الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن كان باطلاً في نفس الأمر، فليدع الخاصة الاحتجاج بالنصوص للجمهور، وليحققوا لأنفسهم!
(العاشر) : أنه كما وقع في الدين ذاك التلبيس في عقائد في ذات الله وصفاته، ولا مفر للمتكلمين الذين اعترفوا ببطلان تلك المعاني من الاعتراف به، فكذلك وقع في أمور المعاد، ووقوعها فيها أهو ن، والمدار إنما هو على اقتضاء المصلحة، وهي تقتضي التلبيس في أمور المعاد فإن الجمهور لا يخضعهم إلا الرغبة والوهبة، ولا تؤثر فيهم الرغبة والرهبة إلا فيما يتعلق بالجسمانيات التي عرفوها وألفوها.
وقد رأيت أن أفرض لأنه انعقد مجلس للنظر في هذه المقاصد حضره متكلم وسلفي وناقد، فجرى ما يأتي شرحه:
النظر في المقصد الأول
المتكلم: النصوص التي نوافق على بطلان ظواهرها لا نسلم أنها في تلك المعاني صريحة صراحة مطلقة أو ظاهرة ظهوراً مطلقاً، كيف والقرينة قائمة على صرفها عنها، وهي العقل والإشارات التي ذكرت في المقصد الثالث.
الناقد: أما العقل فقد زعم ابن سينا كما مر أن عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون موافقة لتلك المعاني، فإن منعت هذا فنؤجل البحث فيه إلى المقصد الرابع، وإن سلمته بطلت دعواك هنا، فإن قانون الكلام أن تكون القرينة كاسمها مقترنة بالخطاب في ذهن المخاطب أو بحيث إذا تدبر عرفها وعرف صرفها عن الظاهر، إذ المقصود عن نصب القرينة أن يكون الخبر صدقاً من حقه أن لا يفهم المخاطب منه خلاف الواقع ما لم يقصر. وإذا كانت عقول الجمهور ومنهم المخاطبون الأولون توافق تلك الظواهر وتجزم بوجوبها عقلاً أو جوازاً أولا تشعر بامتناعها فكيف يعتد عليهم بما قدر يدركه المتعمق في النظر بعد جهد جهيد، مع العلم بأنهم لم يعرفوا التعمق في النظر ولا خالطوا متعمقاً بل نهاهم الشرع عن
ذلك، وهل هذا إلا كما لو غزا جماعة إلى أرض بعيدة ثم عادوا بعد مدة دون واحد فسئلوا عنه فأخبروه بأنه قتل فحزن أهله ثم قسموا تركته واعتدت نساؤه وتزوجن إلى غير ذلك، ثم قدم رجل فزعم أنه رأى ذلك الذي قيل انه قتل، رآه بعد خبر القتل بمدة في الثغر حياً صحيحاً، فافرض أنه ذكر ذلك للمخبرين بالقتل فصدقوا هذا المخبر الأخير واعتذروا عن أخبارهم بالقتل بأنهم أرادوا بذاك الخبر خلاف ظاهره، فقيل لهم: فهلا نصبتم قرينة؟ فقالوا: كان الرجل حال خبرنا حياً صحيحاً سالماً وكفى بذلك قرينة! فهل يقبل منهم هذا العذر؟ أولا يرده عليهم العقلاء قائلين: ذاك لوكانت حياته وصحته وسلامته بحيث يدركها المخاطبون وهم أهله عند إخباركم لهم.
فأما وهم لا يعلمون ذلك ولا يدركونه لبعده عنهم بمراحل كثيرة فليس هذا بقرينة، إذ
ليس من شأن العلم به أن يقترن عند المخاطب بالخطاب فيصرفه عن فهم الظاهر (1) .
أما تلك الإشارات ففي المقصد الثالث أنها ليست بالبينة، فإذاً لا تصلح أن تكون صارفة عن معاني النصوص الكثيرة الظاهرة أو الصريحة الموافقة لعقول المخاطبين، بل يكون الأمر بالعكس وهو أن عقولهم وتلك النصوص الكثيرة تصرف عما قد يظهر من تلك الإشارات فإن كنت تزعم أن تلك الإشارات صريحة فنؤجل الكلام إلى المقصد الثالث.
المتكلم: إنما يصح الأخذ بظاهر الخبر إذا علم أن ذلك الأمر المخبر بوقوعه غير ممتنع عقلاً، فأما إذا احتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً فإنه يجب التوقف، ويكون هذا الاحتمال قرينه تدافع ظاهر الخبر، فتوجب التوقف فيه.
(1) وفي «صحيح مسلم» وغيره حديث «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» وهذا صريح في أن إضمار المتكلم في نفسه معنى غير المعنى الذي حقه أن يفهمه المخاطب لا يغني عن المتكلم شياً إذا كان المعنى الذي حقه أن يفهمه المخاطب غير واقع. المؤلف
الناقد: في المقصد الرابع أن معاني تلك النصوص كانت موافقة لعقول المخاطبين، فإن سلمت ذلك سقط كلامك هنا لثبوت أنها لم تكن عندهم محتملة للامتناع، فعلى فرض أن احتمل الامتناع يعد قرينة فلم يكن حاصلاً لهم، فكيف يعتد عليهم به؟ وقد مر الكلام في هذا، وإن لم يسلم فينظر فيه في المقصد الرابع.
المتكلم: لم يكن القوم ماهرين في علوم المعقول فلا يعتد بإدراك عقولهم الوجوب أو الجواز، بل يبقى الحكم في حقهم الاحتمال، فإن لم يشعروا بقصورهم القاضي عليهم بالتوقف فقد قصروا.
السلفي: كيف لا تعتد بعقولهم وقد اعتد بها رب العالمين فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وأمرهم بالظر والتفكر والاعتبار والتدبر، وقبل إيمان من آمن منهم وأثنى عليهم، نقم كفر من كفر منهم وعاقبه عليه؟ ! وقد مر في صدر هذه الرسالة ما فيه الكفاية.
المتكلم: فدع هذا، ولكن لي نظر في دعوى أن عقولهم كانت موافقة لتك المعاني.
الناقد: فيأتي الكلام في المقصد الرابع.
السلفي: هب أن تلك المعاني كانت محتملة في عقول القوم أي أنهم لا يدركون وجوبها ولا امتناعها ولا تقطع عقولهم بجوازها، فدعواك أن احتمال الامتناع عقلاً قرينة توجب التوقف في ظاهر الخبر دعوى باطلة عقلاً وشرعاً وعملا، أما العقل فإنه يقتضي قبول ظاهر الخبر إذا كان المخبر ثقة أميناً لا يخشى منه الكذب ولا التلبيس، إذ الغالب صدقه، والغالب في الأخذ به حفظ المصلحة واتقاء المفسدة، ولا يفرق العقل بين ما يقطع المخاطب بجوازه وما لا يقطع، لأن الخبر الثقة الأمين غالب صدقه في الحالين، وحفظ المصلحة غالب في الأخذ بظاهر خبره في النوعين، فأما إذا ثبت عقلاً أن المخبر معصوم عن الجهل والغلط وعن الكذب والتلبيس، فوجوب قبول خبره بغاية الوضوح، بل إذا قطع المخاطب بعصمة
المخبر عما ذكر وقطع بأن ظاهر خبره هذا هو المعنى، وبأنه لا قرينة صحيحة تصرف عنه، فأنه يقطع عقلاً بوقوع ذاك المعنى، وإن كان قبل ذلك يجوز امتناعه عقلاً. وأما الشرع فظاهر، فقد طالب الأنبياء الناس أن يصدقوهم فيما يخبرون به عن ربهم، وأن يوقنوله بذلك، وقضوا بإيمان المصدق الموقن ووالوه، وبكفر الممتنع عن التصديق وعادوه، مع أن مما أخبروا به وطالبوا الناس بالإيقان به ما كانت عقول المخاطبين تستبعده، وعقول الفلاسفة وبعض المتكلمين تصوب ذاك الاستبعاد، وذلك كحشر الأجساد بل مما أخبر به الأنبياء وطالبوا الناس بالإيقان به ما تزعم الفلاسفة أنه ممتنع عقلاً، ووافقهم المتكلمون على ما وافقوهم من ذلك.
وأما العمل فلا يخفى على من تصفح أحوال الناس أنهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا يعتمدون على خبر الثقة الأمين فيما يقطعون فيه بعدم الامتناع وفيما يقطعون، واعتبر ذلك بأخذهم بأخبار علماء الحساب والهندسة والمساحة ونحوذلك من العلوم العقلية، وهكذا العقائد، فإن الناس يأخذونها من علمائهم تقليداً في كثير منها، ويرضى منهم علماؤهم بذلك ويحضونهم عليه.
هذا والخبر بوقوع الأمر يتضمن قطعاً بعدم امتناعه فكأن المخبر بعدم الامتناع، واحتج بمشاهدته الوقوع، ولووجب أن يتوقف عن قبول ظاهر خبر الثقة الأمين في مثل هذا لوجب مثله فيما علم جوازه عقلاً لأن جوازه لا يقتضي وقوعه وما لم يقع فالحكم بوقوعه ممتنع،
وتفسير هذا أنه إن كان ينبغي التوقف عن حمل الخبر على ظاهره فيما إذا احتمل أن يكون ذاك الظاهر ممتنعاً لذاته، فكذلك فيما إذا احتمل أن يكون ممتنعاً لثبوت نقيضه، حتى لوكنت قد علمت أن زيداً في بيته فأخبر بأنه خرج منه فإن خروجه ذلك يحتمل أن يكون ممتنعاً عقلاً لثبوت نقيضه إذا يحتمل أنه لم يخرج من بعد أن عهدته فيه، وإذا كان لم يخرج فمن الممتنع عقلاً أن يكون خرج.
المتكلم: إنما فرقنا بين النوعين لأنه قد لا يحتمل في الأول أن يقوم بعد وقت الخطاب ولو بمدة طويلة دليل على أن ذاك الظاهر ممتنع عقلاً، فيجب حينئذ
صرف الخبر عن ظاهره أو الاعتراف بأن المتكلم به غير معصوم.
السلفي: إن ساغ هذا الاحتمال في الأول ساغ في الثاني، فيحتمل فيما أخبر النص بأنه وقع أو سيقع في وقت كذا أن يقوم فيما يأتي دليل خلاف ذلك. فليس هناك إلا سبيلان:
الأولى: سبيل المؤمنين أنه يستحيل عقلاً أن يكون المتكلم بالقرآن أو من النبي عليه الصلاة والسلام فيما يخبر به ربه جهل أو غلط أو كذب أو تلبيس، ففرض أن يقوم دليل قاطع على خلاف النص الثابت قطعاً، أو الظاهر قطعاً ز لا قرينة معه قطعاً، فرض للمستحيل.
الثانية: سبيل ابن سينا ومن وافقه من تجويز الجهل والغلط، أو الكذب والتلبيس «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» الكهف:29.
المتكلم: وهل كلامنا إلا في القطع؟ فهب أن احتمال الامتناع العقلي لا يصلح أن يكون قرينة فمن أين يأتي القطع؟ ومن المحتمل أن يخطئ الناظر الناظر فيعتقد أن الحديث ثابت، وليس بثابت، أو يعتقد صراحة الآية أو الحديث الثابت فيما فهمه، وليس كذلك، أو يعتقد ظهور ما ليس بظاهر، أو يعتقد انتفاء القرينة وهناك قرينة غفل عنها.
السلفي: سيأتي إثبات حصول القطع في الكلام مع الرازي والعضد، فأما الخطأ، فالخطأ في الباب إنما يكون في الظن، وليس كالنظر العقلي المتعمق الذي يكثر فيه الغموض والاشتباه والقطع بالباطل كما مر في الباب الأول، والنظر في النصوص على وجه
الإيمان بها والتسليم لها اهتداء يحبه الله تبارك وتعالى «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ» محمد: 17.
والنظر في الشبهات التعميقية على وجه الوثوق بها وتقديمها على النصوص زيغ عن سبيل الله «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» الصف: 5.