الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عقلاً أن يكذب، فإما إذا لم يمتنع عقلاً أن يكذب فالمصدق له هو المقصر، فعلى هذا تكون منزلة رب العالمين عند الرازي منزلة الرجل الذي دينه الكذب، فإذا كذب على قوم فبنوا على خبره، فنالهم ضرر، فلاموه كان لغيره أن يقول لهم: هذا رجل من عادته الكذب فأنتم المقصرون إذا عملتم بخبره، فإن لم تعرفوا عادته فقد كان عليهم أن تتثبتوا! والرازي لا يرضى هذا المثل نفسه، ولا أقل أصحابه، بل لا يرضى به إنسان لنفسه «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» النحل:60.
وبخ الله تعالى بهذا المشركين على قولهم أن له سبحانه بنات، مع كراهيتهم أن تكون لهم بنات، ولا أرى المقالة السابقة إلا أكبر من هذه، وقال تعالى في الذين قالوا أن له سبحانه ولداً:«كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» . الكهف: 5.
وقال سبحانه لقائلي ذلك: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً» مريم: 89 - 90.
وقد اتفق المسلمون على أنه يمتنع عقلاً أن يقع من الله تعالى كذب، غاية الأمر أن أكثر الأشاعرة زعموا أن الامتناع إنما هو بواسطة إخبار الرسول به مع امتناع أن يكذب الرسول.
هذا وقد رجع الرازي ولله الحمد أن الإحتجاج بالنصوص كما تقدم في الباب الأول، وإنما اشبعت الكلام لأن كثيراً من الناس تبعوه في مقالاته، ولم يلتفتوا إلى رجوعه، كما يأتي عن العضد وغيره. والله المستعان.
قول العضد وغيره
كلام العضد وغيره في هذه المسألة تلخيص لكلام الرازي الذي تقدم نقل بعضه
عن (مختصر الصواعق) ، مع مخالفة يسيرة ستراها إن شاء الله تعالى.
قال العضد في أواخر الموقف الأول من (المواقف) .
المطالب ثلاثة أقسام:
أحدها: هو ما يمكن، أي لا يمتنع عقلاً إثباته ولا نفيه، نحوا جلوس غراب الآن على منارة الإسكندرية، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل.
الثاني: ما يتوقف عليه النقل مثل وجود الصانع ونبوة محمد، فهذا لا يثبت إلا بالعقل، إذ لوثبت بالنقل لزم الدور.
الثالث: ما عداهما نحوا الحدوث إذ يمكن لإثبات الصانع دونه، والوحدة، فهذا يمكن إثباته بالعقل إذا يمتنع خلافه عقلاً بالدليل الدال عليه، وبالنقل لعدم توقفه عليه» .
أقول: هذه هي مطالب الرازي وإنما اختلف الترتيب. قال السيد الجرجاني في شرحه للمطلب الأول وهو في ترتيب الرازي الثاني: «لأنه - يعني جلوس غراب على منارة الإسكندرية ونحوه - لكا كان غائباً عن العقل والحس معاً استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق، ومن هذا القبيل تفاصيل أحوال الجنة والنار والثواب والعقاب
…
» .
أقول: هذا يدل على ما قدمته من أن فرار المتكلمين إلى هذا التقسيم إنما هو محاولة للتخلص من إلزام ابن سينا وقد مر ما فيه. ثم قال العضد:
«الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ : لا، لتوقفه على العلم بالوضع والإرادة، والأول إنما يثبت بنقل اللغة والنحووالصرف، وأصولها تثبت برواية الآحاد، وفروعها بالأقيسة، وكلامها ظنيان. والثاني يتوقف على عدم النقل والاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير، والكل لجوازه لا يجزم لانتفائه بل غايته الظن، ثم بعد الأمرين لا بد من العلم بعدم المعارض العقلي، إذ لو وجد لقدم على الدليل النقلي
قطعاً، إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقضهما، وتقديم النقل على العقل إبطال للأصل بالفرع، وفيه إبطال للفرع، وإذ أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضاً لنفسه فكان باطلاً، لكن عدم المعارض العقلي غير يقين، إذ الغاية عدم الوجدان، وهو لا يفيد القطع بعدم الوجود، فقد تحقق أن دلالتها تتوقف على أصول ظنية، لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة، والحق إنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، فأنا نعلم استعمال لفظ الأرض والسماء ونحوهما في زمن الرسول في معانيهما التي تراد منها الآن، والتشكيك فيه سفسطة، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر، لأنه مبني على أنه هل يحصل بمجردها الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وهل لقرينه مدخل في ذلك؟ وهما مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه» .
أقول: أصل التشكيك كله للرازي كما يعلم من بعض كتب أصول الفقه.
وأقول: أما نقل اللغة والنحووالصرف فلا ريب أن هناك ألفاظاً يتفرد بنقلها بعض أهل اللغة، وأوجهاً من النحووالصرف يتفرد بحكايتها بعض أهل العربية، لكن الأعم الأغلب من نقل اللغة والصرف والنحوالتواتر، ومحاولة القدح في الجميع بأن البعض ظني مع العلم بأن الأكثر قطعي صنيع أخس من أن يسمى سفسطة كما نعلم من الموازنة بينه وبين ما تقدم عن السوفسطائية في الباب الأول.
وأمل النقل، والمراد به هنا نقل الشارع الكلمة عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي، فقد وصف الله تبارك وتعالى كتابه بأنه «مبين» وانه «بيان للناس» وأنه «بلسان عربي مبين» وقال:«ثم أنا علينا بيانه» ، وأو جب على الناس تدبره وتصديقه والعمل به، وقال:«أنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون» ، ولا شبهة أنه ليس المراد حفظ ألفاظه فقط، وإنما المقصود
بحفظه بقاء الحجة قائمة والهداية دائمة إلى قيام الساعة، وبهذا يعلم يقيناً أن الشارع لونقل كلمة عن معناها اللغوي إلى معنى آخر لبين ذلك للناس بياناً واضحاً، ولوبين لنقل بيانه، لتكفل الله عز وجل بحفظ الدين، ولما يلزم من انقطاع ذلك أن تنقطع الحجة والهداية، فتقوم
الساعة أو يبعث نبي آخر، وقد علمنا أن الدنيا باقية، وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين، وقد تقرر في الأصول أن من الأخبار المقطوع بكذبها ما نقل آحاداً، والعادة تقضي أنه لو وقع لنقل متواتراً، فما لم ينقل آحاداً من ذلك فالقطع بعدم وقوعه أوضح. وفوق هذا فإن السياق كثيراً ما يعين معنى الكلمة حتى لمن يجهل أصل معناها، وكثير من الكلمات تتكرر في الكتاب والسنة ويدل السياق في كثير من تلك المواضع أو أكثرها على معنى الكلمة، وهكذا يكثر استعمالها على ألسنة حملة الشرع من الصحابة والتابعين، بل كثيراً ما يدل السياق في الكلمة التي قد ثبت أن الشارع نقلها على أنها في ذلك الموضع ليست بالمعنى المنقولة إليه كقوله تعالى:«إن الله والملائكة يصلون على النبي» ، (1) وقوله تعالى:«ولا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن أتقى» ، وغير ذلك، فما بالك بما لم يأت أنه نقل إلى معنى آخر.
ونحوهذا يأتي في الاشتراك والمجاز والإضمار والتخصيص والتقديم والتأخير، وقد تقرر أن الظاهر حجة، وأن من استعمل الكلمة في غير المعنى الظاهر منها كان عليه أن ينصب قرينة وإلا كان الكلام كذباً، واحتمال قرينة لم تنقل يرده ما تقدم من تكفل الله عز وجل بالبيان وبحفظ الشريعة، وقضاء العادة بأنها لوكانت هناك قرينة لنقلت، وكثيراً ما تقوم الحجة القاطعة على أن الكلام على ظاهره، إما من الكلام نفسه بتركيبه وسياقه، وأما بمعونة نظائره في الكتاب والسنة، وقد أخطأ أفراد من الصحابة في فهم قوله تعالى: «
…
وكلوا وأشربوا حتى يتبين لكم
(1) كأنه يشير إلى أن لفظ (يصلون) في الآية الأولى ولفظ (تزكوا) في الثانية منقول عن وضعه اللغوي، وهذا وإن ظهر في لفظ (يصلون) فلا يظهر في لفظ (تزكوا) . م ع
يقول المؤلف: عبارتي واضحة في غير هذا، إنما أردت أن الشارع نقل لفظ الصلاة إلى ذات الركوع والسجود ولفظ الزكاة إلى أداء زكاة المال. ومع ذلك فسياق الآية الأولى يبين أن الصلاة فيها غير ذات الركوع والسجود، وسياق الثانية تبين أن الزكاة فيها غير أداء زكاة المال.
الخيط الأبيض من الخيط الأسود» ، مع أن خطأهم إنما كان لغفلتهم عن السياق والقرائن كما أوضحته في رسالة (أحكام الكذب) ، ومع ذلك كان خطأ أولئك الأفراد سبباً لإنزال الله عز وجل بقية الآية زيادة في البيان والإيضاح، فكيف يعقل أن يكون النص في العقائد ثم تخفى القرينة على جميع الصحابة ثم لا يبين الله لهم، أو يعرفها جماعة منهم ثم لا يبالون بنقلها، ولا يبعثهم الله تعالى على نقلهم نقلاً متواتراً يصل إليه علماء الرواية فيشيعونه ويذيعونه؟ ! ولا ريب أنه كما كان الصحابة مخاطبين بالنصوص فكذلك من بعدهم وكما تترتب المفسدة الشديدة على جهل الأولين بالقرينة فكذلك من بعدهم، غاية الأمر أن القرينة وإن كانت في حق المخاطبين الأولين لا بد أن تقترن بالنص فقد يجوز أن يستغني بعض النقلة باشتهارها فلا ينقلها مع النص، لكن لا يلزم من هذا ألان لا تنقل، بل لا بد من النقل لما تقدم، فإذا طلبها العلماء في مظانها فلم يجدوها، وحقها أن تنقل نقلاً متواتراً تواتراً يناله العلماء، قطعوا بأنها لم تنقل كذلك، فقطعوا بعدمها، فقطعوا بأن النص على ظاهره.
وليس الحال فيما يتعلق بالعقائد كالحال فيما يتعلق بالأحكام، فإن الأحكام يجوز فيها أن تنقل القرينة آحاداً فقط لأن الخطأ في ذلك أمر هين، وقد يكون الخطأ بالنظر إلى النصوص في الأحكام صواباً بالنظر إلى الحكمة، فإن القوانين الشرعية تبنى على الأغلب في الحكمة، ولكن الله تبارك وتعالى يتولى تطبيق الحكمة بقضائه وقدره، فكما فرض الله تعالى الحكم بشهادة العدلين، وقد يتفق أن يخطئ عدلان، لكن الله تبارك وتعالى يتولى في مثل هذا تطبيق الحكمة بقضائه وبقدره، فكذلك قد يعرف القاضي دليلاً عاماً فيقضى به، وهناك مخصص له لم يقف عليه، فهذا القضاء وإن كان خطأ بالنظر إلى نفس الأمر بحسب الدلائل، فلعله صواب عند الله عز وجل بمقتضى الحكمة في تلك القضية، فأما العقائد فعلى خلاف هذا إذا لا يعقل تغيير الحكمة فيها، وكما يضر فيها القطع بالباطل فقريب منه الظن، فهب أن العالم
إذا بحث فلم يجد قرينه لم يقطع بظاهر النص، فلا بد أن يظنه، ولا يستطيع أن يدفع الظن عن نفسه، ومع الظن فلا بد أن يحمد من أصحاب المقالات من يوافق ذاك الظن، ويذم من خالفه لغير حجة صحيحة.
وبالجملة فمن تدبر القرآن والسنة وآثار السلف لم يخف عليه الحق في كثير منها، وأنه
لا يمنعه عن القطع والإستيقان إن منعه إلا الشبهات المحدثة المبنية على التعمق، فأما من يقوي إيمانه ولا يبالي بتلك الشبهات، فإنه يقطع بدلالة كثير من تلك النصوص ويؤمن بها، وأما من لا إيمان له وهو مفتون بالشبهات فإنه يقطع بتلك الدلالة ويكفر بها.
وأما الذين يكونون كما قال الله عز وجل: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ» فقد عرفت حالهم، ووراء ذلك أقوام يجهلون ما عليه العقول الفطرية كعقول المخاطبين الأولين أو يتجاهلون، ويغفلون عن قوانين البيان أو يتغافلون، ولا يعرفون وهن النظر المتعمق فيه، أو يعرفون وينكرون، ولا يتدبرون النصوص فيعرفون دلائلها القواطع، أو يتدبرون ويجحدون «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ» .
وبالجملة فأسلافنا على ثلاث طبقات:
الأولى: من ضح لنا اعتصامه بالكتاب والسنة فهؤلاء الذين نتولاهم.
الثانية: من وضح لنا تهاونه بالكتاب والسنة فعلينا أن نتبرأ منهم.
الثالثة: قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يعفوعنهم ويعذرهم، وعلينا أن نحمد الله فيما أصابوا فيه، ونبرأ مما أخطأو افيه. والله المستعان.
فأما ما ذكره العضد من المعارض العقلي فقد علمت حاله في الكلام مع الرازي، وقوله:«والحق أنها قد تفيد اليقين بقرآئن مشاهدة أو متواترة» ففيه قصور شديد، بل قد تفيد اليقين من أوجه أخرى كما سلف.
أقول لا ريب أنه من التيسر في كثير من الكلام إن لم نقل في أكثره أن يحصل القطع بالمعنى الذي حقه أن يفهم منه، وإنكار هذا مكابرة، فم إذا حصل القطع بهذا في كلام من يمتنع عليه الغلط حصل القطع بأنه أراد أن يكون الكلام كذلك، أي حقه
أن يفهم من ذاك المعنى، فإذا كان ممتنعاً عليه قطعاً أن يكذب خطأ ولا عمداً حصل القطع بصحة ذاك المعنى فيحصل القطع باستحالة أن يوجد دليل عقلي صحيح على بطلان ذاك المعنى.فمن زعم أن النصوص لا يحصل بها القطع بعدم المعارض العقلي فإما أن يكون جاهلاً بقوانين الكلام، وإما أن يكون يكذب المتكلم بالنصوص، فأما زاد على هذا فرد بعض تلك النصوص أو حرفها إلى غير المعاني التي يعلم أن حقها بحسب قانون الكلام منها فهو مكذب للمتكلم بها ولابد.
ومن وقف عن نفي حصول القطع وإثباته مع معرفته بقوانين الكلام فإن كان واقفاً في المسائل التي يختلف فيها السلفيون وغيرهم أو غالبها، فهو غير جازم بتصديق المتكلم بالنصوص وإن كان يرد كثيراً من تلك النصوص أو يحرفها، فلا معنى لوقفه بل هو مكذب البتة، فإن قيل قد يخطئ في فهم النصوص التي خالفها.
قلت: إنما يتجه الحمل على الخطأ حيث يقل ويكون الغالب الصواب، ومع ذلك فهذا إنما يفيد الجزم بالتصديق، فأما المرتاب فسواء أخطأ أم تعمد.
فأما القرآئن فهي على ضربين:
الضرب الأول: ما هو كالجزء من الكلام بأن ينصبه المتكلم أو يلاحظ تتميماً لمقصود الكلام وهو الإفهام، فتارة تكون فائدتها تأسيسية ، ذلك حيث يتوقف عليها الفهم أو تعيين المراد أو تبيينه، وتارة تكون تأكيدية وذلك حيث توافق ما
يدل عليه الكلام.
الضرب الثاني: العلامات والأمارات الدالة على بعض الأمور، كأن نعلم أن القاضي مريض مرضاً خطراً ثم نسمع البكاء من بيته، ويدعى الغسالون والحفارون ويحضر العلماء والأمراء، ثم تخرج من بيت القاضي جنازة على هيأة العلماء فيتسابق أهل العلم والفضل إلى حملها، ومعها أبناء القاضي بهيئة الغم والحزن، ثم توضع للصلاة فيقدمون للإمامة أكبر أبناء القاضي، فتقدم ويقوم حيث يقوم الإمام من جنازة الرجل، ثم يذهب بها فيدفن الميت في قبره بجانب قبر والد القاضي، ثم نرى الناس يتقدمون إلى أبناء القاضي على هيأة ما جرت به العادة في التعزية - إلى غير ذلك مما يدلنا على أن القاضي مات ولولم نشاهد موته، ولم نسمع
مخبراً يخبر بموته، وهذه الأمارات قد تقوي وتكثر حتى يحصل اقطع بموت القاطي، وذلك حيث يستحيل في العادة أن يتفق اجتماع لغير موته.
فإذا فرضنا أنه عندما سمعنا البكاء من بيت القاضي خرج طبيب كان دعي قبل ساعة، فسئل فقال: مات القاضي، فهذا الخبر قد يحصل به وبتلك الأمارات القطع حتى على فرض عم الخبر.
وهذا الضرب قد يحتاج إليه الناس لوجهين:
الأول: تثبيت صدق المخبر.
الثاني: الدلالة على معنى الخبر حيث لم يكن صريحاً كما لوكان الطبيب لما سئل قال: «مات رجل كبير» . فأما الشرع فإنه غني عن تثبيت صدق أخباره، وإنما الشأن في ثبوت أه أخبر، ثم في معنى الخبر، وكلا الضربين يدخل فيما يتعلق بالعقليات، كما يدخل في غيره.
وجاري السيد الجرجاني في (شرح المواقف) المتن. ثم قال:
«وقد جزم الإمام بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية
…
»
أقول: قد رجع الرازي كما تقدم (1) ولله الحمد. والسيد هذا هو المصرح في البيان كما في بحث الاستعارة من حيث (حواشي عبد الحكيم على المطول) بأن الكذب العمد لا ينصب صاحبه قرينة «بل يروج ظاهره لكن لا مانع من قصد التأويل في ذهنه» .
وجاراهما المحشي عبد الحكيم قم قال
أقول: لا شك أن هذا الذي زعمه هو مرادهم، لكنه لا يفيدهم شيئاً، لأن ذاك النظر لا يستند إلى شيء سوى أنهم وجدوا الشبهات التعمقية تخالف بعض النصوص، فلم يكن عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على اطراح تلك الشبه وتصديق الشرع، وكبر عليهم أن يصرحوا بتكذيب الشرع، فحاولوا أن يتخذا بين ذلك سبيلاً، وهيهات!
وكذلك السع التفتازاني جرى في (المقاصد) و (شرحها) على أن النصوص لا
(1) يعني في وصيته التي لخصها المؤلف من «لسان الميزان» ص 33، م ع
يحتج بها في مقابل تلك الشبه وجمجم في ذاك الموضع جمجمة ينكشف حالها في كلامه في موضع آخر، كما يأتي في مسألة الجهة إن شاء الله تعالى.
وقد أوضحت في رسالة (أحكام الكذب) اتفاق البيانيين ومنهم التفتازاني والجرجاني وعبد الحكيم أن الكلام إذا كان حقه أن يفهم منه مع ملاحظة قرينة - إن كانت - خلاف الواقع، لم تخرجه الإرادة التي هي التأويل الذهني عن كونه كذباً، وتقدم بعض ما يتعلق بذلك ومرت عبارة الجرجاني قريباً. فمتى تحقق في النص أنه ظاهر بين في معنى ولا قرينة تصرف عنه ففرض بطلان ذاك المعنى مستلزم أن الكلام كذب، وأن المتكلم كاذب ولابد، ويتأكد بعيداً جداً عن احتمال غير ذاك المعنى فإنه يتحقق حينئذ عدم العلاقة مع عدم القرينة.
وزعم الجرجاني في (شرح المواقف) أن القول بأن الأدلة لا تفيد اليقين هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، فإن صح هذا القول فهو بالنظر إلى متأخري الطائفتين، فأما المتقدمون فلا يظن بهم هذا، نعم إنهم يخالفون بعض النصوص ولكن قد يكون ذلك لاشتباه ما توهموا أنه دليل عقلي بالدليل العقلي الصحيح الذي من شأنه أن لا يخفى على المخاطبين الأولين فتوهموا أنه قرينة صحيحة، أولاشتباه معاني بعض الآيات عليهم، فظنوا أنها صريحة
فيما ذهبوا إليه، وأنها قرينة صحيحة توجب تأويل ما يخالفها، وقل عالم إلا وقد خالف بعض النصوص، وكما لا يلزم من ذلك إنكار أن تكون النصوص حجة، فكذلك لا يلزم إنكار أنها قد تفيد اليقين، بلى إذا كثرت المخالفة فقد يتجه الحكم. والله أعلم.
المحكم والمتشابه
كثير من المتعمقين يسترون تكذيبهم للنصوص بدعوى أن ما يخالفونه منها هو من المتشابه المنهي عن إتباعه، وقد كثر الكلام في المحكم والمتشابه، وسألخص ما
بان لي راجياً من تعالى التوفيق.
المعنى المتبادر إلى الذهن من كلمتي «محكم» و «متشابه» أن المحكم هو المتقن الذي لا خلل فيه، والمتشابه هو الذي يشبه بعضه بعضاً، والقرآن كلام رب العالمين، أحكم الحاكمين، العليم القدير، فلابد أن يكون كله محكماً، وينبغي أن يعلم إحكام الشيء يختلف باختلاف ما أعد له، ففي البناء يختلف الإحكام في الحصن ودار السكنى وقصر النزهة، (1) وهكذا يختلف الإحكام في حجر الدار الواحدة كالمجلس والمخزن والحمام، ويختلف المعد لغرض واحد باختلاف الأحوال، فالمجلس الذي يصلح للشتاء قد لا يصلح للصيف، والذي يصلح للصيف في بلد لا تكون فيه السموم (2) قد لا يصلح في بلد تكون فيه، وهكذا الكلام كما يقوله البيانيون في تفسير البلاغة، فمهما يكن في بعض الآيات مما يزعمه بعض الناس خللاً فهو بالنظر إلى ما أعدت له الآية عين الإحكام. وهناك صفات تشترك فيها آيات القرآن كالإحكام والصدق وغير ذاك من الصفات المحمودة، فيصح أن يقال: إن القرآن كله متشابه كما أنه كله محكم، وقد وصفه الله تعالى بهذين الوصفين، قال تعالى:«الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» فاتحة سورة (هود) .
وقال عز وجل: «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» فاتحة سورة (يّس) .
وقال سبحانه: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً» . الزمر: 23. (3)
(1) كل بحسبه، فإتقان الحصن غير إحكام دار السكنى قصر النزهة. م ع
(2)
السموم الرياح الحارة مع الجفاف كاصبا والشمال في تهامة والحجاز وكالجنوب في مصر. م ع
(3)
والذي أفاده شيخ الإسلام ابن تيمية أن الإحكام والتشابه العام في القرآن يتشابهان، فهو محكم متقن بين واضح، وهو متشابه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام والصدق والبيان والوضوح. م ع
فيبقى النظر في قوله تعالى: «الم. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ» إلى قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوالْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . فواتح سورة (آل عمران) .
دل هذا أن منه آيات محكمات غير متشابهات، وآيات متشابهات غير محكمات، فلابد أن يكون الإحكام والتشابه هنا معنى غير الأول فما هو؟
أشهر ما روي عن السلف في ذلك قولان:
الأول: أن المحكم ما ينسخ. والمتشابه المنسوخ.
الثاني: أن المحكم ما للناس سبيل إلى معرفة تأويله كآيات الحلال والحرام. والمتشابه ما لا يعلم تأويله إلا الله كوقت قيام الساعة. وقد عرف من عادة السلف أنهم يفسرون الآية ببعض ما تتناوله وذلك على سبيل التمثيل، وأنهم كانوا يطلقون النسخ على ما يشمل البيان بالتخصيص ونحوه، وفيمكن أن يشرح ذلك القولان على ما يأتي:
القول الأول: أن المحكمات هي كل آية بينة بنفسها، والمتشابهات ما تحتاج إلى أن يبينها غيرها كالمنسوخ والمجمل بنوعيه.
القول الثاني: أن المحكمات كل آية يتهيأ للسامع مع معرفة معناها الذي سيقت لبيانه أن يعرف ما تتوق إليه نفسه مما يتعلق بما اشتملت عليه، والمتشابهات ما عدا ذلك، فالآيات المنذرة بقيام الساعة إنما سيقت لإعلام العباد أن لهم بعد هذه الحياة الفاني حياة خالدة يحاسبون فيها على ما قدموه في الدنيا ويجزون به، ليستعدوا لها بالإيمان والعمل الصالح والاستكثار منه، واجتناب الكفر والظلم
والفسوق العصيان، فهذا هو المقصود، ولكن كثيراً من النفوس تخطاه متعطشة إلى معرفة وقت قيام القيامة، قال الله تعالى:«يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . الأعراف: 187.
(حفي عنها) : معني بالسؤال عن وقتها حتى علمته، فرد الله تعالى عليهم بأن رسول ليس مثلهم في الحرص على معرفة ذلك لأنه يعلم أن المهم هو الإستعداد لها فهو مستعد فلا يهمه أن تقوم بعد لحظة أو بعد ألوف القرون، وفي القرآن عدة آيات أخرى في هذا المعنى. وفي (الصحيحين) عن أنس «أن رجلاً قال: يار رسول الله متى الساعة؟ قال ويلك وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها إلا أني أحب الله ورسوله، قال أنت مع من أحببت، قال: أنس فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بها» . عدل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المهم، ونبهه على أن المحبة تقتضي المعينة، فمن صدق حبه لله ورسوله كان معها في الدنيا بالإيمان والطاعة والاتباع فيحبه الله فينيله المعية في الآخرة بالنجاة والدرجات، قال تعالى:«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ» . وتفاوت المعية في الدنيا دليل تفاوت المحبة، وقضية ذلك تفاوت المعية في الآخرة، ويزيد الله تعالى من شاء من فضله.
ويدخل في المتشابه على القول الثاني الآيات المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته وغيبه كقوله تعالى فيما قصة من خطابه لإبليس: «قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي» . ص: 75.
فالآيات سيقت لحض بني آدم على مخالفة الشيطان وتحذيرهم من طاعته أو فعل مثل فعله، وبيان عداوته لهم، وبيان إقامة الله عز وجل الحجة عليه، وبيان أن الله
تعالى شرف أباهم بأن خلقته بيديه سبحانه، وبيان أن له سبحان يدين كما يليق بعظمته، وهذه المعاني ظاهرة لا لبس
فيها، لكن النفس قد تتخطاها إلى الخوض في منه اليدين وكيفيتهما.
فعلى كلا القولين تكون تلك الآيات محكمة أي متقنة على ما اقتضته الحكمة، وفي بقاء المنسوخ بعيداً عن ناسخه، والإتيان بالمجمل بنوعيه ابتلاء من الله لعباده، فيكون عليهم مشقة وعناء في استنباط الأحكام لاحتياج ذلك إلى الإحاطة بنصوص الكتاب والسنة واستحضارها، وفي ذكر ما لا سبيل للعباد إلى معرفة كنهه وكيفيته مع ما يتعلق بذلك من المعاني الظاهرة ابتلاء لهم ليمتاز الزائغ عن الراسخ، وقد تقدمت حكمة الابتلاء في أوائل الرسالة.
ويبقى النظر في وجه تسمية تلك الآيات متشابهات، والذي يظهر أنه ليس المراد أنها يشبه بعضها بعضاً، بل المراد - والله أعلم - أن كل آية متشابهة، أي يمكن أت تحمل على معان متشابهة في أن لا يترجح بعضها على بعض رجحاناً بيناً.
وفي حديث (الصحيحين) : «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشبهات
…
» وفي (فتح الباري) : «وفي رواية الأصيلي مشتبهات
…
وهي رواية ابن ماجه وهو لفظ ابن عون
…
ورواه الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري بلفظ: «وبينهما متشابهات» واشتبهو اوتشابهو ايأتيان بمعنى واحد، شأن افتعل وتفاعل في كثير من الكلام، فالأمر الذي بين الحلال والحرام متشابه الحل والحرمة في الاحتمال، يحتمل كلاً منهما كما يحتمل الآخر، لا يترجح فيه ذا ولا ذاك، فهكذا والله أعلم تكون الآية المتشابهة يتشابه فيها معنيان فأكثر، وانطباق هذا على المجمل الذي ظاهر له واضح، فأما الذي له ظاهر فإنما يقع حيث تكون هناك قرينة تقاوم ظهوره، كما أوضحته في رسالتي في (أحكام الكذب) ، وبذلك يصير في حكم الأول، هذا بالنسبة إلى الصحابة.
فأما من بعدهم فقد علم المسلمون أن في النصوص ما هو منسوخ نسخة نص
آخر بعيد عنه، وما هو عام خصصه نص آخر، وما هو مطلق قيده نص آخر، وهكذا، فمن لم يستقرىء النصوص ويتدبرها فإنه يقف على ما هو في نفس الأمر منسوخ ولم يعلم ذلك يكون
محتملاً في حقه أن يكون حكمه باقياً، وأن يكون منسوخاً، وقس على هذا حال الباقي، فثبت التشابه.
وأما ما لا سبيل إلى علم تأويله، وأو قل: كنهه وكيفيته كاليدين في قوله تعالى: «خَلَقْتُ بِيَدَيّ» فإنه لا يبقى إلا التخرص ولا حد له فقد يتخرص الانسان وجهين، أو أكثر ومعلوم أنه لا يتبين واحد من ذلك بياناً واضحاً، فثبت التشابه.
وكلا القولين يمكن تطبيقه على السياق.
وأما القول الأول؛ فأهل الزيغ يتبعون المنسوخ والمجمل، فتارة يعيبون القرآن بالتناقض - زعموا - وبعدم البيان. وتارة يتشبثون بذلك لتقوية أهو ائهم كما فعل النصارى، إذ تشبثوا بما في القرآن من إطلاق الكلمة والروح على عيسى، وكما فعل المشركون عندما سمعوا قوله تعالى:«إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم» وتارة يبتغون تأويله مع عدم تأهلهم لذلك وعدم رجوعهم إلى الراسخين، كما فعل الخوارج في قوله تعالى:«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» وقوله: «لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَان» ، ونحوذلك.
وأما القول الثاني: فأهل الزيغ يتبعون تلك النصوص، تارة ابتغاء الفتنة، بأن يعيبوا القرآن والإسلام بزعم أنه جاء بالباطل فيزعمون أن لفظ «بِيَدَيّ» معناه أن لله سبحانه يدين مماثلتين ليدي الإنسان يجوز عليهما ما يجوز على يدي الإنسان ثم يقولون: وهذا باطل، ثم يوجه كل منهم ذلك إلى هواه، فنمهم من يستدل بذلك على أن القرآن ليس من عند الله، وأن محمداً ليس بنبي، ومنهم من يستدل بذلك على أن القرآن جاء بالبطل مجاراة لعقول الجمهور، إلى غير ذلك. وتارة ابتغاء تأويله، فمنهم من ذهب يتخرص تخرص هشام بن الحكم وأصحابه وغيرهم من المشبهة الضالة، ومنهم من يحرف تلك النصوص بحملها على معاني بعيدة، كعقول بعضهم أن اليدين هما القدرة والإرادة وغير ذلك.
وقوله تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به» ، وينطبق على كل من القولين، إلا أنه القول الأول يكون قوله:«وَالرَّاسِخُونَ» عطفاً، والمعنى أن الراسخين يعلمون تأويله أيضاً، وعلى القول الثاني يكون قوله:«وَالرَّاسِخُونَ» استئنافاً، فهم لا يعلمون تأويله، وإنما امتازوا بأنهم لا يتبعونه إتباع الزائغين، بل يقولون:«آمَنَّا به» الآية.
ويدل على تصحيح كلا القولين أن من الناس من وقف على قوله: «إلا الله» ، ومنهم من لم يقف، وأنه صح عن ابن عباس أنه ذكر الآية ثم قال:«أنا ممن يعلم تأويله» . وصح عنه أنه قرأ: «ويقول الراسخون» .
والتأويل على القول الأول بمعنى التفسير، وعلى الثاني بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها اللفظ، ففي قوله تعالى:«لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي» تأويل اليدين حقيقتهما وكنههما على ماهما عليه.
واعلم أن التأويل يكون للفعل، كخرق صاحب موسى (1) سفينة المساكين، وقتله الغلام وإقامته الجدار، ويكون للرؤيا، ويكون للكلام. فتأويل الفعل إما مآله أي ما يؤول إليه، وهو المقصود من فعله كسلامة السفينة من غضب الملك، وسلامة أبوي الغلام من إرهاقه، وسلامة كنز اليتيمين، وإما بيان أن الفعل يؤول إلى المآل. قال الله تعالى فيما قصة عن صاحب موسى:«سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ثم أخبره بأن القصد من تلك الأفعال أن تؤول ذاك المآل، ثم قال:«ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» وقال تعالى: «ذَلِكَ (2) خَيْرٌ
(1) صاحب موسى هم الخضر كما صرح به حديث ابن عباس في (الصحيحين) وغيرهما وقصتهما في سورة الكهف، وذكر البخاري حديث الخضر وموسى في عدة مواضع من (صحيحه) كالعلم والإيمان والتفسير وأحاديث الأنبياء وغيرها، ولا أدري لماذا أبهم المؤلف اسم صاحب (موسى) مع التصريح باسمه في الأحاديث الصجيجة، وأن اسمه خضر أو الخضر بذكر الألف واللام وحذفها. م ع
(2)
أي الفعل المأمور به، أنظر الآيتين.
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً» النساء - 59، الإسراء- 35.
وتأويل الرؤيا إما مآلها وهو الواقع في نفس الأمر الذي هي تمثيل له كسجود إخوة يوسف وأبويه له، فقال يوسف قصة الله تعالى عنه «عندما سجد له أبواه وإخوته] (3) هذا تأويل رؤياي، وإما بيان ما تؤول إليه، وذلك تعبيرها. ومنه ما قصه الله تعالى من قول يعقوب ليوسف «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث» ، ثم قول يوسف «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ» . ويحتمل المعنيين ما قصه الله تعالى من قول صحأبي السجن ليوسف «نبأنا بتأويله» وقوله لهما:«إلا نبأتكما بتأويله» ، وقول الناجي منها للملك ومن معه «أنا أنبئكم بتأويله» بعد قوأصحاب الملك «وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» .
وتأويل الكلام إما مآله الخارجي وهو الواقع في نفس الأمر إذا كان الكلام خبراً، والفعل المأمور به إذا كان أمراً، وقص على ذلك قص الله عز وجل في سورة (الأعراف) حال القيامة والجنة والنار، ثم قال: [) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ» الأعراف - 52 - 53.
وقال تعالى: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ» إلى أن قال: «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه» يونس - 37 - 39
وفي (صحيح مسلم) من حديث عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول فيركوعه وسجوده: سبحان الله وبحمده اللهم أغفر لي، يتأول القرآن» .
تريد والله أعلم: يأتي بتأويل قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ» وإما مآله المعنوي كأن يقال: تأويل رأيت أسداً يرمي، رأيت رجلاً
(3) زيادة من الشيخ محمد عبد الرزاق. ن
شجاعاً.وإما بيان أحدهما، وهذا هو المسمى بالتفسير، ويحتمل هذا الذي قبله قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ابن عباس:«اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل» . (1) فعلى الأول يكون المعنى: علمه المعاني التي تؤول إليها النصوص، وعلى الثاني يكون المعنى: عامة أن يؤول النصوص أي يبين معانيها التي تؤول إليها.
إذا تقرر هذا فعلى القول الأول في المتشابه يكون المراد بتأويله معانيه، وعلى القول الثاني يكون المراد ما يؤول إليه من الحقائق، فكما أن تأويل الأخبار بالبعث هو البعث نفسه، فكذلك تأويل الأخبار بأن لله يدين هو اليدين، والعلم الذي ينفرد الله تعالى به في شأن اليدين هو العلم بالكنه والكيفية، فأما العلم الإجمالي الذي يتوقف عليه الإيمان بأن لله تعالى يدين على الحقيقة، فهذا يحصل للمؤمنين، وبه يكونون مصدقين لخبر الله عز وجل، وبذلك يخلصون من تكذيبه ويمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاء الفتنة، وبقناعتهم به يمتازون عن الزائغين المتبعين له ابتغاء تأويله.
فإن قيل: فإن للمتعمقين أن يقولوا: الصواب عندنا من القولين المذكورين في المتشابه القول الأول، النصوص التي تتعلق بالمعقولات كلها من المجمل الذي له ظاهر، ولا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد، إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه، ثم نقول: إن كل نص من تلك النصوص يحتاج إلى بيانين:
الأول: بيان صحة ذاك الظاهر أو بطلانه.
الثاني: بيان المعنى المراد، فأما البيان الأول فيحصل بالعقل، ويحصل بقوله تعالى:«ليس كمثله شيء» وقوله: «قل هو الله أحد» السورة، فقد بين العقل، وهاتان الآيتان وغيرهما بطلان ظواهر تلك النصوص التي نتأولها، فوجب أن يكون
(1) أخرجه أحمد باسناد صحيح، وهو في «الصحيحين» دون قوله:«وعلمه التأويل» . ن
المراد بها معان أخرى صحيحة. فأما الزائغون فاتبعوا تلك الظواهر، هم فريقان:
الأول: الملحدون القانون: هذه الأمور باطلة قطعاً، فالشرع الذي جاء بها باطل.
الفريق الثاني: الذين يجهلون أو يتجاهلون بطلانها فيدينون بإثباتها، والسلف وأئمتنا أبرياء من الفريقين، غير أن السلف كانوا مع العلم ببطلان تلك الظواهر يمتنعون من الخوض في البيان الثاني، وأئمتنا اصطدموا بالزائغين الزاعمين أن تلك الظواهر هي المعاني المرادة من تلك النصوص ويبالغون فيدعون أن تلك النصوص صريحة في تلك المعاني لا تحتمل التأويل، فاحتاج أئمتنا إلى بيان الاحتمال، فمن لم يجزم منهم بمعنى معين فلم يأتي بما ينكر عليه، ومن جزم بذلك فقد ينكر عليه من يذهب إلى أن الراسخين لا يعلمون ذلك، أي أنهم ولوعلموا بطلان الظاهر، وأن المراد غيره، فلا يعلمون التأويل وهو المعنى المراد لاحتمال النص عدة معان، لكن قد يقال: إذا كان المعنى الذي جزم به ذلك الجازم صحيحاً في نفسه فالخطب تسهل،
وذلك كالقائل: إن المراد باليدين في قوله تعالى: «لما خلقت بيدي» القدرة والإرادة، فإن هذا معنى صحيح في نفسه، للعلم بأن الله تعالى قدرة وإرادة، وأن لها تعلقاً بخلق آدم، فإن فرض أن المراد باليدين في الآية معنى آخر فليس في الجزم المذكور كبير حرج.
فالجواب عن هذا كله يعلم مما تقدم في هذه الرسالة وألخصه هنا بعون الله عز وجل:قولكم: «فلا يمكن الوثوق بأن ذلك الظاهر هو المراد إلا أن يقوم الدليل العقلي على وجوب ذاك الظاهر أو جوازه» . قول باطل مردود عليكم، بل الحق أنه أن دل العقل الصريح - الذي يصح أن يكون قرينة بأن يكون من شأنه أن لا يخفى على المخاطب إذا تدبر - على امتناع ذاك الظاهر لم يبقى ظاهراً ضرورة أن القرينة ركن من الكلام، وإلا كان النص برهاناً على الوقوع فضلاً عن الجواز،
ضرورة أنه إن لم يكن كذلك كان كاذباً، وقد قامت البراهين على استحالة أن يقع الكذب من الله تعالى ولا من رسوله.
فإن قيل: لا يلزم من فرض البطلان التكذيب، لجواز تأخير بيان المجمل الذي له ظاهر.
ومن أجاز التأخير فمحله في مجمل لا ظاهر له، أوله ظاهر بحسب اللفظ لكن تكون هناك قرينة صحيحة كدافع ذاك الظهور، فيبقى النص في حكم المجمل، الذي لا ظاهر له، على هذا إذا كان للنص ظاهر ولا قرينة تدافعه وجب الجزم بأن ذاك الظاهر هو المراد.
وهناك نصوص في الأحكام يمثلون بها لما أدعوه من جواز أن يكون للنص ظاهر غير مراد ويتأخر بيانه، ونحن نجيب عنها إجمالاً فنقول:
ما ثبت فيه الظهور وثبت أنه لم تكن قرينة صحيحة تدافعه وثبت أنه ورد بعده ما يخالفه فإننا نصحح ذلك الظاهر ونقول: إنه هو المراد، وإن ما ورد بعده مخالفاً فهو ناسخ له، فإن ثبت إن المتأخر ورد قبل العمل بالمتقدم اخترنا جواز النسخ قبل العمل، ويكون المقصود من الحكم السابق إنما هو ابتلاء المكلفين ليتبين من يتقبل الحكم بالرضا والعزم على العمل به والاستعداد له.
وعلى ذلك فهذا إنما يتأتى في النصوص المتعلقة بالأحكام، دون النصوص المتعلقة بالعقائد
والفرق بين النصوص التي قيل إنها كانت من المجمل الذي ظاهر غير مراد، وهي متعلقة بالأحكام وبين النصوص المتعلقة بالعقائد التي ينفرد المتعمقون بإنكار ظواهرها من وجوه:
الأول: أن الأولى يعقل فيها تأخر الحاجة كآية تنزل في شوال، وتتعلق بحكمٍ لصيام رمضان.
فأما الثانية: فالحكم المقصود منها يتعلق بالاعتقاد، وهو يحصل عقب السماع فوقت الحاجة فيها هو وقت الخطاب.
الوجه الثاني: أن الأولى يعقل قيام قرينة تدافع الظهور.
وأما الثانية فبعيد عن ذلك لأن كثيراً منها أو أكثرها كانت موافقة لعقول المخاطبين، فدلالة العقل تدفع ما قد يحتمل من قرينة وتصير النص صريحاً في ظاهره.
الوجه الثالث: أن الأولى لا تخلوفائدة فقد ذهب حمع من أهل العلم إلى أن من احتاج إلى عمل ووجد نصاً يتعلق به إلا أنه يحتمل أن يكون له ناسخ أو مخصص أو مقيد، ولم يمكنه البحث حالاً كان عليه العمل بذلك النص ثم يبحث، ويشهد لهذا أن استقبال بين بيت المقدس نزل نسخه وأناس من المسلمين غائبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبقي الحكم في حقهم استقبال بيت المقدس حتى بلغهم النسخ، وكذلك تحريم الخمر نزل وأناس من المسلمين غائبون، فبقي الحكم في حقهم حلها حتى بلغهم التحريم، هذا مع أن من أولئك الغائبين من غاب بعد أن علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتوقع القبلة وتحريم الخمر، وعلى هذا فإذا جاز أن تنزل في شوال آية تتعلق بحكم رمضان وتكون مجملة لها ظاهر غير مراد وتكون هناك قرينة تدافع ذاك الظهور فسمعها بعض المسلمين ثم غاب، وطالت غيبته حتى دخل رمضان كان عليه العمل بتلك الآية، وإن كان محتملاً عنده نزل بع غيبة ما يبين أنها على خلاف الظاهر، فهذا ونحوه إنما يعقل في الأحكام التي يعقل فيها الاختلاف، فيكون الحكم حقاً في وقت أو حال، وباطلاً في غيره، فأما الاعتقادات فإنما تكون على حال واحدة.
الوجه الرابع: أن الظهور في الأولى ضعيف واحتمال خلافه قوي، وذلك كالعموم، وقد قيل: ما من عام خص، وكالإطلاق وهو قريب من ذلك، والثانية كثير منها أو أكثرها صريحة في المعاني التي ينكرها المتعمقون، وما كان كذلك فلا مجال لتجويز أن يكون ذلك المعنى غير مراد، لأن ذلك يكون تكذيباً له.
الوجه الخامس: أن الأولى قليلة حتى أنكر جمع كثير من أهل العلم وقوع تأخير البيان بل أنكروا جوازه، والثانية كثير جداً.
الوجه السادس: أن الأولى توجد النصوص المبينة لها صريحة واضحة في البيان، والثانية لا يوجد نص واحد بين في خلافها. وقد مر النظر في قوله تعالى:«ليس كمثله شيء» وما معها.
الوجه السابع: أن الأولى لا يكاد ينقل من أقوال الصحابة والتابعين ما يتعلق بها إلا مع بيانها. والثانية لا يصح عن أحدهم منهم قول يخالف معانيها التي ينكرها المتعمقون، بل جاء عنهم مما يوافقها ويقرر معانيها وما يشبهها الكثير الطيب. وزعمكم أن السلف كانوا يعتقدون بطلان تلك المعاني، من العجب العجاب. ودونكم الحقيقة.