الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}.
فالخطاب لهم؛ لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر، وأيضًا في أن آية:{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} في النصارى؛ لأنه قال قبلها: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)} .
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مراداً به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معارضةً للرسل، وإبطالاً لأحكام الله فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ معتقداً أنه مرتكب حراماً، فاعل قبيحاً، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة، وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، والعبرة بعموم الألفاظ، لا بخصوص الأسباب، وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت، والعلم عند الله تعالى.
•
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
الآية، قد قدمنا احتجاج أبي حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على قتل المسلم بالذمي، ونفس الآية فيها إشارة إلى أن الكافر لا يدخل في عموم الآية، كما ذهب إليه جمهور العلماء، وذلك في قوله تعالى:{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} الآية.
ومن المعلوم أن الكافر ليس من المتصدقين الذين تكون
صدقتهم كفارة لهم؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة. نبه على هذا إسماعيل القاضي في [أحكام القرآن] كما نقله ابن حجر في [فتح الباري].
وما ذكره إسماعيل القاضي من أن الآية تدل أيضاً على عدم دخول العبد بناء على أنه لا يصح له التصدق بجرحه؛ لأن الحق لسيده غير مسلم؛ لأن من العلماء من يقول: إن الأمور المتعلقة ببدن العبد كالقصاص له العفو فيها، دون سيده، وعليه فلا مانع من تصدقه بجرحه، وعلى قول من قال: إن معنى: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أن التصدق بالجناية كفارة للجاني، لا للمجني عليه، فلا مانع أيضاً من الاستدلال المذكور بالآية؛ لأن الله لا يذكر عن الكافر أنه متصدق؛ لأن الكافر لا صدقة له لكفره، وما هو باطل لا فائدة فيه لا يذكره الله تعالى في معرض التقرير والإثبات. مع أن هذا القول ضعيف في معنى الآية.
وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم على أن معناها فهو كفارة للمتصدق. وهو أظهر؛ لأن الضمير فيه عائد إلى مذكور، وذلك في المؤمن قطعاً دون الكافر، فالاستدلال بالآية ظاهر جداً.
تنبيه
احتج بعض العلماء بهذه الآية الكريمة على أنه لا يقتل اثنان بواحد؛ لأنهما لو قتلا به لخرج عن قوله: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ؛ لكونهما نفسين بنفس واحدة.
وممن قال بهذا متمسكاً بهذا الدليل ابن الزبير والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وعبد الملك، وربيعة، وداود، وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى، عن ابن عباس.
وروي عن معاذ بن جبل، وابن الزبير، وابن سيرين، والزهري: أنه يقتل منهم واحد، ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية؛ لأن كل واحد منهم مكافىء له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، كما لا تجب ديات لمقتول واحد. كما نقله عمن ذكرنا ابن قدامة في [المغني].
وقالوا: مقتضى قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} وقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة. قالوا: ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع القصاص؛ بدليل عدم قتل الحر بالعبد، والتفاوت في العدد أولى.
وقال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد. وعدم قتل الجماعة بالواحد، رواية عن الإمام أحمد.
والرواية المشهورة عن الإمام أحمد، ومذهب الأئمة الثلاثة: أنه يقتل الجماعة بالواحد، وقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قتل سبعة بواحد، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعاً، وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه، فإنه توقف عن قتال الحرورية حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبد الله بن خباب، كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: الله أكبر، نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبد الله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه.
نقله القرطبي عن الدارقطني في [سننه].
ويؤيد قتل الجماعة بالواحد ما رواه الترمذي عن أبي سعيد، وأبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لو أن أهل السماء، وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار" قال فيه الترمذي: حديث غريب. نقله عنه القرطبي.
وروى البيهقي في [السنن الكبرى] نحوه عن ابن عباس مرفوعاً، وزاد "إلا أن يشاء" وروى البيهقي أيضاً عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله عز وجل يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله".
وروي عن المغيرة بن شعبة، وابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في [المغني] أن الجماعة تقتل بالواحد، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما أيضاً، ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة فصار إجماعاً سكوتياً.
واعترضه بعضهم بأن ابن الزبير ثبت عنه عدم قتل الجماعة بالواحد، كما قاله ابن المنذر، وإذن فالخلاف واقع بين الصحابة؛ والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجز العمل بأحد القولين إلا بترجيح.
قال مقيده - عفا الله عنه -: ويترجح مذهب الجمهور الذي هو قتل الجماعة بالواحد بأن الله تعالى قال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ