المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٧

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [14 \ 19 - 20]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [47 \ 38]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الْآيَةَ [4 \ 133] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ [56 \ 61] ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ.

قَالَ بَعْضُهُمْ: «نُنْشِئَكُمْ» بَعْدَ إِهْلَاكِكُمْ فِيمَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنَ الصُّوَرِ وَالْهَيْئَاتِ، كَأَنْ نُنْشِئَكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا فَعَلْنَا بِبَعْضِ الْمُجْرِمِينَ قَبْلَكُمْ.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «نُنْشِئَكُمْ» فِيمَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، فَنُغَيِّرَ صِفَاتِكُمْ وَنُجَمِّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِبَيَاضِ الْوُجُوهِ، وَنُقَبِّحَ الْكَافِرِينَ بِسَوَادِ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةِ الْعُيُونِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ.

تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بُرْهَانًا قَاطِعًا ثَانِيًا عَلَى الْبَعْثِ وَامْتِنَانًا عَظِيمًا عَلَى الْخَلْقِ بِخَلْقِ أَرْزَاقِهِمْ لَهُمْ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [56 \‌

‌ 63]

، يَعْنِي أَفَرَأَيْتُمُ الْبَذْرَ الَّذِي تَجْعَلُونَهُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ حَرْثِهَا أَيْ تَحْرِيكِهَا وَتَسْوِيَتِهَا أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَيْ تَجْعَلُونَهُ زَرْعًا، ثُمَّ تُنَمُّونَهُ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُدْرَكًا صَالِحًا لِلْأَكْلِ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ هُوَ أَنْ يُقَالَ: أَنْتَ يَا رَبَّنَا هُوَ الزَّارِعُ الْمُنْبِتُ، وَنَحْنُ لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى ذَلِكَ فَيُقَالُ لَهُمْ: كُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ أَنْبَتَ هَذَا السُّنْبُلَ مِنْ هَذَا الْبَذْرِ الَّذِي تَعَفَّنَ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ. وَكَوْنُ إِنْبَاتِ النَّبَاتِ بَعْدَ عَدَمِهِ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [41 \ 39]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [30 \ 50]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [7 \ 57] .

وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً مَعَ سَائِرِ آيَاتِ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَالْجَاثِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ،

ص: 531

وَأَحَلْنَا عَلَيْهَا مِرَارًا.

تَنْبِيهٌ:

اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي هَذَا الْبُرْهَانِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - وَجَّهَ فِي كِتَابِهِ صِيغَةَ أَمْرٍ صَرِيحَةٍ عَامَّةٍ فِي كُلِّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْبُرْهَانِ الْعَظِيمِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِامْتِنَانِ لَأَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَى الْخَلْقِ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَغَيْرِهِ، وَشَدَّةِ حَاجَةِ خَلْقِهِ إِلَيْهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [80 \ 24 - 32] .

وَالْمَعْنَى: انْظُرْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الضَّعِيفُ إِلَى طَعَامِكَ كَالْخُبْزِ الَّذِي تَأْكُلُهُ وَلَا غِنَى لَكَ عَنْهُ، مَنْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَاءَ الَّذِي صَارَ سَبَبًا لِإِنْبَاتِهِ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِ الْمَاءِ؟ أَيْ إِبْرَازِهِ مِنْ أَصْلِ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ خُلِقَ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْهَائِلِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُسْقِي بِهِ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ نَزَلَ فِي الْأَرْضِ، مَنْ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى شَقِّ الْأَرْضِ عَنْ مَسَارِ الزَّرْعِ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ الزَّرْعَ طَلَعَ، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِ السُّنْبُلِ مِنْهُ؟ ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنْهُ، فَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الْحَبِّ فِيهِ وَتَنْمِيَتِهِ حَتَّى يُدْرَكَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ؟

انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99]، وَالْمَعْنَى: انْظُرُوا إِلَى الثَّمَرِ وَقْتَ طُلُوعِهِ ضَعِيفًا لَا يَصْلُحُ لِلْأَكْلِ، وَانْظُرُوا إِلَى يَنْعِهِ، أَيِ انْظُرُوا إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَارَ يَانِعًا مُدْرَكًا صَالِحًا لِلْأَكْلِ، تَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي رَبَّاهُ وَنَمَّاهُ حَتَّى صَارَ كَمَا تَرَوْنَهُ وَقْتَ يَنْعِهِ - قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، مُنْعِمٌ عَلَيْكُمْ عَظِيمُ الْإِنْعَامِ ; وَلِذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [6 \ 99] ، فَاللَّازِمُ أَنْ يَتَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ وَيَنْظُرَ فِي طَعَامِهِ وَيَتَدَبَّرَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ [80 \ 25] أَيْ عَنِ النَّبَاتِ شَقًّا إِلَى آخِرِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا [56 \ 65] ، يَعْنِي لَوْ نَشَاءُ تَحْطِيمَ ذَلِكَ الزَّرْعِ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا، أَيْ فُتَاتًا وَهَشِيمًا، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ رَحْمَةً بِكُمْ. وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ لِلِاكْتِفَاءِ عَنْهُ بِجَزَاءِ الشَّرْطِ، وَتَقْدِيرُهُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [56 \ 65]

ص: 532

قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَعْنَى فَظَلْتُمْ تَعْجَبُونَ مِنْ تَحْطِيمِ زَرْعِكُمْ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَفَكَّهُونَ بِمَعْنَى تَنْدَمُونَ عَلَى مَا خَسِرْتُمْ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا [18 \ 42] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: تَنْدَمُونَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ الَّتِي كَانَتْ سَبَبًا لِتَحْطِيمِ زَرْعِكُمْ. وَالْأَوَّلُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي سَبَبِ النَّدَمِ هُوَ الْأَظْهَرُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ.

تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ امْتِنَانًا عَظِيمًا عَلَى خَلْقِهِ بِالْمَاءِ الَّذِي يَشْرَبُونَهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا آيَةٌ مِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَشِدَّةِ حَاجَةِ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِينَ تَشْرَبُونَ، الَّذِي لَا غِنَى لَكُمْ عَنْهُ لَحْظَةً، وَلَوْ أَعْدَمْنَاهُ لَهَلَكْتُمْ جَمِيعًا فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ: أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [56 \ 69] .

وَالْجَوَابُ الَّذِي لَا جَوَابَ غَيْرُهُ - هُوَ أَنْتَ يَا رَبَّنَا، هُوَ مُنْزِلُهُ مِنَ الْمُزْنِ، وَنَحْنُ لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَى ذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا كُنْتُمْ فِي هَذَا الْقَدْرِ مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى فَلِمَ تَكْفُرُونَ بِهِ وَتَشْرَبُونَ مَاءَهُ وَتَأْكُلُونَ رِزْقَهُ وَتَعْبُدُونَ غَيْرَهُ.

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْمَاءِ وَأَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَطَاعَتُهُ شُكْرًا لِنِعْمَةِ هَذَا الْمَاءِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70]- جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ [15 \ 22]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [16 \ 10]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [25 \ 48 - 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [77 \ 27] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ هُنَا: لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا [56 \ 70] ، أَيْ لَوْ نَشَاءُ جَعْلَهُ أُجَاجًا لَفَعَلْنَا، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ عَذْبًا فُرَاتًا سَائِغًا شَرَابُهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ الْمَاءَ الْأُجَاجَ هُوَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمُلُوحَةِ وَالْمَرَارَةِ الشَّدِيدَتَيْنِ.

ص: 533

وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَجَعَلَ الْمَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلشَّرَابِ - جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [67: 30]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ [23 \ 18] ، لِأَنَّ الذَّهَابَ بِالْمَاءِ وَجَعْلَهُ غَوْرًا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ وَجَعْلَهُ أُجَاجًا، كُلُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ بِجَامِعِ عَدَمِ تَأَتِّي شُرْبِ الْمَاءِ. وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ حَاجَةِ الْخَلْقِ إِلَى خَالِقِهِمْ كَمَا تَرَى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ [56 \ 69] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَاءِ السَّاكِنِ فِي الْأَرْضِ النَّابِعِ مِنَ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَنَّ أَصْلَهُ كُلَّهُ نَازِلٌ مِنَ الْمُزْنِ، وَأَنَّ اللَّهَ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ وَخَزَنَهُ فِيهَا لِخَلْقِهِ.

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [23 \ 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ [39 \ 21]، وَقَدْ قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ الْآيَةَ [15 \ 22]، وَفِي سُورَةِ «سَبَأٍ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا الْآيَةَ [34 \ 2] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70] ، فَلَوْلَا بِمَعْنَى هَلَّا، وَهِيَ حِرَفُ تَحْضِيضٍ، وَهُوَ الطَّلَبُ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمْ شُكْرُ هَذَا الْمُنْعِمِ الْعَظِيمِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الشُّكْرَ يُطْلَقُ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمِنَ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ.

فَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ يَنْحَصِرُ مَعْنَاهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ جَمِيعَ نِعَمِهِ فِيمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى. فَشُكْرُ نِعْمَةِ الْعَيْنِ أَلَّا يَنْظُرَ بِهَا إِلَّا مَا يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْجَوَارِحِ. وَشُكْرُ نِعْمَةِ الْمَالِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ أَوَامِرَ رَبِّهِ وَيَكُونَ مَعَ ذَلِكَ شَاكِرَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ. وَشُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [56 \ 70]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [2 \ 152] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

وَأَمَّا شُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ فَهُوَ أَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [2 \ 158]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [35 \ 34] ،

ص: 534