَبِي بَكْرِ الصَّدِيقِ رضي الله عنه فِي أَنَّ الْجَدَّ يَحْجِبُ الْإِخْوَةَ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا فِي رَدِّ اسْتِدْلَالِهِمْ بِتَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَا يَكْفِي، فَأَغْنَى عَنِ إِعَادَتِهِ هُنَا.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ فِي الْحُقُوقِ. قَائِلِينَ: إِنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ تَقْلِيدٌ لَهُ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِهِ. مِنْ تَقْلِيدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ مِنَ أَقْوَالِهِ شَيْءٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِمَّا خَالَفَهَا شَيْءٌ، وَلَوْ كَانَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً.

ص: 336

وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَمَلَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ أَخْذٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [65 \ 2]، وَيَقُولُ: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ، وَفِي الْحَدِيثِ:«شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

فَالْأَخْذُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ إِذًا مِنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ تَقْلِيدًا أَعْمَى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّاهِدَ إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا أَدْرَكَهُ بِإِحْدَى حَوَاسِّهِ، وَالْمُدْرَكُ بِالْحَاسَّةِ يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ لِمَنْ أَدْرَكَهُ بِخِلَافِ الرَّأْيِ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ لَا يَقْطَعُ بِصِحَّةِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الرَّأْيِ.

وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى حِسٍّ، وَبَيْنَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى عَقْلٍ.

فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُوجِبُ الْعِلْمَ الْمُفِيدَ لِلْقَطْعِ لِاسْتِنَادِهِ إِلَى الْحِسِّ.

وَأَنَّ الثَّانِيَ لَا يُوجِبُهُ، وَلَوْ كَانَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْمَعْقُولَاتِ لَكَانَ قِدَمُ الْعَالَمِ مَقْطُوعًا بِهِ ; لِأَنَّهُ تَوَاتَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ خَلْقٌ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ.

مَعَ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، فَالَّذِينَ تَوَاتَرُوا مِنَ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ لَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ لَوْ تَوَاتَرَ عُشْرُهُمْ عَلَى أَمْرٍ مَحْسُوسٍ لَأَفَادَ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ فِيهِ.

فَالشَّاهِدُ إِنْ أَخْبَرَ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَكَانَ عَدْلًا، فَهُوَ عَدْلٌ مُخْبِرٌ عَمَّا قُطِعَ بِهِ قَطْعًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الشَّكُّ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّهُ عَدْلٌ أَخْبَرَ عَمَّا ظَنَّهُ، فَوُضُوحُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا تَرَى.

ص: 337

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ وَالْخَارِصِ وَالْمُقَوِّمِ وَالْحَاكِمَيْنِ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ.

وَتَقْلِيدِ الْأَعْمَى فِي الْقِبْلَةِ.

وَتَقْلِيدِ الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْوَقْبِ وَالْمُتَرْجِمِينَ وَالْمُعَرِّفِينَ، وَالْمُعَدِّلِينَ، وَالْمُجَرِّحِينَ.

وَتَقْلِيدِهِ الْمَرْأَةَ فِي طُهْرِهَا، فَهُوَ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا.

لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَالْعَمَلُ بِهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَا مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ، وَالْإِخْبَارِ بِمَا عَرَفَهُ الْقَائِفُ وَالْخَارِصُ إِلَى آخِرِهِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْفَتْوَى فِي الدِّينِ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ بِسُرُورِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِ مُجَزِّزِ بْنِ الْأَعْوَرِ الْمُدْلِجِيِّ فِي أُسَامَةَ وَزَيْدٍ: «هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» .

فَلَوْ كَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ لَا يُقْبَلُ؛ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَا بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ سُرُورًا بِهِ.

فَقَبُولُهُ لِذَلِكَ، فَهُوَ اتِّبَاعٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

وَقَدْ قَدَّمَنَا الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى قَبُولِ قَوْلِ الْخَارِصِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ بَعْضَهَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَرَدَ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [6 \ 141] ، فَهَذَا مِثَالُ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمَذْكُورِينَ.

وَمِثَالُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ ذَلِكَ قَبُولُ قَوْلِ الْحَكَمَيْنِ فِي الْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [5 \ 95] .

وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ ذَكَرُوا، فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا صَحَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ.

ص: 338

مَعَ أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ إِخْبَارٌ عَنْ مَحْسُوسٍ، وَالتَّقْلِيدُ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِ إِخْبَارٌ عَنْ مَعْقُولٍ مَظْنُونٍ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَقْلِيدًا أَعْمَى بِدُونِ حُجَّةٍ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ بِجَوَازِ شِرَاءِ اللُّحُومِ وَالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَنِ أَسْبَابِ حِلِّهَا اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ أَرْبَابِهَا، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِقَوْلِ الذَّابِحِ وَالْبَائِعِ لَيْسَ بِتَقْلِيدٍ أَعْمَى فِي حُكْمٍ دِينِيٍّ لَهُمَا.

وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَا فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ اللُّحُومِ وَالسِّلَعِ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ وَالصِّحَّةِ، حَتَّى يَظْهَرَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، مَا صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:«إِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لَا نَدْرِي أَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: سَمُّوا عَلَيْهِ أَنْتُمْ وَكُلُوا، قَالَ: وَكَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِالْكُفْرِ» .

قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنِّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ وَالْأَفْعَالَ تُحْمَلُ عَلَى حَالِ الصِّحَّةِ وَالسَّلَامَةِ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الْفَسَادِ. انْتَهَى مِنْهُ.

وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا، فَالْعَمَلُ بِهِ عَمَلٌ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَلَّفَ النَّاسَ أَلَّا يَشْتَرِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا حَتَّى يَعْلَمَ حِلِيَّتَهُ فَوَقَعُوا فِي حَرَجٍ عَظِيمٍ تَتَعَطَّلُ بِهِ الْمَعِيشَةُ وَيَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُهَا.

فَأَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِرَفْعِ الْحَرَجِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [22 \ 78] ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ، وَلَيْسَ مِنَ التَّقْلِيدِ.

وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى التَّقْلِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ لَوْ كَلَّفَ النَّاسَ كُلَّهُمُ الِاجْتِهَادَ، وَأَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ ضَاعَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ، وَتَعَطَّلَتِ الصَّنَائِعُ وَالْمَتَاجِرُ، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ شَرْعًا وَقَدَرًا، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا.

وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى سُقُوطِهِ أَنَّ الْقُرُونَ الثَّلَاثَةَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ تَقْلِيدُ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى.

ص: 339

وَلَمْ تَتَعَطَّلْ مَتَاجِرُهُمْ، وَلَا صَنَائِعُهُمْ، وَلَمْ يَرْتَكِبُوا مَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ وَلَا الْقَدَرُ، بَلْ كَانُوا كُلُّهُمْ لَا يُقَدِّمُونَ شَيْئًا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَكَانَ فِيهِمْ عُلَمَاءُ مُجْتَهِدُونَ يَعْلَمُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيُفْتُونَ بِهِمَا، وَكَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ دُونَ رُتْبَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ، يَتَعَلَّمُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَحْتَاجُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ مُتَّبِعُونَ لَا مُقَلِّدُونَ.

وَفِيهِمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى، هِيَ الْعَوَامُ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى التَّعَلُّمِ، وَكَانُوا يَسْتَفْتُونَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ مَنْ شَاءُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَتَارَةً يَسْأَلُونَهُ عَنِ الدَّلِيلِ فِيمَا أَفْتَاهُمْ بِهِ.

وَتَارَةً يَكْتَفُونَ بِفَتْوَاهُ وَلَا يَسْأَلُونَ، وَلَمْ يَتَقَيَّدُوا بِنَفْسِ ذَلِكَ الْعَالِمِ الَّذِي يَسْتَفْتُونَهُ، فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ نَازِلَةٌ أُخْرَى، سَأَلُوا عَنْهَا غَيْرَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ شَاءُوا، وَلَا إِشْكَالَ فِي هَذَا الَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْطِيلُ صَنَائِعَ وَلَا مَتَاجِرَ، وَلَا يَمْنَعُهُ شَرْعٌ وَلَا قَدَرٌ.

فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ مُنْصِفٌ لِلتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى، بِأَنَّ النَّاسَ لَوْ لَمْ تَرْتَكِبْهُ لَوَقَعُوا فِي الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَكُلُّ عَاقِلٍ لَمْ يُعْمِهِ التَّعَصُّبُ، يَعْلَمُ أَنَّ تَقْلِيدَ إِمَامٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، بِحَيْثُ لَا يُتْرَكُ مِنَ أَقْوَالِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ أَقْوَالِ غَيْرِهِ شَيْءٌ، وَجَعْلَ أَقْوَالِهِ عِيَارًا لِكِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فَمَا وَافَقَ أَقْوَالَهُ مِنْهُمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ، وَمَا خَالَفَهَا مِنْهُمَا وَجَبَ اطِّرَاحُهُ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ - لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ.

وَهُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ، وَإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ تَعَلُّمُ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا عَلِمُوا مِنْهُمَا.

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَوَامِّ الَّذِينَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى التَّعَلُّمِ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعَمَلُ بِمَا أَفْتَوْهُمْ بِهِ.

وَسَيَأْتِي لِهَذَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ وَإِقْنَاعٍ لِلْمُنْصِفِ فِي التَّنْبِيهَاتِ الْآتِيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَا بُطْلَانَ جَمِيعِ الْحُجَجِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُقَلِّدُونَ التَّقْلِيدَ الْمَذْكُورَ، وَمَا لَمْ

ص: 340

نَذْكُرْ مِنْ حُجَجِهِمْ، قَدْ أَوْضَحْنَا رَدَّهُ وَإِبْطَالَهُ فِيمَا ذَكَرْنَا.

تَنْبِيهَاتٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ اغْتَرُّوا بِقَضِيَّتَيْنِ ظَنُّوهُمَا صَادِقَتَيْنِ، وَهُمَا بَعِيدَتَانِ مِنَ الصِّدْقِ. وَظَنُّ صِدْقِهِمَا يَدْخُلُ أَوَّلِيًّا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [10 \ 36]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» .

أَمَّا الْأُولَى مِنْهُمَا فَهِيَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا شَيْءٌ، وَعَلَى جَمِيعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْهَا شَيْءٌ

وَلِذَلِكَ فَإِنَّ كُلَّ آيَةٍ وَكُلَّ حَدِيثٍ قَدْ خَالَفَا قَوْلَهُ فَلَا شَكَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ اطَّلَعَ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ وَعَلِمَ مَعْنَاهَا، وَعَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَعَلِمَ مَعْنَاهُ، وَأَنَّهُ مَا تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِمَا إِلَّا لِأَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُمَا وَأَرْجَحُ.

وَلِذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ ذَلِكَ الْأَرْجَحِ الَّذِي تَخَيَّلُوهُ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.

وَهَذَا الظَّنُّ كَذِبٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ.

وَالْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ مَا أَحَاطُوا بِجَمِيعِ نُصُوصِ الْوَحْيِ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَمِنْ أَصْرَحِ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رحمه الله، إِمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ الْمَجْمَعُ عَلَى عِلْمِهِ وَفَضْلِهِ وَجَلَالَتِهِ، لِمَّا أَرَادَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَمَعَهُ فِي مُوَطَّئِهِ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنَ أَبِي جَعْفَرٍ وَرَدَّهُ عَلَيْهِ.

وَأَخْبَرَهُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَفَرَّقُوا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا، كُلُّهُمْ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ.

وَلَمْ يَجْمَعِ الْحَدِيثَ جَمْعًا تَامًّا بِحَيْثُ أَمْكَنَ جَمْعُ جَمِيعِ السُّنَّةِ إِلَّا بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا رُوِيَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ

ص: 341

الْأَحَادِيثِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَتَيَسَّرِ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ إِلَّا بَعْدَ أَزْمَانٍ، وَكَثْرَةُ عِلْمِ الْعَالِمِ لَا تَسْتَلْزِمُ اطِّلَاعَهُ عَلَى جَمِيعِ النُّصُوصِ.

فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَهُوَ عَجِزَ عَنِ أَنْ يَفْهَمَ مَعْنَى الْكَلَالَةِ حَتَّى مَاتَ رضي الله عنه، وَقَدْ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا كَثِيرًا فَبَيَّنَهَا لَهُ وَلَمْ يَفْهَمْ.

فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، حَتَّى طَعَنَ بِإِصْبَعِهِ فِي صَدْرِي، وَقَالَ لِي:«يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ» ، فَهَذَا مِنَ أَوْضَحِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِآيَةِ الصَّيْفِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [4 \ 176] ، وَالْآيَةُ تُبَيِّنُ مَعْنَى الْكَلَالَةِ بَيَانًا شَافِيًا، لِأَنَّهَا أَوْضَحَتْ أَنَّهَا: مَا دُونَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ.

فَبَيَّنَتْ نَفْيَ الْوَلَدِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [4 \ 176]، وَبَيَّنَتْ نَفْيَ الْوَالِدِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ [4 \ 176] ; لِأَنَّ مِيرَاثَ الْأُخْتِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوَلَدِ.

وَمَعَ هَذَا الْبَيَانِ النَّبَوِيِّ الْوَاضِحِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَفْهَمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَالَةَ لَمْ تَزَلْ مُشْكِلَةً عَلَيْهِ.

وَقَدْ خَفِيَ مَعْنَى هَذَا أَيْضًا عَلَى أَبِي بَكْرِ الصَّدِيقِ رضي الله عنه فَقَالَ فِي الْكَلَالَةِ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي. فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، هُوَ مَا دُونُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ.

فَوَافَقَ رَأْيُهُ مَعْنَى الْآيَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فَاهِمًا لِلْآيَةِ لَكَفَتْهُ عَنِ الرَّأْيِ ; كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمْرَ رضي الله عنه:«تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ فِي الْآيَةِ كِفَايَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا فِي الْحُكْمِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ طَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانَ الْآيَةِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا أَحَالَ عُمَرُ عَلَى الْآيَةِ إِلَّا لِأَنَّ فِيهَا مِنَ الْبَيَانِ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي.

وَقَدْ خَفِيَ عَلَى أَبِي بَكْرِ الصَّدِيقِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: «أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدْسَ

ص: 342

حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَاهَا السُّدْسَ» فَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمَا.

وَلَمْ يَعْلَمْ عُمَرُ رضي الله عنه بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَضَى فِي دِيَةِ الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمَذْكُورَانِ قَبْلُ.

وَلَمْ يَعْلَمْ عُمَرُ رضي الله عنه بِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا. حَتَّى أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضِّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا.

وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْضًا بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِيِّ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.

وَلَمْ يَعْلَمْ بِحُكْمِ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه.

وَلَمْ يَعْلَمْ عُثْمَانُ رضي الله عنه بِوُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَلْزَمَهَا بِالسُّكْنَى فِي الْمَحَلِّ الَّذِي مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فِيهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.

وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنَ أَنْ تُحْصَرَ، فَهَؤُلَاءِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَهُمْ هُمْ، خَفِيَ عَلَيْهِمْ كَثِيرٌ مِنْ قَضَايَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحَادِيثُهُ مَعَ مُلَازَمَتِهِمْ لَهُ، وَشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ، فَتَعْلَمُوهُ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ.

فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ نَشَأُوا وَتَعَلَّمُوا بَعْدَ تَفَرُّقِ الصَّحَابَةِ فِي أَقْطَارِ الدُّنْيَا؟

وَرَوَى عَنْهُ الْأَحَادِيثَ عُدُولٌ مِنَ الْأَقْطَارِ الَّتِي ذَهَبُوا إِلَيْهَا؟

وَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَنَّ إِحَاطَةِ الْإِمَامِ بِجَمِيعِ نُصُوصِ الشَّرْعِ وَمَعَانِيهَا ظَنٌّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَفُوتُهُ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ فَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا وَيَرْوِيهِ بَعْضُ الْعُدُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ فَيَثْبُتُ عِنْدَ غَيْرِهِ.

وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، بِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ بَذَلَ الْمَجْهُودَ فِي الْبَحْثِ ; وَلِذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَالْعُذْرِ فِي الْخَطَأِ.

ص: 343

وَقَدْ يَكُونُ الْإِمَامُ اطَّلَعَ عَلَى الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ السَّنَدَ الَّذِي بَلَغَهُ بِهِ ضَعِيفٌ فَيَتْرُكُهُ لِضَعْفِ السَّنَدِ.

وَيَكُونُ غَيْرُهُ اطَّلَعَ عَلَى رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ يَثْبُتُ بِهَا الْحَدِيثُ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ إِلَّا عَلَى السَّنَدِ الضَّعِيفِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ الطَّرِيقُ الصَّحِيحَةُ الْأُخْرَى.

وَقَدْ يَتْرُكُ الْحَدِيثَ لِشَيْءٍ يَظُنُّهُ أَرْجَحَ مِنْهُ، وَيَكُونُ الْوَاقِعُ أَنَّ الْحَدِيثَ أَرْجَحُ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي ظَنَّهُ لِقِيَامِ أَدِلَّةٍ أُخْرَى عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إِلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَتَرْكِ الْأَئِمَّةِ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ النُّصُوصِ.

وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ ظَنَّ اطِّلَاعِ الْإِمَامِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِصَابَتِهِ فِي مَعَانِيهَا كُلِّهَا - ظَنٌّ بَاطِلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ يُصَرِّحُ بِبُطْلَانِ هَذَا الظَّنِّ كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَاللَّازِمُ هُوَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ أَنْفُسُهُمْ رحمهم الله مِنْ أَنَّهُمْ قَدْ يُخْطِئُونَ، وَنَهَوْا عَنِ اتِّبَاعِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ يُخَالِفُ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ.

فَالْمُتَّبِعُ لَهُمْ حَقِيقَةً، هُوَ مَنْ لَا يُقَدِّمُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ شَيْئًا.

أَمَّا الَّذِي يُقَدِّمُ أَقْوَالَ الرِّجَالِ عَلَى الْكِتَابِ وَصَحِيحِ السُّنَّةِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُمْ لَا مُتَّبِعٌ لَهُمْ، وَدَعْوَاهُ اتِّبَاعَهُمْ كَذِبٌ مَحْضٌ.

وَأَمَّا الْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ ظَنُّ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ لَهُمْ مِثْلَ مَا لِلْإِمَامِ مِنَ الْعُذْرِ فِي الْخَطَأِ.

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَخْطَأَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَقَلَّدُوهُ فِي ذَلِكَ الْخَطَأِ يَكُونُ لَهُمْ مِنَ الْعُذْرِ فِي الْخَطَأِ وَالْأَجْرِ مِثْلَ مَا لِذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدُوهُ ; لِأَنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَهُ فَيَجْرِي عَلَيْهِمْ مَا جَرَى عَلَيْهِ.

وَهَذَا ظَنٌّ كَاذِبٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ. لِأَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ بَذَلَ جُهْدَهُ فِي تَعَلُّمِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ وَفَتَاوَاهُمْ.

فَقَدْ شَمَّرَ وَمَا قَصَّرَ فِيمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّمِ الْوَحْيِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ عَلَى ضَوْءِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْعُذْرِ فِي خَطَئِهِ وَالْأَجْرِ فِي اجْتِهَادِهِ.

وَأَمَّا مُقَلِّدُوهُ فَقَدْ تَرَكُوا النَّظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْ تَعَلُّمِهِمَا

ص: 344

إِعْرَاضًا كُلِّيًّا مَعَ يُسْرِهِ وَسُهُولَتِهِ وَنَزَّلُوا أَقْوَالَ الرِّجَالِ الَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ مَنْزِلَةَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنَ اللَّهِ.

فَأَيْنَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ قَلَّدُوهُمْ؟

وَهَذَا الْفَرْقُ الْعَظِيمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً، عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَأْجُورِينَ فِي الْخَطَأِ فِي تَقْلِيدٍ أَعْمَى إِذْ لَا اقْتِدَاءَ وَلَا أُسْوَةَ فِي غَيْرِ الْحَقِّ.

وَلَيْسُوا مَعْذُورِينَ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا يَلْزَمُهُمْ تَعَلُّمُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ عَلَى ضَوْءِ وَحْيِهِ الْمُنَزَّلِ.

وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعَلُّمِ ذَلِكَ هُوَ مَا تَدْعُوهُمُ الْحَاجَةُ لِلْعَمَلِ بِهِ، كَأَحْكَامِ عِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ.

وَأَغْلَبُ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصٌ وَاضِحَةٌ، سَهْلَةُ التَّنَاوُلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْرِضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُفَرِّطَ فِي تَعَلُّمِ دِينِهِ، مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمَا سَنَّهُ رَسُولُهُ، الْمُقَدِّمَ كَلَامَ النَّاسِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لَا يَكُونُ لَهُ الْبَتَّةَ مَا لِلْإِمَامِ الَّذِي لَمْ يُعْرِضْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يُقَدِّمْ عَلَيْهِمَا شَيْئًا وَلَمْ يُفَرِّطْ فِي تَعَلُّمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟

سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا

شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ

التَّنْبِيهُ الثَّانِي

اعْلَمْ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رحمهم الله، مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِ تَقْلِيدِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى الَّذِي يَتَعَصَّبُ لَهُ مَنْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُمْ.

وَلَوْ كَانُوا أَتْبَاعَهُمْ حَقًّا لَمَا خَالَفُوهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمُ الَّذِي مُنِعُوا مِنْهُ وَنُهُوا عَنْهُ.

قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ: أَخْبَرْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثْنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، قَالَ:

ص: 345

سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ، فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي، فَكُلُّ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَاتْرُكُوهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَمَالِكٌ رحمه الله مَعَ عِلْمِهِ وَجَلَالَتِهِ وَفَضْلِهِ يَعْتَرِفُ بِالْخَطَأِ وَيَنْهَى عَنِ الْقَوْلِ بِمَا خَالَفَ الْوَحْيَ مِنْ رَأْيِهِ، فَمَنْ كَانَ مَالِكِيًّا فَلْيَمْتَثِلْ قَوْلَ مَالِكٍ وَلَا يُخَالِفْهُ بِلَا مُسْتَنَدٍ.

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ أَيْضًا: أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ لُبَابَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ عَلِيٍّ الْقُرَشِيُّ، قَالَ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَوَجَدْتُهُ بَاكِيًا فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ ثُمَّ سَكَتَ عَنِّي يَبْكِي، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا الَّذِي يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ قَعْنَبٍ، إِنَّا لِلَّهِ عَلَى مَا فَرَطَ مِنِّي، لَيْتَنِي جُلِدْتُ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَكَلَّمْتُ بِهَا فِي هَذَا الْأَمْرِ بِسَوْطٍ، وَلَمْ يَكُنْ فَرَطَ مِنِّي مَا فَرَطَ مِنْ هَذَا الرَّأْيِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ كَانَتْ لِي سَعَةٌ فِيمَا سَبَقْتُ إِلَيْهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله لَا يَسُرُّهُ وَلَا يُرْضِيهِ تَقْدِيمُ رَأْيِهِ هَذَا الَّذِي يَسْتَرْجِعُ وَيَبْكِي نَدَمًا عَلَيْهِ، وَيَتَمَنَّى لَوْ ضُرِبَ بِالسِّيَاطِ وَلَمْ يَكُنْ صَدَرَ مِنْهُ، عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلِيَسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ مَنْ يُقَدِّمُ مِثْلَ هَذَا الرَّأْيِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ زَاعِمًا أَنَّهُ مُتَّبِعٌ مَالِكًا فِي ذَلِكَ.

وَهُوَ مُخَالِفٌ فِيهِ لِمَالِكٍ، وَمُخَالِفٌ فِيهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِأَصْحَابِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: وَقَدْ نَهَى الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَذَمُّوا مَنْ أَخَذَ أَقْوَالَهُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.

فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِلَا حُجَّةٍ، كَمَثَلِ حَاطِبِ لَيْلٍ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ وَفِيهِ أَفْعَى تَلْدَغُهُ وَهُوَ لَا يَدْرِي، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ.

وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى الْمُزَنِيُّ فِي أَوَّلِ مُخْتَصَرِهِ: اخْتَصَرْتُ هَذَا مِنْ عِلْمِ الشَّافِعِيِّ،

ص: 346

وَمِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ؛ لِأُقَرِّبَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَهُ مَعَ إِعْلَامِهِ نَهْيَهُ عَنْ تَقْلِيدِهِ وَتَقْلِيدِ غَيْرِهِ؛ لِيَنْظُرَ فِيهِ لِدِينِهِ، وَيَحْتَاطَ فِيهِ لِنَفْسِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا تُقَلِّدْنِي، وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا، وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ، وَخُذْ مِنْ حَيْثُ أَخَذُوا.

وَقَالَ: مِنْ قِلَّةِ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ الرِّجَالَ.

وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَقَالَتَنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنَ أَيْنَ قُلْنَا.

وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ بِأَنَّ مَنْ تَرَكَ قَوْلَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَرَكَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِقَوْلِ مَنْ هُوَ دُونَ إِبْرَاهِيمَ أَوْ مِثْلُهُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ رحمهم الله نَهَوْا عَنْ تَقْلِيدِهِمْ فِي كُلِّ مَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَصْحَابُهُمْ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَكُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَائِلِ: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي.

وَكُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ رحمهم الله جَمِيعًا.

وَكَذَلِكَ كَانَ غَيْرُهُمْ مَنْ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ يَمْنَعُونَ مِنْ تَقْلِيدِهِمْ فِيمَا لَمْ يُوَافِقِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَقَدْ يَتَحَفَّظُونَ مِنْهُ وَلَا يَرْضَوْنَ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ: وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي أَخْبَارِ سَحْنُونَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَحْنُونَ، قَالَ: كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ، وَغَيْرُهُمْ يَخْتَلِفُونَ إِلَى ابْنِ هُرْمُزَ، فَكَانَ إِذَا سَأَلَهُ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ أَجَابَهُمَا.

وَإِذَا سَأَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ وَذَوُوهُ لَمْ يُجِبْهُمْ فَقَالَ لَهُ: يَسْأَلُكَ مَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ فَتُجِيبُهُمَا، وَأَسْأَلُكُ أَنَا وَذَوِيَّ فَلَا تُجِيبُنَا؟ فَقَالَ: أَوَقَعَ ذَلِكَ يَا ابْنَ أَخِي فِي قَلْبِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي،

ص: 347

وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ، إِذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ، وَإِذَا سَمِعَا خَطَأً تَرَكَاهُ، وَأَنْتَ وَذَوُوكَ مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ.

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الدِّينُ الْكَامِلُ، وَالْعَقْلُ الرَّاجِحُ، لَا كَمَنْ يَأْتِي بِالْهَذَيَانِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ الْقُلُوبِ مَنْزِلَةَ الْقُرْآنِ. انْتَهَى مِنْهُ.

التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ

اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِلْأَئِمَّةِ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى قَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ، وَإِجْمَاعُ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ; لِأَنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ.

وَلَا يَجُوزُ الْبَتَّةَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَوْلِهِ: هَذَا الْحُكْمُ قَالَهُ الْإِمَامُ الَّذِي قَلَّدْتُهُ أَوْ أَفْتَى بِهِ.

أَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59]، وَقَالَ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [16 \ 116]، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ، لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا، وَأَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ مِنَ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْمُقَلِّدَ الَّذِي يَقُولُ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِأَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَطْعًا.

فَهُوَ دَاخِلٌ بِلَا شَكٍّ فِي عُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [7 \ 33] .

فَدُخُولُهُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ كَمَا

ص: 348

تَرَى، وَهُوَ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [2 \ 169] .

وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَدْ قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثْنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ عَنْ سُفْيَانَ. ح، وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرْنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: أَمْلَاهُ عَلَيْنَا إِمْلَاءً.

ح وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنِ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ» الْحَدِيثَ.

وَفِيهِ: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، وَلَكِنَ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي، أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا» . هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ.

وَفِيهِ النَّهْيُ الصَّرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسْبَةِ حُكْمٍ إِلَى اللَّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ بِأَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ لَا يَتَجَرَّءُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبُغَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَضَّاحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، قَالَ: قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ: إِيَّاكُمْ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي شَيْءٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا أَوْ نَهَى عَنْهُ، فَيَقُولَ اللَّهُ: كَذَبْتَ لَمْ أُحَرِّمْهُ وَلَمْ أَنْهَ عَنْهُ.

قَالَ: أَوْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ أَحَلَّ هَذَا وَأَمَرَ بِهِ، فَيَقُولَ: كَذَبْتَ لَمْ أُحِلَّهُ وَلَمْ آمُرْ بِهِ.

وَذَكَرَ ابْنُ وَهَبٍ وَعَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ أَنَّهُمَا سَمِعَا مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ مِنَ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا وَلَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ.

مَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ هَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا، وَنَتَّقِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا.

ص: 349

وَزَادَ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ: وَلَا يَقُولُونَ حَلَالٌ وَحَرَامٌ.

أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [10 \ 59] .

الْحَلَّالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا أَنَّ مَا أُخِذَ مِنَ الْعِلْمِ رَأْيًا وَاسْتِحْسَانًا لَمْ نُقِلْ فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي تَفْسِيرِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ [16 \ 116] مَا نَصُّهُ: أَسْنَدَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي مَسْنَدِهِ أَخْبَرَنَا هَارُونُ عَنْ حَفْصٍ عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ قَطُّ يَقُولُ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَلَكِنْ كَانَ يَقُولُ: كَانُوا يَكْرَهُونَ وَكَانُوا يَسْتَحِبُّونَ.

وَقَالَ ابْنُ وَهَبٍ: قَالَ مَالِكٌ: لَمْ يَكُنْ مِنْ فُتْيَا النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ.

وَلَكِنْ يَقُولُونَ: إِيَّاكُمْ وَكَذَا وَكَذَا. وَلَمْ أَكُنْ لِأَصْنَعَ هَذَا.

وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ عز وجل وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَوْ يُصَرِّحَ بِهَذَا فِي عَيْنٍ مِنَ الْأَعْيَانِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ تَعَالَى صَرَّحَ بِذَلِكَ عَنْهُ.

وَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَنَّهُ حَرَامٌ يَقُولُ: إِنِّي أَكْرَهُ كَذَا.

وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكٌ يَفْعَلُ اقْتِدَاءً بِمَنْ تَقَدَّمُ مِنْ أَهْلِ الْفَتْوَى. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَإِذَا كَانَ مَالِكٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَتَجَرَّءُونَ أَنْ يَقُولُوا فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ: هَذَا حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ.

فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِشَيْءٍ مِنْ نُورِ الْوَحْيِ؟

فَتَجَرُّؤُهُمْ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بِلَا مُسْتَنَدٍ مِنَ الْكِتَابِ إِنَّمَا نَشَأَ لَهُمْ مِنَ الْجَهْلِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَآثَارِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.

وَآيَةُ يُونُسَ الْمُتَقَدِّمَةُ صَرِيحَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَا صَرَاحَةً تُغْنِي عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا ; لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا [10 \ 59] أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ.

ص: 350

وَلَمْ يَجْعَلْ وَاسِطَةً بَيْنَ إِذْنِهِ فِي ذَلِكَ وَبَيْنَ الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ بِتَحْرِيمِ هَذَا أَوْ تَحْلِيلًا فَلْيَعْتَمِدْ عَلَى إِذْنِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ.

وَمِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ لَفْظِ الْآيَةِ لَا بِخُصُوصِ سَبَبِهَا.

فَالَّذِينَ يَقُولُونَ مِنَ الْجَهَلَةِ الْمُقَلِّدِينَ: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ أَقْوَالَ الْإِمَامِ الَّذِي قَلَّدُوهُ تَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتُغْنِي عَنْهُمَا، وَأَنَّ تَرْكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاكْتِفَاءَ بِأَقْوَالِ مَنْ قَلَّدُوهُ أَسْلَمَ لِدِينِهِ أَعْمَتْهُمْ ظُلُمَاتُ الْجَهْلِ الْمُتَرَاكِمَةُ عَنِ الْحَقَائِقِ حَتَّى صَارُوا يَقُولُونَ هَذَا.

فَهُمْ كَمَا تَرَى، مَعَ أَنَّ الْإِمَامَ الَّذِي قَلَّدُوهُ، مَا كَانَ يَتَجَرَّأُ عَلَى مِثْلِ الَّذِي تَجَرَّءُوا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عِلْمَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [39 \ 9] .

التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ

اعْلَمْ أَنَّ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ مَعْرِفَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الِاتِّبَاعِ لَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهِ بِحَالٍ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ظَهَرَ دَلِيلُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْلِيدُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ كُلَّ اجْتِهَادٍ يُخَالِفُ النَّصَّ، فَهُوَ اجْتِهَادٌ بَاطِلٌ، وَلَا تَقْلِيدَ إِلَّا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ الْمُجْتَهِدِينَ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ مُخَالَفَتُهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ.

وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيمَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إِجْمَاعًا إِذْ لَا أُسْوَةَ فِي غَيْرِ الْحَقِّ، فَلَيْسَ فِيمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ إِلَّا الِاتِّبَاعُ فَقَطْ.

وَلَا اجْتِهَادَ، وَلَا تَقْلِيدَ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ، مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ - سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارِضِ.

ص: 351

وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يَكَادُ يُنَازِعُ فِي صِحَّةِ مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ ابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: التَّقْلِيدُ مَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إِلَى قَوْلٍ لَا حُجَّةَ لِقَائِلِهِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ، وَالِاتِّبَاعُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ.

وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ: كُلُّ مَنِ اتَّبَعْتَ قَوْلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْكَ قَوْلُهُ لِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ فَأَنْتَ مُقَلِّدُهُ، وَالتَّقْلِيدُ فِي دِينِ اللَّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ.

وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ عَلَيْكَ الدَّلِيلُ اتِّبَاعَ قَوْلِهِ فَأَنْتَ مُتَّبِعُهُ، وَالِاتِّبَاعُ فِي الدِّينِ مُسَوَّغٌ وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ. اهـ.

وَقَالَ ابْنُ الْقِيِّمِ رحمه الله فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: وَقَدْ فَرَّقَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله بَيْنَ التَّقْلِيدِ وَالِاتِّبَاعِ.

فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: الِاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدٍ فِي التَّابِعَيْنِ مُخَيَّرٌ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ: أَمَّا كَوْنُ الْعَمَلِ بِالْوَحْيِ اتِّبَاعًا لَا تَقْلِيدًا فَهُوَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ اتِّبَاعًا كَثِيرَةٌ جِدًّا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [7 \ 3] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [39 \ 55] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [7 \ 203] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [10 \ 15] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [6 \ 155] .

ص: 352

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [6 \ 106] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [46 \ 9] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

فَالْعَمَلُ بِالْوَحْيِ، هُوَ الِاتِّبَاعُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ اتِّبَاعَ الْوَحْيِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْآيَاتِ لَا يَصِحُّ اجْتِهَادٌ يُخَالِفُهُ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي شَيْءٍ يُخَالِفُهُ.

فَاتَّضَحَ مِنْ هَذَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَالتَّقْلِيدِ، وَأَنَّ مَوَاضِعَ الِاتِّبَاعِ لَيْسَتْ مَحَلًّا أَصْلًا لِلِاجْتِهَادِ وَلَا لِلتَّقْلِيدِ، فَنُصُوصُ الْوَحْيِ الصَّحِيحَةُ الْوَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ السَّالِمَةُ مِنَ الْمُعَارِضِ لَا اجْتِهَادَ وَلَا تَقْلِيدَ مَعَهَا الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا وَالْإِذْعَانَ لَهَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ شُرُوطَ الْمُجْتَهِدِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْأُصُولِيُّونَ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الِاجْتِهَادِ، وَمَوْضِعُ الِاتِّبَاعِ لَيْسَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ.

فَجَعْلُ شُرُوطِ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمُتَّبِعِ مَعَ تَبَايُنِ الِاجْتِهَادِ وَالِاتِّبَاعِ وَتَبَايُنِ مَوَاضِعِهِمَا خَلْطٌ وَخَبْطٌ، كَمَا تَرَى.

وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْوَحْيِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إِلَّا عِلْمُهُ بِمَا يَعْمَلُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَحْيِ الَّذِي يَتَّبِعُهُ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ عِلْمُ حَدِيثٍ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَعِلْمُ آيَةٍ وَالْعَمَلُ بِهَا.

وَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى تَحْصِيلِ جَمِيعِ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ، فَيَلْزَمُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَعْمَلُ بِكُلِّ مَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْخَيْرِ.

التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ

اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَنِ الْمُقَلِّدِينَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى الْمَذْكُورِ، يَقُولُونَ:

هَذَا الَّذِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ وَتَأْمُرُونَنَا بِهِ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَى آرَاءِ

ص: 353

الرِّجَالِ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ ; لِأَنَّا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِمَا.

وَلَا يُمْكِنُنَا مَعْرِفَةُ شَيْءٍ مِنَ الشَّرْعِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْإِمَامِ الَّذِي نُقَلِّدُهُ ; لِأَنَّا لَمْ نَتَعَلَّمْ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ.

فَإِذَا لَمْ نُقَلِّدْ إِمَامَنَا بَقِينَا فِي حَيْرَةٍ لَا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ عِبَادَاتِنَا وَلَا مُعَامَلَاتِنَا، وَتَعَطَّلَتْ بَيْنَنَا الْأَحْكَامُ إِذْ لَا نَعْرِفُ قَضَاءً وَلَا فَتْوَى وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ مَذْهَبِ إِمَامِنَا ; لِأَنَّ أَحْكَامَهُ مُدَوَّنَةٌ عِنْدَنَا وَهِيَ الَّتِي نَتَعَلَّمُهَا وَنَتَدَارَسُهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَمَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْآخَرِينَ.

وَنَحْنُ نَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ ضَيَّقْتُمْ وَاسِعًا. وَادَّعَيْتُمُ الْعَجْزَ، وَعَدَمَ الْقُدْرَةِ فِي أَمْرٍ سَهْلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ الرَّاهِنَةَ لِلْمُقَلِّدِينَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى لِلْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ تَقْتَضِي صُعُوبَةً شَدِيدَةً جِدًّا فِي طَرِيقِ التَّحَوُّلِ مِنَ التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى إِلَى الِاسْتِضَاءَةِ بِنُورِ الْوَحْيِ.

وَذَلِكَ إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ شِدَّةِ التَّفْرِيطِ فِي تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا إِعْرَاضًا كُلِّيًّا يَتَوَارَثُهُ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ، وَالْآبَاءُ عَنِ الْأَجْدَادِ، فَالدَّاءُ الْمُسْتَحْكِمُ مِنْ مِئَاتِ السِّنِينَ لَا بُدَّ لِعِلَاجِهِ مِنْ زَمَنٍ طَوِيلٍ.

وَنَحْنُ لَا نَقُولُ: إِنَّ الْجَاهِلَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَعْمَلُ بِهِمَا بِاجْتِهَادِهِ، بَلْ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ أَنْ نَقُولَ ذَلِكَ.

وَلَكِنَّا نَقُولُ: إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَجِبُ تَعَلُّمُهُمَا، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمَا وَأَنَّ كُلَّ مَا عَلِمَهُ الْمُكَلَّفُ مِنْهُمَا عِلْمًا صَحِيحًا نَاشِئًا عَنْ تَعَلُّمٍ صَحِيحٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، فَالْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى إِنَّمَا نَشَأَتْ مِنْ تَوَارُثِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا إِعْرَاضًا كُلِّيًّا اكْتِفَاءً عَنْهُمَا بِغَيْرِهِمَا، وَهَذَا مِنَ أَعْظَمِ الْمُنْكِرِ وَأَشْنَعِ الْبَاطِلِ.

فَالَّذِي نَدْعُو إِلَيْهِ هُوَ الْمُبَادَرَةُ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِمَا بِتَعَلُّمِهِمَا أَوَّلًا ثُمَّ الْعَمَلِ بِهِمَا وَالتَّوْبَةِ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمَا.

وَدَعْوَى أَنَّ تَعَلُّمَهُمَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، لَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِهَا عَاقِلٌ، وَنُعِيذُ أَنْفُسَنَا وَإِخْوَانَنَا بِاللَّهِ أَنْ يَدَّعُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ فَهْمِ كِتَابِ اللَّهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ الْكُفَّارِ لَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

ص: 354

حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [41 \ 1 - 5] .

فَاحْذَرْ يَا أَخِي وَارْحَمْ نَفْسَكَ أَنْ تَقُولَ مِثْلَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ وَكُنْتَ تَسْمَعُ رَبَّكَ يَقُولُ: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [54 \ 17]، وَيَقُولُ: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [44 \ 58] .

وَيَقُولُ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [38 \ 29] .

فَلَا تُخْرِجْ نَفْسَكَ مِنْ عُمُومِ أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ ; لِأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ اعْتَرَفْتَ عَلَى نَفْسِكَ أَنَّكَ لَسْتَ مِنْ جُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَخْلُو الْمُقَلِّدُونَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، مِنْ أحَدِ أَمْرَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَلَّا يَلْتَفِتُوا إِلَى نُصْحِ نَاصِحٍ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى تَقْلِيدِهِمُ الْأَعْمَى، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ نُورِ الْوَحْيِ عَمْدًا، وَتَقْدِيمِ رَأْيِ الرِّجَالِ عَلَيْهِ.

وَهَذَا الْقِسْمُ مِنْهُمْ لَا نَعْلَمُ لَهُ عُذْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا أَحَدٍ مِنَ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَمْدًا مَعَ سُهُولَةِ تَعَلُّمِ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ بِأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ.

وَمَنْ كَانَ هَذَا شَأْنُهُ وَهُوَ تَامُّ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ قَادِرٌ عَلَى التَّعَلُّمِ فَعَدَمُ عُذْرِهِ كَمَا تَرَى.

الْأَمْرُ الثَّانِي: هُوَ أَنْ يَنْدَمَ الْمُقَلِّدُونَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي تَعَلُّمِ الْوَحْيِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَيُبَادِرُوا إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَشْرَعُوا فِي ذَلِكَ بِجِدٍّ. تَائِبِينَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّفْرِيطِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي نَدْعُو إِخْوَانَنَا إِلَيْهِ.

التَّنْبِيهُ السَّادِسُ

لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ الضَّرُورَةَ لَهَا أَحْوَالٌ خَاصَّةٌ تَسْتَوْجِبُ أَحْكَامًا غَيْرَ

ص: 355

أَحْكَامِ الِاخْتِيَارِ.

فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَلْجَأَتْهُ الضَّرُورَةُ إِلَى شَيْءٍ إِلْجَاءً صَحِيحًا حَقِيقِيًّا، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ.

وَقَدِ اسْتَثْنَى اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - حَالَةَ الِاضْطِرَارِ فِي خَمْسِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، ذَكَرَ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَغْلَظِ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا وَهِيَ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلَّمَا ذَكَرَ تَحْرِيمَهَا اسْتَثْنَى مِنْهَا حَالَةَ الضَّرُورَةِ، فَأَخْرَجَهَا مَنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ.

قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [6 \ 145] .

وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [6 \ 119] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّحْلِ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [16 \ 115] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2 \ 173] .

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [5 \ 3] .

وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لِلتَّقْلِيدِ الْأَعْمَى اضْطِرَارًا حَقِيقِيًّا، بِحَيْثُ يَكُونُ لَا قُدْرَةَ لَهُ الْبَتَّةَ، عَلَى غَيْرِهِ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ لِكَوْنِهِ لَا قُدْرَةَ لَهُ أَصْلًا عَلَى الْفَهْمِ، أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْفَهْمِ وَقَدْ عَاقَتْهُ عَوَائِقُ قَاهِرَةٌ عَنِ التَّعَلُّمِ.

أَوْ هُوَ فِي أَثْنَاءِ التَّعَلُّمِ وَلَكِنَّهُ يَتَعَلَّمُ تَدْرِيجًا لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.

ص: 356

أَوْ لَمْ يَجِدْ كُفْئًا يَتَعَلَّمُ مِنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي التَّقْلِيدِ الْمَذْكُورِ لِلضَّرُورَةِ ; لِأَنَّهُ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنْهُ.

أَمَّا الْقَادِرُ عَلَى التَّعَلُّمِ الْمُفَرِّطُ فِيهِ، وَالْمُقَدِّمُ آرَاءَ الرِّجَالِ عَلَى مَا عَلِمَ مِنَ الْوَحْيِ، فَهَذَا الَّذِي لَيْسَ بِمَعْذُورٍ.

التَّنْبِيهُ السَّابِعُ

اعْلَمْ أَنَّ مَوْقِفَنَا مِنَ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله مِنَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ هُوَ مَوْقِفُ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْصِفِينَ مِنْهُمْ.

وَهُوَ مُوَالَاتُهُمْ، وَمَحَبَّتُهُمْ، وَتَعْظِيمُهُمْ، وَإِجْلَالُهُمْ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِمْ، بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَاتِّبَاعُهُمْ فِي الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَتَقْدِيمِهِمَا عَلَى رَأْيِهِمْ، وَتَعَلُّمُ أَقْوَالِهِمْ لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى الْحَقِّ، وَتَرْكُ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْهَا.

وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا فَالصَّوَابُ النَّظَرُ فِي اجْتِهَادِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ يَكُونُ اتِّبَاعُ اجْتِهَادِهِمْ أَصْوَبُ مِنِ اجْتِهَادِنَا لِأَنْفُسِنَا ; لِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ عِلْمًا وَتَقْوَى مِنَّا.

وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ وَنَحْتَاطَ لِأَنْفُسِنَا فِي أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ إِلَى رِضَا اللَّهِ وَأَحْوَطِهَا وَأَبْعَدِهَا مِنَ الِاشْتِبَاهِ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:«دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» .

وَقَالَ: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ» .

وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ الْفَصْلِ فِي الْأَئِمَّةِ رحمهم الله أَنَّهُمْ مِنْ خِيَارِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ، فَكُلُّ مَا أَصَابُوا فِيهِ فَلَهُمْ فِيهِ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَأَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَمَا أَخْطَئُوا فِيهِ فَهُمْ مَأْجُورُونَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ مَعْذُورُونَ فِي خَطَئِهِمْ فَهُمْ مَأْجُورُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، لَا يَلْحَقُهُمْ ذَمٌّ وَلَا عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ فِي ذَلِكَ.

وَلَكِنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم حَاكِمَانِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَقْوَالِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى.

فَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ فَلَا تَكُ مِمَّنْ يَذُمُّهُمْ وَيَنْتَقِصُهُمْ وَلَا مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَقْوَالَهُمْ مُغْنِيَةً عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِمَا.

ص: 357

التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ

اعْلَمْ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَئِمَّةِ أُخِذَتْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ، وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

أَمَّا الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله فَهُوَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُهُمْ رَأْيًا.

وَلِكَثْرَةِ الْمَسَائِلِ الَّتِي حَصَلَ فِيهَا الْقِيلُ وَالْقَالُ مِنْ ذَلِكَ لَا نَحْتَاجُ إِلَى بَسْطِ تَفْصِيلِهَا.

وَبَعْضُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِيهَا، وَبَعْضُهَا قَدْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِيهَا، وَلَكِنَّهُ تَرَكَهَا لِشَيْءٍ آخَرَ ظَنَّهُ أَرْجَحَ مِنْهَا، كَتَرْكِهِ الْعَمَلَ لِحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ.

وَحَدِيثِ تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ احْتِرَامًا لِلنُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ظَنِّهِ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَأَنَّ الْقَضَاءَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ نَسْخٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [2 \ 282] .

فَاحْتَرَمَ النَّصَّ الْقُرْآنِيَّ الْمُتَوَاتِرَ، فَلَمْ يَرْضَ نَسْخَهُ بِخَبَرٍ آحَادٍ سَنَدُهُ دُونَ سَنَدِهِ ; لِأَنَّ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ عِنْدَهُ رَفْعٌ لِلْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ.

وَكَذَلِكَ حَدِيثُ تَغْرِيبِ الزَّانِي الْبِكْرِ فَهُوَ عِنْدُهُ زِيَادَةٌ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [24 \ 2] ، وَالْمُتَوَاتِرُ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ.

فَتَرْكُهُ الْعَمَلَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْأَحَادِيثِ بَنَاهُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُنْسَخُ بِالْآحَادِ.

وَخَالَفَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَوَافَقُوهُ فِي الثَّانِيَةِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا وَنَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّ كِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ.

أَمَّا الزِّيَادَةُ فَيَجِبُ فِيهَا التَّفْصِيلُ، فَإِنْ كَانَتْ أَثْبَتَتْ حُكْمًا نَفَاهُ النَّصُّ أَوْ نَفَتْ حُكْمًا أَثْبَتَهُ النَّصُّ فَهِيَ نَسْخٌ.

ص: 358

وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلنَّصِّ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ بَلْ زَادَتْ شَيْئًا سَكَتَ عَنْهُ النَّصُّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ نَسْخًا لِأَنَّهَا إِنَّمَا رَفَعَتِ الْإِبَاحَةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي هِيَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَرَفْعُهَا لَيْسَ نَسْخًا إِجْمَاعًا.

وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، فَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْهُ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ الْبَتَّةَ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَ تَأَخُّرُهَا عَنِ الْمُتَوَاتِرِ لَا وَجْهَ لِرَدِّهَا، وَلَا تَعَارُضَ الْبَتَّةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ خَبَرَيْنِ اخْتَلَفَ زَمَنُهُمَا، لِجَوَازِ صِدْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهِ.

فَلَوْ أَخْبَرَكَ مَثَلًا عَدَدٌ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، بِأَنَّ أَخَاكَ الْغَائِبَ لَمْ يَزَلْ غَائِبًا وَلَمْ يَأْتِ مَنْزِلَهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِمَنْزِلِهِ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ، ثُمَّ أَخْبَرَكَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِأَنَّ أَخَاكَ مَوْجُودٌ فِي مَنْزِلِهِ الْآنَ، فَهَلْ يَسُوغُ لَكَ أَنْ تَقُولَ لَهُ كَذَبْتَ، لِأَنِّي أَخْبَرَنِي عَدَدٌ كَثِيرٌ قَبْلَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ؟

وَلَوْ قُلْتَ لَهُ ذَلِكَ لَقَالَ لَكَ هُمْ فِي وَقْتِ إِخْبَارِهِمْ لَكَ صَادِقُونَ، وَلَكِنَّ أَخَاكَ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ.

فَالْمُتَوَاتِرُ فِي وَقْتِ نُزُولِهِ صَادِقٌ، وَخَبَرُ الْآحَادِ الْوَارِدُ بَعْدَهُ صَادِقٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ أَفَادَ تَجَدُّدَ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ، فَحَصْرُ الْمُحَرَّمَاتِ مَثَلًا فِي الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الْآيَةَ [6 \ 145] صَادِقٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا يُوجَدُ مُحَرَّمٌ عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا تِلْكَ الْمُحَرَّمَاتِ الْأَرْبَعَ.

فَلَا تَحْرُمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ، وَلَا ذُو النَّابِ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا الْخَمْرُ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ.

فَإِذَا جَاءَ بَعْدُ خَبَرٌ آحَادٌ صَحِيحٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِخَيْبَرَ، فَهَلْ يَسُوغُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:

هَذَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ مَرْدُودٌ لِأَنَّهُ يُعَارِضُ حَصْرَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا [6 \ 145] ؟

وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْخَبَرُ الصَّحِيحُ لَا تُنَاقِضُهُ الْآيَةُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَفَادَ حُكْمًا

ص: 359

جَدِيدًا طَارِئًا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا مِنْ قَبْلُ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ تَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْآيَةُ لَمْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا.

فَتَبَيَّنَ أَنَّ زِيَادَةَ حُكْمٍ طَارِئٍ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا كَانَ قَبْلَهَا.

وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ إِنَّمَا رَفَعَ اسْتِمْرَارَ حُكْمِ الْمُتَوَاتِرِ وَدَلَالَةُ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً حَتَّى يُمْنَعَ نَسْخُهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَقَصْدُنَا مُطْلَقُ الْمِثَالِ لِمَا يُقَالُ: إِنَّ الْإِمَامَ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ بِرَأْيِهِ.

وَغَرَضُنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّهُ رحمه الله لَمْ يُخَالِفْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا لِشَيْءٍ اعْتَقَدَهُ مُسَوِّغًا لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ السُّنَّةَ إِلَّا لِشَيْءٍ يَرَاهُ مُسْتَوْجِبًا لِذَلِكَ شَرْعًا.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عَلَى الرَّأْيِ.

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ مَا نَصُّهُ: وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ أَوْلَى مِنَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.

وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى مَذْهَبَهُ كَمَا قَدَّمَ حَدِيثَ الْقَهْقَهَةِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.

وَقَدَّمَ حَدِيثَ الْوُضُوءِ بِنَبِيذِ التَّمْرِ فِي السَّفَرِ مَعَ ضَعْفِهِ عَلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.

وَمَنَعَ قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ لِسَرِقَةٍ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ.

وَجَعَلَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَالْحَدِيثُ فِيهِ ضَعِيفٌ.

وَشَرَطَ فِي إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ الْمِصْرَ، وَالْحَدِيثُ فِيهِ كَذَلِكَ.

وَتَرَكَ الْقِيَاسَ الْمَحْضَ فِي مَسَائِلِ الْآبَارِ لِآثَارٍ فِيهَا غَيْرِ مَرْفُوعَةٍ.

فَتَقْدِيمُ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ قَوْلُهُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي اصْطِلَاحِ السَّلَفِ هُوَ الضَّعْفُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ ; بَلْ مَا يُسَمِّيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ حَسَنًا قَدْ يُسَمِّيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ ضَعِيفًا. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا ذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رحمه الله خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ لُزُومُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَتَعَيُّنُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فِي الدُّخُولِ فِيهَا، وَالسَّلَامُ لِلْخُرُوجِ مِنْهَا،

ص: 360

وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِيهَا، وَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ.

وَلَا يَتَّسِعُ الْمَقَامُ هُنَا لِذِكْرِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَمُنَاقَشَةِ الْأَدِلَّةِ.

بَلِ الْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنْ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهِ شَيْءٌ خَالَفَ فِيهِ سُنَّةً وَأَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوهَا إِلَّا لِشَيْءٍ سَوَّغَ لَهُمْ ذَلِكَ.

وَعِنْدَ الْمُنَاقَشَةِ الدَّقِيقَةِ قَدْ يَظْهَرُ أَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُمْ وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُمْ مَأْجُورُونَ وَمَعْذُورُونَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.

وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَالِكٍ رحمه الله أَشْيَاءَ قَالَ: إِنَّهُ خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رحمه الله فِي جَامِعِهِ: وَقَدْ ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ غَانِمٍ فِي مَجْلِسِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَغْلَبِ يُحَدِّثُ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَحْصَيْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ سَبْعِينَ مَسْأَلَةً، كُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا قَالَ مَالِكٌ فِيهَا بِرَأْيِهِ، قَالَ: وَلَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ كَلَامِ اللَّيْثِ هَذَا عَنْ مَالِكٍ لَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنِ الْمَسَائِلَ الْمَذْكُورَةَ وَلَا أَدِلَّتَهَا.

فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ فِيهَا مَعَ مَالِكٍ لِأَدِلَّةٍ خَفِيَتْ عَلَى اللَّيْثِ، فَلَيْسَ خَفَاؤُهَا عَلَى مَالِكٍ بِأَوْلَى مِنْ خَفَائِهَا عَلَى اللَّيْثِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمُدَوَّنَ فِيهِ فُرُوعٌ تُخَالِفُ بَعْضَ نُصُوصِ الْوَحْيِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَبْلُغْهُ رحمه الله وَلَوْ بَلَغَهُ لِعَمِلَ بِهِ.

وَأَنَّ بَعْضَهَا بَلَغَهُ وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لِشَيْءٍ آخَرَ يَعْتَقِدُهُ دَلِيلًا أَقْوَى مِنْهُ.

وَمِنَ أَمْثِلَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ فِيهِ - صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ بَعْدَ صَوْمِ رَمَضَانَ.

قَالَ رحمه الله فِي الْمُوَطَّأِ مَا نَصُّهُ: إِنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا وَلَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.

وَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ،

ص: 361

وَأَنْ يُلْحِقَ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْجَفَاءِ، وَلَوْ رَأَوْا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرَأَوْهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَفِيهِ تَصْرِيحُ مَالِكٍ رحمه الله بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَهُ التَّرْغِيبُ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكَانَ يَصُومُهَا وَيَأْمُرُ بِصَوْمِهَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ بِكَرَاهَتِهَا.

وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْأَفُ وَأَرْحَمُ بِالْأُمَّةِ مِنْهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [9 \ 128] .

فَلَوْ كَانَ صَوْمُ السُّنَّةِ يَلْزَمُهُ الْمَحْذُورُ الَّذِي كَرِهَهَا مَالِكٌ مِنْ أَجْلِهِ لَمَا رَغَّبَ فِيهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَرَاعَى الْمَحْذُورَ الَّذِي رَاعَاهُ مَالِكٌ.

وَلَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَلْغَى الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ وَأَهْدَرَهُ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَلْتَبِسَ بِشَيْءٍ مِنْ شَوَّالَ.

كَمَا أَنَّ النَّوَافِلَ الْمُرَغَّبَ فِيهَا قَبْلَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ وَبَعْدَهَا لَمْ يَكْرَهْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَشْيَةَ أَنْ يُلْحِقَهَا الْجَهَلَةُ بِالْمَكْتُوبَاتِ لِشُهْرَةِ الْمَكْتُوبَاتِ الْخَمْسِ وَعَدَمِ الْتِبَاسِهَا بِغَيْرِهَا.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِإِمَامٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكْرُوهٌ لِخَشْيَةِ أَنْ يَظُنَّهُ الْجُهَّالُ مِنْ جِنْسِ الْوَاجِبِ.

وَصِيَامُ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَتَرْغِيبُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ ثَابِتٌ عَنْهُ.

قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ جَمِيعًا عَنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه ; أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّرْغِيبِ فِي صَوْمِ السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَالْقَوْلُ بِكَرَاهَتِهَا مِنْ

ص: 362

غَيْرِ مُسْتَنَدٍ مِنَ أَدِلَّةِ الْوَحْيِ خَشْيَةَ إِلْحَاقِ الْجُهَّالِ لَهَا بِرَمَضَانَ، لَا يَلِيقُ بِجَلَالَةِ مَالِكٍ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ كَلَامِهِ نَفْسِهِ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: لَمْ يَبْلُغْنِي ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَلَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ لِعَمِلَ بِهِ ; لِأَنَّهُ رحمه الله مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْرَصِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ.

وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا النِّسَائِيَّ، وَصَوْمُ السُّنَّةِ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ ثَوْبَانُ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ نَيْلِ الْأَوْطَارِ.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ إِسْنَادُ مُسْلِمٍ الْمَذْكُورُ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَلَامِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ لِتَوْثِيقِ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ وَاعْتِمَادِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِ فِي صَحِيحِهِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ مَالِكًا رحمه الله فِيهِ السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِفْرَادُ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَدْ قَالَ رحمه الله فِي الْمُوَطَّأِ مَا نَصُّهُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ، وَمَنْ يُقْتَدَى بِهِ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ، وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَفِيهِ تَصْرِيحُهُ رحمه الله بِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَنْهَى عَنْ صَوْمِ الْجُمُعَةِ.

وَأَنَّ ذَلِكَ حَسَنٌ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ رَأَى بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَحَرَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَصُومَهُ.

وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُ رحمه الله بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ، وَأَمْرُهُ مَنْ صَامَهُ أَنْ يَصُومَ مَعَهُ يَوْمًا غَيْرَهُ وَإِلَّا أَفْطَرَ إِنِ ابْتَدَأَ صِيَامَهُ نَاوِيًا إِفْرَادَهُ.

وَلَوْ بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَمِلَ بِهَا وَتَرَكَ الْعَمَلَ بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا رضي الله عنه: أَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. زَادَ غَيْرُ أَبِي عَاصِمٍ: يَعْنِي أَنْ يَنْفَرِدَ بِصَوْمِهِ.

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ

ص: 363

أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «لَا يَصُومُ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» .

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ، ح وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أُبَيٍّ عَنْ جُوَيْرِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ رضي الله عنها:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةَ وَهِيَ صَائِمَةٌ، فَقَالَ: أَصْمُتِ أَمْسِ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا؟ قَالَتْ: لَا. قَالَ: فَأَفْطِرِي» .

وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ الْجَعْدِ سَمِعَ قَتَادَةَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبٍ: أَنَّ جُوَيْرِيَّةَ حَدَّثَتْهُ فَأَمَرَهَا، فَأَفْطَرَتْ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِهِ.

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ «سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ» .

وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا حَفْصٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، ح وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَاللَّفْظُ لَهُ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ» .

وَفِي لَفْظٍ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةَ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يُصُومُهُ أَحَدُكُمْ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَوْ بَلَغَتْ مَالِكًا مَا خَالَفَهَا، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي كَوْنِهَا لَمْ تَبْلُغْهُ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَمَنْ بِهِ يُقْتَدَى نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَصِيَامُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَصُومُهُ وَأَرَاهُ كَانَ يَتَحَرَّاهُ.

فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي رَآهُ، وَقَدْ رَأَى غَيْرَهُ خِلَافَ مَا رَأَى هُوَ، وَالسُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَا رَآهُ هُوَ وَغَيْرُهُ.

ص: 364

وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَيَتَعَيَّنُ الْقَوْلُ بِهِ، وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ.

قَالَ الدَّاوُدِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا هَذَا الْحَدِيثَ وَلَوْ بَلَغَهُ لَمْ يُخَالِفْهُ. انْتَهَى مِنْهُ.

وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ; لِأَنَّ مَالِكًا مِنْ أَوْرَعِ الْعُلَمَاءِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يَدَعُهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِهَا.

وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» أَيْ كَأَنْ يَنْذُرَ أَحَدٌ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَشْفِي اللَّهُ فِيهِ مَرِيضَهُ، فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ; لِأَنَّ صَوْمَهُ لَهُ لِأَجْلِ النَّذْرِ، الَّذِي لَمْ يَقْصِدْ بِأَصْلِهِ تَعْيِينَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.

وَإِنَّمَا النَّهْيُ فِيمَنْ قَصَدَ بِصَوْمِهِ نَفْسَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهِ.

وَالْغَرَضُ عِنْدَنَا إِنَّمَا هُوَ الْمِثَالُ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ مَالِكًا فِيهَا السُّنَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ بَلَغَتْهُ لَعَمِلَ بِهَا.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هُنَالِكَ بَعْضًا مِنَ النُّصُوصِ تَرَكَ مَالِكٌ الْعَمَلَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ بَلَغَهُ ; لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا تَرَكَ النَّصَّ مِنْ أَجْلِهِ أَرْجَحُ مِنَ النَّصِّ.

وَهَذَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مُنَاقَشَاتٍ دَقِيقَةٍ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَعَ هَذَا الْإِمَامِ تَارَةً وَمَعَ غَيْرِهِ أُخْرَى.

فَقَدْ تَرَكَ مَالِكٌ الْعَمَلَ بِحَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَلَغَ مَالِكًا.

وَقَدْ حَلَفَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْتِي بِثَلَاثٍ. قَالَهَا مَالِكٌ.

وَمُرَادُهُ بِالثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ - عَدَمُ الْقَوْلِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ هَذَا مَعَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ فِيهِ.

وَجِنْسِيَّةُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ مَعَ صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ.

وَالتَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَالِكًا بَلَغَهُ حَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ هَذَا.

ص: 365

فَقَدْ رَوَى فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ; أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إِلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» .

قَالَ مَالِكٌ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ، وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

مَعَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَعْمَلْ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: وَأَشَارَ فِي الْمُوَطَّأِ إِلَى بَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَعَتْهُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلَيْسَ لِهَذَا عِنْدَنَا حَدٌّ مَعْرُوفٌ وَلَا أَمْرٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِيهِ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ لَمْ يُحَدَّدْ بِحَدٍّ مَعْرُوفٍ.

فَصَارَ الْقَوْلُ بِهِ مَانِعًا مِنِ انْعِقَادِ الْبَيْعِ إِلَى حَدٍّ غَيْرِ مَعْرُوفٍ.

وَقَدْ يَكُونُ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ لَا يُمْكِنُهُمُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ، وَقَدْ يَكُونَانِ مَسْجُونَيْنِ فِي مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُهُمَا التَّفَرُّقُ فِيهِ.

وَقَدْ حَمَلَ مَالِكٌ التَّفَرُّقَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الْكَلَامِ، وَصِيغَةِ الْعَقْدِ، قَالَ: وَقَدْ أُطْلِقَ التَّفَرُّقُ عَلَى التَّفَرُّقِ فِي الْكَلَامِ دُونَ الْأَبْدَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [4 \ 130] ، فَالتَّفَرُّقُ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّكَلُّمِ بِصِيغَةِ الطَّلَاقِ لَا بِالْأَبْدَانِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [98 \ 4] ، فَالتَّفَرُّقُ فِي الْآيَةِ تَفَرُّقٌ بِالْكَلَامِ وَالِاعْتِقَادِ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِالْأَبْدَانِ.

وَحُجَجُ مَنِ احْتَجَّ لِمَالِكٍ فِي عَدَمِ أَخْذِهِ بِحَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ.

مِنْهَا مَا هُوَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ [2 \ 282]، وَقَوْلِهِ: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [5 \ 1]، وَقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [4 \ 29] .

وَمِنْهَا مَا هُوَ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا هُنَا بَسْطُ الْحُجَجِ وَمُنَاقَشَتُهَا، وَإِنَّمَا غَرَضُنَا الْمِثَالُ ; لِأَنَّ الْإِمَامَ قَدْ يَتْرُكُ نَصًّا بَلَغَهُ لِاعْتِقَادِ أَنَّ مَا تُرِكَ مِنْ أَجْلِهِ النَّصُّ أَرْجَحُ مِنْ نَفْسِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ مُرَاعَاةُ الْمَخْرَجِ وَالنَّجَاةِ لِنَفْسِهِ فَيَنْظُرُ فِي الْأَدِلَّةِ، وَيَعْمَلُ بِأَقْوَاهَا وَأَقْرَبِهَا إِلَى رَضَا اللَّهِ.

كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغُ بِالْمَشْيِ إِلَى مَكَّةَ، لَا يُفْتِي بِقَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذَا.

ص: 366

مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ مَالِكِيٌّ، لِأَنَّهُ رَأَى الْأَدِلَّةَ وَاضِحَةً وُضُوحًا لَا لَبْسَ فِيهِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ.

وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ رَاوِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْصِفَ إِذَا تَأَمَّلَ تَأَمُّلًا صَادِقًا خَالِيًا مِنَ التَّعَصُّبِ عَرَفَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ ثُبُوتُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّفَرُّقِ التَّفَرُّقُ فِي الْأَبْدَانِ لَا بِالْكَلَامِ ; لِأَنَّ مَعْنَى التَّفَرُّقِ بِالْكَلَامِ هُوَ حُصُولُ الْإِيجَابِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْقَبُولِ مِنَ الْمُشْتَرِي.

وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْخِيَارَ حَاصِلٌ لِكُلٍّ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ضَرُورَةً قَبْلَ حُصُولِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَحَمْلُ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا حَمْلٌ لَهُ عَلَى تَحْصِيلِ حَاصِلٍ، وَهُوَ كَمَا تَرَى.

مَعَ أَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَسَاوِمَانِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الْمُتَبَايِعَيْنِ حَقِيقَةً إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ.

وَحَمْلُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُتَسَاوِمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ خِلَافُ الظَّاهِرِ أَيْضًا كَمَا تَرَى.

وَأَمَّا كَوْنُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ جِنْسًا وَاحِدًا، فَقَدِ اسْتَدَلَّ لَهُ مَالِكٌ بِبَعْضِ الْآثَارِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

قَالَ فِي الْمُوَطَّأِ: إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ قَالَ: فَنِيَ عَلَفُ حِمَارِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لِغُلَامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ فَابْتَعْ بِهَا شَعِيرًا، وَلَا تَأْخُذْ إِلَّا مِثْلَهُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْأَسْوَدَ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَنِيَ عَلَفُ دَابَّتِهِ، فَقَالَ لِغُلَامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلَكَ فَابْتَعْ بِهَا شَعِيرًا وَلَا تَأْخُذْ إِلَّا مِثْلَهُ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَفِي الْمُوَطَّأِ أَيْضًا: أَنَّ مَالِكًا بَلَغَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ مُعَيْقِيبٍ الدَّوْسِيِّ مِثْلَ

ص: 367

ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

فَهَذِهِ الْآثَارُ هِيَ عُمْدَةُ مَالِكٍ رحمه الله فِي كَوْنِ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ جِنْسًا وَاحِدًا، وَعَضَّدَ ذَلِكَ بِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهِمَا.

وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا تَصِحُّ مُعَارَضَتُهَا الْبَتَّةَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَمَّنْ ذَكَرَ.

وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى إِلَّا مَا اخْتَلَفَتْ أَلْوَانُهُ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ، كَاخْتِلَافِهِمَا مَعَ التَّمْرِ وَالْمِلْحِ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ جَائِزٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ» انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَلِلنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُدَ نَحْوُهُ، وَفِي آخِرِهِ: وَأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا.

قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى لَمَّا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ - مَا نَصُّهُ: وَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ جِنْسَيْنِ، وَمَا قَالَهُ صَحِيحٌ كَمَا تَرَى.

وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنْهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا بَيَانُ صَرَاحَةِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ جِنْسَانِ لَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَا مَعَ صِحَّتِهَا وَوُضُوحِهَا، وَلَا أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا أَثَرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَا أَثَرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَلَا أَثَرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مُعَيْقِيبٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ لِكَوْنِ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ جِنْسًا وَاحِدًا بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ:

ص: 368

أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْمَرًا الْمَذْكُورَ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: وَكَانَ طَعَامُهُمْ يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ، فَقَدْ عَيَّنَ أَنَّ عُرْفَهُمُ الْمُقَارِنَ لِلْخِطَابِ يُخَصِّصُ الطَّعَامَ الْمَذْكُورَ بِالشَّعِيرِ.

وَالْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ: أَنَّ الْعُرْفَ الْمُقَارِنَ لِلْخِطَابِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُنْفَصِلَةِ الَّتِي يُخَصَّصُ بِهَا الْعَامُ قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذَلِكَ:

وَالْعُرْفُ حَيْثُ قَارَنَ الْخِطَابَا

وَدَعْ ضَمِيرَ الْبَعْضِ وَالْأَسْبَابَا

الْأَمْرُ الثَّانِي: إِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى فَرْضِ اعْتِبَارِ عُمُومِهِ، وَعَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْعُرْفِ الْمَذْكُورِ، يَقْتَضِي أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَيَدْخُلُ التَّمْرُ وَالْمِلْحُ لِصِدْقِ الطَّعَامِ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ كَمَا تَرَى.

فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِمَامَ مَالِكًا رحمه الله وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ تَبْلُغْهُمْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ، بِأَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ وَالتَّمْرَ وَالْمِلْحَ أَجْنَاسٌ.

وَأَنَّ الْقَمْحَ يُبَاعُ بِالشَّعِيرِ كَيْفَ شَاءَ الْمُتَبَايِعَانِ إِنْ كَانَ يَدًا بِيَدٍ.

وَأَمَّا التَّدْمِيَةُ الْبَيْضَاءُ فَقَوْلُ مَالِكٍ فِيهَا يُظْهِرُ لَنَا قُوَّتَهُ وَاتِّجَاهَهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

وَقَدْ بَيَّنَ وَجْهَ قَوْلِ مَالِكٍ فِيهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمَا.

وَالْمَسَائِلُ الَّتِي قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّ مَالِكًا خَالَفَ فِيهَا السُّنَّةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَا.

وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ سُجُودِ الشُّكْرِ وَسَجَدَاتُ التِّلَاوَةِ فِي الْمُفَصَّلِ، وَعَدَمُ الْجَهْرِ بِآمِينَ، وَعَدَمُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَعَدَمُ قَوْلِ الْإِمَامِ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، وَعَدَمُ ضَفْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ ثَلَاثَ ضَفَائِرَ، وَتَرْكُ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَجِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ بَعْضَ مَا تَرَكَ مَالِكٌ مِنَ النُّصُوصِ قَدْ بَلَغَتْهُ فِيهِ السُّنَّةُ وَلَكِنَّهُ رَأَى غَيْرَهَا أَرْجَحَ مِنْهَا، وَأَنَّ بَعْضَهَا لَمْ يَبْلُغْهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَكُونُ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي أُخِذَتْ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ نَفْسُهُ رحمه الله: كُلُّ كَلَامٍ فِيهِ مَقْبُولٌ وَمَرْدُودٌ، إِلَّا كَلَامَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ.

وَهُوَ تَارَةٌ يُقَدِّمُ دَلِيلَ الْقُرْآنِ الْمُطْلِقَ أَوِ الْعَامَّ عَلَى السُّنَّةِ الَّتِي هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ ; لِأَنَّ

ص: 369

الْقُرْآنَ أَقْوَى سَنَدًا وَإِنْ كَانَتِ السُّنَّةُ أَظْهَرُ دَلَالَةً، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُبِحْ مَيْتَةَ الْجَرَادِ بِدُونِ ذَكَاةٍ ; لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ عُمُومَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [5 \ 3] . عَلَى حَدِيثِ:«أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» الْحَدِيثَ، وَقَدَّمَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [7 \ 55] ، عَلَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِالْجَهْرِ بِآمِينَ لِأَنَّ التَّأْمِينَ دُعَاءٌ، وَالدُّعَاءُ مَأْمُورٌ بِإِخْفَائِهِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ.

فَالْآيَةُ أَقْوَى سَنَدًا وَأَحَادِيثُ الْجَهْرِ بِالتَّأْمِينِ أَظْهَرُ دَلَالَةً فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ يُقَدِّمُونَ السُّنَّةَ فِي نَحْوِ هَذَا.

وَقَدْ قَدَّمَ مَالِكٌ رحمه الله دَلِيلَ الْقُرْآنِ فِيمَا ذَكَرْنَا كَمَا قَدَّمَهُ أَيْضًا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ سَجْدَتَيِ الْحَجِّ لِأَنَّ نَصَّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ سُجُودُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِيهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ [22 \ 77] ، فَذِكْرُ الرُّكُوعِ مَعَ السُّجُودِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ سُجُودُ الصَّلَاةِ.

وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُجُودَ التِّلَاوَةِ كَقَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [108 \ 2] .

وَلِذَلِكَ لَا يَسْجُدُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْحِجْرِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [15 \ 98] .

قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أَيْ: صَلِّ لِرَبِّكَ مُتَلَبِّسًا بِحَمْدِهِ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي صَلَاتِكَ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ثَانِيَةِ الْحَجِّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا الْآيَةَ [22 \ 77] أَصْرَحُ فِي إِرَادَةِ سُجُودِ الصَّلَاةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.

ثُمَّ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ فَإِنَّنَا نُكَرِّرُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ رحمهم الله لَا يَلْحَقُهُمْ نَقْصٌ وَلَا عَيْبٌ فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ رحمهم الله بَذَلُوا وُسْعَهُمْ فِي تَعَلُّمِ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اجْتَهَدُوا بِحَسَبِ طَاقَتِهِمْ، فَالْمُصِيبُ مِنْهُمْ لَهُ أَجْرُ اجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ، وَالْمُخْطِئُ مِنْهُمْ مَأْجُورٌ فِي اجْتِهَادِهِ مَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، وَلَا يَسَعُنَا هُنَا مُنَاقَشَةُ الْأَدِلَّةِ فِيمَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ رحمهم الله، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا مَعَ الِاعْتِرَافِ بِعِظَمِ مَنْزِلَتِهِمْ أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ

ص: 370

رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم يَجِبُ تَقْدِيمُهُمَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الْخَطَأِ، وَأَنَّ مَذَاهِبَهُمُ الْمُدَوَّنَةَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهَا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَادِرٍ عَلَى التَّعْلِيمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَعْرِفَةُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ تُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَالنَّظَرُ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلٌّ مِنْهُمْ يُعِينُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَرْجَحِ الْأَقْوَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى رِضَا اللَّهِ.

وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَخْلُو مِنْ شَيْءٍ قَدْ أُخِذَ عَلَيْهِ، وَمُرَادُنَا هُنَا التَّمْثِيلُ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ مُقَدَّمٌ عَلَى أَقْوَالِهِمْ جَمِيعًا، وَلَيْسَ قَصْدُنَا الْإِكْثَارُ مِنْ ذَلِكَ.

وَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ بِالْمَطْلُوبِ وَكَانَ الشَّيْخُ رحمه الله أَرْجَأَ إِيرَادَهَا فَنَذْكُرُهَا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ وَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِمَا أَرَادَ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَمِمَّا هُوَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ رحمه الله صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَهُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنَ الشَّعْبَانِ حِينَمَا يُشَكُّ فِيهِ هَلْ هُوَ تَمَامُ شَعْبَانَ أَوْ أَوَّلُ رَمَضَانَ. وَذَلِكَ حِينَمَا تَكُونُ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً خَشْيَةَ أَنْ يَظْهَرَ الْهِلَالُ خَلْفَ الْغَيْمِ أَوِ الْقَتَرِ.

وَلَا يَكُونُ يَوْمَ شَكٍّ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ صَحْوًا لِأَنَّهُ إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ فَهُوَ مِنْ رَمَضَانَ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ شَعْبَانَ.

فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ هُوَ صَوْمُ هَذَا الْيَوْمِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ احْتِيَاطًا لِرَمَضَانَ، وَهُوَ نَصُّ الْمَعْنَى إِلَّا أَنَّهُ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَاتٌ أُخَرُ. وَلَكِنَّ صَوْمَهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْمَذْهَبِ. وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ:«مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» صلى الله عليه وسلم.

قَالَ فِي بُلُوغِ الْمَرَامِ: ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَوَصَلَهُ، قَالَ فِي سُبُلِ السَّلَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إِذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةٍ بِغَيْمٍ سَاتِرٍ، أَوْ نَحْوِهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ رَمَضَانَ وَكَوْنُهُ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِهِ. اهـ.

يَعْنِي بِمَا فِي مَعْنَاهُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلِمُسْلِمٍ «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» وَلِلْبُخَارِيِّ:«فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» .

وَشُبْهَةُ أَحْمَدَ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «فَاقْدِرُوا لَهُ» بِمَعْنَى فَضَيِّقُوا عَلَيْهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ

ص: 371

تَعَالَى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [65 \ 7]، وَلَكِنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ الصَّرِيحِ فِي مَعْنَى «فَاقْدِرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» وَقَوْلِهِ:«فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» أَيْ سَوَاءٌ فِي شَعْبَانَ أَوْ فِي تَمَامِ رَمَضَانَ عِنْدَ الْفِطْرِ، وَلَمْ يَقُلْ بِصَوْمِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا أَحْمَدُ رحمه الله.

وَمِمَّا هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مُجَرَّدِ لَمْسِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِدُونِ حَائِلٍ مَعَ مَا جَاءَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَحَادِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «كُنْتُ أَنَامُ مُعْتَرِضَةً فِي الْقِبْلَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فِي رِجْلِي فَأَقْبِضُهَا فَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهَا» .

وَقَدْ أَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ سَتْرِهَا بِحَائِلٍ فَجَاءَ قَوْلُهَا «افْتَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقُمْتُ أَطْلُبُهُ وَالْحُجُرَاتُ لَيْسَ فِيهِ آنَذَاكَ السُّرُجُ حَتَّى وَقَعَتْ كَفِّي عَلَى بَطْنِ قَدَمِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنَّكِ لَفِي وَادٍ وَأَنَا فِي وَادٍ» .

فَلَمَّا قَامَ لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ ظَنَّتْهُ ذَهَبَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ يُصَلِّي عِنْدَهَا فَقَامَتْ وَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي شَعْرِ رَأْسِهِ تَتَحَسَّسُ هَلِ اغْتَسَلَ أَمْ لَا. إِلَخْ.

وَلَهُمْ أَجْوِبَةٌ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ وَلَكِنَّهَا لَا تَنْهَضُ مَعَ هَذِهِ النُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ.

وَشُبْهَةُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ فِي مَعْنَى: لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [4 \ 43] ، وَلَمْ يَقُلْ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا الشَّافِعِيُّ رحمه الله.

وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْ أَحَدِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُخَالِفَ نَصًّا صَرِيحًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، بِدُونِ أَنْ تَكُونَ لَدَيْهِ شُبْهَةُ مُعَارَضَةٍ بِنَصٍّ آخَرَ، أَوْ عَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إِلَيْهِ، أَوْ عَدَمِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا هَذَيْنَ الْمِثَالَيْنِ تَتِمَّةً لِلْبَحْثِ وَلِمُجَرَّدِ الْمَثَّالِ.

التَّنْبِيهُ التَّاسِعُ

اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَقْلِيدِ الْإِمَامِ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِدَعْوَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعَيْنِ، وَلَا أَحَدٍ غَيْرَ ذَلِكَ الْإِمَامِ

ص: 372

يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَنَبَّهَ تَنَبُّهًا تَامًّا لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَقْوَالِ ذَلِكَ الْإِمَامِ الَّتِي خَالَهَا حَقًّا، وَبَيْنَ مَا أُلْحِقَ بَعْدَهُ عَلَى قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ، وَمَا زَادَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي لَا أَسَاسَ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَلَوْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِإِلْحَاقِهِمْ بِمَذْهَبِهِ، لَتَبَرَّأَ مِنْهَا، وَأَنْكَرَ عَلَى مُلْحِقِهَا، فَنِسْبَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ مِنَ الْبَاطِلِ الْوَاضِحِ.

وَيَزِيدُهُ بُطْلَانًا نِسْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بِدَعْوَى أَنَّهُ شَرَعَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ فِي الْمَذَاهِبِ وَكُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلُ خَلِيلٍ الْمَالِكِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى: كَأَقَلِّ الطُّهْرِ، يَعْنِي أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.

وَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ مَذْهَبَ مَالِكٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ: بِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهَذَا لَمْ يُقِلْهُ مَالِكٌ أَبَدًا وَلَمْ يُفْتِ بِهِ وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَالَّذِي كَانَ يَقُولُهُ مَالِكٌ: أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ أَوْ عَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ أَجِلَّاءُ أَهْلِ مَذْهَبِهِ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ فِي رِسَالَتِهِ رحمه الله.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْلَمَةَ وَاعْتَمَدَهُ صَاحِبُ التَّلْقِينِ، وَجَعَلَهُ ابْنُ شَاشٍ الْمَشْهُورَ، أَيْ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ.

مَعَ أَنَّ مَالِكًا لَمْ يَقُلْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ.

وَمِثَالُ اسْتِحْسَانِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا لَمْ يَقُلْهُ الْإِمَامُ مِمَّا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ الْإِمَامَ لَمْ يَقْبَلْهُ قَوْلُ الْحَطَّابِ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي الصَّوْمِ: وَعَاشُورَاءَ وَتَاسُوعَاءَ - مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: صِيَامُ الْمَوْلِدِ كَرِهَهُ بَعْضُ مَنْ قَرُبَ عَصْرُهُ مِمَّنْ صَلُحَ عِلْمُهُ وَوَرَعُهُ.

قَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَلَّا يُصَامَ فِيهِ، وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُورِيُّ يَذْكُرُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَيَسْتَحْسِنُهُ. انْتَهَى.

قُلْتُ: لَعَلَّهُ يَعْنِي ابْنَ عِبَادٍ. فَقَدْ قَالَ فِي رَسَائِلِهِ الْكُبْرَى مَا نَصُّهُ: وَأَمَّا الْمَوْلِدُ فَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَوْسِمٌ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ، وَكُلُّ مَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا

ص: 373

يَقْتَضِيهِ وُجُودُ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِذَلِكَ الْمَوْلِدِ الْمُبَارَكِ مِنْ إِيقَادِ الشَّمْعِ وَإِمْتَاعِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ وَالتَّزَيُّنِ بِلُبْسِ فَاخِرِ الثِّيَابِ وَرُكُوبِ فَارِهِ الدَّوَابِّ - أَمْرٌ مُبَاحٌ لَا يُنْكَرُ عَلَى أَحَدٍ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَوْقَاتِ الْفَرَحِ.

وَالْحُكْمُ بِكَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِدْعَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ سِرُّ الْوُجُودِ وَارْتَفَعَ فِيهِ عِلْمُ الشُّهُودِ وَانْقَشَعَ فِيهِ ظَلَامُ الْكُفْرِ وَالْجُحُودِ، وَادِّعَاءُ أَنَّ هَذَا الزَّمَانَ لَيْسَ مِنَ الْمَوَاسِمِ الْمَشْرُوعَةِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَمُقَارَنَةُ ذَلِكَ بِالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانُ - أَمْرٌ مُسْتَثْقَلٌ تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ السَّلِيمَةُ وَتَدْفَعُهُ الْآرَاءُ الْمُسْتَقِيمَةُ.

وَلِقَدْ كُنْتُ فِيمَا خَلَا مِنَ الزَّمَانِ خَرَجْتُ فِي يَوْمِ مَوْلِدٍ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَاتَّفَقَ أَنْ وَجَدْتُ هُنَاكَ سَيِّدِي الْحَاجَّ ابْنَ عَاشِرٍ رحمه الله وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ طَعَامًا مُخْتَلِفًا لِيَأْكُلُوهُ هُنَالِكَ.

فَلَمَّا قَدَّمُوهُ لِذَلِكَ أَرَادُوا مِنِّي مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْأَكْلِ، وَكُنْتُ إِذْ ذَاكَ صَائِمًا فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنِّي صَائِمٌ، فَنَظَرَ إِلَيَّ سَيِّدِي الْحَاجُّ نَظْرَةً مُنْكَرَةً، وَقَالَ لِي مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ يَوْمُ فَرَحٍ وَسُرُورٍ يُسْتَقْبَحُ فِي مَثَلِهِ الصِّيَامُ بِمَنْزِلَةِ الْعِيدِ، فَتَأَمَّلْتُ كَلَامَهُ فَوَجَدْتُهُ حَقًّا، وَكَأَنَّنِي كُنْتُ نَائِمًا فَأَيْقَظَنِي. انْتَهَى بِلَفْظِهِ.

فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي يَقْتَضِي قُبْحَ صَوْمِ يَوْمِ الْمَوْلِدِ وَجَعْلَهُ كَيَوْمِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنْ تَابِعِيهِ.

وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ الْمَعْرُوفِينَ الَّذِي أَدْخَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَمَالِكٌ بَرِيءٌ مِنْهُ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَلَمْ يَجْرِ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِ، لِأَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَالْفِطْرِ عِنْدَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَلِّفُ عِبَادَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ عِبَادَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ وَالْأَمْرُ بِهِمَا عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَطِيعُهُمَا، وَإِحْدَاهُمَا تَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ الْحَجُّ. وَالثَّانِيَةُ تَجِبُ كُلَّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْهَا، وَهِيَ الصَّوْمُ، فَإِذَا انْتَهَتْ عِبَادَةُ الْحَجِّ أَوْ عِبَادَةُ الصَّوْمِ أَلْزَمَ اللَّهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَنْ يَكُونُوا فِي ضِيَافَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَ عِيدِ الْفِطْرِ.

فَمَنْ صَامَ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ أَعْرَضَ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ ضِيَافَتِهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ.

ص: 374

فَإِلْحَاقُ يَوْمِ الْمَوْلِدِ بِيَوْمِ الْعِيدِ إِلْحَاقٌ لَا أَسَاسَ لَهُ، لِأَنَّهُ إِلْحَاقٌ لَيْسَ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا وَلَا نَفْيِ فَارِقٍ، وَلَا إِلْحَاقَ الْبَتَّةَ إِلَّا بِجَامِعٍ أَوْ نَفْيِ فَارِقٍ.

وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَطْمِسِ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَعْلَ يَوْمِ الْمَوْلِدِ كَيَوْمِ الْعِيدِ فِي مَنْعِ الصَّوْمِ لَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، فَهُوَ تَشْرِيعٌ لِاسْتِقْبَاحِ قُرْبَةِ الصَّوْمِ وَمَنْعِهَا فِي يَوْمِ الْمَوْلِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إِلَى وَحْيٍ وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ، وَلَا قَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ.

وَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [21 \ 107] ، وَرِسَالَتُهُ صلى الله عليه وسلم هِيَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَى الْخَلْقِ، كَمَا بَيَّنَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا [14 \ 28] ، وَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَالشَّرُّ كُلُّ الشَّرِّ فِي تَشْرِيعِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ، وَالتَّقَوُّلِ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَقُلْهُ.

فَالْمُقَلِّدُونَ لِمَالِكٍ مِثْلَ هَذَا التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى يَعْتَقِدُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ عَنْ زَرْوَقٍ وَابْنِ عَبَّادٍ وَابْنِ عَاشِرٍ، أَنَّهُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَنَّهُ مِنْ شَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ، وَأَنَّهُ مَا دَامَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، فَاللَّازِمُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ إِلَّا لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ.

وَهَذَا مِثَالٌ مِنْ بَلَايَا التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى وَعَظَائِمِهِ.

وَلَا يَخْفَى أَنَّ ادِّعَاءَ أَنَّ وُجُودَ نِعَمِ اللَّهِ كَمَوْلِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْبَاحِ طَاعَةِ اللَّهِ بِالصَّوْمِ فِي أَوْقَاتِ وُجُودِ تِلْكَ النِّعَمِ - ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِنِعَمِ اللَّهِ هُوَ طَاعَتُهُ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كَالصَّوْمِ.

وَلِذَا تَجِدُ النَّاسَ يَنْذُرُونَ لِلَّهِ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يُنْعِمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ بِشِفَاءِ الْمَرِيضِ أَوْ إِتْيَانِ الْغَائِبِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ وَهُوَ الْمَعْقُولُ لَا عَكْسُهُ.

وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ عَلَى الْبَشَرِ ; وَلِأَجْلِ ذَلِكَ عَلَّمَهُمُ اللَّهُ حَمْدَهُ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 375

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [18 \ 1] .

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ هَذِهِ النِّعْمَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ النِّعْمَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مُقْتَضِيًا لِصَوْمِهِ لَا لِجَعْلِ أَيَّامِهِ أَعْيَادًا يُسْتَقْبَحُ صَوْمُهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [2 \ 185] .

وَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ النِّعَمِ، وَقَدْ رَتَّبَ عَلَى هَذَا بِالْفَاءِ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [2 \ 185] ، فَافْهَمْ.

وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْمِثَالِ النَّصِيحَةُ لِلَّذِينِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى غَيْرِ هَذَا التَّقْلِيدِ الْأَعْمَى لِيَبْحَثُوا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ وَأُمَّهَاتِهِ عَنْ أَقْوَالِ الْإِمَامِ وَكِبَارِ أَصْحَابِهِ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، الَّتِي يُدْخِلُهَا الْمُتَأَخِّرُونَ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَهِيَ ظَاهِرَةُ الْفَسَادِ عِنْدَ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ عَلِمًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ أَقْوَالَ مَالِكٍ وَكُبَرَاءَ أَصْحَابِهِ مَثَلًا أَحْرَى بِالصَّوَابِ فِي الْجُمْلَةِ مِنِ اسْتِحْسَانِ ابْنِ عَبَّادٍ وَابْنِ عَاشِرٍ وَأَمْثَالِهِمَا.

التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ

اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا مُتَأَخِّرُو الْأُصُولِيِّينَ الَّتِي تَتَضَمَّنُ حُكْمَهُمْ عَلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - جَلَّ وَعَلَا - لَا يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ يُرِيدُ الْحَقَّ وَالْإِنْصَافَ أَنْ يَعْتَقِدَهَا، وَلَا أَنْ يُصَدِّقَهُمْ فِيهَا لِظُهُورِ عَدَمِ صِحَّتِهَا وَمُخَالَفَتِهَا لِلنَّصِّ، وَالْحُكْمِ فِيهَا عَلَى اللَّهِ بِلَا مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِي يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.

وَهَذِهِ الدَّعْوَى الْمَذْكُورَةُ هِيَ الْمُتَرَكِّبَةُ مِمَّا يَأْتِي، وَهُوَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ قَدِ انْقَرَضَ فِي الدُّنْيَا وَانْسَدَّ بَابُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَخْلُقَ مُجْتَهِدًا وَلَا يُعَلِّمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عِلْمًا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُجْتَهِدًا إِلَى ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ.

وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ بِكِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا أَنْ يُقَلِّدَ أَحَدًا كَائِنًا مَنْ كَانَ غَيْرَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ، كَمَا نَصَّ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى حَاكِيًا إِجْمَاعَهُمْ عَلَيْهَا صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ فِي قَوْلِهِ:

وَالْمُجْمَعُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ الْأَرْبَعَهْ

وَقَفْوُ غَيْرِهَا الْجَمِيعُ مَنَعَهْ

ص: 376

حَتَّى يَجِيءَ الْفَاطِمُ الْمُجَدِّدُ

دِينَ الْهُدَى لِأَنَّهُ مُجْتَهِدُ

وَمُرَادُهُ بِالْفَاطِمِيِّ الْمَهْدِيُّ الْمُنْتَظَرُ ; لِأَنَّهُ شَرِيفٌ.

وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَجِيءَ، حَرْفُ غَايَةِ، وَالْمُغَيَّا بِهِ مَنْعُ تَقْلِيدِ أَحَدٍ غَيْرَ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: وَقَفْوُ غَيْرِهَا الْجَمِيعُ مَنَعَهْ.

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ حَاكِمُونَ عَلَى اللَّهِ الْقَدِيرِ الْعَلِيمِ، بِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُ مُجْتَهِدًا قَبْلَ وُجُودِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ.

وَهَذَا الْحُكْمُ عَلَى اللَّهِ الَّذِي كَلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُقُ مُجْتَهِدًا قَبْلَ الْمَهْدِيِّ مِنْ مُدَّةِ انْقِرَاضِ الِاجْتِهَادِ الْمَزْعُومِ هُوَ يَا أَخِي كَمَا تَرَى.

وَلَا شَكَّ أَنَّكَ إِنْ لَمْ يُعْمِكَ التَّعَصُّبُ الْمَذْهَبِيُّ تَقْطَعُ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ قَدْ صَرَّحَ بِمَا يُنَاقِضُهُ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ:

وَالْأَرْضُ لَا عَنْ قَائِمٍ مُجْتَهِدِ

تَخْلُو إِلَى تَزَلْزُلِ الْقَوَاعِدِ

وَهَذَا النَّقِيضُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُوَافِقِ لِلْحَقِّ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» الْحَدِيثَ. وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ.

وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي صَرَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهَا لَا تَزَالُ ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ أَنَّهَا طَائِفَةٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَيْسَتِ الْبَتَّةَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى.

لِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ [4 \ 170]، وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [6 \ 66]، وَقَالَ فِي النَّمْلِ: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [27 \ 79]، وَقَالَ فِي يُونُسَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [10 \ 108] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

فَدَعْوَى أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مُجْتَهِدٌ الْبَتَّةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ

ص: 377

الْمُنْتَظَرِ مُنَاقِضَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّابِتِ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَمِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنَاقِضُ الْحَقَّ فَهُوَ ضَلَالٌ، لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَقُولُ: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [10 \ 32] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ

اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ هَذَا الْإِعْرَاضَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَاعْتِقَادَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُمَا بِالْمَذَاهِبِ الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي عَمَّ جُلَّ مَنْ فِي الْمَعْمُورَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَآسِي وَالْمَصَائِبِ، وَالدَّوَاهِي الَّتِي دَهَتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُدَّةِ قُرُونٍ عَدِيدَةٍ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّتَائِجَ الْوَخِيمَةَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَنْ جُمْلَتِهَا مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي وَاقِعِهِمُ الْآنَ مِنْ تَحْكِيمِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الْمُنَافِي لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ إِنَّمَا احْتَاجُوهُمْ بِفَصْلِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ بِالْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ عَنْ طُرُقِ الثَّقَافَةِ وَإِدْخَالِ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ.

وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَعَلَّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِمَا لَكَانَ ذَلِكَ حِصْنًا مَنِيعًا لَهُمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ فِي عَقَائِدِهِمْ وَدِينِهِمْ.

وَلَكِنْ لَمَّا تَرَكُوا الْوَحْيَ وَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ أَقْوَالَ الرِّجَالِ لَمْ تَقُمْ لَهُمْ أَقْوَالُ الرِّجَالِ وَمَذَاهِبُ الْأَئِمَّةِ رحمهم الله مَقَامَ كَلَامِ اللَّهِ وَالِاعْتِصَامِ بِالْقُرْآنِ، وَكَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّحَصُّنِ بِسُنَّتِهِ.

وَلِذَلِكَ وَجَدَ الْغَزْوُ الْفِكْرِيُّ طَرِيقًا إِلَى قُلُوبِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ سِلَاحُهُمُ الْمُضَادُّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ لَمْ يَجِدْ إِلَيْهِمْ سَبِيلًا.

وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُنْصِفٍ يَعْلَمُ أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ، وَلَوْ بَلَغُوا مَا بَلَغُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ - لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَبِالْجُمْلَةِ فَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الْغَزْوَ الْفِكْرِيَّ الَّذِي قَضَى عَلَى كِيَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَحْدَتِهِمْ وَفَصَلَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، لَوْ صَادَفَهُمْ وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ لَرَجَعَ مَدْحُورًا فِي غَايَةِ الْفَشَلِ لِوُضُوحِ أَدِلَّةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَوْنِ الْغَزْوِ الْفِكْرِيِّ الْمَذْكُورِ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَّا عَلَى الْبَاطِلِ وَالتَّمْوِيهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.

ص: 378

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ

الظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، قَوْمٌ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا بُعِثَ وَتَحَقَّقُوا أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمَوْصُوفُ فِي كُتُبِهِمْ كَفَرُوا بِهِ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَارْتِدَادُهُمْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ بِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوهُ وَتَيَقَّنُوهُ، وَعَلَى هَذَا فَالْهُدَى الَّذِي تَبَيَّنَ لَهُمْ هُوَ صِحَّةُ نُبُوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعْرِفَتِهِ بِالْعَلَامَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي كُتُبِهِمْ.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذِهِ الْآيَةُ يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [2 \ 89] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا مُبَيِّنٌ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، وَقَوْلُهُ: كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ مُبَيِّنٌ مَعْنَى قَوْلِهِ: ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَزَلَتِ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ.

وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ سَبَبَ ارْتِدَادِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، هُوَ إِغْوَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى مُشِيرًا إِلَى عِلَّةِ ذَلِكَ: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ أَيْ زَيَّنَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ، وَأَمْلَى لَهُمْ أَيْ مَدَّ لَهُمْ فِي الْأَمَلِ وَوَعَدَهُمْ طُولَ الْعُمُرِ.

قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّلَ سَهَّلَ لَهُمْ رُكُوبَ الْعَظَائِمِ مِنَ السَّوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ جَمِيعًا، وَأَمْلَى لَهُمْ وَمَدَّ لَهُمْ فِي الْآمَالِ وَالْأَمَانِي. انْتَهَى.

ص: 379

وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى وَقَعَ لَهُمْ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّ الشَّيْطَانَ سَوَّلَ لَهُمْ ذَلِكَ أَيْ سَهَّلَهُ لَهُمْ وَزَيَّنَهُ لَهُمْ وَحَسَّنَهُ لَهُمْ وَمَنَّاهُمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ ; لِأَنَّ طُولَ الْأَمَلِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ارْتِكَابِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.

وَفِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ: قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ أَبِي عَمْرٍو وَأَمْلَى لَهُمْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَاللَّامِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى الشَّيْطَانِ.

وَأَصْلُ الْإِمْلَاءِ الْإِمْهَالُ وَالْمَدُّ فِي الْأَجَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [7 \ 183]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [3 \ 178] .

وَمَعْنَى إِمْلَاءِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَعْدُهُ إِيَّاهُمْ بِطُولِ الْأَعْمَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120] .

وَقَالَ تَعَالَى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [17 \ 64] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَمْلَى لَهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَالْمَعْنَى: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ أَيْ سَهَّلَ لَهُمُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، وَزَيَّنَ ذَلِكَ وَحَسَّنَهُ لَهُمْ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَمْلَى لَهُمْ: أَيْ أَمْهَلَهُمْ إِمْهَالَ اسْتِدْرَاجٍ.

وَكَوْنُ التَّسْوِيلِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالْإِمْهَالِ مِنَ اللَّهِ، قَدْ تَشْهَدُ لَهُمْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ [8 \ 48]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [16 \ 63]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [14 \ 22] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمُ اسْتِدْرَاجًا: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 44]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 380

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [3 \ 178]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [19 \ 75]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [6 \ 44]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [7 \ 95]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ [23 \ 55 - 56] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ «وَأُمْلِيَ لَهُمْ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ، بَعْدَهَا يَاءٌ مَفْتُوحَةٌ بِصِيغَةِ الْمَاضِي الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلِ الْمَحْذُوفِ، فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ آنِفًا فِي فَاعِلِ: وَأَمْلَى لَهُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا قَرِيبًا مَا يَشْهَدُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي إِمْلَاءِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [4 \ 120]، وَقَوْلِهِ فِي إِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [68 \ 45] ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ.

أَيْ ذَلِكَ التَّسْوِيلُ وَالْإِمْلَاءُ الْمُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.

وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَمْرِ الَّذِي قَالُوا لَهُمْ سَنُطِيعُكُمْ فِيهِ مِمَّا نَزَّلَ اللَّهُ وَكَرِهَهُ أُولَئِكَ الْمُطَاعُونَ.

وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ فِي مُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَاطِلِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ كَذَلِكَ: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 27 - 28] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ

ص: 381

تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [42 \ 10] ، وَفِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.

وَبَيَّنَّا فِي سُورَةِ الشُّورَى أَيْضًا شِدَّةَ كَرَاهَةِ الْكُفَّارِ لِمَا نَزَّلَ اللَّهُ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [42 \ 13] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «أَسْرَارَهُمْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، جَمْعُ سِرٍّ.

وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ إِسْرَارَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مَصْدَرُ أَسَرَّ كَقَوْلِهِ: وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [71 \ 9] ، وَقَدْ قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ سِرًّا فَأَفْشَاهُ اللَّهُ الْعَالِمُ بِكُلِّ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أَيْ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟ أَيْ قَبَضَ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ ضَارِبِينَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ يَتَوَفَّوْنَ الْكُفَّارَ وَهُمْ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفَالِ: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [8 \ 50]، وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْعَامِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [6 \ 93] .

فَقَوْلُهُ: بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَيْ بِالضَّرْبِ الْمَذْكُورِ.

وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَصْدَرِ الْكَامِنِ فِي الْفِعْلِ الصِّنَاعِيِّ أَعْنِي قَوْلَهُ: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ، أَيْ ذَلِكَ بِضَرْبِ وَقْتِ الْمَوْتِ وَاقِعٌ بِسَبَبٍ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ أَيْ أَغْضَبَهُ مِنَ الْكُفْرِ بِهِ، وَطَاعَةِ الْكُفَّارِ الْكَارِهِينَ لِمَا نَزَّلَهُ.

وَالْإِسْخَاطُ اسْتِجْلَابُ السُّخْطِ، وَهُوَ الْغَضَبُ هُنَا.

ص: 382

وَقَوْلُهُ: وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ لِأَنَّ مَنْ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ فَقَدْ كَرِهَ رِضْوَانَ اللَّهِ ; لِأَنَّ رِضْوَانَهُ تَعَالَى لَيْسَ إِلَّا فِي الْعَمَلِ بِمَا نَزَّلَ، فَاسْتَلْزَمَتْ كَرَاهَةُ مَا نَزَّلَ كَرَاهَةَ رِضْوَانِهِ لِأَنَّ رِضْوَانَهُ فِيمَا نَزَّلَ، وَمَنْ أَطَاعَ كَارِهَهُ، فَهُوَ كَكَارِهِهِ.

وَقَوْلُهُ: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَهَا، لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْمَقَامَ فِي ذَلِكَ إِيضَاحًا تَامًّا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [17 \ 19] .

وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [16 \ 97] .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ، وَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، وَهُوَ عَدَاوَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالتَّعْوِيقُ عَنِ الْجِهَادِ وَنَحْوُ ذَلِكَ.

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ هُمُ الْيَهُودُ حِينَ كَفَرُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَرَفُوهُ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ صلى الله عليه وسلم.

وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ عَامٌّ لِمَنِ أَطَاعَ مَنْ كَرِهَ مَا نَزَّلَ اللَّهُ.

مَسْأَلَةٌ

اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ، يَجِبُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَأَمُّلُ هَذِهِ الْآيَاتِ، مِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ وَتَدَبُّرِهَا، وَالْحَذَرُ التَّامُّ مِمَّا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يَنْتَسِبُونَ لِلْمُسْلِمِينَ دَاخِلُونَ بِلَا شَكٍّ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ.

لِأَنَّ عَامَّةَ الْكُفَّارِ مِنْ شَرْقِيِّينَ وَغَرْبِيِّينَ كَارِهُونَ لِمَا نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ وَمَا يُبَيِّنُهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ السُّنَنِ.

ص: 383

فَكُلُّ مَنْ قَالَ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْكَارِهِينَ لِمَا نَزَّلَهُ اللَّهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي وَعِيدِ الْآيَةِ.

وَأَحْرَى مِنْ ذَلِكَ مِنْ يَقُولُ لَهُمْ: سَنُطِيعُكُمْ فِي الْأَمْرِ كَالَّذِينِ يَتَّبِعُونَ الْقَوَانِينَ الْوَضْعِيَّةَ مُطِيعِينَ بِذَلِكَ لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.

وَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ، وَأَنَّهُ مُحْبِطٌ أَعْمَالَهُمْ.

فَاحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الَّذِينَ قَالُوا: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ

اللَّامُ فِي قَوْلِهِ «لِنَبْلُوَنَّكُمْ» مُوطِّئَةٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ.

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ شُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ فِي الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ، أَعْنِي لَنَبْلُوَنَّكُمْ، وَنَعْلَمَ، وَنَبْلُوَ.

وَقَرَأَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ.

وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَبْلُو النَّاسَ أَيْ يَخْتَبِرُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ، كَبَذْلِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ لِيَتَمَيَّزَ بِذَلِكَ صَادِقُهُمْ مِنْ كَاذِبِهِمْ، وَمُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [2 \ 214] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [3 \ 142] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [3 \ 142] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [9 \ 16] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [29 \ 1 - 3] .

ص: 384

وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ [3 \ 179] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ فِي نَحْوِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [2 \ 143] .

فَقُلْنَا فِي ذَلِكَ مَا نَصُّهُ: ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ.

وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ بِقَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [3 \ 154] .

فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ بَعْدَ قَوْلِهِ: «لِيَبْتَلِيَ» - دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالِاخْتِبَارِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ; لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِ غَنِيٌّ عَنِ الِاخْتِبَارِ.

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ عَظِيمٌ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا اخْتِبَارَهُ لِخَلْقِهِ.

وَمَعْنَى إِلَّا لِنَعْلَمَ أَيْ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِبَارِ ظُهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ، أَمَّا عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، فَهُوَ عَالَمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ، كَمَا لَا يَخْفَى. اهـ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: (وَهَذَا الْعِلْمُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ بِهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ لَا بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِمْ، فَتَأْوِيلُهُ: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ عِلْمَ شَهَادَةٍ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِالْعَمَلِ يَشْهَدُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوا فَالْجَزَاءُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ يَقَعُ عَلَى عِلْمِ الشَّهَادَةِ، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ نَخْتَبِرُهَا وَنُظْهِرُهَا) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ:

ص: 385

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِالْقَتْلِ وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللَّهِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ، يَقُولُ: حَتَّى يَعْلَمَ حِزْبِي وَأَوْلِيَائِي أَهْلَ الْجِهَادِ فِي اللَّهِ مِنْكُمْ وَأَهْلَ الصَّبْرِ عَلَى قِتَالِ أَعْدَائِهِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَهُمْ وَيُعْرَفُ ذَوُو الْبَصَائِرِ مِنْكُمْ فِي دِينِهِ مِنْ ذَوِي الشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ فِيهِ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ فَنَعْرِفَ الصَّادِقَ مِنْكُمْ مِنَ الْكَاذِبِ) انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ الْآيَةَ: حَتَّى يَعْلَمَ حِزْبُنَا وَأَوْلِيَاؤُنَا الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ - لَهُ وَجْهٌ، وَقَدْ يُرْشِدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ أَيْ نُظْهِرَهَا وَنُبْرِزَهَا لِلنَّاسِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [3 \ 179] ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَيْزِ الْخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ ظُهُورُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ.

وَلِذَا قَالَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [3 \ 179] ، فَتَعْلَمُوا مَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَرَّفَكُمْ بِذَلِكَ بِالِاخْتِبَارِ وَالِابْتِلَاءِ الَّذِي تَظْهَرُ بِسَبَبِهِ طَوَايَا النَّاسِ مِنْ خُبْثٍ وَطِيبٍ.

وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَجِيهٌ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ الظَّاهِرُ أَنَّ «صَدُّوا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كَفَرُوا وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ ضَالُّونَ مُضِلُّونَ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ [16 \ 97] أَنَّ التَّأْسِيسَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّوْكِيدِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ.

وَ «صَدُّوا» هُنَا إِنْ قُدِّرَتْ لَازِمَةً فَمَعْنَى الصُّدُودِ الْكُفْرُ، فَتَكُونُ كَالتَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ: كَفَرُوا.

ص: 386

وَإِنْ قُدِّرَتْ مُتَعَدِّيَةً كَانَ ذَلِكَ تَأْسِيسًا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَفَرُوا يَدُلُّ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ.

وَقَوْلُهُ: «وَصَدُّوا» عَلَى أَنَّهُ مُتَعَدٍّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ حَمَلُوا غَيْرَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَصَدُّوهُ عَنِ الْحَقِّ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَشَاقُّوا الرَّسُولَ أَيْ خَالَفُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم مُخَالَفَةً شَدِيدَةً.

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنِ الْحَقِّ وَخَالَفُوهُ صلى الله عليه وسلم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بِكُفْرِهِمْ شَيْئًا، لِأَنَّهُ غَنِيٌّ لِذَاتِهِ الْغِنَى الْمُطْلَقَ.

وَالثَّانِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْكُفْرَ سَبَبٌ لِإِحْبَاطِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ.

وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.

فَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ غِنَى اللَّهِ عَنْ خَلْقِهِ، وَعَدَمُ تَضَرُّرِهِ بِمَعْصِيَتِهِمْ - قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [3 \ 97] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [39 \ 7] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [14 \ 8] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [10 \ 68] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [64 \ 6] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [35 \ 15] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّانِي وَهُوَ إِحْبَاطُ أَعْمَالِهِمْ بِالْكُفْرِ أَيْ إِبْطَالُهَا بِهِ - قَوْلُهُ

ص: 387

تَعَالَى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [25 \ 23] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [14 \ 18] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [24 \ 39] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [11 \ 16] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ.

قَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةِ لَهُ قَرِيبًا فِي جُمْلَةِ كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ الْآيَةَ [4 \ 82] ، [47 \ 24] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.

مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، لِأَنَّ النَّارَ وَجَبَتْ لَهُ بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [3 \ 91] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ [2 \ 161 - 162] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [4 \ 18] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [2 \ 217] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ.

ص: 388

قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ إِلَى السَّلْمِ بِفَتْحِ السِّينِ.

وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَشُعْبَةُ «إِلَى السِّلْمِ» بِكَسْرِ السِّينِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا أَيْ لَا تَضْعُفُوا وَتَذِلُّوا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [3 \ 146] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [8 \ 18] ، أَيْ مُضَعِّفٌ كَيْدَهُمْ، وَقَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:

وَأَخْلَفَتْكَ ابْنَةُ الْبَكْرِيِّ مَا وَعَدَتْ

فَأَصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِنًا خَلِقَا

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ: فَلَا تَضْعُفُوا عَنْ قِتَالِ الْكَفَّارِ وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أَيْ تَبْدَءُوا بِطَلَبِ السَّلْمِ أَيِ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، أَيِ الْأَقْهَرُونَ وَالْأَغْلَبُونَ لِأَعْدَائِكُمْ، وَلِأَنَّكُمْ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مِنَ النَّصْرِ وَالثَّوَابِ مَا لَا يَرْجُونَ.

وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ هُوَ الصَّوَابُ.

وَتَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ وَاللَّهُ مَعَكُمْ لِأَنَّ مَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْغَالِبُ وَهُوَ الْقَاهِرُ الْمَنْصُورُ الْمَوْعُودُ بِالثَّوَابِ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ لَا يَضْعُفَ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْكَفَّارِ وَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِطَلَبِ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ.

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 173]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [40 \ 51]، وَقَوْلِهِ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [30 \ 47]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [9 \ 14] .

وَمِمَّا يُوَضِّحُ مَعْنَى آيَةِ الْقِتَالِ هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [4 \ 104] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ مِنَ النَّصْرِ الَّذِي وَعَدَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَالْغَلَبَةِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ.

ص: 389

وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ هُنَا: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أَيْ بِالنَّصْرِ وَالْإِعَانَةِ وَالثَّوَابِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ آيَةَ الْقِتَالِ هَذِهِ لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ آيَةِ الْأَنْفَالِ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ إِحْدَاهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى، بَلْ هُمَا مُحْكَمَتَانِ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنَزَّلَةٌ عَلَى حَالٍ غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى.

فَالنَّهْيُ فِي آيَةِ الْقِتَالِ هَذِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الِابْتِدَاءِ بِطَلَبِ السَّلْمِ.

وَالْأَمْرُ بِالْجُنُوحِ إِلَى السَّلْمِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا ابْتَدَأَ الْكَفَّارُ بِطَلَبِ السَّلْمِ وَالْجُنُوحِ لَهَا، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ الْآيَةَ [8 \ 61] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَاللَّهُ مَعَكُمْ قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [16 \ 128] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْلَى وَأَصْوَبُ مِمَّا فَسَّرَهَا بِهِ ابْنُ كَثِيرَ رحمه الله.

وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَدْعُوا إِلَى الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أَيْ فِي حَالِ قُوَّتِكُمْ وَقُدْرَتِكُمْ عَلَى الْجِهَادِ، أَيْ: وَإِمَّا إِنْ كُنْتُمْ فِي ضَعْفٍ وَعَدَمِ قُوَّةٍ فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ أَيِ الصُّلْحِ وَالْمُهَادَنَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ:

السَّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ

وَالْحَرْبُ تَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ أَيْ لَنْ يُنْقِصَكُمْ شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ عَدَمِ نَقْصِهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [49 \ 14] ، أَيْ لَا يُنْقِصُكُمْ مِنْ ثَوَابِهَا شَيْئًا.

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [21 \ 47] .

ص: 390