المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول: في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات وبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها - القائد إلى تصحيح العقائد

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌الباب الأول: في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات وبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

‌الباب الأول: في الفرق بين معدن الحق ومعدن الشبهات وبيان مآخذ العقائد الإسلامية ومراتبها

مآخذ العقائد الإسلامية أربعة، سلفيان وهما الفطرة والشرع، وخلفيان وهما النظر العقلي المتعمق فيه، والكشف التصوفي.

أما الفطرة فأريد بها ما يعم الهداية الفطرية، والشعور الفطري، والقضايا التي يسميها أهل النظر ضروريات وبديهيان، والنظر العقلي العادي وأعني به ما تيسر للأميين ونحوهم ممن لم يعرف على الكلام ولا الفلسفة.

وأما الشرع فالكتاب والسنة.

وأما النظر العقلي المتعمق فيه فما يختص بعلم الكلام والفلسفة.

وأما الكشف التصوفي فمعروف «عند أهله ومن يوافقهم عليه» . (1)

فأما المأخذ السلفي الأول فالهداية والشعور الفطريان يتضحان ويتضح علو درجتهما بالنظر في أحوال البهائم والطير والحشرات كالنحل والنمل، وأذكر من ذلك مثالاً واحداً، لوأنك أخذت فراخ حمام عقب خروجهما من البيض فاعتنيت بحفظها وتغذيتها وتربيتها بعيدة عن جنسها لوجدتها بعد أن تكبر يأتلف الذكر الأنثى منها فلا يلبثان أن يبادر إلى تهيئة موضع مناسب لوضع البيض وحفظه وحضنه فيختاران موضعاً صالحاً لذلك، ثم يتلمسان ما يمهدانه به من الحشيش ونحوه، ثم تضع الأنثى البيض، ثم يتناوبان حضنه، فإذا الفراخ تناوبا

(1) زيادة من فضيلة الشيخ محمد بن عبد الرزاق. ن

ص: 37

حضنها وتغذيتها بما يصلح لها، فإذا كبرت وقويت على تناول الحب والماء بأنفسهما أخذا يلجئانها إلى ذلك بالإعراض عن زقها، فإذا قويت على الطيران هجراها وطرداها كأنهما لا يعرفانها. فإذا تدبرت هذا الصنيع ونتائجه وجدته صواباً كله، ولعلك لو تتبعت أحوال الطير لوجدت ما هو ألطف من هذا وأدق وكذلك من تتبع أحوال النحل والنمل وجد أكثر من هذا وألطف.

فإن كان للحمام شعور بأن الائتلاف سبب البيض، وأن البيض يحتاج إلى ما ذكر فتخرج منه فراخ، إلى غير ذلك، فهذا هو الشعور الفطري، وإن لم يكن هناك شعور، وإنما هو انسياق إلى تلك الأفعال مع الجهل بما يرتاب عليها فتلك هي الهداية الفطرية. (1)

وعلى كل حال فلإصابة في ذلك أكثر من إصابة الإنسان في كثير مما يستدل عليه بعقله، ومن تدبر حال الإنسان وجد له نصيباً من ذلك في شأن حفظ حياته وبقاء نسله. نعم إنه اكتفى له في بعض الأمور بعقله لكن ذاك العقل العادي، فأما العقل التعمقي فلم يوكل إليه في الضروريات، فإذا أحاطت العناية الربانية الطير والبهائم والحشرات إلى تلك الدرجة وحاطت الإنسان أيضاً في حفظ حياته وبقاء نسله وغير ذلك، فما عسى أن يكون حالها في حياطة الإنسان فما إنما خلق لأجله؟

فإذا وجدنا للإنسان شيئاً من هذا القبيل في شأن وجود الله تبارك وتعالى، وعلوه على خلقه، وعلمه وقدرته، وغير ذلك من صفاته فمن الحق على العقل أن لا يستهين بذلك، زاعماً أنه قضية وأهمية، كيف وقد شهد له العقل والشرع كما يأتي.

وأما القضايا الضرورية والبديهية فقد اتفق علماء المعقول أنها رأس مال العقل، وأن النظر إنما يرجى منه حصول المقصود ببنائه عليها، استناده إليها.

(1) وهو ما يعبر عنه علماء الحياة بغريزة الفرد والجنس، وهي تسوق الحيوان سوقاً لا شعورياً إلى ما يحفظ نفسه ويبقى جنسه شاء أم أبى، والإنسان يشارك الحيوان في هذه الغرائز الحيوانية، ويزيد عليها بالعقل والفكر. م ع

ص: 38

وأما النظر بالعقل العادي فقد له الشرائع، وبنت عليه التكليف، ودعت إليه وحضت عليه، وعلماء المعقول مصرحون بأن الدليل العقلي كلما كان أقرب مدركاً وأسهل تناولاً وأظهر عند العقل كان أجدر بأن يوثق به.

ولا ريب أنه يخشى قصور العقل العادي في بعض المطالب، لكن ذلك فيما ليس مطلوباً

شرعاً فأما المطلوب شرعاً فإن الله تعالى أعد العقول العادية لإدراكه، وأعد لها ما يسددها فيه من الفطرة والآيات الظاهرة في الآفاق الظاهرة والأنفس، ثم أكمل ذلك بالشرع، فإذا انقاد العقل العادي للشرع وامتثل هداه واستضاء بنوره فقد أمن ما يخشى من قصوره.

وأما المأخذ الثاني وهو الشرع، فما عسى أن يقال فيه، وإنما هو كلام الله عز وجل وكلام رسوله، لا يخشى فيه ولا خطأ، وكذب، ولا تلبيس، ولا تقصير في البيان «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد» (1) .

هذا، والله سبحانه إنما خلق الناس ليكملوا بعبادته كما أمر في المقدمة، وهو سبحانه الحكيم العليم القدير، فلابد أن يكون خلقهم على الهيئة التي ترشحهم لمعرفته ومعرفة ما فرض عليهم الإيمان به، لأن ذلك رأس العبادة وأساسها، ولا نزاع أن الميسر لهم قبل الشرع هو المأخذ الأول، فلابد أن يكون فيه ما يغني يما ثبت به الشرع بعد تنبيه الشرع، ثم يكون فيه وفي الشرع ما يكفي لتحصيل القدر المطلوب منهم، ويؤكد هذا أن تحصيل الدرجة التي يعتد بها في النظر العقلي المتعمق جداً، قال ابن سينا كما في (مختصر الصواعق)(2) 1 / 243 «فإن المبرزين المنفقين أيامهم ولياليهم وساعات عمرهم على تثقيف أذهانهم وتذكيه إفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة الوقوف على

(1) فصلت (42) .

(2)

الصواعق للإمام ابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله تعالى ورضى عنهم. محمد عبد الرزاق

ص: 39

المعاني الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وبيان شرح عبارة» .

فمن الممتنع أن يكلف الله تعالى جميع عباده بهذا، ومن الممتنع أن يكتفي منهم في الأصول التي يلزمهم اعتقادها بالتقليد الصرف لمن ليس بمعصوم، كيف وقد علم سبحانه أن النظار سيختلفون، فيكون فيهم المحق والمبطل، ومعرفة العامة بالمحق مع جهلهم بما هو الحق وعدم العصمة ظاهر الامتناع.

وقد نص الله تبارك وتعالى في كتابه على أنه خلق الناس على الهيئة التي ترشحهم لمعرفة الحق. قال الله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» سورة الروم: 30

وعدم العلم إنما هو لأمرين:

الأول: ما يطرأ على الفطرة مما يغشاها فيصرف عن مراعاتها، وفي (الصحيحين) من طرق عن أبي هريرة قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهو دانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبوهريرة: وأقرءوا إن شئتم «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» الآية» . لفظ مسلم من الحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

الثاني: الإعراض عما أعده الله تعالى لجلاء الفطرة عن تلك الغواشي وهو الشرع، قال الله تبارك وتعالى:«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» خواتيم الشورى.

هذا، وقد أرسل الله تبارك وتعالى رسله، وأنزل كتبه، وفرض شرائعه، معرضاً

ص: 40

عن علم الكلام والفلسفة، فأرسل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس، واختار أن يكون أول من يدعى إلى الحق العرب الأمين، وكلفهم بالنظر والأيمان، وقبل أيمان من آمن منهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وبأنهم هم المؤمنون حقاً وقضى بقيام الحجة على من كفر منهم، ولم يكن فيهم أثر لعلم الكلام ولا الفلسفة، ولا أرشدهم الشرع إلى تحصيل ذلك بل حذرهم منه، هذه سورة (الفاتحة) أعظم سورة في أعظم كتاب أنزله الله تبارك وتعالى، فرض الله سبحانه على العباد قراءتها في كل يوم بضع عشرة مرة وفيها «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ» .

ومعلوم من أمره إياهم بسؤال الهداية إلى هذا دون ذاك أنه يأمرهم بلزوم هذا واجتناب ذاك والمنعم عليهم هم الأنبياء ومن اهتدى بهديهم، فهم من هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم وخيار أصحابه ومن اهتدى بهديهم ممن بعدهم.

ولا خفاء أن المأخذين السلفيين هما صراط هؤلاء، وأن علم الكلام والفلسفة ليسا من صراطهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير «المغضوب عليهم والضالين» باليهود والنصارى، لا خفاء أن موسى وعيسى عليهما السلام ومن كان على هديهما هم من المنعم عليهم، وإنما وقع الغضب والضلال على اليهود والنصارى الذين خالفوا هدي موسى وعيسى وأصحابهم وأتباعهم المهتدين بهديهم، وكان من تلك المخالفة الأخذ في علم الكلام والفلسفة إتباعاً لصراط الأمم التي هي أو غل في الضلال كاليونان والرومان. (1) فمن الواضح الذي لا يخفى على أحد أن علم الكلام والفلسفة ليسا من صراط المنعم عليهم بل هما من صراط المغضوب عليهم والضالين. فثبت بهذا أوضح ثبوت أن الشرع لم يقتصر عن الإعراض عن علم الكلام والفلسفة، بل حذر منهما

(1) والهند والفرس بل أن الهند والفرس أعرق بالفلسفة من الرومان، إنما أشتهر الرومان بنظام الدولة ووضع القانون المدني لها. م ع.

ص: 41

ونفر عنهما، فهل يقول مسلم بعد هذا أن المأخذين السلفيين غير كافين في معرفة الحق في العقائد، وأن ما يؤخذ من علم الكلام والفلسفة مقدم عل المأخذين السلفيين ومهيمن عليهما؟ !

وقد قال الله تبارك وتعالى لمحمد وأصحابه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» آل عمران: 110. وقال تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ» كَرِيمٌ الأنفال: 74.

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى:«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً» المائدة: 3 وإكمال الدين وكمال إيمان الصحابة صريح في أن جميع العقائد المطلوب معرفتها في الإسلام كانت مبنية موضحة حاصلة لهم. وليس هذا كالأحكام العملية، فإنه لا يطلب معرفته ما لم يقع سببه منها فقد يكتفي في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان الأصل الذي إذا رجع إليه عند وقوع سبب الحكم عرف منه الحكم. ثم رأيت في (شرح المواقف) بعد ذكر الأحكام العملية ما لفظه: «وإنها لا تكاد تنحصر في عدد، بل تتزايد بتعاقب الحوادث الفعلية فلا يتأتى أن يحاط بها

بخلاف العقائد فإنها مضبوطة لا تزايد فيها أنفسها فلا تعذر الإحاطة بها» . وأيضاً فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند الجمهور، فأما تأخيره عن وقت الحاجة فممتنع باتفاق الشرائع كما نقل عن القاضي أبي بكر الباقلاني، ووقت الحاجة إلى العقائد المطلوب اعتقادها في الشرع لا يمكن تأخره عن حياة النبي صلى الله عليه آله سلم، ووقت الحاجة في النصوص المتعلقة بالعقائد هو وقت الخطاب لأن المكلف يسمع فيعتقد، والقضية العملية التي تستدعي الحكم لا محيص للقاضي عن النظر فيها، والقضاء عندما تحدث، فأما العقائد فلوفرض أن فرعاً منها لم يعرف حاله من المأخذين السلفيين فحقه ترك الخوض فيه وأن يكون الخوض فيه بدعة ضلالة إذا لا ملجئ إلى النظر فيه فضلاً عن الكلام. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال: «خير

ص: 42

القرون (1) قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» . في أحاديث كثيرة في أفضلية الصحابة وكمال إيمانهم ثم إتباعهم، ولا خفاء أنه لم يكن إذا ذاك عند المسلمين خير لعلم الكلام ولا الفلسفة، وأنه لما حدث بعض النظر في الكلام كان بقايا الصحابة ثم أئمة التابعين ينكرونه، وهكذا لم يزل علماء الدين العارفون بالكتاب والسنة المتحققون بأتباع السلف ينكرون الكلام والفلسفة، ويشددون على من ينظر فيهما إلى أن قل العلماء وفشت الفتنة.

وبالجملة فشهادة الإسلام بكفاية المأخذين السلفيين في العقائد وتحذيره مما عداهما بغاية البيان، ودلالة العقل بذلك واضحة والله المستعان. فهل يسوغ مع هذا المسلم أن يرضى طعن الكورثي في أئمة السنة باقتباسهم العقائد من المأخذين السلفيين وردهم ما يخالف ذلك.! كقوله ص 115 في الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: «وقد ذكر في كتاب (الرد على الجهمية) ما يدل على ما أصيب به عقله

وهو الذي اعترف أنه يجهل علم الكلام

ومع ذلك تراه يدخل في مضايق علم أصول الدين

» .

وقال 151 في الإمام ابن الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل: «وعبد الله بن أحمد صاحب كتاب (السنة) ، وما حواه كتابه هذا كافة في معرفة الرجل، ومثله لا يصدق في أبي حنيفة

» .

وقوله ص 16 في الامام الجليل عثمان بن سعيد الدارمي: «عثمان بن سعيد في السند هو صاحب (النقض)(كتاب الرد على الجهمية) مجسم مكشوف الأمر يعادي أئمة التنزيه

ومثله يكون جاهلاً بالله سبحانه» .

(1) هكذا أشتهر الحديث عن اللسنة، وقد أخرجاه في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود وعمران بن حصين، ومسلم عن أبي هريرة س، وعائشة، ولفظ حديثها وحديث ابن مسعود «خير الناس قرني

» ولفظ عمران وأبي هريرة «خير أمتي قرني» . ن

ص: 43

وقوله ص 19 في الامام الشهير محمد بن إسحاق بن خزيمة: «واعتقاد ابن خزيمة يظهر من كتاب (التوحيد)

وعنه يقول صاحب (التفسير الكبير)

إنه كتاب الشرك. فلا حب ولا كرامة» .

ويتتبع أصحاب الإمام طاعناً في اعتقادهم يُسِرّحَسْوا في ارتغاء، يقصد الطعن في الإمام أحمد، بل رمز في بعض المواضع إلى الطعن في الإمام أحمد بما هو أصرح من هذا، وطعن ص 5 في رواة السنة وفي أئمتها الذيم امتحنهم المأمون وآله فقال: «وكانت فلتات تصدر من شيوخهم في الله سبحانه وصفاته بما ينبذه الشرع (الفلسفي) والعقل (الجهمي) في آن واحد، فرأى المأمون امتحان المحدثين والرواة في مسألة كان يراها من أجلى المسائل ليوقفهم موقف التروي فيما يرون ويروون، فأخذهم في مسألة القرآن، ويدعوهم إلى القول بخلق القرآن

فمنهم من أجاب مرغماً من غير أن يعقل المعنى، ومنهم من تورع من الخوض فيما لم يخض فيه السلف» .

ولا ذنب لهؤلاء الأئمة إلا أنهم آمنوا بالله ورسوله وصدقوا كتاب الله وسنة رسوله، ولم يلتفتوا إلى ما زعمه غيرهم أنه لا يوثق بالفطرة والعقل إلا بعد إتقان علم الكلام والفلسفة، وأن النصوص الشرعية من كلام الله تعالى وكلام رسوله لا تصلح حجة في العقائد لأنها لا تفيد اليقين كما في (المواقف) وشرحها في أواخر الموقف الأول:«الدلائل النقلية هل تفيد اليقين؟ وقيل لا تفيد، وهو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة،.. وقد جزم الإمام الرازي بأنه لا يجوز التمسك بالأدلة النقلية» .

فلو أن الطاعن في أئمة السنة طعن فيهم من جهة العقل ساكتاً عن الدين لكان الخطب أيسر إذ يقال: إنه لم يتناقض بل غاية أمره أنه سكت عن الطعن في القرآن والنبي اكتفاء بما يلزم منه ذلك، فأما الطاعن فيهم من جهة الدين، فينبسهم إلى الزيغ والبدعة، والجهل بعقائد الإسلام، فلا يخفى كذبه على عارف. والله المستعان.

ص: 44

فصل

وأما المأخذ الخلفي الأول، هو النظر المتعمق فيه، أعنى الكلامي والفلسفي فقد تقدم بعض ما فيه.

وقد يقال: إن من شأنه أن يشهد المأخذ السلفي الأول فيما أصاب فيه ويكشف عن خطائه فيما أخطأ فيه ويتغلغل إلى ما قصر عنه، وأن يبين المراد من المأخذ السلفي الثاني، فعلى هذا لا معنى لنفور أهل الدين الحق عنه.

فأقول: أما من جهة النظر الإسلامي فما يخشى من خطأ المأخذ السلفي الأول قد تكفل الشرع بكشف الحال فيه كما أبطل نسبة الولد إلى الله عز وجل، وستبعاد الحشر، واستحاق غير الله عز وجل للعبادة، وغير ذلك.

وما يقصر عنه المأخذ السلفي الأول في العقائد قد تكفل الشرع ببيانه، فإن بقي شيء فالخوض فيه بدعة، وما يخشى من الخطأ في فهم النصوص لابد أن يكون في المأخذين السلفيين ما يكشف الحق فيه ضرورة أنهما كافيان مغنيان بشهادة العقل والشرع القاطعة كما تقدم.

فبقي النظر المتعمق فيه لا حاجة إليه في معرفة العقائد في الإسلام، وهو مثار للشبهات والتشكيكات كما يأتي، لا جرم وجب التنفير عنه والتحذير منه، وقد تقدم من الحجة على ذلك ما فيه غنى لطالب الحق، فأما النظر فيه لكشف شبهات أهله فسيأتي ما فيه إن شاء الله تعالى.

ولنذفف (1) على هذا المأخذ بسلاح أهله، لينكشف عواره، وتنتهك أستاره، وتندفع شبهة المغترين به والمرعوبين منه:

(1) التذفيف على الجريح الإجهاز عليه لاتمام إزهاق روحه. محمد عبد الرزاق.

ص: 45

علماء المعقول يقسمون العلم إلى ضروري ونظري، ويقولون: إن النظر إنما يحصل به العلم إذا كانت المقدمة من الضروريات أولازمة لزوماً تعلم صحه بالضرورة، ثم قسموا الضروريات إلى أنواع، ردها بعضهم إلى ثلاثة: الوجدانيات، والحسيات، والبديهيات. قالوا: والوجدانيات قليلة الفائدة في إقامة الحجة على المخالف لأنه قد ينكر أن يكون يجد من نفسه ما يزعم المدعي أنه يجده، قالوا: فالعمدة في العلم هي الحسيات والبديهيات.

ثم ذكروا أن جماعة من الفلاسفة منهم - على ما حكاه الفخر الرازي - إماما الفلسفة أفلاطون وأرسطو، قدحوا في الحسيات، وأن آخرين قدحوا في البديهيات، وآخرين في الجميع، وأن قوماً قدحوا في إفادة النظ للعلم مطلقاً، وآخرين قدحوا في إفادة العلم في الإلهيات.

فأما القادحون في الحسيات، فاحتجوا بأن الحواس كثيراً ما تغلط، وذكروا من ذلك أمثلة تراها في (المواقف) وغيرها (1) ، ومن تدبر وجد كثيراً من أمثالها، ثم قالوا: فهذه المواضع تنبهنا لغلط الحواس فيها لوجود أدلة نبهتنا على ذلك، فيحتمل في كثير من المواضع التي نرى الحواس فيها مصيبة أن تكون غلطاً في نفس الأمر، ولكن لم يتفق أن نطلع على دليل ينبهنا على ذلك، ومن الأصول المقررة أن عدم وجدان الدليل لا يستلزم عم المدلول.

أجاب العضد وغيره بأن المدار على جزم العقل، وهو لا يجزم بمجرد الإحساس

(1) من ذلك أن القبس إذا حرك بسرعة عظيمة في خط مستقيم رؤي خطا من نار، وإذا حرك كذلك على شكل دائرة رؤي دائرة من نار، والعصا المستقيمة في الماء ترى منحنية أو متعرجة، والشمس والقمر والنجوم ترى ساكنة وهي متحركة. وذو المرة يذوق الماء العذب مرا، وماء الآبار يحس دافئا في الشتاء وباردا في الصيف وهو على حالة واحدة سيفا وشتاء. وعلى رأي متأخري الفلكيين ترى الأرض كسامنة وهي متحركة، والمحموم يشكوبردا وجسده حار الخ. محمد عبد الرزاق.

ص: 46

بل مع أمور تنضم إليه لا يدرى ما هي ولا كيف حصلت ولا من أين جاءت. أشار بعضهم إلى القدح في هذا الجواب بأن الجزم مقدوح فيه كما يأتي، أي أن العقل قد يجزم ثم يتبين خطاؤه، وبأننا إذا تأمنا أمثلة الغلط منها ما كانت عقولنا تجزم فيها بالصحة قبل أن تشعر بالدليل الدال على الغلط. أجيب بأن ذاك الجزم ظن قوي ليس هو بالجزم اليقيني المشروط، وهذا الجواب لا يجدي لاشتباه الجزمين، غاية الأمر أنكم سميتم ما تبين غلطه ظناً، وما لم يتبين غلطه يقيناً، ولوفرض أنه الغلط فيبعض ما تسمون الجزم فيه يقيناً لعدتم فسميتموه ظناً.

ومما يقوي ذلك القدح أنه توطأ جماعة على تشكيك إنسان في بعض ما يحس به ويجزم، ولم يشعر بتواطئهم لأمكنهم تشكيكه، بل ربما يكفي لتشكيكه واحد، بل يتشكك بنفسه إذا كان يرى أن هناك ما يحتمل التغليط كالسحر.

هذا وقد رد علماء الطبيعة المتأخرون عدة نظريات ذهب إليها الفلاسفة مسندين لها إلى الحس، ومن ذلك ما كانوا جازمون به ويبنون عليه مقالات أخرى حتى في الإلهيات، وتعد ذلك من اليقينيات التي يوجب أسلاف الكوثري رد ما يخالفها من كلام الله تعالى وكلام رسوله.

فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟

قلت: من تدبر أمثلة الغلط وجدها على ضربين، ضرب يخشى أن يكون سبباً قريباً لمضار ومفاسد، وضرب لا يخشى فيه ذلك، لكن يخشى أن يغلط فيه المتعمقون فيبنوا عليه نظريات تعظم مفاسدها. ووجد الضرب الأول جميعه مما ينكشف فيه الحال عن قرب فمنه أن الإنسان إذا تحاول (1) رأى الشيء أثنين، ولوكان هذا مما يتكرر للإنسان بغير شعوره لأو جب ضرراً ومفاسد، فاقتضت عناية

(1) أي صرف إحدى عينيه عن الأخرى حتى ترى كل واحد منهما غير ما تراه الأخرى. م ع

ص: 47

الله عز وجل أن لا يكون ذلك، بل اقتضت أن يرى الأحول الشيء واحد كغيره مع أنه كان يجب أن يرى الشيء أثنين كالمتحاول. وهذا كما اقتضت العناية أن يكون لكل إنسان صورة يمتاز بها عن جميع الناس فلا يلتبس بصاحبك الذي عرفته معرفة محققة أح من أهل الأرض، وهكذا ترى العناية شاملة، والله عز وجل إنما خلق الناس لعبادته، فإذا كانت عنايته به في معاشهم على ما تقدم وهو وسيلة فقط، فأولى من ذلك عنايته بهم في المقصد الذي لأجله خلقهم، وهذا يقتضي حفظ المأخذ السلفي الأول عن أن يستمر فيه غلط حسي يؤدي إلى ضلال في الاعتقاد، على أنه لوكان شيء من ذلك لكشفه المأخذ السلفي الثاني وهو الشرع. فأما المتعمقون فإنهم هم الذين يجلبون الضرر على أنفسهم فلا بدع أن يكلمهم الله عز وجل إلى أنفسهم بل ويزيدهم ضلالاً إلى ضلالهم، ونظير ذلك أن الله تبارك وتعالى إنما هيأ للناس ابتداء من الأسلحة ما لا يصيب به الإنسان في مرة واحدة إلا شخصاً واحداً، وبذلك يحصل التكافؤ بين الناس ويخفف ضرر الفتن، ولا تكاد تصيب من لم يتعرض لهما من الصبيان والنساء والعجزة والبهائم، ولكن الإنسان آخذ يدقق في اصطناع الأسلحة حتى أصطنع القنابل التي تهلك الواحد منها ناحية بما فيها، ويفكر في اصطناع ما هو أشد من ذلك «من القنابل الذرية والهيدروجينية وما هو من الأسرار عندهم أعدوه للفتك بالأمم الأخرى» . (1) وأما القادحون في البديهيات فاعتلوا بأمور:

الأول: أن أجلى البديهيات قولنا: الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون، قالوا: وأنه غير يقيني، وأو ردوا للقدح في يقينيته عدة شبهات ذكرها وأجاب عنها صاحب (المواقف) فراجعه مع شرحه وحواشيه لتعلم ما يتضمنه النظر المتعمق فيه من التشكيل في أوضح الأشياء، وأجلاها تشكيكاً يشتمل على شبهات يصعب على الماهر حلها، وعلى من دونه فهم الحل، ولوأو رد بعض تلك الشبهات على أمر خفي

(1) زيادة من ع. ن

ص: 48

جاء به الشرع لجزم المتعمقون بأنها براهين قاطعة.

الأمر الثاني: أننا نجزم بالعاديات (1) كجزمنا بالأولياء فنجزم أن هذا الشيخ لم يتولد دفعة بلا أب ولا أم بل تولد منهما ونشأ بالتدريج

، وأن أو اني البيت لم تنقلب بعد خروجي أناساً فضلاء. ولا أحجار جواهر، ولا البحر دهناً وعسلاً، مع أنه من الجائز خلاف هذا، أما عند المتكلمين فلاستناد الأشياء جميعها إلى المختار فعله أو جب شيئاً من ذلك، وأما عند الحكماء فلاستناد الحوادث الأرضية إلى الأو ضاع الفلكية، فلعله شكل غريب فلكي لم يقع مثله، أو وقع ولكنه مثله إلا في ألوف من السنين.

أجاب العضد بأن الامكان لا ينافي الجزم كما في بعض المحسوسات. قال السيد في (شرحه) : «فإنا نجزم بأن هذا الجسم شاغل لهذا الحيز في هذا الآن لا يتطرق إليه شبهة مع أن نقيضه ممكن في ذاته، فقد ظهر أن الجزم في العاديات واقع موقعه» . كذا قال الشارح، وفيه أن القادحين لم يستندوا إلى الإمكان الذاتي المشترك بين أمثلتهم ومثال الشارح، وإنما استندوا إلى احتمال الوقوع في نفس الأمر، فإن أحجار البيت كما يمكن بالإمكان الذاتي انقلابها جواهر، فإنه يحتمل وقوع الانقلاب بعد خروجك وليس مثال الشارح هكذا، فإنه مفروض في الحاضر المشاهد، وقد قال تبارك وتعالى:«وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ» إلى أن قال تعالى «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى» طه: 9 - 21 فلما كان موسى عليه السلام مع أهله كانوا يشاهدون عصاه فيجزمون بأنها عصا لم تنقلب حية، فهذا

(1) أي الأمور المعتادة كولادة الإنسان من أبوين اتصلا ببعضهما اتصالا معروفاً ولفظة العاديات تقال للأشياء القديمة جداً نسبة إلى عاد. م ع

ص: 49

جزم كالجزم في مثال الشارح، ثم لما فارقهم وأمر بإلقاء عصاه وانقلبت حية إذ كان أهله - وهو غائب عنهم - يجزمون في الوقت الذي انقلبت فيه حية يجزمون بمقتضى العادة أنها لم تنقلب حية. فهذا جزم كالجزم في أمثلة القادحين، ولا يخفى الفرق بين الجزمين وأنه لا يلزم من صحة الأول صحة الثاني، ولا من القدح في الثاني القدح في الأول، وإن الثاني في قصة أهل موسى مخالف للواقع، وفي أمثلة القادحين محتمل لذلك فكيف يقال أنه جزم واقع موقعه؟

دع عنك خرق العادة ويغني عنه النقص العادي الذي لم يعهد كالرجل يمسي بالمغرب ثم يصبح في المشرق فإن هذا كان من المحال العادي عند الناس، فانتقض بالطيارات فلوبقي الآن أهل جهة لم يسمعوا بخبر الطيارات لكانوا يجزمون بامتناع ما هو واقع بدون خرق عادة (1) وربما يقال لا يمتنع أن يكون مراد الشارح أن الاحتمال البعيد جداً لا ينافي الجزم، ففي مثاله يحتمل نقيض ما جزم به لاحتمال خطأ الحس، فكذلك احتمال خرق العادة.

والظاهر أن مراد المتن والشرح أنه كما أن الحس يحتمل الغلط ومع ذلك يسلّم القادحون في البديهيات أن ذلك لا يقتضي القدح في الحسيات مطلقاً، فهكذا يلزم في العاديات أن لا يقتضي احتمال الخرق القدح فيها مطلقاً.

وكأن العضد يقول في الجزم بالعادة مثل ما قاله في الجزم بالحس أن المدار على جزم العقل وهو إنما يجزم بأمور تنضم إلى الحس أو إلى العادة لا يدري ما هي ولا كيف حصلت ولا من أين جاءت. فإذا كان هذا مراده فقد تقدم في الكلام على

(1) وأعجب من هذا أن الطيارات النفاثة يبالغون الآن في تجويد صنعها وسرعة حركتها حتى يقال أنها تقطع في الساعة 800 ميل أو أكثر، فتكون أسرع من حركة الأرض، فإذا جاء اليوم الذي تسبق الطائرة حركة الأرض وطارت من بلد بعد غروب الشمس متوجهة إلى الغرب سبقت حركة الأرض فرؤية الشمس طالعة بعد غروبها ويكون هذا من عجائب العصر. م ع

قلت: هذا ما قاله أستاذنا الشيخ عبد الرزاق حمزة رحمه الله، وقد وجدت الآن الصواريخ ذات السرعات الكبيرة (وعلم الإنسان ما لم يعلم) . زهير

ص: 50

الحسيات ما علمت.

والحق الذي لا ريب فيه أن العقل قد يجزم في الحسيات بمجرد الإحساس، وفي العاديات بمجرد العادة، وإنما يقف إذا عرض له ما يشككه، فالذي يجوز السحر إذ قال له من يثق به: إن هنا ساحراً، فأدخله عليه وناوله تفاحة فأنه لا يجزم بأنها تفاحة أثمرتها شجرة، بل يجوز أن تكون روثة - مثلاً - وأن حسه أخطأ لأجل السحر، أو أن تكون روثة انقلبت تفاحة بعمل السحر، فلا يجوز هنا بإحساس ولا عادة. ومع هذا فإن هذا الذي يجوز السحر تجده حيث لا مظنة للسحر يجزم بالإحساس والعادة كما يجزم غيره، وقد يجزم ثم تشككه فيرجع عن جزمه.

فالحق أن النفس قد لا تعرف وجه الاحتمال فتجزم، وقد تعرفه ولكنها تجحده فتجزم، وقد تعرفه وتعترف به وتستحضره ولكنها تستبعده جداً فيجزم ولا تبالي به، فاحتمال الجزم للخطأ لا محيص عنه. وسيأتي اعترافهم بذلك.

فإن قيل: فماذا يقول السلفيون؟

قلت: قد مر في الكلام على الحسيات ما فيه الكفاية ويعلم منه الجواب عنهم في شأن البديهيات ويأتي إن شاء الله تعالى لذلك مزيد.

وأما العاديات فهم يعترفون بجواز خرق العادة، وإنما يحتجون بها في مواطن:

الأول: حيث تكون من المأخذ السلفي الأول، بأن يعلم أن من شأنها أن تحمل الأميين على اعتقاد شيء في الدين، ولم يأتي الشرع بما يخالفها، ووجه الاحتجاج هنا هو تقرير الشرع، مع القطع بأنها لوكانت مختلفة لكشف الشرع عن حالها.

الثاني: حيث تكون من المأخذ السلفي الثاني كأن يتواتر أثر عن النبي صلى الله عليه

وآله وسلم في الدين، ووجه الاحتجاج هنا أن الخرق إنما يكون بفعل الله عز وجل، ومن الممتنع أن يقع الخرق هنا بأن يتواتر ما هو كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين، فإن هذا تضليل يتنزه الله عز وجل عن مثله.

فإن قيل: فقد روي أنه يظهر على يد الدجال بعض الخوارق.

ص: 51

قلت: قد كشف الشرع حالها بالدلالات القاطعة من المأخذين السلفيين على كذب الدجال، ولم يكتف بذلك بل نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خروج الدجال وكذبه وظهور ما يظهر على يده، وأن ذلك ابتلاء محض.

الثالث: حيث لورفض خرقها لكان حجة أخرى تقوم مقام العادة، كما تقول أن من الحجة على إعجاز القرآن أن العرب لم يأتوا بسورة من مثله مع تحديه لهم وتوفر الدواعي أن يفعلوا لوأمكنهم. ففي هذا القول إن فرض الخرق بأن يقال: لعلهم كانوا قادرين ولكن صرفهم الله عز وجل، فهذا الصرف حجة أخرى على الأعجاز.

الرابع: حيث يكون مع العادة حجج أخرى لوفرض أن بعضها كالعادة لا يفيد إلا الظن لم يضر ذلك لأن القطع حاصل بالمجموع.

الخامس: حيث يكفي الظن. والله الموفق.

الأمر الثالث: أن للأمزجة والعادات تأثيراً في الاعتقادات، فقوي القلب يستحسن الإيلام، وضعيف القلب يستقبحه، ومن مارس مذهباً من المذاهب برهة من الزمان ونشأ عليه فإنه يجزم بصحته وبطلان ما يخالفه

» .

قال العضد: «والجواب أنه لا يدل على كون الكل كذلك» .

أقول: هذا حق ولكن فيه اعتراف بأن ذلك واقع في كثير، وهذا كاف في القدح في جزم العقل في الجملة، لأن إذا ثبت أن جزمه قد يكون خطا لسبب لم يؤمن أن يكون خطأ في موضع آخر لذلك السبب أولسبب آخر.

نعم، قد تتضح القضية جداً فلا يخشى فيها ذلك، كقولنا: الثلاثة اقل من الستة، سوالقضايا التي يختص بها المتعمقون ليست من هذا القبيل ولا قريباً منه، ولا سيما قضاياهم التي يناقضون بها المأخذين السلفيين، وكفى بمناقضتها لها حجة على اختلالها. فأما قضايا السلفيين فما لم يكن منها من ذاك القبيل فهو قريب منه، وقد

ص: 52

أمن اختلالها بإقرار الشرع لها، فأما ما لم يقتصر الشرع على اقرارها، بل جاء على وفقها، فتلك الغاية.

الأمر الرابع: مزاولة العلوم العقلية دلت على أنه يتعارض دليلان قاطعان بحسب الظاهر بحيث نعجز عن القدح فيهما، وما هو إلا للجزم بمقدماتهما مع أن أحدهما خطأ قطعاً.

أجاب العضد بأن البديهي ما يجزم فيه بتصور الطرفين فيتوقف على تجريدهما فلعل فيه خللاً.

أقول: هذا اعتراف بأن الجزم قد يكون خطأ، فقد يكون هناك خلل يخفى على الناظر الماهر فيجزم بأنه لا خلل، غاية الأمر أنه عند تعارض الدليلين العقليين يتنبه فيعرف أن هناك خللاً فكيف بما يلوح للمتعمق من الدلائل العقلية بدون أن يلوح له ما يعارضه؟ فأما النصوص الشرعية فأنهم لا يعتدون بها، على أن المتعمقين ربما يرجحون الدليل الخفي المعقد الذي هو مظنة الخلل على البديهي الواضح - ميلاً مع الهوى ورعباً ممن يرونه أمهر في التعمق منهم، ولأنه يصعب عليهم معرفة الخلل في الخفي المعقد، ويسهل عليهم أن يدفعوا البديهي الواضح، بأن يقولوا: هذه قضية وهمية.

الأمر الخامس: أنا نجزم بصحة دليل آونة، وبما يلزمه من النتيجة، ثم يظهر خطاؤه، فجاز مثله في الكل.

أجاب الشارح بقوله: «لا نسلم أن مقدمات الدليل الذي نجزم بصحته آونة بديهية، ولئن سلم ذلك فالبديهي قد يتطرق إليه الاشتباه لخلل في تجريد طرفيه وتعقلهما على الوجه الذي هو مناط الحكم بينهما، ذلك لا يعم البديهيات» .

أقول: هذا اعتراف بأن الناظر الماهر قد يجزم بأن المقدمة بديهية، والواقع أنها غير بديهية وقد يجزم بعد تدبره وإنعام نظره أنه لا خلل وتمام الكلام كما مر في «الأمر الرابع» .

ص: 53

الأمر السادس: أن في كل مذهب قضايا يدعي صاحبه فيها البداهة، ومخالفوه ينكرونها، وهو يوجب الاشتباه ورفع الأمان، فلنعد عدة منها

» فذكروا إحدى عشرة قضية ثم

قالوا: «وقد أجيب عنها بأن الجازم بها بديهة الوهم، وهي كاذبة، إذ تحكم بما ينتج نقائضها، قلنا: فيتوقف الجزم بها على هذا الدليل فيدور، وأيضاً فلا يحصل الجزم بما لا يتيقن أنه لا ينتج نقيضه ولا يتيقن، بل غايته عدم الوجدان» .

ولم يجب العضد عن هذا الأمر السادس ولا السيد، غير أنه قال في الجواب عن تلك الأمور كلها:«وأجيب عن ذلك بأنا لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يُذَبّ عنها، وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبه التي نعلم فاسدة قطعاً وإن لم يتيقن عندنا وجه فسادها» .

أقول لا ريب أن القدح في البديهيات بما يشمل الأوليات لا سبيل إليه لأن هناك قضايا واضحة متفق عليها، وهؤلاء القادحون لم يدعوا ما يناقضها، وإنما حاولوا التشكيك فيها بما لا يعتد به، وذل كقولنا:«الثلاثة أقل من الستة» و «الشيء أعظم من جزئه» و «الشيء لا يكون موجوداً معدوماً» و «والجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد - بأن يكون كله في أحدهما وكله في الآخر» لكن الوثوق ببعض البديهيات لا يستلزم الوثوق بجميعها، وقد اعترف بذلك المحتجون بها فبقي الكلام معهم في هذا، فيقال له تلك القضايا المعددة في الأمر السادس وهي إحدى عشرة - وما يشابهها اعترفتم جميعاً بأنها بديهية، ثم اختلفتم في الأخذ بها، كل فرقة منكم تزعم أن ما أخذت به من تلك القضايا بديهي عقلي يقيني، وأن ماردته منها بديهي وهمي، فإن كان مرد ذلك إلى التحكم، مَنْ هَوِيَ قضية قال: إنها بديهية عقلية تفيد اليقين، ومن خالفت هواه قال: بديهية وهمية، فهذا ليس من العلم في شيء وإن كان المرد إلى الجزم، فمن أحس بأنه جازم بالقضية قال: عقلية يقينية، ومن أحس بأنه مرتاب فيها قال: وهمية، فهذا قريب من سابقه، إذ قد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط، وقد تقدم أدلة على ذلك،

ص: 54

وكفى بالاختلاف في هذه القضايا دليلاً، وإن كان المرد إلى قوة المعارض، فمن لم يقوَ عنده معارض القضية سماها عقلية وقطع بها: ومن قوي عنده المعارض سماها وهمية فردها، فهذه كسابقيه، إذ غايته الجزم بالقضية أو الجزم بمعارضها، وقد ثبت أن الجزم يخطئ ويغلط.

وإن هناك معيار صحيح فما هو؟ قالوا: المعيار أن تعرض القضية البديهية المنظور فيها على البديهيات الأخرى، فإن وجدت فيها ما ينتج نقيض هذه القضية علمنا هذه وهمية.

قلت: هبوا أني تمسكت بقضية يقينية، فخالفني مخالف وذكر بديهية أخرى وزعم أنها عقلية يقينية، وأنها تنتج نقيض قضيتي، فقد لا أسلم أن القضية التي ذكرها عقلية يقينية، بل أحتج على أنها وهمية بإنتاجها نقيض قضيتي، وما أنتج نقيض الحق فهو باطل، وإن سلمت أن القضية عقلية فقد لا تكون من القضايا المتفق عليها بين العقلاء، وإذا لم تكن منه لم يؤمن أن تكن في نفس الأمر وهمية وتابعت صحبي على الخطأ، وإن كانت من القضايا المتفق عليها بين العقلاء أو بيني وبين صاحبي فقد لا أسلم صحة استنتاجه، إذ غايته أن تكون صحة بديهية فلعل بداهته وهمية، بدليل مناقضته لقضيتي وما ناقض الحق فهو باطل، فالمعيار الذي ذكرتم لا يفيد إلا حيث تكون القضية المعتبر بها من القضايا المتفق عليها بين العقلاء، وتكون صحة إنتاجها كذلك، وهذه فائدة ضئيلة لا تتأتى في شيء من القضايا التي اختلفتم فيها.

فإن قيل فماذا يقول السلفيون؟

قلت: يقولون: القضية المحتاج إلى التثبت فيها (1) إما غير ماسة بالدين البتة، وإما ماسة به.

(1) احتراس من القضايا الواضحة ومنها أصل الشرع إلا به. المؤلف

ص: 55

فالأولى: لا شأن لهم بها بل يدعونها لعلماء الطبيعة.

وأما الثانية: فإما أن لا تكون من المأخذ السلفي الأول وإما أن تكون منه.

فالأولى: لا يعتدون بها إلا أن بعضه قد يتعرض لها وافقت المأخذين السلفيين.

وأما الثاني فيحكمون فيها الشرع، فإن وجدوه جاء بما يخالفها علوا أنها باطلة، وإن وجدوه أقر الناس على اعتقادهم الديني بحسبها علموا أنها حق، ولأن الشرع لا يقر على مثل هذا إلا وهو حق، فأما إذا زاد الشرع فجاء على وفقها فتلك الغاية.فهذا المعيار هو الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده وكره لهم ما عداه، فهو الصراط المستقيم وسبيل الله وسبيل المؤمنين، وله مزايا لا تحصى، ومنها أنه أتم وأعم من معيار المتعمقين الضئيل الفائدة، ومنها أنه لا يؤدي إلى ما وقعوا فيه من الخروج عن الشرع والعقل بنسبتهم الكذب إلى الله تعالى ورسله كما سيأتي شرحه، ومنها انه لا يؤدي إلى الاختلاف في الدين وتفريقه، بدليل أن الصحابة والتابعين عليهم لهم بإحسان لم يختلفوا، فان أدى إلى اختلاف ما فلا يكاد يكون ألا من قبيل الاختلاف في فروع الفقه، لا يلزم المخطئ كفر ولا ضلال، على انه إن خيف اختلاف في الدين كان الواجب على الأكثر في زمن غلب فيه الخير عدم التدقيق، وعلى الأقل كتمان قولهم كما جرى عليه السلف في مسئله القدر، ومنها أن المخطئ إذا لم يقصر تقصيرا بينا يرجى له العفو، لأنه لم ينشأ خطأو هـ عن اتباع غير سبيل المؤمنين، والتماس الهدي من غير الصراط المستقيم، ومنها تيسر المعرفة بدون الخروج عن الصراط المستقيم ولا السبل المفرقة عن سبيل الله عز وجل، إذ يكفي للمعرفة العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله بدون حاجة إلى التعمق في المنطق والفلسفة.

ومنها أن العامة لا يحتاجون معه إلى التقليد المريب الموقع للمسلمين في الاختلاف والتفرق والتنابذ والتنابز والفتن، لأن القضية أما أن يتفق عليها علماء

ص: 56

الدين فتكون إجماعاً، وإما أن لا يظهر فيها مخالفة إلا ممن يشذ فيكون إتباع الجمهور المعلوم انهم إنما يتبعون كتاب الله تعالى وسنة رسوله أخذاً بالراجح الواضح.

وهذا إنما يحتاج إليه في فروع العقائد التي لا يضر عدم استيقانها، هذا مه أنه يسهل على العلماء أن يذكروا للعامة الحجة النقلية فيفهمها العامة فيكون متبعين للشرع، وبذلك تطمئن قلوبهم، ويزيد إيمانهم، ويعظم ثوابهم. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وأما القادحون في الجميع فهم السوفسطائية، وهم ثلاثة فرق، أمثلها وأفضلها كما في (المواقف) و (شرحها) اللا أدرية يشكون في كل شيء.

الثانية: العنادية يزعمون أن لا موجود أصلاً.

الثالثة: العندية يقولون: حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد، فمذهب كل طائفة حق بالنظر إليهم، وليس في نفس الأمر شيء بحق.

قال السيد في (شرح المواقف) : «إنما نشأ هذا من الإشكالات المتعارضة

وبالجملة ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة مثلها في القوة تقاومها» .

أقول: فيعلم بهذا أن طريق المتعمقين مشتبه موقعه في كثرة الخطأ والغلط والاختلاف والارتياب والجنون، وحق لمن رغب عن سبيل الله عز وجل وابتغى الهدى في غيرها أن يقع في مثل هذا التيه.

وأما القادحون في إفادة النظر العلم مطلقاً فهم السمنية، وتمسكوا بوجوه سأحاول حكاية بعضها، وما أجيب به عنها بالمعنى تقريباً للفهم.

الوجه الأول: إفادة النظر الصحيح للعلم لا تعلم إذ لوعلمت فإما بضرورة أو نظر وكلاهما باطل، أما الضرورة فلاختلاف الناس في ذلك وللجزم بأنه دون قولنا «الواحد نصف الاثنين» في القوة وليس ذلك إلا لاحتمال النقيض ولو على أبعد

ص: 57

وجه، وأما النظر فلاستلزامه إثبات الشيء بنفسه.

أجاب بعضهم باختيار الضرورة، وأن الضروري قد لا يكون تصور طرفيه جلياً ولا تجريدها سهلاً، ولا يكثر وروده على الذهن فيؤلف ويستأنس به، فمثل هذا قد يخالف فيه قليل من الناس، ويدرك أنه دون قولنا «الواحد نصف الاثنين» وذلك لا يخرجه عن كونه ضرورياً. واختار بعضهم النظر، وأجابوا بما فيه طول وتعقيد، فراجعه في (المواقف) و (شرحها) ، لما قدمناه في أول الكلام مع منكري البديهيات.

الأمر الثاني (1) : الاعتقاد الجازم عقب النظر لا يعلم أنه علم لأنه لا يعلم إلا بضرورة أو نظر وكلاهما باطل، أما الضرورة فلأنه «قد يظهر للناظر بعد مدة بطلان ما أعتقده وأنه لم يكن علماً وحقاً، وكذلك نقل المذاهب ودلائلها لما مر من أنه قد يظهر صحة ما أعتقد بطلانه وبالعكس» كذا في (المواقف) و (شرحها) .

وأما النظر فلاحتياجة إلى نظر آخر ويتسلسل.

أجاب العضد بقوله: (الذي يظهر خطاؤه لا يكون نظراً صحيحاً والنزاع إنما وقع فيه» .

الأمر الثالث: النظر لا يفيد العلم إلا إذا علم عدم المعارض إذ معه يحصل التوقف «وعدمه ليس ضرورياً إلا لم وإلا لم يقع المعارض، أي لم ينكشف وجود بعد النظر، وكثيراً ما ينكشف فهو نظري، ويحتاج إلى نظر آخر وهو أيضاً محتمل لقيام المعارض ويتسلل» ، كذا في (المواقف) و (شرحها) .

أجاب العضد بقوله: «النظر صحيح في المقدمات القطعية كما يفيد العلم بحقية النتيجة يفيد العلم بعدم المعارض في نفش الأمر ضروري» .

(1) كذا الأصل. وقد سبق أنه قال «الوجه الأول» فالنظر يقتضي أن يقول هنا «الوجه الثاني» وكذا في بقية الأمور الباقية. ن

ص: 58

الأمر الرابع: الاعتقاد الجازم قد يكون علماً لكونه مطابقاً مستنداً لموجب، وقد يكون جهلاً لكونه غير مطابق مستنداً إلى شبهة أو تقليد، فلا يمكن التمييز بينهما، فإذاً ماذا يؤمننا أن يكون الحاصل عقيب النظر جهلاً؟» . لخصت هذه العبارة من (المواقف) و (شرحها) .

قال العضد: «هذا إنما يلزم المعتزلة القائلين بمماثلة الجهل للعلم» .

قال الشارح: «أما نحن (أي الأشعرية) فنقول: إذا حصل للناطر العلم بالمقدمات الصادقة القطعية وبترتيبها المفضي إلى المطلوب فإنه يعلم بالبديهة أن اللازم عنه علم لا جهل» .

أقول: إذا كان القادحون يسلمون إمكان علم الناظر بأن نظره صحيح علماً يقينياً باتاً فلا ريب في سقوط شبهاتهم هذه والسبع الباقية المذكورة قي (المواقف)، وإن كانوا يمنعون ذلك ويقولون: غايته أن يجزم، وهذا الجزم لا يوثق به، فكلامهم قوي بالنسبة إلى النظر المتعمق فيه في ونحوها، وليس فيما أجيب به عن ذلك ما يجدي، إذا غايته أنه إذا علمت صحة النظر علماً يقينياً باتاً حصل العلم بأن ذلك علم، وحصل العلم بعدم المعارض، وحصل الأمن من أن يكون الاعتقاد جهلاً، وهذا إنما يفيد إذا ثبت إمكان العلم اليقيني البات بصحة النظر، فيبقى البحث في هذا الإمكان، ولا ريب أنه ليس عند الناظر في النظر المتعمق فيه الإلهيات ونحوها إلا جزمه بالصحة أن صدق في دعوى الجزم، وهذا الجزم قد ثبت بالتجارب الكثيرة والدلائل الواضحة أن مثله كثيراً ما يكون

خطأ وغلطا، واعترف المتعمقون بذلك كما مر مراراً، وإذا احتمل ولوعلى غاية البعد أن يكون الجزم خطأ لم يكن الجزم بصحة النظر علماً بصحته، ولا الجزم بإفادته العلم علماً بذلك، ولا الجزم بأن ما أفاده علم علماً بذلك، ولا الجزم بعد المعارض علماً بعدمه، ولا يحصل الأمن من أن يكون كل ذلك جهلاً.

فإن قيل: إننا نقطع مع هذه الشبهات كلها بأن من النظار ما هو صحيح.

ص: 59

قلت: إن كان المراد الصحة في الجملة أي أن يمتنع أن تكون النظار كلها فاسدة، فهذا لا يجدي في الأنظار الجزئية واحداً واحداً، وإنما يفيد في كل منها الاحتمال، فكل نظر يجزم بصحته فإنه يحتمل أن يكون فاسداً في نفس الأمر، ولا ينافي ذلك امتناع أن يعم الفساد جميع الأنظار. وإن كان المراد القطع في بعض الأنظار بعينها فهذا لا يسلم بالنسبة إلى النظر المتعمق فيه في الإلهيات ونحوها، وإنما غاية ما يحصل لكم في ذلك الجزم وقد علمتم ما فيه، وإنما يسلم في القضايا السهلة الواضحة التي تؤول إلى البديهيات المتفق عليها عن قرب، نعم قد يحصل القطع بالأمر لدليل آخر غير النظر الدقيق، كاجتماع أدلة يحصل اليقين بمجموعها، وكأن تكون القضية بديهية قوية وهي في الدين ويقرها الشرع، وكأن يصرح بها الشرع تصريحاً لا يمكن تأو بله إلا بجملة على الكذب أو التلبيس - وسيأتي شرح هذا إن شاء الله تعالى - لكن اليقين بهذه القضايا لا يستلزم صحة نظر دقيق يوافقها بنتيجته إذ قدح تصح النتيجة مع الفساد النظر كما لوأشرت إلى جسم أبيض وقلت: هذا جسم وكل جسم أبيض، فإن النتيجة «هذا أبيض» وهي صادقة، والنظر فاسد كما لا يخفى.

وأما القادحون في النظر في الإلهيات فقالوا: إن النظر إنما قد يفيد العلم في الهندسيات والحسأبيات، دون الإلهيات، فإنها بعيدة عن الأذهان جداً، والغية القصوى فيها الظن والأخذ بالأخرى والأخلق، وأحتجوا بوجهين:

الأول الحقائق الإلهية من ذاته وصفاته سلا تتصور، والتصديق بها فرع التصور.

الثاني، أقرب الأشياء إلى الإنسان هو يته التي يشير إليها بقوله:«أنا» وإنها غير معلومة - لا من حيث وجودها فإنه لا خلاف فيه - بل من حيث تصورها بكنهها، ومن حيث التصديق بأحوالها من لونها عرضاً أو جوهراً، مجرداً أو جسمانياً، منقسماً أو غير منقسم، وقد كثر الخلاف فيها كثرة لا يمكن معها الجزم بشيء من الأقوال المختلفة، وإذا كان اقرب الأشياء إلى الإنسان هذا حاله فما الظن بأبعدها؟ ذكر هذا كله في (المواقف) ثم ذكر أنه أجيب عن الوجه الأول بأنه يكفي التصور

ص: 60

بعارض يكون هو مناط الحكم، وعن الثاني بقوله:«لا نسلم أن هو ية الإنسان غير معلومة له، وكثرة الخلاف فيها لا تدل إلا على العسر» قال السيد في (شرحه) : «فلم يثبت بما ذكرتم أن هناك نظراً صحيحاً لا يفيد علماً، بل ثبت أن تميز النظر الصحيح عن غيره «في شأن الهو ية» مشكل جداً فيكون ذلك في الإلهيات أشكل، ولا نزاع فيه» .

أقول: الذي يظهر من كلام القادحين وما استدلوا به أنهم لم يزعموا أن النظر الصحيح في الإلهيات لا يترتب عليه نتيجة صادقة، ولا انه لا يمكن فيها نظر صحيح في نفس الأمر، وانما زعموا انه لا يمتاز فيها النظر الصحيح من غيره لشدة البعض والغموض والاشتباه والأشكال، فلذلك لا تعلم صحة النظر علماً يوثق به، فلا تعلم صحة النتيجة، فلا يفيد علماً، وعلى هذا فلهم أن يقولوا، التصور بعارض يكون هو مناط الحكم محل غموض واشتباه شديد لاحتمال مخالفة الإلهيات لغيرها في العوارض وما يترتب عليها، والعسر وشدة إشكال تمييز النظر الصحيح من غيره في شأن الهو ية وكونه في الإلهيات أشد وأشد كاف في القدح، إذ غاية ما قد يحصل للناظر أن يجزم، وقد تقدم مراراً أن الجزم كثيراً ما يكون خطأ وغلطاً. إذا كان قد يقع ذلك في الحسيات ونحوها، فما الظن بما هو من البعد والإشكال بالدرجة القصوى؟

هذا ويرد على القادحين أن من أحوال الإلهيات ما هو على خلاف ما ذكروا كالعلم بوجود الخالق عز وجل، وبأنه حي عليم قدير حكيم، لكن لهم أن يقولوا، أما ما كان من هذا القبيل فهو من الضروريات كعلم الإنسان بوجود هو يته وبعض صفاتها أو أوضح من ذلك، وإنما دخل التشكل من جهة النظر المتعمق فيه، وتجاهل وهنه، حتى جر أصحابه إلى إنكار الضروريات كما وقع للسوفسطائيين وغيرهم.

أقول: فعلى هذا يختص القدح بالنظر المتعمق فيه. فأما السلفيون فإنما يعتمدون المأخذ السلفي الأول لاثبات جلائل الأمور التي أعده الخالق عز وجل لإدراكها، وبذلك يثبت الشرع يقيناً فيسلمون أنفسهم لخبر من يمتنع عليه الجهل والخطأ

ص: 61

والكذب والتلبيس والتقصير في البيان.

فقد اتضح بحمد الله عز وجل أن النظر العقلي المتعمق فيه كثيراً ما يوقع في الغلط، إما بأن يبنى على إحساس غلط لم يتنبه لغلطه، وإما بأن يبنى على قضية وهمية يزعمها بديهية عقلية، وإما بأن يبنى على شبهة ضعيفة فيرد بها البديهية العقلية زاعماً أنها وهمية، وإما بأن يبنى على لزوم باطل يراه حقاً، وقد تبين بالفلسفة الحديثة المبنية على الحس والتجربة وتحقيق الاختبار بالطرق والآلات المخترعة - غلط كثير من نظريات الفلسفة القديمة في الطبيعيات، وكثير من تلك النظريات كانت عند القوم قطعية يبنون عليها ما لا يحصى من المقالات حتى في الإلهيات، فما ظنك بغلطهم في الإلهيات؟ وهم يعتمدون فيها على قياس الغائب على الشاهد، فقد يقع الغلط في اعتقاد مشاركة الغائب للشاهد في بعض الأمور، أو في اعتقاد مخالفته له، أو في اعتقاد اللزوم في الشاهد أبنائه على استقرار ناقص أو غيره من الأدلة التي لا يؤمن الغلط فيها، أو في اعتقاد أنه غير محقق إذا لزم في الشاهد لزم في الغائب، أو في تركيب القياس، أو غير ذلك مما يشتبه ويلتبس، كما يتضح لمن طالع كتب الكلام والفلسفة المطولة، ولاسيما إذا طالع كتب الفريقين المختلفين كالأشاعرة والمعتزلة، فالنظر العقلي المتعمق فيه مع أنه لا حاجة إليه في معرفة الحق كما تقدم فهو مظنة أن يشكك في الحقائق ويوقع في اللبس والاشتباه والضلال والحيرة، وتجد في كلام الغزالي وةغيره ما يصرح بأن النظر العقلي المتعمق فيه لا يكاد ينتهي إلى يقين، وإنما هي شبهات تتقارع وقياسات تتنازع، فأما أن ينتهي الناظر إلى الحيرة، وأما أن يعجز فيرضى بما وقف عنده ولاسيما إذا كان موافقاً لهواه، وأما أن لا يزال يتطوح بين تلك المتناقضات حتى يفاجئه الموت.

وقد قال الغزالي في (المستصفى) 1 / 43: «أما اليقين فيشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا، وسكنت إليها فها ثلاثة أحوال:

أحدها: أن تتيقن وتقطع به إليه قطع ثان وهو أن تقطع بأن قطعها به صحيح وتتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس فلا

ص: 62

تجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني، ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول، بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ، بل حيث لوحكي لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل بل تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن أنه معجزة فهي مخرقة فلا يؤثر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله، وإن الخطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع على سر به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقيناً، مثاله قولنا: الثلاثة أقل من الستة، وشخص واحد لا يكون في مكانين، والشخص الواحد قديماً حديثاً، موجوداً معدوماً، ساكنا متحركاً - في حال واحدة.

الحال الثانية: أن بها تصديقاً جزماً ولا تشعر بنقيضها البتة ولوأشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للإصغاء إليه، ولكنها لوثبتت وأصغت وحكي لها نقيض معتقدها عمن هو أعلى الناس عندها كنبي أو صديق «أو أجمع الفلاسفة وكبار المتكلمين أو المتصوفة» أو رث ذلك فيها توقفاً، ولنسم هذا الجنس اعتقاداً جزماً وهو أثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم، بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم، فإنهم قبلوا المذهب والدليل بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مليه في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز.

الحال الثالثة: أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه أولا تشعر ولكن لوأشعرت لم ينفر طبعها عن قبوله وهذا يسمى ظناً وله درجات

» .

أقول: إذا قرن هذا بما تقدم في حال النظر المتعمق في الإلهيات تبين بياناً

ص: 63

واضحاً أن غالب أقيسته أو عامتها خصوصاً ما يخالف المأخذين السلفيين لا تفيد اليقين بل تقصر عند النظار العارفين عن إفادة الاعتقاد الجازم.

فإن قيل: فكذلك أو قريب منه أدلة المأخذين السلفيين لأنها تقبل التشكيك ولوبصعوبة.

قلت: أما جلائل الأدلة من المأخذ السلفي الأول وهي التي يتوقف عليها ثبوت أصل الشرع فإنها تقبل التشكيك عند من ابتلي بالنظر المتعمق فيه. وهذا لا يضرنا، فإن من هؤلاء من شك في البديهيات كلها، ومنهم من يشك في كل شيء، ومن يجحد كل فيقول ليس في نفس الأمر شيء بحق كما تقدم، على أننا إن سلمنا قبول التشكيك مطلقاً، فإننا نقول: إن ذلك إنما يكون في حق من لم يقبل الشرع الحق ويمتثل أو امره.ووجوب قبول الشرع يكفي فيه العلم بأنه أولى بالحق والصدق والنجاة والسعادة، وهذا يحصل قطعاً لكل مكلف أصغى للحجة، فإذا قبل الإنسان الشرع وامتثل أو امره مع صدق رغبة في الحق هيأ الله تعالى له اليقين بما شاء إن لم يكن بدليل واحد فبمجموع أدلة كثيرة، وفوق ذلك العناية، قال تعالى:«أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» المجادلة: 22.

وقال تعالى: «قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» الحجرات: 14.

كلمة «لماَّ» تؤذن بأن المنفي بها هو بصدد أن يثبت قريباً فهذا وعد من الله عز وجل بأن يدخل الإيمان في قلوبهم جزاء لقبولهم الإسلام.

وقوله: «وإِن تطيعوا

» قال بعض أهل العلم: المعنى إنكم إن أطعتم، رزقكم الله تعالى الإيمان فتستحقون ثواب الأعمال.

وقال عز وجل: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» محمد: 17.

وقال تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِل» الزمر: 36 - 37.

ص: 64

وقد ذكر الغزالي نفسه أنه كان في أول أمره يشك في كل شيء حتى البديهيات الضرورية الأولية قال: «حتى شفى الله تعالى عني ذاك المرض والإعلال، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية موثقاً بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف» نقله عن شارح (العقيدة الأصفهانية) ص 94 - 95، ونقل عنه ص 98:«وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها والمسالك التي سلكتها في تفتيشي عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية إيمان يقيني بالله تعالى، وبالنبوة واليوم الآخر، وهذه الأصول الثلاثة كانت رسخت في نفسي بلا دليل محرر، بل أسباب وقرائن وتجارب لا تدخل تحت الحصر تفاصيلها» .

أقول: وذلك النور الذي يقذفه الله تعالى في الصدور ليس لكل أحد فإنه لم يحصل لمنكري البديهيات، وقد ذكر الغزالي أنه بقي نحوشهرين على الشك، بل قد يقال إنه في الأصل بالنسبة إلى الضروريات عام ولكن من خاض في النظر المتعمق فيه وحاول اكتساب اليقين من جهة النظر احتجب اليقين من جهة النظر احتجب عنه ذلك النور، فإن استمر على ذلك استمر على الشك كالسوفسطائية، وإن رجع إلى القناعة بالفطرة عاد له ذلك النور كما وقع للغزالي، وكذلك ليس قذف النور محصوراً في الضروريات العقلية التي يعنيها الغزالي، بل يتناول جميع القضايا العقلية التي لا يثبت الشرع بدونها، ولكن حصوله فيها كلها موقوف على صدق الرغبة في الحق والخضوع لما ظهر منه، وإيثاره على كل هوى.

والأسباب والقرائن والتجارب التي تحصل الإيمان اليقيني بالله تعالى وبالنبوة واليوم الآخر ليست مقصورة على النوع الذي ذكر الغزالي أنه اتفق له بممارسته للعلوم، بل ييسر الله تعالى لمن شاء ما هو أقرب منها وأقوى بالنظر العادي في آيات الآفاق والأنفس وتدبر الكتاب والسنة. وإنما الشأن في التعرض لفضل الله عز وجل، فمن اكتفى أولاً برجحان الشرع فآثره على هواه وأسلم له نفسه

ص: 65

وخضع لما جاء به ووقف عند حدوده فقد تعرض لنيل ذلك النور، وذلك اليقين على وجه هو أصفى مما قد حصل بممارسته العلوم وأضوأ وأبهى وأهنأ، لأن ممارسته المعقولات في شأن الآلهيات تعترض فيها الشبهات والتشكيكات، بل الأمر أشد من ذلك، فإن الخوض في النظر المتعمق فيه طلباً للهدى من جهته عدولٌ عن الصراط المستقيم،

وخروج عن سبيل المؤمنين، فهو تعرض للحرمان والخذلان والإضلال، لكن قد يعذر الله تعالى بعض عباده، فلا يحرمه فضله إلا أن الشبهات تنغصه عليه بل لا تزال تغالبه وقد تكون العاقبة لها والعياذ بالله.

هذا ومن حصل له اليقين بصحة الشرع جملة فقد حصل له اليقين بصدق جميع ما جاء به الشرع، وأنه لا يتطرق إليه إختلال البتة إذ يستحيل ههنا الجهل، والخطأ، والكذب، والتلبيس، والتقصير في البيان، وهذا هو حال المأخذين السلفيين.

غاية الأمر أنه قد تعرض لمن حصل ذلك شبهة يتعسر عليه حلها، فإذا رجع إلى إيمانه وتصديقه لربه لم يبال بتلك الشبهة. وقد تقدم عن النظار فيما أجابوا به عن الأمور التي أو ردها القادحون في البديهيات قولهم:«لا نشتغل بالجواب عنها، لأن الأوليات مستغنية عن أن يذب عنها، وليس يتطرق إلينا شك فيها بتلك الشبهة التي نعلم أنها فاسدة قطعاً، وإن لم يتيقن عندنا وجه فسادها» . فهكذا يقول السلفي في دفع الشبهات المناقضة، لما أيقن به من صدق الشرع. والخائب الخاسر من نسي إيمانه ويقينه، واغتر بالشبهات فهلك.

قال الله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ

ص: 66

الْخَاسِرُونَ» . الأعراف:175- 178.

أما قول الغزالي: «فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز» . فقد ينكر هذا عليه ويقال: كيف يمدح من يستوي ميله في نظره إلى الباطل والحق؟ ! ويجاب عن هذا بأن مقصوده أن أكثر المتكلمين يميلون إلى الإسلام بدون استيقان منهم أنه الحق، بل عليه فألفوه واعتادوه، ولذلك، يرى من نشأ على اليهودية أو النصرانية أو غيرهما يميلون إلى ما نشأو اعليه مع أنه باطل في نفس الأمر.

لكني أقول: أما أئمة السنة الذين وفوا بشرط الله عز وجل من التسليم والخضوع

والطاعة له، فلا شأن لهم في هذا لأنهم قد تعرضوا لأن يكتب الله في قلوبهم الإيمان، ويؤيدهم بروح منه، ويزيدهم هدى، ويزيدهم هدى، ويرزقهم النور اليقين، فقنعوا بالمأخذين السلفيين، واهتدوا بها عن بصيرة ويقين، ومن اختار ما علم أنه الحق، وثبت عليه، وأعرض من الشبهات، ولا يقال إنه غير مستقل إنه غير مستقل بالنظر، كما إن النظار المستقلين قطعوا بالبديهيات، وأجابوا عن الأمور التي أو ردها القادحون بما تقدم. وكما أن الغزالي وهو يرى أنه مستقل بالنظر قال: إنه أيقن بالضروريات بدون دليل، بل بنور قذف في صدره، وأنه حصل له الإيمان بالله تعالى، وبالنبوة، واليوم الآخر بدون دليل محرر، بل بأسباب وقرائن وتجارب لا تحصى، ولا ريب أنه لا يمكنه أن يشرح ما حصل له للخصم شرحاً وافياً يحصل للخصم اليقين.

بل أقول: إن عامة المسلمين المحبين الخاضعين له، الذين يغلب عليهم التقوى والطاعة هم ممن تعرض لذاك النور، وذلك التأييد وتلك الهداية، وكثير منهم لهم من اليقين الحقيقي الناشيء عن الفطرة والنظر العادي، واجتماع أمور كثيرة يفيد مجموعها اليقين مع عناية الله عز وجل وتأييده ما ليس لأكابر النظار، (1) وذلك

(1) ثم رأيت نقلاً عن (فيصل التفرقة) للغزالي عبارة طويلة تراها في (روح المعاني) ج 8 ص 119 فيها «لست أنكر يجوز ان يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب =

ص: 67

فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. فأما المتكلمون فلا يبعد أن يكون أكثرهم كما قال الغزالي، وذلك أنهم لأم يتعرضوا لذلك النور والتأييد والهداية، بل تعرضوا للحرمان والإضلال بعدولهم عن الصراط المستقيم وسلوكهم غير سبيل المؤمنين، فإذا حصل لأحدهم شيء من الاعتقاد حمد نفسه قبل ربه! وقال:«إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي» أقرأ من سورة (القصص) : 78، ومن سورة (الزمر) :49.

وإذا قيل لهم صدّقوا بما جاءت به الرسل قالوا: لا نصدق فيما يتعلق بالمعقولات، إلا بما أدركته عقولنا أو أكثر كشفنا، واستهزءوا بمن يأخذ دينه من النصوص وسموهم الحشوية (1) ، والغثاء، والغثر، وغير ذلك. قال الله تعالى:«فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» المؤمن:83. وقال تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ» الآية - البقرة: 85.

وإذا قيل لهم آمنوا بالنصوص كما آمن بها السلف الصالح قالوا أولئك أعراض أميون جفاة لا يدرون ما المعقول، قال الله تعالى:«وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ» البقرة: 13. وآل بهم الزيغ إلى نسبة الكذب إلى الله تعالى ورسله، كما يجيء بالباب الأتي، فأنا يهديهم الله تعالى؟ قال سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ» النحل:104- 105.

= الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضاً

فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جداً مشرف على التزلزل بكل شبهة، بل الإيمان الراسخ أيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها» . المؤلف.

(1)

هذا من التنابز بالألقاب وتعمد الاساءة وقد ترددت في كتب المؤولين كثيراً. زهير

ص: 68

فالقوم خالفوا كثيراً من العقائد الإسلامية، ويوشك أن يكون حالهم فيما لم يصرحوا بمخالفته على نحو ما قال الغزالي، أي أنهم لم يحافظوا على تلك البقية عن إيمان ويقين، ولكن نشأوا على الإسلام واعتزوا بالانتساب إليه فكرهوا أن يقطعوا التعلق به البتة، والعلم عند الله عز وجل.

والتحقيق عن الاستقلال بالنظر محمود، ولكن الشأن في النظر، فالنظر بحسب المأخذين السلفيين مع الوقوف عند الحد الذي حده الشرع، وامتثال ما أرشد إليه وعمل به الصحابة وتابعوهم بإحسان من اتقاء الشبهات وتجنب الاختلاف في الدين وتفريطه محمود، فالاستقلال فيه محمود، والنظر المتعمق فيه مذموم، لأنه لا يكاد يثمر إلا التشكيك في الحقائق، والاختلاف في الدين وتفريقه، ويوشك أن يكون الحرص على الاستقلال بالنظر فيه من أمضى أسلحة الشيطان، فأنه قد يحصل للإنسان الإيمان واليقين بالقضايا الفطرية والواضحة من المأخذ السلفي الأول، وبما ذكر الغزالي من اجتماع قضايا كثيرة ظنية يحصل اليقين بمجموعها ومن قذف الله عز وجل في القلب، ثم يعرض له في النظر المتعمق فيه شبهة أو أكثر تخالف ذلك اليقين، وذاك الإيمان، فيتعذر عليه حلها، فيدعوه حب الاستقلال بالنظر إلى إتباعها

وترك ذاك اليقين، وذاك الإيمان متهماً نفسه لأن ثقتها ببطلان تلك الشبهة إنما هو لهواها في الإسلام، فمثله مثل القاضي يتباعد عن هواه فيظلم أخاه كما مر في المقدمة.

بل أقول: أن الاستقلال بالنظر على الحقيقة هو ترك النظر المتعمق فيه رأساً فيما يتعلق بالإلهيات، أو على الأقل ترك الاعتداد بما خالف المأخذين السلفيين منه كما يتضح لمن تدبر ما تقدم وما يأتي.

وقد أبلغ الله تبارك وتعالى في إقامة الحجة على اختلال النظر المتعمق في الإلهيات بأن يسر لبعض أكابر النظار المشهورين بالاستقلال أن يرجعوا قبيل موتهم إلى تمني الحال التي عليها عامة المسلمين، فمنهم الشيخ أبوالحسن الأشعري، وأبوا المعالي ابن الجويني الملقب إمام الحرمين، وتلميذه الغزالي، والفخر الرازي.

أما الأشعري أولاً كان معتزلياً، ثم فارق المعتزلة وخالفهم في مسائل وبقي على

ص: 69

التعمق، ثم رجع أخيراً كما يظهر من كتابه (الإبانة) إلى مذهب أصحاب الحديث، وكتابه (الإبانة) مشهور، وقد طبع مراراً، والأشعرية لا يكادون يلتفتون إليه.

وأما ابن الجويني فصح عنه انه قال في مرض موته: «لقد قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومه الطاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها، كل ذلك في طلب الحق وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، «عليكم بدين العجائز» ، (1) فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق، وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لأبن الجويني» وقال:«أشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة يخالف فيها السلف، وأني أموت على ما يموت عجائز نيسابور» . إلى غير ذلك مما جاء عنه وتجده في ترجمته من (النبلاء) للذهبي، (طبقات الشافعية) لابن السبكي وغيرها.

فتدبر كلام هذا الرجل الذي طبقت شهرته الأرض يتضح لك منه أمور:

الأول: حسن ثقته بصحة اعتقاد العجائز وبأنه مقتضٍ للنجاة.

الثاني: سقوط ثقته سقوط ثقته بما يخالف ذلك من قضايا النظر المتعمق فيه وجزمه بأن اعتقاد تلك القضايا مقتض لويل والهلاك.

الثالث: أنه مع ذلك يرى أن حاله دون حال العجائز لأنهن بقين على الفطرة وسلمن من الشك والارتياب، ولزمن الصراط، وثبتن على السبيل، فرجى لهن أن يكتب الله تعالى في قلوبه الإيمان، ويؤيدهن بروح منه، فلهذا يتمنى أن يعود إلى

(1) يشير ابن الجويني إلى أنه حديث، وقد صرح الغزالي في «الإحياء» بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصواب أنه لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما صرح له أئمة الحديث، نعم في معناه حديث روي عن ابن عمر، ولكنه موضوع، وقد بينت ذلك في «الأحاديث الضعيفة» رقم (53 و54) . وحال الجويني والغزالي في الحديث معروفة عند أهل العلم، ويأتي رأي المصنف فيهما قريباً. ن

ص: 70

مثل حالهن، وإذا كانت هذه حال العجائز، فما عسى أن يكون حال العلماء السلفيين.

وأما الغزالي فكان يغلب عليه غريزتان:

الأولى: التوقان إلى تحصيل المعارف.

الثاني: شدة الحرص على حمل الناس على ما يراه نافعاً، لكنه نشأ في عصر وقطر كان يسود فيها ولا سيما على علماء مذهبه وفرقته وخصوصاً أساتذته أمور:

الأول: اعتقاد أن المذاهب والمقالات قد تأسست فما بقي على طالب العلم إلا أن يعرف مذهبه، ومقالة فرقته، ويتقن الأصول، والجدل، وز الكلام، ثم يتجردللدفاع عن مذهبه، ومقالة فرقته س.

الأمر الثاني: اعتقاد أن النصوص الشرعية قد فرغ منها، فما كان منها يتعلق بالفقه قد أحاط به المجتهدون، وقد زعم الغزالي أن الاجتهاد قد أنقطع، وما كان متعلقاً بالعقائد قد لخصه وهذبه أئمة الكلام مع ما أشتهر أن مدار العقائد على العقل، وإذا خالفته النصوص وجب تأويلها، وقد كثر فيها ذلك حتى أستقر عندهم أنه لا سلطان لها على العقائد، ولهذا كان هو وأستاذه إمام الحرمين من أبعد الناس عن معرفته السنة كما ترى التنبيه عليه في مواضع من (تلخيص الخبير) وفي الكلام عن قول الله عز وجل:«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» .

وفي ترجمة محمد بن محيريز من (لسان الميزان) و (تخريج أحاديث الأحياء) ، وغيرها.

وبذلك يتبين أن هذين الإمامين كانا قليلي الاعتداد بالنصوص، فإن احتجا إلى ذكرها تعسفاً بدون مبالاة لا يكاد يهيمها أن يحتجا بحديث لا يدريان لعله موضوع، ولا أن ينكر وجود حديث في (الصحاح) وهو فيها كلها.

الأمر الثالث: اشتهار أن المذاهب والمقالة اللذين نشأ عليها الغزالي هما أقوم المذاهب والمقالات، فاشتهر أن مذهب الشافعي هو المستوفي لجهتي الأثر والنظر، وأن ما عداه مخل بأحدهما، وأن مقالة الأشعرية هي المستوفية للنقل والعقل، وأن

ص: 71

ما عداها مخل بأحدهما كمقالة المعتزلة ومقالة أصحاب الحديث.

الأمر الرابع: اعتقاد أن مقالات الفلاسفة متينة جداً لبنائها على التحقيق البالغ في المعقول مع البراءة من التقليد والتعصب.

الأمر الخامس: توهم أن عند الباطنية علماً غريباً لمعرفتهم بالفلسفة ودعواهم معرفة اسرار الدين، ونشاط دعاتهم في ذلك العصر.

الأمر السادس: توهم أن عند الصوفية جلية الأمر لدعواهم أنهم بتهذيبهم أنفسهم انكشفت لهم حقائق الأمور كما هي مع ما يظهر منهم من شرح بعض الحقائق بأدق مما يشرحها الفلاسفة والباطنية، وما يظهر لشيوخهم من الكشف عن الخواطر والإخبار عن بعض المغيبات (1) والأحوال الغريبة، مع شهادة الفرق كلها أن لرياضة النفس وتهذيبها أثراً بالغاً في ترقية مداركها.

الأمر السابع: زعم أن متكلمي الأشاعرة قد فرغوا من الرد على أصحاب الحديث وعلى المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، وبقي مقالة الفلاسفة والباطنية والصوفية.

وهذا الأمر السابع هو كالنتيجة للأمور التي قبله فكان هو المستولي على ذهن الغزالي كما يتضح من شرح حاله في كتابه الذي سماه (المنقذ من الضلال) ، وترى ملخص ذلك في (شرح العقيدة الأصفهانية) ص 94 فما بعدها.

ومما ذكره أنه أولاً يشك في صحة الحسيات والبديهيات ثم زال ذلك، قال: «ولم يكن ذاك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدور

ولما كفاني الله تعالى هذا المرض انحصرت أنصاف الطالبين عندي في أربع فرق، المتكلمون

والباطنية

والفلاسفة

والصوفية

فقلت في نفسي الحق لا يعدوا هذه الأنصاف الأربعة، فهؤلاء السالكون سبيل طلب الحق، فإن شذ الحق

(1) انظر التعليق ص 68 76 - 77.

ص: 72

عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع

فابتدأت لسلوك هذه الطرق واستقصاء ما عند هؤلاء الفرق» . ثم ذكر أنه ابتدأ بتحصيل الكلام فحصله وعقله وصنف فيه، قال: «فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي أشكوه شافيا

فلم يحصل فيه ما يمحوا بالكلية ظلمات الحيرة» ثم ذكر تحصيله الفلسفة والتبحر فيها ثم قال: «علمت أن ذلك أيضاً غير وافي بكمال الغرض فإن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات» ثم ذكر الباطنية إلى أن قال: «فهؤلاء أيضاً جربناهم وسبرنا باطنهم وظاهرهم» . وذكر أنه لم يجد مطلوبه عندهم، قال: «ثم أني لما فرغت من هذه أقبلت على طريق الصوفية

» فذكر وأطال في إطرائها على عادته في إطراء ما يحصل كما أطرى الفلاسفة أولاً فقال: إن من لا يعرف المنطق لا ثقة له بعلمه، ولأنه كان يرى أن التصوف آخر ما يمكنه، فلم يكن له بد من محاولة إقناع نفسه به.

ثم صار كلامه في كتبه تردداً بين هذه الطرق، وكثيراً ما يختلف كلامه في القضية الواحدة، يوافق هذه الفرقة في موضع، ويخالفها في آخر، حتى ضرب له ابن رشد مثلاً قول عمران بن حطان:

يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمن

وإن لقيت معدياً فعدناني

وذلك يدل على أن إحاطته بتلك الطرق لم تحصل مقصودة من الخروج عن الحيرة، بل أو قعته في التذبذب، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان أولاً يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع (الصحيحين) فيقال أنه مات و (صحيح البخاري) على صدره، لكن لم يمتع بعمره حتى يظهر أثر ذلك في تصنيفه. والله أعلم.

وأما الفخر الرازي ففي ترجمته من (لسان الميزان) 4 / 429: «أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده» وهذه الوصية في ترجمته من كتاب (عيون الأنباء) 2 / 26 - 28 قال مؤلف الكتاب: «أملى في شدة مرضه وصية على تلميذه إبراهيم

ص: 73

ابن أبي بكر بن علي الأصفهاني

وهذه نسخة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه محمد بن عمر بن الحسين الرازي وهو في آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاس، ويتوجه إلى مولاه كل آبق

إن الناس يقولون: الإنسان إذا مات انقطع تعلقه عن الخلق، وهذا العام مخصوص من وجهين:

الأول: أنه إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سباً للدعاء، والدعاء له أثر عند الله.

والثاني: ما يتعلق بمصالح الأطفال

، أما الأول، فعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم.

(أ) فكنت أكتب في كل شيء شياً لا أقف على كمية وكيف سواء كان حقاً أو باطلاً، غثاً أو سميناً!

(ب) إلا أن الذي نظرته (؟ نصرته) في الكتب المعتبرة لي أن هذا العالم المحسوس تحت تدبير مدبر منزه عن مماثلة المتحيزات والأعراض، وموصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة.

(ج) وقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة سوالجلال بالكلية لله تعالى ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، ولا ذاك إلا العلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية.

(د) فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب، ووحدته، وبراءته والشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله تعالى به، وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض فكل ما ورد في القرآن سو الأخبار الصحيحة المتفق عليها بين الأئمة المتبعين للمعنى الواحد فهو كما

ص: 74

هو، والذي لم يكن كذلك أقول يا إله العالمين

أقول ديني متابعة محمد سيد المرسلين، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليها

» .

فبين في وصيته هذه أنه تدرج إلى أربع درجات:

الأولى: الجري مع خاطره حقاً كان أو باطلاً.

الثانية: ما نصره في كتبه المعتبرة.

الثالثة: ارتيابه في المأخذ الخلفي وهو النظر الكلامي والفلسفي.

الرابعة: ما استقر وثوقه به ورجع إليه، وهو ما أثبته المأخذ السلفي الأول وأكده الشرع، ثم قسم الباقي إلى قسمي:

الأول: ما بينه الكتاب والسنة، فهو كما بيناه.

الثاني ما عدا ذلك، فبين عدم وثوقه فيه بما سبق أن قاله في كتبه واعتذر عن ذلك بحسن النية.

فرجوع هؤلاء الأكابر وقضاؤهم على النظر المتعمق فيه بما سمعت، بعد أن أفنوا فيه أعمارهم من أوضح الحجج على من دونهم.

هذا والمشهور بعد الاعتراف بكفاية المأخذين السلفيين والنهي عن الخوض في علم الكلام والفلسفة الاعتذار عن الخائضين من المنتسبين إلى السنة بأنهم اضطروا إلى ذلك لدفع شبهات الكفار والزنادقة، والملحدين والمبتدعة الذين يخوضون في دقائق المعقول ثم يطعنون في الإسلام والسنة، قال المعتذرون ولم يكن ذلك في عهد الصحابة والتابعين وإنما حدث أخيراً بعد ضعف الإيمان وتشوف الناس إلى دقائق المعقول وإعجابهم بأهله، فالخوض محدث لكن لحدوث داع إليه وباعث عليه ومقتض له.

وأقول: أما من خاض وحافظ على العقائد الإسلامية كما تعرف من المأخذين السلفيين وكما كان عليه السلف، فعسى أن ينفعه ذاك العذر، وإن كنا نعلم أن في حجج الحق من المأخذين السلفيين ما يغني من يؤمن «وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ

ص: 75

قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» ، وأما من خاض فغير وبدل فهؤلاء هم المبتدعة وأتباعهم، فهب أن منهم من يعذر في خوضه، فما عذره في تغييره وتبديله؟ ! ولا سيما من بلغ به التغيير والتبديل إلى القول بأن النصوص الشرعية لا تصلح حجة في العقائد! حتى صرح بعضهم بزعم أن الله تبارك وتعالى أقر الأمم التي بعث

فيها أنبياءه على العقائد الباطلة وقررها في كتبه وعلى السنة رسله وثبتها وأكدها وزادهم عليها أضعافها مما هو - في زعم هؤلاء - باطل! !

فهل هذا هو الذب عن الإسلام وعقائده الذي يمتن به عليه أولئك الخائضون؟ !

فصل

وأما المأخذ الخلفي الثاني وهو الكشف التصوفي، فقد مضى القرن الأول ولا يعرف المسلمون للتصوف إسماً ولا رسماً، خلا أنه كان منهم أفراد صادقون الحب لله تعالى، والخشية له يحافظون على التقوى والورع على حسب ما ثبت في الكتاب والسنة، فقد يبلغ أحدهم أن تظهر مزيته في استجابة الله عز وجل بعض دعائه أو عنايته به على ما يقل في العادة، ويلقى الحكمة في الوعظ والنصيحة والترغيب في الخير، وإذا كان من أهل العلم، ظهرت مزيته في فهم الكتاب والسنة فقد يفهم من الآية أو الحديث معنى صحيحاً إذا سمعه العلماء وتدبروا، وجدوه حقاً ولكنهم كانوا غافلين عنه حتى نبههم ذلك العبد الصالح. ثم جاء القرن الثاني فتوغل أفراد في العبادة والعزلة وكثرة الصوم والسهر وقلة الأكل لعزة الحلال في نظرهم، فجاوزوا ما كان عليه الحال في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فوقعوا في طرف من الرياضة، فظهرت على بعضهم بعض آثارها الطبيعية كالإخبار بأن فلاناً الغائب قد مات أوسيقدم وقت كذا، وأن فلاناً يضمر في نفسه كذا وما أشبه ذلك من الجزئيات

ص: 76

القريبة (1) فكان الناس يظنون أن جميع ذلك من الكرامات، والواقع أن كثيراً منه كان من آثار الرياضة وهي آثار طبيعية غريبة تحصل لكل من كاف في طبعه استعداد وتعاني الرياضة بشروطها سواء أكان مسلماً - صالحاً أو فاجراً - أم كافراً، فأما الكرامات الحقيقية فلا دخل فيها لقوى النفس. فلما وقعوا في ذلك

(1) قلت: الإخبار عما في نفس الغير ليس من الجزئيات القريبة، بل هو من خصوصيات الله تبارك وتعالى، (تعلم ما في نفسي

) فيستحيل أن يصل إلى هذه المرتبة من يتعاطى الرياضة من مؤمن أو كافر، ونحوه الإخبار بموت الغائب، أو بقدومه، نعم هذان الأمران الأخيران ونحوهما قد يكون من وحي الشيطان الجني الذي يسترق السمع إلى الشيطان الإنسي، أو يمكنه بحكم جبلته أن يطلع على موت فلان، قبل أن يطلع عليه البعيد عنه من بني الإنسان، فيخبر به من يريد أن يضله من الإنس كهؤلاء المرتاضين الذي يتحدث عنهم المصنف رحمه الله تعالى. ومثله قدوم الغائب، ومكان الضالة ونحو ذلك، فهذه أمور ميسورة للجن، فيطلعون بعض الإنس بما لا ضلالهم (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) ، وأما الإطلاع على ما في الصدور والإخبار به فليس في طوق أحد منهم إلا بإخبار الله عز وجل من شاء من عباده الذين ارتضاهم لرسالته كما قال (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه = أحداً إلا من أرتضى من رسول

) . نعم ليس من هذا القبيل ما يلهمه الرجل الصالح، ثم يقع كما ألهم، لأنه لوسئل عنه قبل ذاك لم يستطع الجزم به، فلأنه لم يدري أمن إلهام الرحمن هو أم من وحي الشيطان؟ بخلاف النبي (قالت من أنبأك هذا قال: نبأني العليم الخبير) . وليس منه أيضاً ما يتنبأ به الإنسان بفراسته وملاحظته الدقيقة التي لا يتنبه لها غيره، وقد وقع لي شخصياً من هذا النوع حوادث كثيرة لولا أنني كنت أبادر إلى الكشف عن أسبابها الطبيعية لظنها الناس كشفاً صوفياً! فمن ذلك أنني كنت يوماً في حلقة الدرس أنتظر أن يكتمل الجمع، إذ قلت لمن عن يميني - وهو حي يرزق - بعد قليل يدخل فلان - لشاب سميته. فلم يمضي سوى لحظات حتى دخل! فنظر ألي جليسي دهشاً كأنه يقول: أكشف؟ فقلت: لا بل هي الفراسة. ثم شرحت له سر المسألة، وذلك أن الشاب المشار إليه أعرف أن له دراجة عادية يأتي عليها إلى الدرس وأعرف أيضا أن الراكب لها إذا أراد النزول عنها أوقف تحريك رجليه إذا اقترب من =

ص: 77

وجد الشيطان مسلكاً للسلطان على بعض أولئك الأفراد بمقدار مخالفتهم للسنة، فمنهم من كان عنده من العلم به عن دينه كما نقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال:«ربما تقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين - الكتاب والسنة» ذكرها ونحوها من كلامهم أبو إسحاق الشاطبي في (الاعتصام) 106 - 121.

ومنهم من سلم لهم أصل الإيمان لكن وقع في البدع العملية، ومنهم من كان سلطان السلطان عليه أشد فأو قعه في أشد من ذلك كما ترى الإشارة إلى بعضه في ترجمة رياح بن عمروالقيسي من (لسان الميزان) . ثم صار كثير من الناس يتحرون العزلة والجوع والسهر لتحصيل تلك الآثار، فقوي سلطان الشيطان عليهم، ثم نقلت مقالات الأمم الأخرى ومنه الرياضة وشرح ما تثمره من قوة الإدراك والتأثير،

= المكان الذي يريد النزول عنده، وأنه عند ذاك يسمع منها صوت بعض مسنناتها، وكانت دراجة الشاب من النوع المعروف ب (السباقية) ، والصوت الذي يسمع منها عند النزول أنعم من الأخريات، وكان هو الوحيد الذي يركبها من بين الذين يحضرون الدرس عادة، فلما أراد النزول، وأوقف رجليه طرق سمعي ذلك الصوت، فعرفت أنه هو، وأخبرت جليسي به، فكان كذلك!

وقد اتفق لي مراراً - ويتفق مثله لغيري - أنني وأنا في صدد تقرير مسألة يقوم بعض الحاضرين يريد أن يسأل، فأشير إليه بأن يتمهل، فإذا فرغت منها قلت له: الآن فسل. فيقول: ما أردت السؤال عنه قد حصل! فأقول: أهذا هو الكشف؟ ! فمثل هذه الإجابة قد تقع تارة عفواً، وتارة بقصد من المدرس الذي بحكم مركزه قد ينتبه لما لا ينتبه له الحاضرون فيعرف من علامات خاصة تبدوا له من الذي يريد السؤال ما هو سؤاله فيجيبه قبل أن يسأل! فيظن أنه كثير من الناس أنه كشف أو إخبار عما يضمر في نفسه - وإنما هو الظن والفراسة، ويستغل ذلك بعض الدجالين فيلقون في نفوس مريديهم أنهم يطلعون على الضمائر، وأنهم يعلمون الغيب، فيتقبلون ذلك منهم ببساطة وسلامة قلب، حتى أن الكثير منهم لا يسافرون، ولا يأتون عملاً يهمهم، إلا بعد موافقة شيخهم عليه، فكأنه عندهم (بكل شيء عليم) . والله المستعان.ن

ص: 78